دار المَشْرِق
ودَّعتني أمي وداعًا حارًّا دامعًا وهي تقول: أغنانا الله عن ذلك كُلِّه ولكنها إرادتك.
فقلتُ لنفسي: «على أيِّ حال لم أتركك وحدك.» وصحِبَني الشيخ مغاغة الجبيلي إلى ميدان المكوس فبلغناه قُبَيل الفجر، ورأينا القافلة على ضوء المشاعل. امتدَّ الظلام حولنا يتنفَّس نسائم الرَّبيع، وفوقنا ترامقت النُّجوم الساهرة. همَس الشيخُ مغاغة في أُذني: لا تتخلَّف عن قافلة ابن حمديس.
على حين ارتفع صوتُ صاحب القافلة وهو يهتف: السَّيْر عَقِب صلاة الفجر.
ورآنا فصافحَنا وقال لي: جميع الرِّفاق من التجار، وأنت الرحَّالة الوحيد بيننا.
فلم يسُرَّني ذلك، ولم أتكدَّر له، وارتفع صوت الأذان مُحلِّقًا فوق الرءوس فمضينا نحو جامع السوق، وانتظمنا في آخر صلاة جامعة تُتاح لنا. وانطلقنا من الجامع إلى القافلة فاتَّخذنا مَجالسَنا مع الحقائب. وبدأ الطابور يتحرَّك على إيقاعٍ حادٍّ فغاص قلبي بحنين الوداع وتحرَّكَت في أعماقه ذكريات أمي وحليمة في غِلاف من ذكريات الأسى الشامل الذي يحتوي وطني كله، وغمغمتُ في أحضان الظلام: اللهم بارك خُطاي.
وأخذَت الظلمة ترق، وتلوحُ بشائر النُّور الموعود في الأفق، حتى تخضَّب بحمرة باسمة وبزَغ حاجب الشمس ناشرًا الضياء فوق صَحْراء بلا حدود. تجلَّت القافلة خطًّا راقصًا في صفحة كونية متحدِّية بالجلال، وانغمر جسمي في حركة رتيبة مُتتابِعة تحت موجات من نور مُتدفِّق، وهواءٍ سابح، وحرارةٍ تتصاعد مُنذِرةً بالعنف، ومنظر ثابت بين رمال صفراء وسماء زرقاء صافية. لُذت من المنظر الواحد بنفسي فغصتُ في ذكرياتها المُلحَّة وانفعالاتها المُرَّة، وأحلامها الورديَّة. وعند كلِّ عينِ ماءٍ كنا نتوقَّف للطعام والضوء والصلاة والسمر. عرَفتُ نخبة من الرِّفاق التجار ورمقوا «الرحَّالة الوحيد» بنظرات غريبة. وقلت مُفسِّرًا ومُتباهيًا: سأذهب حتى دار الجبل.
فتساءل أحدهم باستهانة: وما دار الجبل؟
وقال ثانٍ بفَخَار: نحن دار الإسلام.
وقال ثالث: التجارة من العمران والله يأمرنا بالعمران.
وقال رابع: كان النبي عليه الصلاة والسلام تاجرًا.
فقلت كالمعتذر: وكان أيضا رَحَّالةً ومُهاجرًا.
فقال الأول: ستُبدِّد ثروتك في التَّرْحال وترجع إلى بيتك فقيرًا.
فقلت كاظمًا غيظي: لا يعرف الفقر من يؤمن بالعمل.
وكنت أحترم التجارة، ولكنَّني آمنتُ بأنَّ الحياة رحلة كما هي تجارة. وتتابعَت الأيام طويلةً وثقيلة، حارَّة بالنَّهار باردة بالليل، ورأيتُ النجوم كما لم أرَها من قبلُ جليلة ساحرة لا نهائية، وعرَفتُ أنَّ حزني من أمي أكبر مما تصوَّرت، وأنَّ حُبِّي لحليمة أقوى من أن يؤثِّر فيه الليل والنهار والنجوم والتطلُّع نحو المجهول. وسرنا ما يُقارب الشهر حتى لاحت لنا من بُعد أسوارُ دارِ المشرق. عند ذاك قال القاني بن حمديس: سنُعسكِر عند العين الزرقاء، وندخل الدار عند منتصف الليل.
وأعددنا أنفسنا، ولمَّا صلَّينا العشاء سمعتُ من يهمس: آخر صلاة حتى نرجع من بلاد الوثنيَّة.
فامتعضتُ كثيرًا ولكني أُعِدُّ نفسي لحياة جديدة فقلت لنفسي: «الله غفور رحيم.»
وقُبَيل منتصف الليل تقدَّمَت القافلة من الدار الجديدة، وقابلنا عند المدخل رجلًا عاريَ الجسد إلَّا من وزْرة تستُر العورة، بدا طويلًا نحيلًا على ضوء المشاعل، وقال الرِّفاق: إنَّه مدير الجمرك. قال الرجل بصوت جهوري: أهلًا بكم في المشرق عاصمة دار المشرق، إنها تُرحِّب بالتجار والرحَّالة، ومن يلزَمْ حدودَه فلن يلقى إلَّا الطيِّب والجميل.
ودخلَت القافلة بين صفَّين من الحُرَّاس، فمضى التجار إلى السوق، ومضى بي دليل إلى فندق الغرباء. أناخ الجمل أمام سُرادِق كبير كأنه ثُكْنة، وحمَل الدليلُ حقائبي إلى الداخل؛ فأدركت أنه فندق الغرباء. كان سُرادِقًا كبيرًا مُنقسمًا إلى جناحين يفصل بينهما بَهْوٌ مُمتدٌّ، وكلُّ جناح يحوي غُرَفًا مُتلاصقة أضلاعها مبنيَّة من الأقمشة الوبريَّة. وكانت الحجرة التي اختيرت لي بسيطة بل بُدائية، أرضها رمليَّة، وبها فِراش عبارة عن خشبة مطروحة على الأرض، وسَحَّارة للملابس، وشَلْتة في الوسط. وما إنْ فرغتُ من تفقُّد حقائبي حتى هُرعتُ إلى الفِراش بحنين شخصٍ حُرِم من الرُّقادِ الطبيعيِّ شهرًا كاملًا، فنمتُ نومًا عميقًا حتى أيقظني حَرُّ النَّهار. ونهضتُ كالمتوعِّك، ومرقت إلى البَهْو فوجدته مكتظًّا، وقد جلسوا أمامَ حجراتهم يُفطرون. وجاءني رجل قصير لا يخلو من بدانة مُؤتزِرًا بما يُغطِّي العورة، وقال لي باسمًا: أنا فام صاحب الفندق، هل قضيتَ ليلة مريحة؟
فقلت والعَرَق يسيل فوق جبيني: شكرًا.
– هل آتيك بالفُطور؟
فقلت بلهفة: بل أريد الحمَّام.
وقادني إلى نهاية البَهْو فأزاح ستارة فوجدتُ ما يلزمني لأغتسل وأُمشِّط شعرَ رأسي ولحيتي الصغيرة. وعُدْتُ نحو غرفتي فوجدت فام قد جاء بطبليَّة وراح يُعِدُّ لي الفُطور. سألتُه: هل أستطيع أن أُصلِّي في غرفتي؟
فقال مُحذِّرًا: قد يراك أحد فتتعرض لِما يسوءُك.
وجاءني بإناء به تمرٌ ولبنٌ وفطيرةُ شَعِير، فأكلتُ بسرور حتى شبِعت، وقال لي: كنتُ ذات يوم ممَّن يعشقون الرحلات.
فسألته: أأنت من المشرق؟
– أصلي من الصَّحْراء، ثم استقرَّ بي المُقام في المشرق.
سرَّني أن أجدَ فيه رَحَّالة قديمًا فقلت: دار الجبل هي الهدف الأخير من رحلتي.
– وهي هدفُ الكثيرين، ولكن أسباب الرزق حجزَتني عنها.
فسألته بلهفة: ماذا تعرف عنها يا سيد فام؟
فأجاب باسمًا: لا شيء إلَّا ما تُوصف به أحيانًا كأنَّما هي معجزة الدهر، ومع ذلك فلم أُصادِف رجلًا واحدًا ممن زاروها.
وقال لي بصوتٍ باطنيٍّ بأنني سأكون أولَ ابنٍ لآدم يُتاح له أن يطوف بدار الجبل، ثم يعلن سِرَّها للعالَمين. وسألني: هل تمكث طويلًا في المشرق؟
– عشرة أيام ثم أذهب مع قافلة القاني بن حمديس.
– عظيم، سِرْ وانظرْ وتمتَّعْ بوقتك، وحسبك غطاءٌ للعورة ولا تزِدْ عن ذلك.
فقلت مستنكرًا: لا أستطيع أن أخرج بلا عباءة.
فقال ضاحكًا: سترى بنفسك، نسيتُ أن أسألك عن اسمك الكريم.
– قنديل محمد العنَّابي.
فرفع يده إلى رأسه تحيةً وذهب. غادرت الفندق في الضُّحى مُتلفِّعًا بعباءة خفيفة واسعة المسامِّ، لابسًا عِمامتي لتقيَني الشمس. وأنا أعجب من حرارة الرَّبيع، وأتساءل عن حرارة الصيف كيف تكون. ولدى مُغادَرتي الفندقَ هالني أمران؛ العُرْي والفراغ.
النَّاس، النِّساء منهم والرِّجال على السواء، عرايا تمامًا كما ولدَتهم أمهاتُهم. والعُرْي عادةٌ مألوفة، لا تَلفِت نظرًا ولا تُثير اهتمامًا، وكلٌّ ذاهبٌ لوِجهته، ولا يُثير الغرابة إلَّا الغرباء أمثالي لما يرتدون من ملابس. والأجساد نُحاسية اللون، نحيلة لا من رشاقة ولكن من قلَّة الغذاء فيما يبدو، وإن غلب عليهم الرضا بل والمرح. وجدتُ مشقَّة لأُزيل عن وجداني الشعور بالشذوذ لملابسي التي أرفُل فيها، ووجدتُ مشقَّة أكبر في صرف بصري عن مشاهد العُرْي المثيرة، وما بعثَت في دمائي من نيرانٍ مُتأجِّجة. وقلت لنفسي: يا لها من دارٍ تقذف بمن كان في شبابي إلى فتنة مُحرِقة!
أمَّا الأمر الغريب الثاني فهو هذا الفراغ المُمتد المُترامي، كأنما انتقلت من صَحْراء إلى صَحْراء. أهذه هي حقًّا عاصمة المشرق؟ أين القصور؟ أين البيوت؟ أين الشوارع؟ أين الحواري؟ لا شيء إلا أرضٌ تعلو جوانبَ منها أعشابٌ ترعاها الماشية، وثمَّة تجمُّعات هنا وهناك من خيام تقوم على غير نظام، يتجمَّع أمامها نساء وفتيات يغزلن أو يحلبن البقر والمعيز، وهنَّ عرايا أيضًا، وجمالهن لا بأس به، ولكن تُخفيه القذارة والإهمال والفقر. الحق أني لم أتمادَ في نقد مظاهر البؤس في هذا البلدِ الوثنيِّ الذي قد يكون له من وثنيَّته عُذْر، ولكن أي عُذرٍ أعتذر به عن أمثال هذه المظاهر في بلدي الإسلامي؟ وقلت لنفسي: انظر وسجِّل واعترف بالحقيقة المرَّة.
وفيما عيناي تدوران في حيرة ودهشة، استحوذ عليَّ شعورٌ بالهيمان استخرج من أعماقي العاشق الكامن. تذكرتُ حليمة بقوة مهيمنة وغشِيَت صورتها الأرجاء مع الحرارة وأشعة الشمس. وحِرتُ من أمري وقتًا، ولكني لمحتُ فتاةً تعدو قادمةً من ناحية الفندق مُتَّجِهة كالسهم نحو بقعة مزدحمة، وغاصت في عُبابها، فتوارت عن عينيَّ. لعلِّي لمحتُها وهي ذاهبة أيضًا. لعلِّي لمحتُها وأنا مشغول بالمشاهد فأحدثت أثَرَها وأنا شِبهُ نائمٍ أو ذاهل. إنها وراء ما اجتاحني من انفعال عميق، حقًّا إنها مشرقية نُحاسية عارية، ولكن تكوين وجهها صورة قريبة جدًّا من صورة حليمة حبيبتي المفقودة، بل قررتُ أن أقتنع بأنها حليمة المشرق، وأنني سأراها مرَّة أخرى. وانتقلت من مكان إلى مكان، لا أرى جديدًا، أكابد فتورًا يتزايد، وقلبي ينسحق تحت الأسى والشجن، وخيالي يبحث عن حليمة المشرق. في الغربة أتخلَّق من جديد في صورة جديدة، تتكوَّن في أعماقي اندفاعات جريئة لإشباع الرَّغبات وممارسة المغامرات. إني أتخلَّى عن حضارة وأسلِّم لحضارة جديدة، أتوق إلى الحياة بعيدًا عن الرقباء الذين يتجسَّدون في الخارج، والذين ينبضون في الداخل. ووجدتُني عند العصر على حافة خلاء جديد لا أدري كيف ساقتني إليه قدماي المُتعبَتان. خلاء نظيف خالٍ من الماشية ومن الرعاة تحفُّ به من الجانبين أشجار عالية ضخمة لم أرَ مثلها من قبل، ويقوم في أعماقه قصر ذو سور محيط، يحرس مداخله طابور من الفُرسان المُدجَّجين بالسلاح. ولم يكن بالساحة إلا نفَرٌ من الغرباء أمثالي يُقلِّبون أعينهم في دهشة وإعجاب، كيف قام هذا القصر بين الخيام؟ .. إنه ولا شكَّ قصر ملِك المشرق، وطبعًا غير مسموح بزيارته، وكنت ظننتُ أن رئيس المشرق ما هو إلا شيخ قبيلة يُقيم في خيمة تُناسبه حجمًا وأناقة. سألت أحد الغرباء: أهو قصر الملك؟
فأجاب باهتمام: هذا ما يبدو.
الحقُّ أنه لا يقلُّ فخامةً عن قصر الوالي في وطني، ولكنه يبدو غريبًا مقطوع الصلة بما حوله. وأخذ الجوُّ يلطُف، ويُسفِر عن وجهه الربيعيِّ، ولكن شعوري بالتعب والجوع انفجر كالغول فرجَعتُ ألتمس سبيلي إلى الفندق. ووجدتُ فام صاحب الفندق جالسًا على أريكة من سَعَف النخل عند المدخَل، فلاقاني بابتسامة وقال: هل تناولت غداءك في السوق؟
فقلت بعجَلة: لم أعرف موقع السوق بعد، والجوع ينهشني أيها الرجل الكريم.
وجلست أمام الطبلية أمام حجرتي فجاءني فام بخُبزِ الشعير، وشريحة من لحم البقر مقليَّة في الدهن مُخفَّفة بالخل، وطبقٍ مليءٍ تمرًا وسَفَرْجلًا وعنبًا، وسألني: هل آتيك بخمر البلح؟
فقلتُ وأنا أُقبِل على الطعام بنهَم: أعوذ بالله.
فتمتم الرجل: الخمر موسيقى الرحلات.
أكلتُ حتى شبعت، واستأذنته في الجلوس معه على الأريكة، فرحَّب بي جدًّا، فجلسنا والمساء يتيه بقمرٍ يوشك أن يصير بدرًا. تلقَّيت نسائمَ عذبةً غريبةً كلَّ الغرابة عن قَيْظ النهار، وسرعان ما زحف عليَّ الهدوء والاسترخاء. قال فام: توجد خيام للضرب والرقص وما يتمنَّاه الغريب.
فقلت: فلنؤجِّل ذلك إلى وقته.
– هل أعجبك ما رأيت؟
فقلت بفتور: لا شيء يستحقُّ المشاهدة سوى القصر، ولكني بحاجة إلى معلومات لا يُعثَر عليها عادة في الطريق.
– صدقت فيما قلت.
– قصر الملك آية من الآيات.
فقال باسمًا: لا يوجد ملِك في دار المشرق.
لعلَّه قرأ الدهشة في وجهي فواصَل: دار المشرق عبارة عن عاصمة وأربع مدن، لكلِّ مدينة «سيد» هو مالكها، يملك المراعي والماشية والرُّعاة، النَّاس عبيده، يخضعون لمشيئته نظير الكفاف من الرِّزق والأمن، فالقصر الذي شاهدتَ هو قصر سيد العاصمة، هو أكبر السادة وأغناهم ولكن لا هيمنة له على أحد منهم، ولكل سيِّد قوة مُسلَّحة من المرتزقة يجلبهم عادة من الصَّحْراء.
يا له من نظام غريب! إنَّه يُذكِّرني بالقبائل الجاهلية ولكنه مختلف، كما يُذكِّرني بمُلَّاك الأرض في وطني، ولكنه مختلف أيضًا. جميعها تُمثِّل درجات متفاوتة من الظلم، وعلى أيٍّ فإثمنا — نحن دار الوحي — أفظع من سائر الخلق. وأخذتُ حذَري فاكتفيتُ بالإصغاء حابسًا ملاحظاتي النَّقدية كما يجدُر بالغريب. وسألته: كيف شُيِّد هذا القصر الباهر وجميع رعيَّته من الرُّعاة البسطاء؟
فأجاب فام في مُباهاة: جاء بالمهندسين والعمال من دار الحيرة، وزوَّده بأجمل الأثاث والتحف التي تفخر بصنعها دار الحلبة.
وصمتُّ قليلًا ثم قلت: حدِّثني يا سيد فام عن دينكم.
– أهل المَشْرِق جميعًا يعبدون القمر، في ليلة البدر يتجلَّى الإله في تمامه فيُهرَعون إلى الخلاء، ويحيطون بالكاهن للصلاة، ثم يمارسون طقوسه رقصًا وغناءً وسُكرًا وغرامًا.
فذهِلتُ كثيرًا ثم تساءلت: وبذلك يضمنون الخلود في الجنة؟
– لا نعرف خلودًا ولا جَنَّة، وليس لنا إلا ليلة البدر.
فتردَّدتُ قليلًا ثم سألت: ألا يوجد طبٌّ وتعليم؟
فقال باستهانة: أبناء السيد يتعلَّمون الفروسية، ومعلومات عن الإله القمر، وفي كل قصر طبيب وارد من الحيرة أو الحلبة، أمَّا الناس فيُتركون للطبيعة، ومن يُصبه مرض يُعزَل حتى يبرأَ أو يموت فتأكله الجوارح.
فنظرتُ إليه كالمتسائل فاستدرك: إنها سُنَّة القمر وتعاليمه، وهي تتوافق مع الحياة تمامًا، لذلك فنحن شعب يغلب عليه المرح والرضا، نحن أسعد الشعوب يا سيد قنديل.
قلت لنفسي: إنه فُقدان الوعي بلا زيادة ولا نقصان، ولكني قلت له: هنيئًا لكم يا سيد فام!
وقضيتُ شطرًا من الليل وأنا أُدوِّن في دفتري تاريخ الرحلة ومَشاهدها، وقطعتُ شطرًا آخَر مُسهَّدًا، أُفكِّر فيما صادفني من أحوالٍ وأفكار، وأتأمَّل عذابات الإنسان في هذه الحياة، وأتساءل هل حقًّا يوجد في دار الجبل الدواء الشافي لكل داء؟!
ومَرَّت أيامٌ بلا جديد سوى أنني وجدت الشجاعة على التخفُّف من ملابسي مكتفيًا بسروالٍ قصير وطاقية. وذات صباح دهمَتني حركةٌ غيرُ عاديَّة مُنبثَّة في الأرجاء، وتهامس حميم بين النزلاء حتى هُرعتُ إلى فام أسأله عمَّا هنالك فهتف: هذه ليلة البدر .. ليلة حضور الإله والعبادة.
فهزَّني الخبر، ووعدني بمشهد سعيد حقًّا مَن يراه، وذهبتُ من فوري إلى السوق، فالتقيتُ برفاقي التجار المُعسكرين عند مدخَله، كانوا يُنفِقون نهارهم في العمل وليلَهم في الملاهي. وسرعان ما انهمكوا في المقايضة بهمَّة وخبرة. ولاحظتُ أنهم لا يتعاملون مع الأهالي، ولكن مع مندوبي السيد صاحب العاصمة، فهو البائع والشاري وحده. أمَّا بقية السوق فعبارة عن ممرٍّ أُقيمت على جانبيه خيامٌ لبيع الأغذية والأدوات البسيطة كالأمشاط والمرايا الصغيرة والحُليِّ الرخيصة من الخرز. وتناولتُ غدائي في الفندق، ثم ذهبتُ إلى ساحة العبادة والشمس تميل نحو الغروب. وكان الناس من الرجال والنساء يزدحمون في كثافة هائلة في شكل دائرة تُرك وسطها خاليًا. كانوا ينتظرون عرايا وأجسادهم النُّحاسية تنضح بالعَرَق، وتنفث في الجو رائحة آدميَّة مثيرة. وقبل المغيب ركضَت سُحُب فحجبَت القبَّة الزرقاء وتساقط رذاذ مقدار خمس دقائق فتلاقى المطر بهُتافات الفرح الصاعدة من الأفواه المُترَعة بالإيمان والتحفُّز للمغامرة. وما إن غابت الشمس في ناحيةٍ حتى تهادى البدر صاعدًا من الناحية المقابلة عظيمًا جليلًا عذبًا واعدًا؛ فهلَّل النَّاس حتى ذُعرَت الطيور في الجو. مضى يصعد مُرسِلًا ضوءه الذهبيَّ على الأجساد العارية الباسطة أذرعها كأنما لتقبض على الضوء السابح. ومرَّ وقتٌ غير قصير في صمت خاشع، حتى استقرَّ القمر في كبد السماء. عند ذلك ندَّ صوتٌ مُنذِرٌ طويلٌ عن بوق في مكان ما، فانشق طريق في شمال الدائرة موسعًا لقادمٍ وقور، طويل القامة، مُرسَل اللحية، منفوش الشعر، عاري الجسد، تَقدَّم مُتوكِّئًا على عصًا طويلة حتى وقف في مركز الدائرة، تركَّزَت الأعين على كاهن القمر، وازداد الصمتُ صمتًا. ولبِثَ الرجل فترةً جامدًا، وترك عصاه تسقط عند قدميه، ورفع رأسه وذراعيه نحو القمر فتبِعَته الآلاف المؤلَّفة من الأذرع. وصفَّق بيدَيه فانطلق من الحناجر نشيدٌ واحد في لحظة واحدة. انطلق بقوَّة وشمول فكأن الأرض والسماء وما بينهما قد شاركت فيه منتشيةً بسُكْر الغناء ووَجْد العاشقين. وانسربَت إلى أعماقي نغمة مُفْعَمة بالحرارة، مميزة الوحشية والخشونة، مجللة بِدويٍّ وأصداء، فجاش صدري بانفعالات ترتعش باللذة والرهبة، وتصاعدت لذروة الانفجار، ثم أخذت في الهبوط الوئيد، خُطوةً إثرَ خُطوة، حتى استنامت للهدوء، وغاصت في الصمت. وأنزل الكاهن ذراعَيه ونظر فيما أمامه، فتبِعَته الأذرع وتحوَّلت إليه الأعين، والتقط بوقار عصاه فقبض عليها بيسراه وأنشأ يقول: ها هو الإله يتجلَّى بجماله وجلاله، يحضُر في ميعاده، لا يتخلَّى عن عباده، فنِعْمَ الإله وهنيئًا للعباد.
ندَّت عن البحر المحيط همهمةُ شُكرٍ، فواصل الكاهن حديثه: إنه يقول لنا في دورته إنَّ الحياة لا تعرف الدوام، وإنها نحو المحاق تسير، ولكنها طيبة للطيب، وبسمة للباسم، فلا تُبدِّدوا ثروتها في الحماقة.
انطلقَت من الحناجر زغاريدُ كالشُّهُب، وصفَّقَت الأيدي على إيقاع راقص، واستمرَّ الكاهن يقول: حذارِ من الخصام، حذارِ من الشرِّ، الحقدُ يفري الكبد، النَّهَم يُتخِم البطن ويجلب الداء، الطمعُ هَمٌّ وبيل، امرحوا، والعبوا، وانتصروا على الوساوس بالرضا.
وفي الحال ترامت دقَّاتُ طبول، فاهتزَّت الخواصر راقصةً، ولبَّت نداءها الأثداءُ والأرداف، وتمادت حركة منتشرة مترامية تحت ضوء القمر. رقصَت الأرض وبارَكها البدر، واختلط العناقُ بالرَّقص، واندمج الجميع في غرامٍ شاملٍ تحت ضوء القمر. جعلتُ أنظر بعينين ذاهلتين، كأنني في حلم شباب، دمي يشتعل في عروقي، ورغباتي تتلاطم في جنون، وقلبي يتوق إلى الجنون، ورجعتُ وأنا أترنَّح من شدة الانفعال، وقبضة الشهوة تشدُّ بعنفٍ على أعصابي الملتهبة، ولبِثتُ في غرفتي بالفندق ساهرًا على ضوء شمعة، أدوِّن كلماتٍ في دفتري، وأفكِّر في المحَن التي تتربَّص بإيماني وتقواي، وأتذكَّر عهد تربيتي الدينية والعقلية على يدِ الشيخ مغاغة الجبيلي. واستسلمتُ لأفكاري في استرخاء بائس حتى اخترقت أُذنيَّ بغتةً صرخةُ استغاثة. وثَبْتُ قائمًا مُتحفِّزًا فوجدتُني في ظلام دامس، وسرعان ما انتبهتُ إلى أنني كنت نائمًا، بل إن النوم كان يغشَى الكون كله. واستيقظتُ مُبكِّرًا، وقلتُ لفام وأنا أهمُّ بمغادرة الفندق: هل أستطيع كغريب أن أقابل حكيم العاصمة؟
فقال فام: هو كاهن القمر، يُرحِّب دائمًا بلقاء الغرباء، سأُعِدُّ لك لقاءً معه.
وذهبتُ إلى السُّوق فلم أجد أحدًا من التجار، وأخبرني القاني بن حمديس أنهم ذهبوا إلى القصر لإنهاء بعض الإجراءات مع حاجب السيد. وسألني: هل قرَّرتَ أن ترحل مع قافلتي؟
فأجبتُ بتلقائية: أجل، لا شيء يستحقُّ المشاهدة بعد.
– صدقت فهو بلد فقير، ولكن الرِّحلات القادمة تَعِد بمشاهدَ ثريَّة.
فقلتُ بصدق: ما يهمني حقًّا هو دار الجبل.
فابتسم قائلًا: متَّعك الله بأجمل ما خلق.
واشتدت وَطْأة الملل والحر، فرحت أُسلِّي نفسي بالمشي في السوق. ورغمًا عني توقَّفتُ مذهولًا أمام خيمةِ رجلٍ عجوزٍ يعرِض التمر في أوعية من الخوص. لمحتُ وراءه في عمق الخيمة الفتاةَ الفاتنة، حليمة المشرق النحاسية العارية، وهي تزقُّ حمامة، منطلقة بقامتها الرشيقة ونضجها الذي لم ينَلْ منه السوء بعدُ. وقفتُ مُحملِقًا ناسيًا ذاتي، أرى الماثلة أمام عينيَّ، وأتذكَّر خلالها حليمة بوجهها البدري وعينيها السوداوين وعُنقها الطويل. أرى تاريخ قلبي كلَّه مُتجمِّعًا في لحظة ومثال، وقد التقى في بؤرته يقَظة الماضي وسِحر الحاضر وحُلم المستقبل. أي هُيام ينسكب في روحي من هذا التكوين الفريد! أي نداء وأي أَسْر! رنوت إليها غارقًا فيها، مُتجاهلًا أباها العجوز، وحيائي العتيق، وما أُلزم نفسي به من قيود الأدب. ونسيتُ تمامًا المللَ والحرَّ والخطط، وأحلام الرحلة، وحلم الجبل، وحتى الآمال المدَّخَرة من أجل الوطن. نسيتُ كلَّ شيء لأني ملكتُ كلَّ شيءٍ وطواني في صدره الرضا والقناعة والغنى. وتراجعَت الفتاة حتى توارت عن ناظِرَيَّ فوجدتُ نفسي منفردًا بنظراتِ العجوز الثابتة. باخ جنوني السعيد فسقطتُ في قبضة الحياة اليوميَّة ذات الوسواس والعرق، ومضيتُ أبتعد. وأدركني صوتُ هرِمٍ ينادي: يا غريب!
فقلت لنفسي: في المحذور وقعت. وتلفَّتُّ مُتوقِّفًا. قال برقَّة: تعالَ.
فدنوت منه في حياء، فسألني: ألم تُعجِبْك ابنتي عروسة؟!
فانعقد لساني دهشةً، ولم أُجِبْ فعاد سائلًا: ألم تُعجبك عروسة؟ .. لا مثيل لها في المشرق!
تمتمتُ بارتباك: معذرة!
فقال بفَخَار: ما رآها شابٌّ إلا أحبها.
فقلتُ مُعتذِرًا وأنا أظنُّه يسخر مني: ما قصدتُ سوءًا قط.
فقال العجوز بحدَّة: لا أفهم لغة الغرباء، أجِبْني، هل أعجبَتك؟
فتردَّدتُ مليًّا ثم قلت: إنها تستحق الإعجاب كلَّه.
– أجِبْني بصراحة، هل أعجبتك؟
فحنيتُ رأسي مُعترِفًا فقال: ادخل.
تردَّدتُ؛ فتناول يدي وجذبني إلى الداخل. ونادى عروسة فجاءت بجسمها العاري وجعلَت ترنو إليَّ، حتى سألها: ما رأيك في هذا الغريب المُغرَم بكِ؟
فأجابت بلا حياءٍ ولا تلعثُم: إنه مطلوبي يا أبي.
فضحك العجوز قائلًا: أخيرًا نوَّركِ القمر.
ومضى بنا إلى ركن الخيمة وأسدَل علينا ستارًا. وجدتُني مُنفرِدًا بها في أمانٍ كما بدا، ولكن في حيرة أفسدَت عليَّ السعادة المُتاحة الشاملة. أيعني هذا الزَّواجَ في هذه الدار؟ أيعني إباحيَّةً كالتي شهِدتُها تُمارَس تحت ضوء القمر؟ وراحت تنظر إليَّ وتنتظر، وحبي يهفو إليها من تحت غشاء القلق. وسألتها: ما معنى هذا يا عروسة؟
سألَتني: ما اسمك؟ ومن أيِّ البلاد أنت؟
– اسمي قنديل، ومن دار السلام.
– عمَّ تسأل؟
فسألتها وأنا أُشير إلى الخارج: أهو أبوك؟
– نعم.
– أي عَلاقةٍ بيننا الآن؟
– عرَف أبي أنك تُعجبني فدفعك إليَّ؟
– هذا هو المُتَّبَع هنا؟
– طبعًا.
– وماذا بعد ذلك؟
– لا أدري، لكن لماذا تُغطِّي وسطك بهذه الوزْرة؟
وراحت تنزِعها بازدراء، ووقفنا نترامق، وفجأة ركعتُ طارحًا على عاتقيَّ كلَّ هَمٍّ، وضممتُ ساقيها إلى صدري، وعند الظهيرة قال لي الأب: ادعُنا إلى الغداء.
فذهبت وجئتُ بلحمٍ، وفاكهة، وتناولنا طعامنا كأسرة واحدة. وعَقِب استراحة قصيرة قال العجوز: اذهب مصحوبًا بالسلامة.
فسألته بقلق: هل آتي غدًا؟
فقال دون مُبالاة: هذا شأنها وشأنك.
رجَعتُ إلى الفندق فاقدَ القلبِ والعقل. تلخَّصَت الحياة كلُّها في عروسة. والتمستُ عند فام مزيدًا من الضوء فقال: هذه العَلاقة تُمارَس هنا بلا قيود، ما إن تُعجَب فتاةٌ بفتًى حتى تدعوَه على مرأًى ومسمعٍ من أهلها، وتنبذه إذا انصرفَت عنه نفسُها محتفظةً بالذريَّة التي تُنسَب إليها.
وكرهتُ ذلك من صميم قلبي غير أنَّ فام قطَعَ عليَّ أفكاري قائلًا: سنذهب عصرًا إلى كاهن القمر وهو يُرحِّب بك.
كان حماسي لِلِّقاء قد فتَر شيئًا ما، ولكني استعنتُ عليه بالعزيمة حتى أُنجز كتاب رحلتي على أكمل وجه، واصطحبني فام عصرًا على خيمة الكاهن التي قامت في بُقعة خالية، وكان يجلس متربِّعًا على فروة أمام مدخَلها فرمقني مُتمعِّنًا وقال: اجلس .. أهلًا بك.
وفارقنا فام فقال الكاهن: أخبرَني فام أنَّك تُدعى قنديل محمد العنَّابي، وأنك من دار الإسلام.
فقلت مُتودِّدًا: هذا حق.
فقال وهو ينفُذ بعينيه في صدري: واضح أنك تجري وراء المعلومات شأن الرحَّالة الغريب!
فقلتُ برقَّة: عند الحكيم تُوجد المعاني التي تخفى على المُشاهِد العابر.
فقال بهدوء: كن صريحًا، ولا خوف عليك؛ فلن تخرج المعاني إلا لمن يطرُق الباب بصدق.
تفكَّرتُ مَليًّا ثم قلت بادئًا بالموضوع الذي يستغرقني: أَعجبُ ما صادفني في المشرق عَلاقة الرجل بالمرأة.
فابتسم قائلًا: نصف المصائب في البلدان إن لم يكن كلُّها تجيء من القيود المُكَبِّلة للشهوة، فإذا شبعت أمكن أن تصير الحياة لهوًا ورضًا!
فقلت بحذر: في دارنا يأمرنا الله بغير ذلك.
– عرَفتُ أشياءَ عن داركم، عندكم الزَّواج وكثيرًا ما يتمخَّض عن مآسٍ مؤسِفة، والناجح منه يستمرُّ بفضل الصبر، كلَّا يا صاحبي، حياتنا أبسط وأسعد.
فتساءلتُ بقلق: قد تزهد المرأة عندكم في رجُلها، وهو ما زال مُقيمًا على حُبِّها؟
– النساء كثيرات، والسلو يسير، كل متاعبكم تجيء من الحرمان.
– حتى الحيوان يغارُ على شريكته.
فابتسم قائلًا: يجب أن نكون أفضل من الحيوان.
فتمتمتُ وأنا أُخفِي تقزُّزي: لا سبيل إلى التلاقي.
– إني مُسَلِّم بهذا، ولكن عليك أن تفهمنا جيدًا، إننا نَنشُد البساطة واللعب، وإلهنا لا يتدخَّل في شئوننا، إنه يقول لنا كلمة واحدة وهي أنه لا شيء يدوم في الحياة، وأنها إلى محاقٍ تسير، بذلك أشار إلى الطريق في صمت، أن نجعل من حياتنا لعبًا ورضًا.
فقلتُ مُتشجِّعًا بحرارة الحديث: لقد سمعتُ موعظتك، ووجدتُها لا تنطبق على السيد المالك لكلِّ شيء.
فهزَّ رأسه في أسًى وقال: كثيرًا ما يحوم الغُرباء حول ذلك، ولكن السيد هو الذي يدفع عن الدار هجمات البدو، وهو — وبقية السادة — أملنا في التصدِّي لأطماع دار مثل دار الحيرة، أجل الحرب تتهددنا، والسَّادة هم الذين يُعِدُّون أنفسهم للدفاع، وهم أيضًا الذين يتصدَّون لأيِّ عدوان في الداخل فيُهيِّئون للعبيد حياةً آمنة، هل تستكثر عليهم بعد ذلك أن يملكوا كلَّ شيء، ليُنفقوا على السلاح والجنود والمرتزقة؟!
فقلتُ مُتحدِّيًا: يوجد نظام أفضل يوفر للناس كافَّةً حقوقَهم ويُعِدُّهم للدفاع عن دارهم عند الحاجة.
فمطَّ الرجل شفتَيه مضمومتَين، وقال بحسم: الكائنات في دارنا أنواع: نبات، وحيوان، وعبيد، وسادة، ولكلِّ نوعٍ أصلٌ يرجع إليه غير أصول الأنواع الأخرى.
فقلت وأنا في غاية الاستياء: الناس عندنا إخوة من أبٍ واحد، وأمٍّ واحدة، لا فرقَ في ذلك بين الحاكم وأقلِّ الخلق شأنًا.
فلوَّح بيدِه استهانةً وقال: لستَ أوَّلَ مُسْلمٍ أحادثه، إني أعرف عنكم أشياءَ وأشياءَ، ما قلت هو حقًّا شِعاركم، ولكن هل يوجد لتلك الأخوَّة المزعومة أثرٌ في المعاملة بين الناس؟
فقلت بحرارة وقد تلقَّيتُ طعنةً نجلاء: إنه ليس شعارًا ولكنه دين.
فقال ساخرًا: ديننا لا يدَّعي ما لا يُسْتطاع تطبيقه.
فقلتُ وقد شدَّتني الصَّراحة إلى أعماقها: إنك رجل حكيم، إني أعجب كيف تعبد القمر، وتتصوَّر أنه إله؟!
فقال بجِديَّة وحِدَّة لأول مرة: إننا نراه ونفهم لغته، هل ترون إلهكم؟
– إنه فوق العقل والحواس.
فقال باسمًا: إذن فهو لا شيء.
كدتُ ألطمه، ولكني كظمتُ حنَقي واستغفرتُ ربِّي، وقلتُ: إني أسأل الله لك الهداية.
فقال باسمًا: وإني أسأل إلهي لك الهداية.
وصافحته مُودِّعًا، ورجَعتُ إلى الفندق ثائر الأعصاب مُوجَع القلب، وعاهدتُ نفسي أن أسمع — في رحلتي — كثيرًا وأن أناقش قليلًا أو لا أناقش على الإطلاق. وقلتُ لنفسي مُتحسِّرًا: ديننا عظيمٌ وحياتنا وثنيَّة.
ومع اليوم التالي ذهبتُ مُبكِّرًا إلى السوق، إلى خيمة عروسة، رحَّب بي العجوز باسمًا، وقالت عروسة بدلال: تأخَّرتَ حتى قلتُ إنه هرب.
ولثمتُ ثغرها، فهَمَّت بالذَّهاب إلى رُكننا المستور، ولكني أوقفتُها وقلت لأبيها: يا والدي أُريد أن أتزوَّج من عروسة.
فقهقه العجوز فاضحًا فاه المثرم، وقال: كما تفعلون في بلادكم؟
– أجل، وفي تلك الحال سأصطحبها معي في رحلتي حتى نرجع معًا إلى وطني.
فنظر الرجل إلى ابنته وسأل: ماذا تريدين يا عروسة؟
فقالت عروسة بسرور: تحت شرط أن يتعهَّد بإرجاعي إلى المشرق إذا راق لي ذلك.
فقلت بلا تردُّد: لكِ هذا يا عروسة.
– ولكني لا أملك حقَّ الموافقة النهائية، فنحنُ جميعًا عبيد السيد وهو مالكنا الشرعي، فاذهب إلى القصر، واعرض على الحاجب شراء عروسة.
اعترضتني هذه العقبة التي لم ترِدْ لي بحِسْبان، ولكنني لم أجد بُدًّا من تذليلها، وأمضيتُ نصف النهار مع عروسة في سعادة وراحة عميقَين. ولمَّا رجعتُ إلى الفندق أفضيتُ إلى فام بما يشغلني، فوعد باصطحابي إلى الحاجب. هكذا قُدِّرَ لي أن أعبرَ باب القصر، وأن أشهد جانبًا من حديقته الضاحكة بأزهارها ونخيلها، وأنا في طريقي إلى ركن الحاجب. كان يجلس في صدر حجرة واسعة على أريكة كبيرة من خشب الورد، مفروشة بالوسائد والمساند النَّاعمة. كان فوق الستين، بدينًا ثقيلَ النَّظرة، مُغلَّفًا بالعُزلة والكبرياء. لثم فام يده وعرض مطلبي، ولكن الحاجب لوَّح بيده رافضًا، وقال: منعنا البيع لحاجتنا إلى زيادة العبيد.
ونظر إليَّ وقال: انضمَّ إلينا إذا شئتَ كما فعَل فام، فتندرج في جملة العبيد، وتتمتَّع بالأمن والرضا والجارية معًا.
فشكرت له كرمه وغادرنا القصر بقلب ينوء بالخيبة والشجَن. وقال لي فام ونحن ماضون نحو الفندق: استمتع بفتاتك حتى تشبع، وسرعان ما تشبع.
فضاعَف من أحزاني وهو لا يدري، وواصَل حديثه قائلًا: لم يكن الوقت مناسبًا لإنجاح مسعاك فثمَّة أنباء عن تحفُّز الحيرة لإعلان الحرب علينا.
فسألته بقلق: وما الأسباب وراء ذلك؟
فضحك بمرارة قائلًا: الطمع في كنوز السادة والمراعي الغنيَّة، ولن تعوزهم علَّة يَعتلُّون بها.
وساورني القلق فزاد من متاعب قلبي، وافترقنا عند أقرب نقطة إلى السوق، فذهبت إلى خيمة عروسة من فوري، واستقبَلني العجوز مُتفحِّصًا وجهي فقال: خاب مسعاك والقمر.
وضحكَت عروسة ضحكة لا معنى لها، فردَّدت بأسف: خاب مسعاي.
فقال العجوز ضاحكًا وهو يومئ إلى عروسة: إنها تنتظرك!
فقلت بأسًى: يعزُّ عليَّ أن تكون عَلاقتي بها عابرة.
فقال العجوز ساخرًا: كلُّ عَلاقة عابرة يا غريب.
فقلت بحرارة: تمنَّيت أن تكون دائمة.
فقال مقهقهًا: يا لكَ من رَحَّالة أناني.
ثم وهو يواصل القهقهة: حذارِ من التعقيدات؛ فنحن قوم بُسطاء ونحب البساطة.
– كأنكم لا تعرفون الحب.
– نعرف أنه متعة ليلة أو أسبوع أو شهر أو عام في الأحوال الجنونية. فماذا تريد أكثر من ذلك؟
سألتُه جادًّا: ماذا تقترح لمجنونٍ مثلي؟
– استأجرها لمدَّة تتجدَّد حتى تنتهي.
– هل أرجع في ذلك إلى الحاجب أيضًا؟
– كلَّا، هذا حقي بصفتي والدها، أيَّ مدَّةٍ تريد؟
– أطول مدة ممكنة.
– استأجِرها شهرًا بشهر.
– ليكن.
– ولكنَّ الاتفاق ينتهي حال ترغب هي في ذلك.
فحنيتُ رأسي موافقًا فقال: الشهر بثلاثة دنانير.
تم الاتفاق ومضيتُ بعروسة إلى حجرتي بالفندق. صمَّمتُ على ألَّا أُفسِد سعادتي، وأن أعتبر الساعة الرَّاهنة هي العمر كله، ولكني قلت لها برجاء: دعيني أستر جمال جسدك.
فقالت بانزعاج: لا تجعل مني أضحوكة.
فتراجعتُ مُسلِّمًا بكل شيء. وتراءت لي وهمًا سعيدًا، يُنذِر بالزَّوال فلُذْتُ بها بقلب يطارده شبح الفراق والحزن، ولكنَّ الحياة طابت مع الفاتنة الرائعة، ووعدت بالاستقرار والأمان للقلب والأعصاب. وكانت تُحِبُّ الانطلاق في المراعي، والتجوُّل في السوق، فسرنا معًا في حبور. ورآني القاني بن حمديس، فأقبَل نحوي قائلًا: نحن راحلون مع الفجر.
فقلتُ في حياء: ولكنني باقٍ.
فقال ضاحكًا: ستجد قافلةً كلَّ عشرة أيام.
إني مُستغرِق بالحب ولا شأن لي بالزمن. لا أهمية الآن للرحلة ولا للمهمَّة، ولو بقِيت لآخر العمر. وها هي بشائر الأمومة تهلُّ بأفراحها القلبية وأسقامها الجسدية، فأستعيذ بها من تقلُّبات القلوب وجوامح الأهواء، وأطمح إلى حياة مُستقِرَّة، ولو ربطَتني في النِّهاية بالمشرق، وغيرت بشرتي وأحلامي. وقلت ساخرًا من نفسي: يبدو أنني خُلقتُ للحب لا للرحلات.
ودار الزمان فجاءت ليلة البدر، وهُرع العباد إلى ساحة العبادة. ذهبنا إلى الساحة زوجين حتى انحشرنا في الزحام. هناك قالت لي بجِديَّة: هذه ليلة الإله ينفصل فيها القرين عن قرينه.
وفرَّت من بين يديَّ فذابت في الجموع، لبثتُ وحيدًا مُضطربًا غاضبًا، مسلوبَ الإرادة والسرور، وتتابعَت الطقوس، وأنا أتساءل عمَّا تفعله مع آخَر غريب. ولمَّا جاءت ساعة العناق تعرَّضَت لي امرأة في الأربعين على شيء من الجمال، وفتحَت لي ذراعيها. رأيتُ فيما يقع لي ما يقع مع عروسة في مكان ما. ودار السُّقاة بخمر البلح فشربتُ قدَحًا، فغبتُ عن وعيي واندمجتُ في صلاة المشرق. وعند الفجر تكوَّمتُ مُقرفصًا عند مدخَل الفندق حتى وافتني عروسة وهي تترنَّح. نهضتُ إليها واجمًا، فتأبَّطَت ذراعي إلى حجرتنا وهي تسألني: أعجبتك المرأة؟
فقلت بمرارة: لقد نجَّسنا عَلاقةً مقدَّسةً يا عروسة.
فقالت بانزعاج: إنك غير مؤمن يا قنديل ولا حيلة لي في ذلك.
ثم أقبلَت عليَّ باسمةً وهي تقول: ما زلتُ أُحِبُّك، ما زلتَ رَجُلي الوحيد.
أعترف بأنَّ حُبِّي لم يضعف، وبأنَّ الخوف من الفراق كان يُلهبه. باتت سعادتي وشقائي. وحرقني الصيف فهو جحيم، وفيه تنمحق الخضرة، وتقتات الماشية على المخزون المُجفَّف من الأعشاب، ويجيء الخريف فتهدأ النيران قليلًا، ويسقط الرذاذ من حين لحين، ثم يُقبل الشتاء بجوِّه اللطيف المعتدل وأمطاره الغزيرة، فتحيا الأرض وتطرَب الماشية ويظلُّ العُراة عُراة. وتنجب عروسة وليدها الأول فيُسمَّى «رام بن عروسة» كأنما أنجبَته وحدها ولا شأن لي به. ويقول لي أبوها: ها أنت تدخل في عامك الثاني، وهي ما زالت تُحِبُّك، أأنت ساحر يا غريب!
وبزغَت بشائر أمومة جديدة فجاء «عام بن عروسة»، وتبِعه بعدَ عام «لام بن عروسة»، وحملَت للمرَّة الرابعة حتى اشتهرت عَلاقتنا بين القوم بالشذوذ، وقيل إني أشدُّها إليَّ بقوة السحر الذي لُقِّنتُه من دار الإسلام، وانسقتُ وأنا لا أدري إلى تربية «رام» على مبادئ الإسلام. وكان ينمو أقوى وأسرع من أقرانه؛ لِما أُوفِّره له من عناية وغذاء، وقد أعطى مثالًا لما كان ينبغي أن يكون عليه أطفال المشرق لولا الظلم والعبودية. كفَّرتُ بتلقينه مبادئ الإسلام عن إهمالي الاضطراريِّ لعقيدتي، احترامًا للبلد الذي يؤويني، غير أنَّ عروسة لم تُخْفِ استياءها وقالت لي بجِديَّة: إنك تُنشئه على الكفر، وتُعِدُّه لحياة تعيسة في بلده.
فقلت برقَّة: إني أُنقذ روحه كما تمنيتُ أن أُنقذ روحك ذات يوم.
فقالت بصرامة: لن أسمح لك بهذا أبدًا.
تبدَّت صارمة عنيدة، حتى جزِعتُ خوفًا على حُبِّي، وأفضَت إلى أبيها بهمومها، ونحن في زيارة له؛ فهاله الأمر وصاح بي: ابعد عن ابننا يا غريب!
وخُيِّل إليَّ أنَّ النبأ تسرَّب إلى الخارج، رغم تكتُّمنا له، وأنَّ نظرات الغضب تحرِقني في الطريق، وطاردني القلق حتى قلت لنفسي: البناء مُهدَّد بالانهيار.
وصدَق حَدْسي فجاءني فام صاحب الفندق فأخذني من حجرتي إلى حجرته، حيث وجدتُ ضابط شرطة في انتظاري. سألني: أنت قنديل محمد العنَّابي؟
فأجبت بريقٍ جافٍّ: نعم.
فقال بجفاء: ثبَت أنك تحاول تنشئة ابنك الأكبر على الكفر.
فسألته بجزَع: كيف ثبت ذلك؟
– نحن أدرى بواجبنا. اسمع، فلم أحضُر للمناقشة، صدر أمر السيد بالتفرقة بينك وبين رفيقتك وأبنائها، وأن ترحل عن المشرق مع أول قافلة.
هممتُ بالكلام ولكنه قال بغلظة: لم أحضر للكلام، أنت محجوز معي حتى يذهبوا بالمرأة والأولاد إلى أبيها، وستظل تحت الحراسة حتى تلحَق بالقافلة.
فقلتُ بضراعة: دعني أُودِّعهم.
فقال بخشونة: لقد وقع عليك أخف جزاء، فكن شكورًا.
ورجعتُ إلى حجرتي بعد ساعة — التي تحوَّلت إلى سِجْن — فوجدتُها خاليةً من الأم والأولاد والحب والأمل. لحظة كئيبة تنداح في أعماق النَّفس فتنكشف الحياة عن حُلم أو وَهْم، ولحِق بي فام فرمقني بعطف وقال: تحمَّل كما يجدُر برجلٍ رَحَّالة!
فقلت بصوت مُتهدِّج: حزني شديد جدًّا يا فام.
تفرَّس في وجهي قليلًا ثم قال: أطلق دموعك، الرجال يبكون أحيانًا.
فقلت وأنا أشدُّ على محابس دموعي: تبخَّرت مسرَّات الحياة.
– إنها تتجدَّد وتجيء أيضًا بالعزاء.
وربَّت مَنْكِبي ثم قال: تعلَّمْ أن الرحَّالة لا يجوز أن يسعى وراء عَلاقة دائمة.