دار الحيرة
تحرَّكت القافلة في ظلمة الفجر المُبشِّرة. شدَّ قلبي إلى الوراء، وغصَّ حلقي بالحزن والدموع، وتجمَّعت النجوم فوقنا تنظر إلينا وننظر إليها، وانعدم العزاء. كما فارقت وطني منذ حوالي خمسة أعوام مُحبَطًا بخيانة الأم الحبيبة والولاة. انقلبتُ رَحَّالة مرَّة أخرى أُفكِّر بالبلدان والدفاتر، ولكن أين القلب وأين العقل أين؟ وقلتُ: إنَّ هذه النجوم أقربُ إليَّ من عروسة والأبناء. وستظل القوافل تسير حاملة الأموال والآمال فمن يحمل الأحزان؟ ويتلاشى الظلام، ويُشرق النور، وتتبدَّى الصَّحْراء بلا حدود كأنها الفناء. تُرى ماذا يقولون عنِّي في الوطن، ولِمَ لم أُصادفْ مرةً أخرى القاني بن حمديس، وقلتُ لنفسي: إنَّ خير ما تفعل يا رَحَّالة أن تَرى وتَسمع وتُسجِّل، وأن تتحاشى التَّجارب، وأن تُعاود أحلامك عن دار الجبل، وأن تحمل الدواء الشافي لجِراح الوطن، وقطعنا المسافة بين المشرق والحيرة في شهر، ثم عسكرنا على كثَب من واحة الزِّمام لندخل دار الحيرة عند منتصف الليل، وواصلنا السير مع الليل حتى تبدَّى لنا سور الدار تحت ضوء النجوم، ومضَينا نقترب من بابها الكبير.
أمام المدخل، على ضوء المشاعل، وقف مدير الجمرك، وكان على ما بدا من العسكريِّين بخُوذته ودرعه وسيفه، ووزْرته القصيرة. قال بصوت قوي أسْمعَ القافلة كلها: أهلًا بكم في الحيرة عاصمة دار الحيرة. ستجدون رجال الشرطة في كل مكان فتسألونهم عمَّا تريدون، وتتبعون إرشاداتهم بدقَّة تجعل من رحلتكم ذكرى طيِّبة لا يشُوبُها ما ينغِّص.
فقلتُ في نفسي «إنه ترحيبٌ وإنذار.» واخترقنا الباب ثم انقسمنا، فذهب التجار إلى فندق السوق، ومضى بي دليل إلى فندق الغُرباء. اخترقنا ظلامًا شديدًا، تسبح فيه مشاعل رجال الشرطة هنا وهناك كالنجوم، واقتربنا من الفندق، فرأينا مَدخَله الكبير على ضوء المشاعل، وشعَّ نور من بعض النوافذ. إنَّه بناء كبير مُشيَّد بالأحجار ولكنه مُكوَّن من دَوْر واحد. وسرعان ما ذهبتُ وراء حقائبي المحمولة إلى حجرتي. حجرة متوسطة، بها فِراش يعلو عن الأرض ذراعًا، ذو غطاء أرجواني يُناسب جو الخريف المعتدل، وبه صوان ملابس، وأريكة صغيرة، وثمَّة شمعدان في كوَّة الوسط تشتعل به شمعة غليظة مُتوسِّطة الطول، أمَّا الأرض فمُغطَّاة بحصيرة مزركشة. توجد حضارة ولا شك وشتَّان ما بينها وبين المشرق.
وما كدتُ أخلع ملابس السفر وألبس قميص النوم، حتى جاءني رجلٌ متوسط القامة أسمر في الخمسين يرفُل في عباءة خفيفة، قال: هام .. صاحب الفندق.
فصافحته قائلًا: قنديل محمد العنَّابي، رَحَّالة.
– أتريد عشاء؟
– تناولته في الطريق.
فابتسم وقال: الليلة بياتًا وطعامًا بدينار، والدفع مُقدَّمًا.
قدَّرتُ أنَّ إقامتي ستمتد عشرة أيام؛ فأدَّيتُ إليه عشرة دنانير فسألني: من أي البلاد؟
– دار الإسلام.
فقال مُحذِّرًا: لا يُمارَس في الحيرة إلا دين الحيرة.
فذكَّرني بمأساتي ولكني سألته: وما دين الحيرة يا سيد هام؟
– إلهنا هو الملك.
وحيَّاني وانصرف. نفختُ الشمعة فأطفأتُها، وأويتُ إلى الفراش وأنا أقول لنفسي: الملك بعد القمر، يا له من ضلال! ولكن رويدك، ألا يتصرف الوالي في وطنك كأنه إله؟! استمتع بالرُّقاد بعد متاعب السفر، ولُذْ بالنَّوم من متاعب الحياة كلِّها. استيقظتُ مُبكِّرًا بخلاف ظني، وفي الحال أدركتُ أنَّ جلَبةً شديدةً تهبُّ من الطريق هي التي انتزعتني من نومي. وفتحت نافذة فرأيت في ضوء البكور جيشًا لَجِبًا، فُرْسانًا ورَجَّالَة، يتقدَّم على دقَّات طبل نحو باب المدينة. جعلتُ أشاهد وأتساءل، ولما خلا الطريق طلبتُ الفطور فجاءتني صينية من نُحاس عليها طعام مُكوَّن من حليب، وزُبد، وجُبن، وعيش وعنقود من العنب. هممت أن أسال الخادم عن مسيرة الجيش، ولكن الحذر أمسكني. وارتديت ملابسي للخروج، فوجدت مَدخَل الفندق مُكتظًّا بالناس وهم يتحاورون: إنها الحرب كما توقَّع كثيرون.
– ضد المشرق ولا شك.
– لتحرير شعب من خمسة من الطغاة.
– سيكون تاريخًا جديدًا للمشرق تحت حكم إله عادل.
انقبض صدري وطارت أفكاري، لتحوم حول عروسة وأبنائها. كيف يكون مصيرهم؟ ليست الرغبة في تحرير أهل المشرق هي ما دفعَت إلى الحرب، ولكنه الطمع في المراعي وكنوز السادة الخمسة، وسوف يقع قهر شديد لتحويل الناس من عبادة القمر لعبادة الملك. سوف تُزهَق أرواح، وتُهتَك أعراضٌ وتتشرَّد الألوف. ألا يحدث ذلك في حروب تنشب بين أناس على دين واحد يدعو للتوحيد والأخوة؟! وجاءني هام صاحب الفندق قبل أن أغادره وقال لي: تقرَّر رفْعُ الأجرة نصفَ دينار لمواجهة أعباء الحرب.
فأدَّيتها صاغرًا، فقال باسمًا: ليس كثيرًا في سبيل تحرير العبيد.
فلعنتُه في سِرِّي كما لعنتُ الشِّعارات الكاذبة جميعًا. ومن شِدَّة قلقي ذهبتُ إلى فندق السوق فوجدتُ رِفاقي التجار مُجتمِعين في البَهْو. جالستُهم متابعًا أحاديثهم: أيام الحرب غير مأمونة.
– قد تضيع أموالنا لآخِر درهم.
– ولكن الأسعار سترتفع أيضًا.
– والمكوس الإضافية؟
وقال صاحب القافلة: الحروب لا تزول أبدًا، ونفْعها للتجارة أكثر من ضررها، ولا أظن أنَّ هذه الحرب ستطول؛ فالحيرة أقوى من المشرق بما لا يقاس. في أقل من أسبوع سينتهي كلُّ شيء. تركَّزَت أفكاري على أسرتي المفقودة، قرَّرتُ البقاء في الحيرة قريبًا من المشرق. وراودني أملٌ جديدٌ أنه بعد ضمِّ المشرق إلى الحيرة أستطيع أن أُسافر إلى المشرق لعلَّ الله يجمعني بأسرتي رحمةً منه وكرَمًا، ولعلِّي أستطيع أن أتزوج منها وأمضي بها معي في رحلتي إلى وطن جديد، ودين جديد. طابت حياتي بهذا الأمل الجديد؛ فانشرح صدري للتجوُّل والرحلة، واكتشاف الحيرة عاصمة دار الحيرة، سِرتُ بلا توقُّف وبلا كلَل، أنظر وأسمع، وأُسجِّل في الذَّاكرة. إنَّها مدينة كإحدى مدن بلادي. فيها ميادين وحدائق، وشوارع وحوارٍ، وعمائر، وبيوت، ومدارس، ومستشفيات عامرة بالخَلْق، وفي كلِّ موقع شرطي، وملاهي الرقص والغناء موفورة. وسوقها كبيرة مُترامية مُتعدِّدة الحوانيت، وبها سلع من الحيرة ومن جميع البلدان. وبعَث فيَّ جوُّ الخريف المُعتدِل نشاطًا غير محدود فتواصلَت أيام الاكتشاف والمشاهدة والتسجيل. ومن آنٍ لآنٍ أزور فندق السوق، فألقَى الرِّفاق، وأجالس صاحب القافلة، وقد قال لي مرَّة: جوُّ الحيرة معتدل بصفة عامَّة، صيفه مُحتمَل، وشتاؤه مقبول.
ولمَّا حدَّثتُه عن كثرة رجال الشرطة قال لي: الأمن مُستتبٌّ، ولكنهم يحمون الدولة.
الحقُّ أني طُفتُ بأحياء الأغنياء، وهي جميلة هادئة، قصورها متاحف، وسكانها يتحركون في هوادج، كما زرتُ أحياء الفقراء بأكواخها وخرائبها ومُناخها الكئيب وأناسها التُّعساء. وقلتُ في ذلك لصاحب القافلة: يزعمون أن الحرب قامت من أجل تحرير العبيد في المشرق، هلَّا حرَّروا عبيد الحيرة؟
فتساءل الرجل هامسًا: وماذا تقول في بلادنا، بلاد الوحي؟!
فقلت بحزن: ما من سيِّئة عثرتُ بها في رحلتي إلا وذكَّرتني ببلادي الحزينة.
فقال لي الرجل وهو يمضي عني: عليك أن تُشاهِد قصر الملك الإله.
ولم يغِبْ عني ذلك، وقد وجدتُه قائمًا منيفًا شامخًا في عُزلة وسط فراغ مسوَّر بالنخيل والحُرَّاس، إنَّه مثل قصر الوالي في وطني، أو أفخم، وثكنات الحرَس تقوم في جانب، ومعبد الملك الإله يقوم في جانب آخر، وشدَّ بصري حقلٌ من الأعمدة مُسوَّر بسياج من حديد، فاقتربتُ منه حتى رأيتُ أنَّ رءوسًا آدميَّة مُنفصلة عن أجسادها تتدلَّى من هامات الأعمدة. ارتعدتُ لهَوْل المنظر. ولا أُنكر أنني رأيتُ صورة مُصغَّرة منه في صِباي في وطني. إنهم يُعرِّضون الرءوس للزجر والتأديب والعِظة. واقتربت من حارس وسألته: هل يستطيع غريب أن يعرف جريمة هؤلاء القتلى؟
فأجابني بجفاء: التمرُّد على الملك الإله!
فذهبتُ مُسدِيًا إليه شكري، وأنا على يقين من أنهم شهداء للعدل والحرية، قياسًا على ما يقع عادةً في بلاد الوحي. إنه عالَم غريب حافل بالجنون، وستكون مُعجزة حقًّا إذا وجدتُ الدواء الشافي في دار الجبل، وسألت هام صاحب الفندق مساء: ماذا في دار الحيرة من مواقع تستحقُّ المشاهدة خارج العاصمة؟
فقال الرجل بثقة: عدا العاصمة لا يوجد إلَّا الرِّيف، وليس به ما يسرُّ الرحَّالة.
وعكفتُ على تدوين المشاهِد، فأراحني ذلك من التفكير في عروسة وأبنائها. وسهِرتُ ليلةً في مَلهًى فهالتني عربدة السكارى، وفِسْق الفاسقين؛ مما يعفُّ قلمي عن الخوض فيه. وعند مروري بفندق السوق قال لي صاحب القافلة: نحن سائرون فجْرَ الغد فهل تجيء معنا؟
فأجبتُه واجمًا: كلَّا، إني باقٍ بعض الوقت.
جذبَتني عروسة للبقاء، ولكن آلمني ما ينتظرني من وَحْدة مخيفة. واستيقظتُ عند الفجر فتخيَّلتُ القافلة وهي تتحرك على صوت الحادي. نداء كالقدَر يدعوني للبقاء، وأملٌ في السعادة لا يريد أن يخبو. ولم أشأ أن أُبدِّد وقتي سُدًى فنشِطتُ لتحصيل المعلومات التي لا تجود بها المشاهَدة، ولم أَجِد عند صاحب الفندق فراغًا للحديث كالذي وجدتُه في المشرق، فسألتُه أن يَدُلَّني على حكيم هذه الدار إنْ سمَح لي بلقاء. قال هام: في وُسعي أن أُعِدَّ لك لقاءً كما حدَث مع غيرك.
وذهبتُ في الميعاد عصرًا إلى بيت الحكيم ديزنج. بيت جميل تكتنفه حديقة ملأى بالأزهار وأشجار الفاكهة. استقبلني بابتسامة لطيفة وأجلسني على أريكة إلى جانبه. كان في الخمسين قويَّ الجسم واضح القسمات، تتواءم قَلَنْسوته البيضاء مع عباءته البيضاء. طلَب مني أن أُقَدِّم نفسي؛ ففعلتُ ذاكرًا اسمي ومهمَّتي ووطني. قال: بلادكم عظيمة أيضًا، خبِّرني عما أعجبَك في دارنا.
فقلتُ مُداريًا ذاتي: أشياءُ لا تُعَدُّ ولا تُحصى .. حضارة وجمال .. وقوة ونظام.
فسأل في مباهاة: وما رأيُك في حرب نُعلِنها مُضحِّين بأبنائنا من أجل تحرير دار غريبة؟
– هذا ما لم نسمع بمثله من قبل.
فقال بيقين: نحن نُقدِّم للناس مثالًا للوطن السعيد الشريف.
فأحنيتُ رأسي موافقًا فقال: لعلَّك تسأل عن سِرِّ ذلك كله؟ لقد دلُّوك عليَّ باعتباري حكيمَ هذا البلد، والحق أنني ما أنا إلا تلميذ. مولانا هو الحكيم، وهو الإله، وهو مصدر كلِّ حكمة وخير. إنَّه يجلسُ على العرش، ثم ينعزل في جناح صائمًا حتى يُشِع منه النور؛ فيعرف أنَّ الإله قد حَلَّ فيه، وأنه صار الإله المعبود، عند ذاك يُمارس عمَله، يرى كلَّ شيء بعين الإله، فنتلقَّى منه الحكمة الأبديَّة في كل شيء، ولا نُطالَب بعد ذلك إلا بالإيمان والطاعة.
تابعتُه باهتمام، وأنا أستغفر ربي في سِرِّي، أمَّا هو فواصَل حديثه قائلًا: فهو ينشئ الجيش، ويختارُ له قُوَّاده فيكون جيش النصر، ويُعيِّن من أسرته المُقدَّسة الحكَّام، وينتخب من الصَّفوة قادةً للعمل في الأرض والمصانع، أمَّا بقية الناس فلا قداسة بهم ولا مواهب، يعملون في الأشغال اليدوية، ونُوفِّر لهم اللقمة، يلي هؤلاء الحيوانات، ويلي الحيوانات النبات والجماد، نظام مُحكَم كامل يضع كلَّ فرْد في موضعه مُحقِّقًا بذلك العدل الأكمل.
وسكتَ مليًّا وهو ينظر إليَّ ثم قال: لذلك فنحنُ لنا أكثر من فلسفة، نُخاطِب الصَّفوة بما يُقوِّي في نفوسهم القوة والهيمنة والنمو، ونستعين على ذلك بتوفير التعليم لهم والطب، أمَّا الآخرون فنُقوِّي بهم مواهب الطاعة والانقياد والقناعة، ونَهديهم إلى الكَنزِ الرُّوحيِّ المدفون في أعماق كلٍّ منهم، والذي يُهيِّئ لهم بالصبر والاجتهاد السَّلام. بهذه الفلسفة المزدوِجة تتحقَّق السعادة للجميع، كلٌّ بحسب استعداده وما أُعِدَّ له، فنحن أسعد أهل الأرض طُرًّا.
تفكَّرتُ فيما يُقال وفيما لا يُقال ثم سألته: مَن يملك الأرض والمصانع؟
– الإله، هو الخالق وهو المالك.
– وعَلاقة الصَّفوة بها؟
– هم مُلَّاكها بالنيابة، والرَّيْع يُقسم مناصفةً بينهم وبين الإله.
فوثبْتُ خطوة جديدة مُتسائلًا: كيف تُنفَق أموال الإله؟
فضحك لأولِّ مرة وقال: وهل يُسأل إله عمَّا يفعل؟!
– إذن هو مَن يُنفق على المدارس والمستشفيات؟
– الصَّفوة باعتبارها وقْفًا عليهم، وعلى أبنائهم.
ثم متسائلًا في زَهْو: أليس هذا هو الكمال نفسه؟!
فقلتُ مُداريًا ما في نفسي: هو ما يقال عادةً عن دار الجبل.
فهتف بقوة: دار الحيرة هي دار الجبل.
فقلت بوضوح: صدقت أيُّها الحكيم ديزنج.
فقال بثقةٍ ويقين: أن تعيش بإرشاد الإله وتوجيهه هو أقصى ما يطمَح إليه الإنسان من عدْل وسعادة.
فقلت مُتسلِّلًا: لذلك يَشتدُّ عجَبي من أولئك المُتمرِّدين الذين رأيتُ رءوسهم المُعلَّقة.
فهتف بغضب: لا تخلو طبيعة البشر من انحراف وسوء، ولكنهم قلَّة على أيِّ حال.
وفي نهاية المقابلة قدَّم لي تفاحة وقدَحًا من حليب؛ فرجعت إلى وَحْدتي في الفندق مُتفكِّرًا مُغتمًّا، وتذكَّرتُ أستاذي الشيخ مغاغة الجبيلي فسألته على البعد: أيهما أسوأ يا مولاي، مَن يدِّعي الألوهية عن الجهل أم من يُطوِّع القرآن لخدمة أغراضه الشخصية؟!
وكابدتُ المَلامة أيامًا، ثم بلغتني أنباء انتشرت مع نسائم الخريف تؤكد أنَّ جيش الحيرة قد انتصر وحقَّق أهدافه، وأنَّ دار المشرق أصبحت الإقليم الجنوبي لدار الحيرة. وتدفَّق الفقراء إلى الطرقات يُعلنون فرحتهم بالنصر كأنهم هم الذين سيجنون ثمرته. وتساءلتُ في قلَقٍ بالغ: تُرى كيف أنتِ يا عروسة؟ .. وكيف أنتم يا أبنائي؟
وبكَّرتُ يوم عودة الجيش المنتصر؛ فاتَّخذتُ موقفي غير بعيد من الفندق، في الطريقِ الملكيِّ الممتدِّ من مدخَل الحيرة حتى سراي الملك، وكان الزِّحام شديدًا على الجانبين حتى خُيِّل إليَّ أنَّه لم يبقَ من الأهالي أحد في بيته أو مكان عمَله. وعند الضُّحى ترامت إلينا دقَّات الطبول، وتقدَّم الموكبَ فُرسان يحملون في سِنان رماحهم خمسة رءوس هي رءوس السادة الذين كانوا يملكون مدن المشرق. هكذا رأيتُ لأول مرَّة السيد الذي ذهبت يومًا إلى حاجبه لمساومته على شراء عروسة. وتبِع ذلك طابور طويل من أسرى الحرب، يسيرون عرايا مُكبَّلي الأيدي بين صفَّين من الحُرَّاس، وتتابعت فِرَق الجيش من فُرسان ورَجَّالة في جوٍّ عاصفٍ بالهُتاف الحار. يوم نصرٍ وأفراح، أمَّا المآسي الدامية التي خلَّفها وراءه فلا يعلمها إلَّا الله. حياة بشرية غريبة يُمكِن تلخيصها في كلمتين، دماء وزغاريد. وفي ذيل الجيش سارت السبايا من النِّساء بين ذراعين من الحُرَّاس، خفَق قلبي خفْقة شديدة وتمثَّلَت عروسة لعينَيَّ كما رأيتُها أول مَرَّة، بل كما رأيتُها وهي تقود أباها في الحارة التي شهِدَت مولدي. وزاغ بصري بين الوجوه المنكسرة والأجساد العارية. وصدقت لهفتي فاستقرَّت عيناي على وجْه عروسة. هي عروسة بجسدها الممشوق ووجهها المليح التعيس تتقدَّم ذاهلةً يائسةً ضائعة. اشتعل بي نشاط مقتحم. التصق بصري بها. اندفعتُ تابعًا لطابور السبايا غير مُبالٍ بمن أرتطم بهم من الواقفين، ولا باحتجاجاتهم، ولا باتِّهاماتهم الباطلة؛ بأنني أجري وراء أجساد النِّساء العارية. ناديتُها مِرارًا فتلاشى صوتي في هدير الأصوات المتصاعدة. لم أُفلِح في لفْت نظرها أو تنبيهها، حتى حجزني عنها الحُرَّاس الذين منعوا الجماهير من دخول ميدان القصر المخصَّص للصَّفوة من أهل الحيرة. هكذا تجلَّت واختفت كالشهاب تاركةً إيَّاي للجنون والقنوط، وأين الأبناء؟ هل يعيشون الآن في كنَف جَدِّهم؟ وفضفضتُ ضِيقي بالإفضاء بسِرِّي إلى هام صاحب الفندق فقال لي: قد تُعرَض للبيع في سوق الجواري.
فقلتُ في ارتياب: ولكنها حربُ تحرير!
فقال: إلا السبايا، فلهنَّ معاملة خاصَّة.
باركتُ هذا النِّفاق باعتباره ثقبًا للأمل في سماء سوداء. وتشبَّثتُ أكثرَ بالبقاء، وجعلتُ أطوف بسوق الجواري كلَّ يوم، وحُلمي بجمْع الشمل يتحدَّى اليأس، وذات مساء تلقَّاني صاحب الفندق بابتسامة مُشجِّعة وقال: غدًا ستُعرض السبايا للبيع.
نمتُ ليلتها نومًا مُتقطِّعًا، وذهبتُ إلى السوق فكنتُ أول الذاهبين، ولمَّا عُرِضَت عروسة اقتحمتُ المزاد بإصرار، تبدَّت في ثوبٍ أخضرَ لأول مرة في حياتها، وتجلَّى جمالها، رغم الحزن الشديد. وكانت تنظر في داخل ذاتها المهيضة فلم ترَني، ولم تتابع ما يجري. ولم يبقَ معي في المزايدة إلا شخص سَمِعتُ من يهمس بأنَّه مندوب من الحكيم ديزنج. ورسا المزاد عليَّ بثلاثين دينارًا، فلمَّا دُفعَت إليَّ عرَفَتني فارتمَت بين يديَّ وهي تنشِج حتى أثارت دهشة جميع مَن بالسوق. ولم تكن ثمَّة فرصة لتبادل حديث، فمضيتُ بها خارجه، وفي الطريق ما ملَكتُ أن سألتها: كيف الأبناء يا عروسة؟
ولكني كفَفتُ عن مُلاحقتها لشدة انفعالها حتى خلوتُ إليها في حجرتي بالفندق، هناك عانقتُها بحرارة، وتركتُها على الأريكة حتى تثوب لنفسها، ثم قلت: إني حزين لما قاسيت من عناء.
فقالت بصوت غريب: لكنك لم ترَ شيئًا.
– حدِّثيني يا عروسة فإنني أُوشك أن أُجَن.
فقالت ودموعها تسيل: عن أي شيء؟ إنَّه الهول، اقتحموا الخيمة، قتلوا أبي بلا سبب، قبضوا عليَّ. أين الأولاد؟ .. لا أدري، قُتِلوا؟ .. تاهوا؟ .. دعِ الجنون لي أنا.
فقلتُ مُكابرًا مخاوفي: لماذا يقتلون الصغار؟ .. كلَّا .. إنهم في مكان ما .. سنعثر عليهم.
– إنهم وحوش، لماذا يُمثِّلون بنا بعد الانتصار على جيشنا؟ .. لكنهم وحوش. كانت ليلة بدر والإله حاضر يرى ويسمع، ولا يفعل شيئًا.
فقلتُ مواسيًا: على أي حال اجتمع شمْلنا، وقلبي يُحدِّثني بأنَّ الرحمة آتية.
فهتفتُ: لا توجد رحمة، ولن أرى أبنائي.
فقلتُ برجاء: عروسة، الحياة شَرُّها كثير، ولكن خيرها وفير أيضًا.
– لا أصدِّق.
– سترَين .. سنرحل مع أوَّل قافلة إلى المشرق للبحث عن الأبناء.
– متى تقوم؟
– مداها عشرة أيام.
رنَت إلى لا شيء في حزن عميق، ففاض قلبي بالحنين كعين مُتفجِّرة، وتَسلَّينا في فراغنا الطويل بالتجوُّل في المدينة، والمشاهدة، واجترار الأماني، والاستعداد للسفر. غير أنَّ هام صاحب الفندق كان يَدَّخِرُ لي مفاجأة فدعاني إلى حجرته، ونظر إليَّ بشيء من الحرَج وقال: لديَّ أخبار غير سارَّة.
فتساءلتُ ساخرًا: أكثر ممَّا لديَّ؟
فقال بهدوء: الحكيم ديزنج يرغب في حَوْز فتاتك.
فدهِشتُ وقلتُ بحِدَّة: أرجو أن تعتبرها زوجتي.
– سيؤدِّي إليك ثمنها.
– إنها ليست سلعة.
فقال لي بنبرة ناصحة: ديزنج رجل قوي، وهو من المُقرَّبين إلى الإله.
فقلتُ وأنا أداري انزعاجي: الغُرباء في بلادكم آمنون.
فقال بحرارة: عاود التفكير من أجل صالحك.
فقلت بإصرار: رأيي في هذه المسألة واحد لا يتغير.
وحِرتُ في أمري، هل أنقُل الحديث إلى عروسة؟ هل أضيف إلى أحزانها حزنًا جديدًا؟ الحق أني أشفقتُ من تكدير صَفْو الحُلم الباقي لها. وتساءلتُ هل يستطيع ديزنج أن ينتزع عروسة مني بقوة نفوذه؟ وتذكَّرتُ حاجب الوالي الذي سرق مني حليمة في وطني، ولكني لم أطمئنَّ إلى رأي مستقر. وطَوال الوقت شعرتُ بخطَر يُطاردني، وبأن سعادتي لا تقف على قدمين، ولا أجنحة لها. وفي صباح اليوم السابق ليوم الرحيل بأربعة أيام، استدعاني خادم لمُقابلة هام في حجرته. وهناك وجدتُ ضابط شرطة فقدَّمني هام إليه، وإذا به يقول: ستذهب معي لمقابلة رئيس شرطة العاصمة.
سألته عن السبب فادَّعى الجهل به. طلبتُ أنْ أُخبر فتاتي فقال الضابط: سينوب عنك هام في ذلك.
وذهبنا إلى إدارة الشرطة العامَّة بالشارع الملكي، فمثَلتُ أمام المدير الذي جلس على أريكة بين بعض معاونيه، نظر إليَّ نظرة لم أرتَحْ لها وسألني: أنت قنديل محمد العنَّابي الرحَّالة؟
فأجبتُ بالإيجاب، فقال: إنك مُتَّهم بالسخرية من دين هذه الدار التي تستضيفك.
فقلتُ بقوة ووضوح: تهمة لا أساس لها من الصحَّة.
فقال ببرود: يوجد شهود.
فهتفت: لا يُمكن أنْ يشهد بذلك ذو ضمير.
فقال باستياء: لا تَطْعن الأبرياء، ولتدَعْ ذلك لتقدير القاضي.
وألقى القبض عليَّ. وفي صباح اليوم التالي قُدِّمتُ إلى المحكمة، وأُعلنَت التهمة فرفضتُها، وجاء شهود خمسة على رأسهم هام صاحب الفندق، فأدلَوا بشهادة واحدة — كأنها قطعة محفوظات — بعد أن أدَّوا اليمين. وأصدرَت المحكمة حُكمها بسَجْني مدى الحياة، مع مصادرة أموالي وما أملك، وبذلك دخلت عروسة في المصادرة. حدَث ذلك كلُّه ما بين يوم وليلة. ذقت طعم اليأس المرير، وعرَفتُ أنه حقيقة تقع لا حكاية تُروى. ضاعت عروسة، تلاشت الرحلة، تبدَّد حُلم دار الجبل، اختفى وجودي نفسه في هذه الدنيا. وكان السِّجْن عند مشارف المدينة في منطقة صحراوية، وهو عبارة عن مكان متسع تحت الأرض، ذي منافذَ ضيقة في السقف، وجدرانه من الأحجار الكبيرة، وأرضه رمليَّة، ولكل سجين سروال لا غيرُ وفروة، يكتنفه جوٌّ خانق ذو رائحة كدِرة، نصف مظلم كأنه فجْر لا تُشرق فيه شمس. نظرتُ حولي وقلتُ في ذهول: «سأبقى هنا حتى آخِر يومٍ في حياتي.» وتَطلَّع إليَّ الرِّفاق وسألوني عن جريمتي. سألوني وسألتُ. أدركتُ أن ما يجمعنا هي جرائم العقائد والسياسة، وأني واجدٌ في ذلك شيئًا من العزاء إنْ أمكنَ لِمثلي أن يتعزَّى. إنهم مجموعة نادرة من الأحرار الذين تضيق بهم الأجواء الفاسدة، سمعوا حكايتي فعلَّق أحدهم عليها قائلًا: حتى الغرباء …
ولم يكن أحدٌ منهم قد كفَر بالإله، فهذه جريمة عقوبتها ضرْب العُنق، ولكن نُقلت عنهم تساؤلات ناقدة لبعض التصرُّفات الشَّاذَّة التي تمَسُّ العدالة أو حرية الإنسان. ورأيتُ بينهم عجوزًا نيَّفَ على الثمانين، قضى منها في السجن خمسين عامًا، بدأها على عهْد الملك السابق سلف الملك الحالي، رأيتُه قد فقدَ حواسَّه وذاكرته؛ فهو لا يدري أين هو، ولا ماذا جاء به، وينطرح على فروته جسدًا ضئيلًا بلا رُوح، قال صوت: إنه أجدرُنا بالتهنئة.
فصدَّقتُ على قوله بلا تردُّد، وحامت أفكارُنا حول وضْع الإنسان في هذا العالم.
– لا يوجد بلد سعيد.
– الشكوى هي لغة الإنسان المشتركة.
– نحن الحائرون بين الواقع القبيح والحُلم الذي لا يتحقق.
– لكن ثمَّة بلدان أفضل.
– هي نفسها لم تعرف الرِّضا بعْد.
– ودار الجبل؟
وثبَ قلبي في صدري حال استقبال الاسم الساحر. تذكَّرتُ بحسرة هدفي الضائع، وسألتُ: ماذا تعرف عنها؟
– ليس أكثر مما يُقال عادةً من أنها وطن الكمال.
فسألتُ باهتمام: ألم تقرأ عنها كتابًا أو قابلتَ من زوَّارها أحدًا؟
– كلَّا .. ليس إلا ما يقال.
– ومَنْ ذا يُحقِّق الحُلم؟
– الإنسان، لا شيء سوى الإنسان.
وملِلْتُ الكلام. ملِلْتُ مكابدة الحسرات. ملِلْتُ أكاذيب الأمل، وقلتُ لنفسي: لا دنيا لي إلا هذا السجن الأبدي.
لم أجد في عقلانيَّة أستاذي الشيخ مغاغة أيَّ جدوى في سجني الدائم، ولكني وجدتُ في قدرية أمي الساذجة راحة اليأس، كأنها فلسفة خُلقت خاصَّةً للسجن الأبدي. قلتُ مُستسلمًا: «لتكُنْ مشيئة الله .. فكلُّ ما جاءني من عنده.» سَلَّمتُ نفسي لقدَري، دفنتُ آمالي، شيَّعتُ للفَناء ماضيَّ وحاضِري ومستقبلي. الأمل الوحيد الباقي لسجينٍ مِثلي هو قتل الأمل، والتكيُّف مع القبر الذي ازدردني، والزَّواج من اليأس المُهيمن المُترامي الرَّاسخ. أطرد أشباح الوطن والأم وعروسة والأبناء ودار الجبل. وآلَفُ الرَّائحةَ الكَدِرة، فلا رائحة في الوجود غيرها، والضوء الخابي نصف المظلم، فلا ضوء في المكان غيره، والهوامَّ المنتشرة فهي مالكة المكان وصاحبة الحق الأول فيه، والألم والملل فهما الرَّفيقان الدَّائمان، ورحتُ أغرق في أعماقٍ لا نهائية. ويسود الصمت، ويتحول العذاب إلى عادة، وأنهَل من اليأس قوة عجيبة على الاحتمال والصبر. ويخترق جدارَ الصمت صوتٌ يقول: يُحكى عن سجين قديم أنه أنشأ في ذاته قوةً خارقةً حتى استطاع أن يخترق جدار السجن، كأنه صوت وطار في الهواء إلى ما وراء الحدود.
فيتلقَّى صبري هذا الهذيان بطيبة. وبعد يوم أو عام قال صوت آخر: قد تقوم الحرب بين الحيرة والحلبة فنصعدُ مرَّة أخرى إلى سطح الأرض.
فأعفو عمَّن ذكَّرني بسطح الأرض، وأتساءل متى أفقد الحواسَّ مثل العجوز السعيد. وهبطتُ في الأعماق درجات في إثر درجات فضاع الزَّمن فيما ضاع من أسباب الحياة، واختفى التاريخ. وجهلتُ الساعة واليوم والشهر والعام، وتوارت المعالم، وبات عمري لغزًا، وجعلت أكبر بلا تحديد ولا حساب، ولا مرآة أرى فيها نفسي إلا الرِّفاق فأتخيل ما صرت إليه من بشاعة وقذارة، فلم ينعم بالسعادة في دنيانا المظلمة إلا الهوامُّ والحشرات. لا شك أنَّ الأجيال والعصور والدهور تتعاقب وأننا نتذوق طعم الفناء بجلاله الأبدي. هكذا .. هكذا .. هكذا .. حتى زَجَّ إلينا بقادم جديد التففنا حوله كالهوامِّ ننظر باستغراب إلى القادم من العالم الآخر. رغم كِبَرِهِ وتعاسته خُيِّل إليَّ أنني لا أراه لأول مرة، وكان العجوز قد مات منذ زمنٍ لا ندريه، فحلَّ محله، وراح ينظر في وجوهنا ويبكي، وقال قائل: لا تبكِ يا رجل؛ فالدُّموع تؤذي الهوام.
وسأله سائل: من أنت؟
فأجاب برثاء: أنا الحكيم ديزنج.
فخرجتُ من غيبوبتي الأبدية، وصِحتُ بصوتٍ غريبٍ: ديزنج .. ديزنج .. هيهات أن أنساك!
فسألني: من أنت؟
فهتفتُ وقد وقعتُ في الزمن: إني ضحيَّتك!
فقال بضراعة: أصبحنا في البلوى سواء.
فصرختُ: كلَّا، لسنا سواء.
فهتف: انقلبت الدنيا، ثار قائد الجيش على الملك، وقتله وأحلَّ نفسَه محلَّه.
فدبَّت الحياة في الرِّفاق، وانبعثَت منهم انتفاضة حماسة، وتساءل أحدهم: ماذا يحدث فوق سطح الأرض؟
فقال ديزنج: قتل رجال الملك، أمَّا أنا فقُضي عليَّ بالسجن مدى الحياة.
امتلأت العيدان الخاوية بأملٍ جديد، وتعالى الهُتاف للإله الجديد، أمَّا أنا فسألتُه بوحشية: ألا تتذكرني؟
فسألني بخوف: من أنت؟
فهتفت: أنا صاحب عروسة، تذكَّرتَني الآن؟!
فتراجع في حذَر ونكَّس رأسه. سألته: ماذا حصل لها يا وغْد؟
قال بذلٍّ وانكسار: حاولنا الهرب في القافلة الذاهبة إلى دار الحلبة، ولكنهم قبضوا عليَّ أمَّا هي فرحلَت إلى الحلبة.
– ماذا عن أبنائها؟
– سافرنا معًا إلى المشرق للبحث عنهم، ولكننا لم نعثر لهم على أثر. حدَث ذلك منذ عهد طويل.
لكني نسيتُ أحزاني فيما نسيت، أمَّا غضبي فكان يتصاعد. وصرخت فيه: ما أنت بحكيم ولكنك وغْد لئيم، لم تتورَّع من تلفيق تهمة لي لتسرق امرأتي، والقتل دون ما تستحقُّ من عِقاب.
وهبَط عليَّ صوت الحارس من منفَذ السقف يأمرني بالابتعاد عنه، فرجعت إلى موضعي وجسمي الضعيف ينوء بدفقة الحياة المباغتة التي اكتسحته. جلست على فروتي مُسندَ الظهر إلى الجدار، مادًّا ساقيَّ متلقِّيًا من جديد تيار الحياة والتاريخ. ودِدتُ أن أسأله عن المدة التي قضيتها في السجن، ولكني كرهتُ أن أواصله بحديث. غير أنه نظر نحوي، وقال بحزن: إني آسف ونادم.
فقلت بحنق: مثلك غير جدير بالندم.
فقال بنفس النبرة: نلت جزائي بمعاشرة امرأة لم تكفَّ عن كراهيتي قط.
ثم وكأنه يُحدِّث نفسه: عشرون عامًا لم تغيِّر من قلبها.
عشرون عامًا! يا لَضياع العمر! جاءني الجواب قاسيًا كنصل الخنجر. ها هو الرحَّالة ينحدر إلى منتصف الحلقة الخامسة. وسيموت ذات يوم في هذا القبر، وما حقَّق هدفًا، ولا حظِيَ بمتعة، ولا أدَّى واجبًا، وضاعف من وكسي تواجُد هذا الوغد معي في قبري ليُذَكِّرني بعثراتي وسوء حظي وحَيْدي عن هدفي. أمَّا الرِّفاق فاشتغلت أنفسهم بأمل جديد، وتوقَّعوا جميعًا أن يَصْدُر عفوٌ شاملٌ عنهم بين ساعة وأخرى. ولم يخِبْ أملهم فجاءنا ذات يوم مدير السجن، وقال: اقتضت إرادة الإله الجديد إصدار عفوٍ شاملٍ عن ضحايا الملك المخلوع الغادر.
ووقَفنا جميعًا نهتف بالدُّعاء والتأييد. وغادرنا السجن، فلم يبقَ إلا ديزنج، وآذانا ضوء النَّهار الخارج لاعتيادنا الظلام فحجبنا أعيننا بأكُفِّنا، ومضى بي ضابط إلى مركز الغرباء. وقال لي المدير: نحن آسفون لما حلَّ بك من ظُلم يتنافى مع مبادئ وقوانين دار الحيرة، وقد تَقرَّر أن يُردَّ إليك مالك، ومتاعك عدا الجارية التي غادرت البلاد.
وذهبتُ من فوري إلى حمَّام عمومي، فحلقوا لي شَعر رأسي وجسدي، واغتسلتُ بالماء الدافئ، ودهنت رأسي وجسمي بزيت الباشام لاستئصال الهوامِّ والحشرات. وقصدتُ فندق الغُرباء وأنا أتوقَّع لقاءً مثيرًا بيني وبين هام، غير أنَّه تبيَّن لي أنَّ الرجل مات وحلَّ محلَّه آخَر يُدعى تاد هو ابن أخيه وزوج ابنته. وكان اللقاء المثير حقًّا لا بيني وبين هام، ولكن بيني وبين نفسي في المرآة. ورأيتُ قنديل الكهل المبعوث من قبره بعد دفْنٍ استمرَّ عشرين عامًا. كهْل حليق الرَّأس والذقن، ناحل ذابل غائر العينين، ذو لونٍ كئيب ونظرة ميتة، ووجنتين بارزتين. وفي الحال قرَّرتُ أن أبقى في الحيرة حتى أستردَّ شيئًا من الصحة والعافية والتوازن الداخلي. ورحتُ أمشي لا لأرى جديدًا، ولكن لأدرِّب قدمي على المشي، وجعلتُ أتساءل عمَّا يجدر بي عمَله، هل أرجع إلى وطني قانعًا من الغنيمة بالإياب، أو أواصل الرحلةَ والاستطلاعَ ودقَّ أبوابِ المصير؟ وكرِهتُ العودة إلى الوطن على هذه الحال من الجدب والخيبة. وحدَّثني قلبي بأنني في وطني معدود من الأموات، لا أحد ينتظرني أو يهمُّه مرجعي، هذا إذا لم يكن الموت قد أدركهم فاستأصل الجذور وبذَر في أصولها الغربة والوحشة. كلا لن أرجع. لن ألتفت إلى الوراء، بدأتُ رَحَّالة، وسأظل رَحَّالة، وفي طريق الرحلة أسير. إنه قرار وقدَر، خيال وفِعل، بداية ونهاية. فإلى دار الحلبة وما بعدها حتى دار الجبل، ترى كيف تتبدَّين اليوم يا عروسة، وأنت بنت أربعين؟!