دار الحلبة
كالأيام الخالية تحرَّكت القافلة في تؤدة وجلال. انغمسنا في ظلمة الفجر الرَّقيقة، لا لأنهل من الشعر هذه المرة، ولكن لأتلقَّى لطمات من ذكريات السجن، وحسرات من العمر الضائع، ورأيتُ أشباح الرِّفاق فرأيتُ جيلًا جديدًا من التجار، فما زال النَّشاط يتمادى والمالُ يتكاثر والجاه يصيد المُغامرين، أمَّا الحالمون فالحيرة لهم، وتتابعت عليَّ إحباطاتي الماضية، ساعة غادرتُ الوطن ناعيًا حليمة، ساعة طُردتُ من المشرق باكيًا عروسة، وساعة أودِّع الحيرة نادبًا السعادة والشباب. وانتبهتُ إلى الشرق فرأيتُه يموج بماء الورد الأحمر، وانداح وجه الشمس كدأبه طيلة عشرين عامًا، وتَجلَّت الصَّحْراء لا نهائية، وتفشَّى الصيف. وتواصل السَّيْر ما يُقارب الشهر، وفي إحدى محطَّات الراحة سألتُ صاحب القافلة عن القاني بن حمديس، فقال لي: البقيَّة في حياتك.
وسألت عن الشيخ مغاغة الجبيلي، ولكنه لم يسمع به، لا هو ولا أحدٌ من تجار القافلة. وعسكرنا في الشامة استعدادًا لدخول الحلبة. كانت لحيتي قد نبتت، وكذلك شعر رأسي، وأخذ دم الصحَّة يجري من جديد. وواصلنا السير حتى رأينا السور العظيم تحت ضوء تربيع القمر، وتقدَّم إلينا مدير الجمرك بسترته الخفيفة المُناسبة لجوِّ الصيف المُعتدل، وقال بصوت مرِح: أهلًا بكم في الحلبة عاصمة دار الحلبة، دار الحرية.
دهِشتُ لسماع الكلمة الملعونة في كلِّ مكان، ودهِشتُ أيضًا لخُلوِّ كلامه من التحذيرِ المُعلَنِ أو الخفي.
وقلت لصاحب القافلة: أوَّل دار ترحِّب بالقادم بلا نذير.
فضحك قائلًا: إنها دار الحريَّة، ولكنَّ الحرص أمان الغريب.
ومضَوا بي وحدي إلى فندق الضيوف. وفي الطريق — تحت ضوء القمر — تناثرَت معالمُ من المدينة في عظمة موحية بمنظر جديد، إلى كثرة من الهوادج الذَّاهبة والآئبة على ضوء المشاعل، رغم اقترابنا من الهزيع الأخير من الليل، أمَّا مدخَل الفندق فقد استوى في اتساع وعُمْق تحت سقيفة تتدلَّى منها القناديل على هيئة تبهر الأبصار. وبدا بناء الفندق ضخمًا مرتفعًا ينطق بجمال الهندسة ونعمة الثراء. أمَّا حجرتي فادَّخرت لي مفاجأة أخرى بألوان جدرانها الزرقاء، وسَجَّادتها الوثيرة، وفِراشها النُّحاسي المرتفع بأغطيته المزركشة، وغير ذلك مما لا يوجد عادة إلَّا في البيوت الكريمة بوطني. تطالعني هنا حضارة بلسان بليغ مُتفوِّقة ولا شكَّ على حضارة الحيرة بدرجات ودرجات. ووجدتُني أتساءل: تُرى أين وكيف تعيش عروسة؟ وقبل أن أنغمس في الذكريات زارني رجل متوسِّط العمر يرتدي سترة زرقاء، وسروالًا أبيض قصيرًا، قال باسمًا: قلشم .. مدير الفندق.
فقدَّمتُ له نفسي فسألني برقَّة: أي خدمة؟
فقلت بصراحة: لا شيء مقدَّمًا على النوم الآن إلا أن تُخبرني بأجرة الإقامة.
فقال باسمًا: ثلاثة دنانير لليلة.
هالني الرَّقم وقلتُ لنفسي إنه يبدو أنَّ كل شيء يتمتع بالحرية في الحلبة حتى الأسعار، وكالعادة دفعتُ أجرة عشرة أيام بلياليها.
وأسلمتُ نفسي إلى فِراشٍ لم أحظ بمِثل حنانه منذ غادرتُ وطني، واستيقظتُ مبكِّرًا؛ فجاءني الفُطور إلى حجرتي؛ من الخبز، واللبن، والجبن، والزُّبد، والعسل، والبَيْض. أدهشني الطعام بكميَّته وكيفيَّته، فاقتنعتُ أكثر بأنني أزور عالَمًا جديدًا مُثيرًا. وغادرتُ الحجرة تحرِّكني لهفة وأشواق، وأملٌ بأنني سأعثر على عروسة أيضًا لكي تتمَّ لُعبة القدر، وقابلني قلشم عند مدخَل الفندق فقال لي: توجد هوادج تحت تصرُّف الرحَّالة لمشاهدة المعالم الهامة.
فتفكَّرت قليلًا وقلتُ: أودُّ أن أبدأ بمفردي وكيفما اتَّفَق.
ومنذ اللحظة الأولى شملني شعور بأنني في مدينة كبيرة، يذوب فيها الفرد فلا يدري به أحد. ترامى أمام الفُندق ميدان واسع مستدير تقوم على محيطه العمائر والحوانيت، تتوسَّط نهايته قنطرة تعلو نهرًا وتُفضي إلى ميدان صغير تتفرع منه شوارعُ كبيرة، لا ترى لها نهاية، تحفُّ بجوانبها العمائر والأشجار، أين أتجه؟ .. وأين توجد عروسة؟ وكيف أسير بلا مرشد؟! تركت قدميَّ تقودانني بحرية في مدينة الحرية، فانبهرتُ بكلِّ ما وقعَت عليه عيناي بين خُطوة وأخرى. شبكة من الشوارع لا تَعْرِفُ لها أوَّل من آخر، صفوف من العمائر والبيوت والقصور، حوانيتُ بعدد رمل الصَّحْراء تَعرِض من ألوان السلع ما لا يُحيط به حصْر، مصانع ومتاجر ودُور لَهْو، حدائقُ كثيرةٌ متعدِّدةُ الأشكال والألوان، تيارات لا تنقطع من النِّساء والرجال والهوادج، أغنياء وكبراء، وفقراء أيضًا، وإن كانوا أحسن درجات من فقراء الحيرة والمشرق، ولا يخلو طريق من فارس من فُرسان الشرطة. ملابس الرِّجال والنِّساء مُتنوِّعة، وللجمال حَظٌّ موفورٌ وكذلك الأناقة، ويُصادفك الاحتشام كما يُصادفك التَّحرُّر القريب من العُرْي، والجِد والرَّزانة يُؤاخيان المرَح والبساطة، وكأنني ألقى لأول مرة بشرًا لهم وجودهم، ووزنهم، وإدلالهم بأنفسهم، ولكن كيف يأمل آدمي في العثور على عروسة في هذا البحر الهادر بلا شطآن؟! سِرتُ وتعبتُ واسترحتُ في الحدائق وأنا أشعر طيلة الوقت بأنني لم أبدأ بعد. وندمتُ على أَنَّنِي لم آخذ هودجًا من هوادج الرحَّالة كما أشار قلشم، غير أنه صادفني حادثان مثيران. أَوَّلُهما حادثٌ فرديٌّ ألممتُ به في حديقة عامَّة إذ رأيتُ رجالًا من الشرطة يستجوبون بعض الأفراد، ثم علِمتُ أنَّ البستانيَّ عثر على جُثَّة امرأة قتيلة في ركن الحديقة. وأمثال هذا الحادث تقع كثيرًا في كل مكان، أمَّا الذي أثار دهشتي وانزعاجي فكان مرور مظاهرة من نساء ورجال وهم يهتفون بمطالبهم ورجال الشرطة يتبعونهم دون أن يتعرَّضوا لهم بخير أو شر. تذكَّرتُ مظاهرة شبيهة شهِدتُها في وطني قصدَت الوالي لتشكوَ إليه رفع المكوس وضيق الحال. أمَّا المظاهرة فكانت تُطالب بالاعتراف بشرعية العَلاقات الجنسية الشاذة. لم أصدِّق عينيَّ ولا أُذنيَّ، وأيقنتُ بأنني أطوف بعالم غريب، وأنَّ هُوَّة سحيقة تفصل ما بيني وبينه، وخالطني خوف من المجهول، واقترب الظُّهر وارتفعت الحرارة إلى أقصى حدٍّ غير أنَّ صيف الحلبة صيف مُحتَمل، ومضيتُ أتساءل عن كيفية الرجوع إلى الفندق، عندما تهادى صوت في الجوِّ يصيح: الله أكبر.
وثَب قلبي في صدري وثبةً عنيفةً أشعلت النَّار في حواسي. رَبَّاه، إنه أذان. هذا مؤذِّن يدعو إلى الصلاة، فهل الحلبة دار إسلامية؟ واندفعتُ على هدي الصوت، حتى وجدتُ جامعًا عند مدخَل شارع. لم أسمع هذا الصوت، ولا رأيت هذا المنظر منذ ربع قرن. إني أُولد من جديد، وكأنما أكتشف الله لأول مرة، ودخلت المسجد، توضَّأتُ، ووقفتُ في صفٍّ ورحتُ أصلِّي الظُّهر في فرحة متوهِّجة، بعين دامعة، وصدْر مُنشرح، وتمَّت الصلاة ومضى الناس ينصرفون، ولكني تسمَّرتُ في مكاني حتى لم يبقَ في الجامع إلا الإمام وأنا. هرولتُ نحوه، حويتُه بين ذراعيَّ، وانهلتُ عليه تقبيلًا، استسلم لانفعالي هادئًا مُدرِكًا باسمًا، ثم تمتم: أهلًا بالغريب.
وجلسنا غير بعيد من المحراب. قدَّمتُ له نفسي فقدَّم لي نفسه، الشيخ حمادة السبكي، من أهل الحلبة الصميمين، قلتُ بأنفاس مضطربة وصوت متهدِّج: ما تصورتُ أنَّ الحلبة دار إسلامية.
فقال بهدوء: الحلبةُ ليست من ديار الإسلام.
ولمَّا قرأ دهشتي قال: الحلبة دار الحرية، تُمثَّل فيها جميع الديانات، فيها مسلمون ويهود ومسيحيون وبوذيون، بل فيها ملحدون ووثنيُّون.
فازددتُ دهشةً وسألتُه: كيف تَأَتَّى ذلك لها يا مولاي؟
فقال ببساطة: كانت في الأصل وثنية، وأتاحت حريتها الفرصة لكل من شاء أن يدعوَ إلى دينه، وتوزَّعت الديانات أهلها، فلم تبقَ اليوم إلا قلَّة من الوثنيين في بعض الواحات.
فسألتُه واهتمامي يتصاعد: وبأي دين تلتزم الدولة؟
– الدولة لا شأن لها بالأديان.
– وكيف توفِّق بين أهل الملل والنحل؟
فقال بوضوح: تعامل الجميع على قَدَم المُساواة الكاملة.
فسألته كالمُحتجِّ: وهل يرضون بذلك؟
– كلُّ طائفةٍ تحتفظ في داخلها بتقاليدها الذاتية، والاحترام يسود العَلاقات العامة، لا امتياز لطائفة ولو جاء رئيس الدولة منها، وبالمناسبة أخبرك بأنَّ رئيسنا الحالي وثني.
دار مذهلة ومزلزلة للدماغ. وقلت مُتفكِّرًا: حرية لم أسمع عنها من قبل، هل أتاك يا مولاي حديث المظاهرة التي تطالب بالاعتراف بشرعية العَلاقات الشاذة؟!
فقال الإمام باسمًا: فيها مسلمون أيضًا!
– لا شك أنهم يتعرَّضون للجزاء داخل طائفتهم.
نزع الشيخ عِمامته؛ فمسح على رأسه ثم أعادها وهو يقول: الحرية هي القيمة المُقدَّسة المُسَلَّم بها عند الجميع.
فقلتُ مُحتجًّا: هذه حرية جاوزت الحدود الإسلامية.
– لكنها مقدَّسة أيضًا في إسلام الحلبة.
فقلتُ وأنا أكابد خيبةَ أمل: لو بُعث نبيُّنا اليومَ لأنكرَ هذا الجانب في إسلامكم.
فتساءل بدوره: ولو بُعث عليه الصلاة والسلام، أمَا كان ينكر إسلامكم كلَّه؟!
آه .. صدَق الرجل وأذلَّني بتساؤله، وقال الإمام: طوَّفت بديار الإسلام كثيرًا.
فقلت بأسًى: من أجل ذلك قمتُ برحلتي يا شيخ حمادة، أردتُ أن أرى وطني من بعيد، وأن أراه على ضوء بقية الديار، لعلِّي أستطيع أن أقول له كلمة نافعة.
فقال الشيخ باستحسان: أحسنت، وفَّقك الله، وستأخذ من دارنا أكثر من عبرة!
قلت وقد عاودني حُبُّ استطلاع الرحَّالة: أمامنا — إذا سمحت — فُرَص لتبادُل الآراء، ولكن هل تستطيع الآن أن تُمدَّني بمعلومات عن نِظام الحكم في هذه الدار العجيبة؟
فقال الشيخ حمادة: إنه نظام فريد، لم يصادفك فيما رأيت ولن يصادفك فيما سترى.
– ولا دار الجبل؟
– لا أعرف شيئًا عن دار الجبل حتى أُدخلها في المقارنة، ما يصح أن تعرفه هو أن رئيس دولتنا يُنتخب تبعًا لمواصفات علمية وأخلاقية وسياسية، فيحكم مقدار عشر سنوات، ثم يعتزل ليحلَّ محله قاضي القضاة، وتجري انتخابات جديدة بين الرئيس المُعتزِل والمرشحين الجُدد.
فهتفتُ بحماس: نظام حسن.
– كان الأجدر بالمسلمين أن يبشِّروا به قبل غيرهم، هذا وللرئيس مجلسٌ من أهل الخبرة في جميع الأنشطة يُعاونه بالرأي.
– وهل رأيه مُلْزِم؟
– عند الاختلاف يعتزلون جميعًا، ويجري الانتخابات من جديد.
فهتفتُ: نِعْم النظام.
فواصل الشيخ حمادة السبكي حديثه: أمَّا الزراعة والصناعة والتجارة، فيقوم بها القادرون من الأهالي.
فقلتُ وأنا أتذكَّر بعض ما رأيت من مشاهد: لذلك يوجدُ أغنياء وفقراء.
فقال الشيخ: كما يوجد عاطلون ولصوص وقَتَلة.
فابتسمتُ قائلًا بنبرة ذات مغزًى: الكمال لله وحده.
فقال بجِديَّة: ولكننا قطعنا شوطًا لا يُستهان به في هذا السبيل.
– لو أنكم تطبِّقون الشريعة!
– لكنكم تطبقونها.
فقلت بإصرار: الحق أنَّها لا تُطبَّق.
– الالتزام هنا بالمرجع، وهو يُطبِّق نصًّا ورُوحًا.
– ولكن الدولة مُلتزمة بالأمن والدفاع فقط فيما يُخَيَّل إليَّ.
– وبالمشروعات العامَّة التي يعجز عنها الأفراد؛ كالحدائق، والجسور، والمتاحف، ولها مدارس بالمجَّان للنَّابغين من الفقراء، ومستشفيات بالمجَّان كذلك، ولكنَّ جُلَّ الأنشطة فردية.
فتفكَّرتُ مليًّا ثم سألتُه: لعلَّكم تعتبرون أنفسكم أسعدَ البشر؟
فهزَّ رأسه جادًّا وقال: إنه حُكمٌ نِسْبيٌّ يا شيخ قنديل، ولا يُمكن أن يُطلق بثقةٍ كاملة ما دام يُوجد أغنياء وفقراء ومُجرمون، فضلًا عن ذلك فحياتنا لا تخلو من قلق بسبب من الأطماع المُتبادَلة بيننا وبين الحيرة في الجنوب، وبيننا وبين دار الأمان في الشمال، فهذه الحضارة الفريدة مُهدَّدة، وقد تندثر في موقعة، وقد تتدهور حتى مع النَّصر إذا اجتاحتنا الخسائر، ثم إن الاختلافات الدينية لا تمرُّ دائمًا بسلام.
وسألني عن برنامج رحلتي فلخَّصتُ له ما صادَفني مذ تركتُ الوطن، فحَزِنَ الرَّجُل لي، وتمنَّى لي التوفيق، قال: أنصحك باكتراء هودج سياحة؛ فمعالم العاصمة أكثر من أن تُحيط بها بنفسك، وعندنا مدن أخرى كثيرة تستحقُّ المشاهدة، أمَّا العثور على عروسة في دارنا فأيسر منه الوصول إلى دار الجبل.
فقلت بأسًى: إني أدرك ذلك تمامًا، ولكنَّ لي مطلبًا آخر هو أن أزور حكيم الحلبة.
فقال بدهشة: ماذا تعني؟ للمشرق حكيمها، وللحيرة حكيمها، أمَّا هنا فمراكز العلم تموج بالحكماء، وستجِدُ عند أيٍّ منهم ما ترغب في معرفته وأكثر.
شكرتُ له حديثه، ومودَّته، وقمتُ وأنا أقول: آنَ لي أن أذهب.
فأمسَكَ بي قائلًا: بل سنتغدَّى معًا في بيتي.
رحَّبتُ بالدَّعوة؛ لأنغمس في حياة الحلبة، سِرْنَا معًا حوالي ربع ساعة إلى شارع هادئ، تحفُّ به أشجار الأكاسيا على الجانبين، واتجهنا إلى عمارة أنيقة يُقيم الإمام في دَوْرها الثاني، لم أشكَّ أن الإمام من الطبقة الوسطى، ولكن جمال حجرة الاستقبال دلَّني على ارتفاع مستوى المعيشة في الحلبة، وصادفتني تقاليد غريبة تُعتبر في وطني بعيدة عن الإسلام، فقد رحَّبت بي زوجة الإمام وكريمتها بالإضافة إلى ابنيه. وتناولنا الغداء على مائدة واحدة، بل قُدِّمت إلينا أقداح نبيذ، إنَّه عالَم جديد وإسلام جديد. وارتبكتُ لوجود المرأة وكريمتها، فمنذ بلغتُ مشارف الشباب لم تجمعني مائدة طعام مع امرأة لا أستثني من ذلك أمي نفسها. ارتبكت وغلبني الحياء، ولم أمسَّ قدَح النَّبيذ. قال الإمام باسمًا: دعوه لما يُريحه.
فقلت: أراك تأخذ برأي أبي حنيفة؟
فقال: لا حاجة بنا إلى ذلك؛ فالاجتهاد عندنا لم يتوقَّف، ونحن نشرب مجاراة للجوِّ، والتقاليد ولكنَّنا لا نسكر.
كانت زوجه ستَّ بيت، أمَّا سامية كريمته فكانت طبيبةَ أطفال بمستشفًى كبير، وأمَّا الابنان فكانا يُعِدَّان نفسيهما ليكونا مدرِّسَين، وأذهلتني انطلاقة الأُمِّ وكريمتها في الحديث أكثر مما أذهلني العُرْي في المشرق، تحدثنا بتلقائية وشجاعة وصراحة كالرِّجال سواء بسواء. وسألتني سامية عن الحياة في دار الإسلام، وعن دَوْر المرأة فيها، ولمَّا وقفَت على واقعها انتقدَته بشدة، وراحَت تَعْقِدُ المقارنات بينه وبين المرأة في عهد الرسول، والدَّوْر الذي لعِبَته، حتى قالت: الإسلام يذوي على أيديكم، وأنتم تنظرون.
وتأثَّرتُ أيضًا بجمالها وشبابها، وضاعف من تأثُّري طول حرماني وتقدُّمي في السن. وحكى لهم الإمام جانبًا من حياتي ورحلتي وهدفي منها. قال: على أيِّ حالٍ فليس هو من المستسلمين.
فقالت سامية لي: إنك تستحق الإعجاب.
فبلغ بي التأثُّر مداه، وجاء العصر فأدَّينا صلاته جميعًا وراء الإمام مما دعاني إلى التفكير والتأمُّل أكثر، وغادرتُهم بجسدي، وهم يحتلُّون بعُمقٍ صميم روحي، وفي الطريق ثار بي الحنين إلى الاستقرار والدفء والحب. أين عروسة؟ أين دار الجبل؟ ضاع الشباب تحت الأرض، فمتى أَستقرُّ وأُكوِّن أسرة وأُنجِب ذريَّة؟ حتى متى أظلُّ ممزَّقًا بين نداءَين؟!
وفي اليوم التالي اكتريتُ هودجًا، طاف بي بمعالم العاصمة الهامَّة، مراكز التعليم، القلاع، المصانع الكبرى، المتاحف، الأحياء القديمة. وأخبرَني المُرْشد أنَّ أهل الدِّيانات المُخْتلفة يمثِّلون سِيَر أنبيائهم في الجوامع والكنائس والمعابد؛ فأعلنت عن رغبتي في مشاهدة سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام، فمضى بي إلى أكبر جامع في العاصمة، وجلستُ بين المشاهدين، وراح قومٌ يمثِّلون السِّيرة في باحة الجامع من بدايتها إلى نهايتها. رأيتُ فيما خُيِّل إليَّ النبيَّ والصحابةَ والكُفَّار، وهو ما اعتبرتُه جرأةً تُقارِب الكفر، ولكن كان عليَّ أن أرى كلَّ ما يستحق التسجيل. وأَثَّر فيَّ الشخصُ الذي يقوم بدَوْر الرَّسول للحدِّ الذي صدَّقْتُه، فانفعلتُ به انفعالًا فاقَ كلَّ تصوُّر حتى رأيتُه في المنام. وقلتُ لنفسي: إنَّ ما يدهشني حقًّا هو أن إيمان هؤلاء الناس صادق وأمين.
ودعوتُ الإمام وأسرته للغداء في الفندق، فتوثَّقَت عَلاقتي بهم أكثر. وقال لي الشيخ: سأُعِدُّ لك لقاءً مع حكيم ذي مكانة يُدعى مرهم الحلبي.
فشكرتُ له اهتمامه بي، وقضينا وقتًا طيبًا، وخفَق قلبي بالسرور والانشراح طُول الوقت. وفي صباح اليوم التالي غادرتُ حجرتي بالفندق لزِيارة الحكيم. غير أنني وجدتُ كثيرين من النُّزلاء مُجتمِعين في مدخَل الفندق، وهم يخوضون في حديث أثار اهتمامهم فيما بدا إلى أقصى حدٍّ.
– الخبر يقول إنَّ قائدًا من قوَّاد الحيرة ثار على الملك، ولكنه فشِل فهرب إلى دار الحلبة.
– أتعني أنه يُقيم الآن في الحلبة؟
– يُقال إنه يُقيم في واحة من واحات الحلبة.
– المُهم أنَّ ملك الحيرة يُطالب بالقبض عليه وتسليمه له.
– لكن ذلك مخالف لمبادئ «المرجع».
– وقد رفض طلبه.
– هل تنتهي المسألة عند هذا الحد؟
– إنهم يتهامسون عن حرب.
– وإذا انتهزت دار الأمان الفرصة، وهاجمت دار الحلبة؟!
– هذه هي المشكلة الحقيقية.
تسلَّل القلق إلى أعماقي أنا الذي تُطاردني الحروبُ من دار إلى دار. وأردتُ الذَّهاب إلى الحكيم، ولكن هالني أن أرى الميدان وهو يتلقَّى مظاهرات عديدة كأنما كانت على ميعاد. اضطُررت للبقاء في مدخل الفندق، أنظر وأسمع وأنا من الدهشة في غاية. مُظاهرة تُطالب بتسليم القائد الهارب. مُظاهرة تُنذر مَن يُسلِّمه بالويل. مظاهرة تطالب بإعلان الحرب على الحيرة. مظاهرة تطالب بالمحافظة على السلام بأيِّ ثمن، ملكتني الحيرة، وتساءلت عمَّا يمكن أن يفعله حاكم بإزاء هذه الآراء المتضاربة، وانتظرتُ حتى خلا الميدان فذهبتُ مُسْرعًا إلى دار الحكيم مرهم فبلغتها متأخِّرًا ساعة عن الميعاد. استقبلني في حجرة أنيقة حوت الكتب والمقاعد والشِّلَت معًا. وجدتُه طويلًا نحيلًا في الستين من عمره، أبيض الشعر واللحية، يرفُل في عباءة زرقاء خفيفة. قَبِل اعتذاري عن التأخير، ورَحَّب بي، ثم سألني: أيهما تُفضِّل، الجلوس على المقاعد أم الشِّلَت؟
فقلتُ باسمًا: الشَّلْتة أحبُّ إليَّ.
فقال ضاحكًا: هكذا العرب، إني أعرفكم، زرتُ بلادكم، ودرست معارفكم.
فقلت بحياء: لست من علماء وطني ولا فلاسفته، ولكني مُحِبٌّ للمعرفة، ومن أجل ذلك قمتُ بهذه الرحلة.
فقال بهدوء مشجِّع: في هذا ما يكفي، وما هدَفُك من الرحلة؟
فتفكَّرتُ مليًّا ثم قلت: زيارة دار الجبل.
– لم أعرف أحدًا زارها أو كتب عنها.
– ألم تُفكِّر يومًا في زيارتها؟
فقال باسمًا: من آمن بعقله أغناه عن كل شيء.
فقلتُ مُستدركًا: دار الجبل ليست بغايتي الأخيرة، ولكني أرجو أن أرجع منها إلى وطني بشيء يُفيده.
– أرجو لك التوفيق.
فقلت كالمعتذر: الحقُّ أني جئتُ لأسمع لا لأتكلم.
– هل لديك سؤالٌ يشغلك؟
فقلتُ باهتمام: حياة كلِّ قوم تتكشَّف عادة عن فكرة أساسية.
فاعتدل في جلسته وقال: لذلك يسألنا محبُّو المعرفة من أمثالك كيف صنعتم حياتكم.
– وحياتكم جديرة بإثارة هذا السؤال.
– الجواب بكلِّ بساطة، لقد صنعناها بأنفسنا.
فتابعتُه في تركيز وصمت، فقال: لا فضل في ذلك لإله، آمن مفكِّرنا الأول بأنَّ هدف الحياة هو الحرية، ومنه صدر أول دعوة للحرية، وراحَت تتسلسل جيلًا بعد جيل.
وابتسم، وصمت حتى تَستقِرَّ كلماتُه في مُستقَرِّها من نفسي، وقال: بذلك اعتُبر كل تحرُّر خيرًا وكل قيد شرًّا، أنشأنا نظامًا للحكم حرَّرنا من الاستبداد، وقدَّسنا العمل ليُحرِّرنا من الفقر، وأبدعنا العِلم ليُحرِّرنا من الجهل، وهكذا .. وهكذا .. فإنه طريق طويلة بلا نهاية.
حفِظتُ كلَّ كلمة بدرَت منه باهتمام بالغ، أمَّا هو فقد واصل حديثه قائلًا: لم يكن طريق الحرية سهلًا، ودفعنا ثمنه عَرَقًا ودمًا، كنا أسرى الخُرافة والاستبداد، وتقدَّم الروَّاد، وضُربت الأعناق، واشتعلت الثورات، ونشِبت حروب أهلية، حتى انتصرت الحرية وانتصر العلم.
حنيتُ رأسي مُظهِرًا إعجابي؛ فراحَ ينقد أنظمة دار المشرق ودار الحيرة، ويسخر منهما، بل سخِر أيضًا من نظام دار الأمان التي لم أزرها بعد، وحتى دار الإسلام، لم تسلَم من حِدَّة لسانه، والظاهرُ أنَّه قرأ تغيُّرًا في صفحة وجهي فسكت، ثم قال بنبرة المُعْتذِر: إنكم لا تألفون الرأي الحر.
فقلتُ بهدوء: في حدود مُعيَّنة.
فقال مُتراجعًا: معذرة، ولكن عليك أن تُعيدَ النظر في كل شيء.
فقلتُ مدافعًا: داركم لا تخلو من فقراء ومنحرفين.
فقال بحماس: الحرية مسئولية لا يستطيع الاضطلاع بها إلا القادرون، وليس كلُّ مَن ينتمي إلى الحلبة أهلًا لهذا الانتماء، لا مكان للعَجَزة بيننا.
فتساءلتُ بحرارة: أليست الرحمة قيمة مثل الحرية؟!
– هذا ما يردِّده أهل الديانات المختلفة، وهم الذين يشجِّعون العَجَزة على البقاء، أمَّا أنا فلا أجد معنى لكلمات مثل الرحمة أو العدالة، يجب أولًا أن نتَّفق على من يستحق الرَّحمة ومن يستحق العدالة.
– إني أخالفك في ذلك حتى النهاية.
– أعرفُ ذلك.
– لعلك تُرحِّب بالحرب!
فقال بوضوح: إذا وعدَت بمزيد من الحرية، ولست أشكُّ مُطلقًا في أنَّ انتصارنا على الحيرة والأمان خيرُ ضمانٍ لسعادة شعبيهما.
وبهذه المناسبة إنني على مبدأ الجهاد في الإسلام.
وراح يُفسِّره تفسيرًا عدوانيًّا، فتصدَّيتُ لتصحيح نظريته، ولكنه لَوَّحَ بيده باستهانة وقال: لديكم مبدأ عظيم، ولكنكم لا تملكون الشجاعة الكافية للاعتراف به.
فسألته: إلى أي دين تنتمي أيها الحكيم مرهم؟
فأجاب باسمًا: دينٌ إلهُه العقل ورسوله الحرية.
– وجميع الحكماء مثلك؟
فقال ضاحكًا: ليتني أستطيع أن أزعم ذلك.
وجاءني بكتابين؛ الأول هو: «المرجع» أو القانون الأول في الحلبة، والثاني من تأليفه وعنوانه: «اقتحام المستحيل». وقال: اقرأ هذين الكتابين تعرف الحلبة على حقيقتها.
فشكرت له كرمه كما شكرتُ له حُسن ضيافته، ثم ودَّعتُه وانصرفت، وتناولتُ الغداء في الفندق، وكانت الألسنة جميعًا تلهَج بالحرب. وذهبتُ عصرًا إلى الجامع فصلَّيتُ وراء الشيخ حمادة السبكي، ودعاني إلى مُجالسته فلبَّيتُ مسرورًا، وإذا به يسألني باسمًا: هل عثرت على عروسة؟
فقلت بجِديَّة: التعلُّق بعروسة وهمٌ لا معنى له!
فصدَّق على قولي قائلًا: هذه هي الحقيقة.
ثم سألني بعد صمت قصير: هل تمضي في رحلتك مع أوَّل قافلة؟
فقلت وأنا أشعر بشيء من الحرَج: كلا، أريد البقاء فترة أخرى.
– قرار حسن، ويتوافق مع الأحداث المُتلاحقة، فقد منع ملك الحيرة سير القوافل بين الحيرة والحلبة كردٍّ على رفْضنا تسليمَ القائد الهارب.
فدهِشتُ وقلِقتُ، فقال الشيخ: وقد غضِب كِبار مُلَّاك الأراضي ورجال الصناعة والتجارة وعقدوا مع الحاكم اجتماعًا خطيرًا، يطالبون فيه بإعلان الحرب.
فتساءلتُ بقلق: وكيف يكون موقف دار الأمان؟!
فقال الشيخ باسمًا: كأنك صرتَ من أهل الحلبة! الخلافُ بين الحلبة والأمان يدور حول مِلكيَّة بعض عيون الماء في الصَّحْراء الممتدَّة بيننا وبينهم، سيُسوَّى النزاع لصالح الأمان فورًا؛ كي لا تفكِّر في الغدر.
فقلتُ بقلق: إني غريب. ونُذُر الحرب تتطاير من حولي.
– أفضل ما تفعل أن تبقى في الحلبة، وإن طال المُقام فلديك من المال ما يُيسِّر لك عملًا مُثمرًا.
تخلَّيتُ عن القافلة رغم إشفاقي من أن تكون آخر قافلة تقوم نحو دار الأمان. شدَّتني الحلبة إليها بقوة؛ بما وجدتُ في جوِّها من نقاء، وما آنستُ في بعض أهلها من أمل، وقَسَّمتُ وقتي بين السياحة وأسرة الشيخ حامد السُّبكي، أمَّا عروسة فكانت تحلِّق مع نجوم الليل، وتشبَّعت الحياة اليومية بخواطر الحرب، واستاء كثيرون للتنازلات التي نالتها دار الأمان دون أن تسفك لها نقطة دم، وقال لي مدير الفندق مُتجهِّمًا: رغم تضحيَّتنا بعيون المياه فقد تغدِر بنا دار الأمان.
وتوتَّرت الأعصاب لأقصى حدٍّ وانتقلَت إليَّ عدواها فأصابني ما أصاب الناس من حولي، وأفزعَتني السَّاعات المحدودة التي أُمضيها في وَحْدة بالفندق ما بين السياحة وأسرة آل السبكي. وثارت أعصابي، وطالبتني بالإشباع والاستقرار. ولمَّا أعلنت الحلبة الحرب، وأرسلت جيشها إلى الحيرة، ثارت أعصابي أكثر، ورحتُ أُنقِّب في العاصفة الحمراء عن كهفٍ آمنٍ ألوذ به، وتحدَّث النَّاس عن الحرب، ووازَنوا بين القوات والإمكانيات، وانحصرتُ أنا بعنف في التماس أسباب الإشباع والاستقرار. نسيتُ كلَّ شيء إلا هذا الهدف القريب، كأنني في سباق أو مطاردة، وشجَّعني على ذلك جوُّ الأسرة وصداقة سامية الصادقة لي، وإعجابها بالرحَّالة، وعَطْفها على أحزانه الطويلة، قلتُ لنفسي: «إنها فتاة كاملة، ولا حياة لي بدونها». وقلت للشيخ الإمام: توكَّلتُ على الله وقرَّرتُ أن أتزوج.
فتساءل الشيخ: هل عثرتَ على عروسة؟
فقلت في حياء: انتهت عروسة على أيِّ حال.
– هل وقع اختيارك على أحد؟
فقلتُ بهدوء: مطلبي عندكم.
فابتسم ابتسامة مُشجِّعة وتساءل: أتتزوَّج كرَحَّالة أم مُقيم؟
فقلتُ بصدق: لا أظن أنَّ الحُلم سيتلاشى.
– كل شيء يتوقَّف على إرادتها، لمَ لا تكلِّمها بنفسك؟
فارتبكتُ وقلتُ: يُستحسن أن تنوب عني.
فقال بعطف: ليكن، إني أدرك موقفك.
– وتلقَّيتُ الموافقة في اليوم التالي. وكنتُ مُتلهِّفًا فاستجابوا لي، استأجرت شقَّة في نفس الشارع. تعاونَّا على تأثيثها. وتم العَقْد في هدوء يُناسب ظروف الحرب. وجمَعَنا بيتُ الزوجية فسعِد قلبي واستعدتُ توازني. وجاءت أنباء القتال مُشجِّعة، ولكنَّ الحزن شقَّ طريقه إلى قلوب كثيرة وارتفعت أسعار سلع لا حصر لها. واقترح عليَّ الشيخ حامد السبكي المشاركة في محلٍّ لبيع التُّحف والحلي، فوافقتُه بحماس. وكان شريكاي شقيقَين مسيحيَّين، وكان محلُّهما يوجد بميدان الفندق، واقتضى العمل أن أبقى في المحلِّ معهما سَحابة النَّهار، فأقبلتُ على العمل — لأول مرة في حياتي — بنشاط محمود. وكانت سامية تمضي نفس الوقت في المستشفى. وقد قالت لي: يجب أن تجعل من الحلبة مُقامك الدَّائم، أتمِم رحلتك إذا شئت ولكن لتكن العودة إلى هنا.
فقلتُ بصراحة أيضًا: قد أرى أن أرجع إلى وطني كما رسمتُ لأنسخ كتابي، ولا بأس من الإقامة هنا.
فقالت بسرور: في هذه الحال سأصحبك إلى وطنك في الذَّهاب والإياب، أمَّا الإقامة الدائمة فلن نجد مثل الحلبة في حضارتها.
فتردَّدتُ قليلًا ثم قلتُ: يُخيَّل إليَّ أنَّ عملي الجديد سيدرُّ علينا رزقًا وفيرًا، ألا يدعوك ذلك إلى التفكير في الاستقالة من عملك في المستشفى؟!
فضحكَت ضحكةً عذبةً وقالت: العمل في دارنا مقدَّس للمرأة والرجل على السواء، عليك أن تفكِّر من الآن فصاعدًا كرجل من رجال الحلبة.
فرنوتُ إلى بطنها بحنان وقلت: إنك في حكم الأم يا سامية.
فقالت بمرَح: هذا شأني أنا.
وتجلَّت الأُمومة للعين والصيف يطوي آخر صفحاته. ووردَت نسائم الخريف مُتْرَعة بالرُّطوبة وظلال السحب. وكلَّ يوم أكتشف من عالم زوجتي المحبوبة جديدًا. إنَّها مُعتزَّة بنفسها في غير غرور، مُغرَمة بالمناقشة، مؤمنة صادقة وبقوة انشرح لها صدري. لعَلَّ أعجب ما صادفتُه في رحلتي هو إسلام الحلبة الذي يستعر التناقض بين ظاهره وباطنه. قالت لي: الفرق بين إسلامنا وإسلامكم أنَّ إسلامنا لم يُقفِل باب الاجتهاد، وإسلام بلا اجتهاد يعني إسلامًا بلا عقل.
ذكَّرني قولُها بدروس أستاذي القديم. غير أنِّي كنتُ مُغرَمًا بالأنثى الكائنة فيها، وملاحتها المُشبِعة لغريزتي المحرومة. طاردتُ تلك الملاحة بنهَم غيْر مُبالٍ بما عداها، غير أن شخصيَّتها كانت أصدق وأقوى من أن تذوب في ملاحة الأنثى النَّاضجة، وجدتُ نفسي وجهًا لوجه مع ذكاء لمَّاع، ورأي مُستنير، وطيبة ممتازة، واقتنعتُ بتفوُّقها عليَّ في أمور كثيرة؛ فساءني ذلك، أنا الذي لم أرَ في المرأة إلا مُتعةً للرجل، وخالط ولعي بها حذَرٌ وخوف، ولكنَّ الواقع طالبني بالتكيُّف مع الجديد، ومُلاقاته في منتصف الطريق، حِرصًا عليه، وعلى سعادتي المتاحة، وقلت لنفسي: إنه لَسِرٌّ أن تهبَني نفسها بهذا السخاء، وإنني لَسعيدُ الحظِّ حقًّا.
ومداراةً لمخاوفي الدفينة قلتُ لها مرَّةً: إنك يا سامية كَنز لا يُقدَّر بثمن.
فقالت لي بصراحة: وفكرة الرحَّالة الذي يُضحي بالأمان في سبيل الحقيقة والخير تفتِنني كثيرًا يا قنديل.
وذكَّرتني بمشروعي النائم. أيقظَتني من سُبات الراحة والعسل. من الحُبِّ والأبوَّة والحضارة. وقلتُ كأنَّما لأستحثَّ المُستنيمة للواقع: سأكونُ أوَّل من يكتب عن دار الجبل.
فقالت ضاحكة: لعلك تجدها أبعد ما يكون عن الحُلم.
فقلتُ بإصرار: إذن أكون أول من يبدِّد الحُلم.
وانطوى الخريف وهلَّ الشتاء، ليس برْدُه أقسى من برْد وطني، ولكنه غزير الأمطار، ولا تُرى شمسه إلا في أوقات نادرة. وتشتدُّ به الرياح وتُزمجِر، ويقصف الرَّعد هائلًا فيحفِر أثَرَه في أعماق النَّفس. وتحدَّث الناس عن الحرب التي لا تُريد أن تنتهي، وشاركتهم في عواطفهم بصدق، فتمنيتُ أن تنتصر الحُرِّية على الملِك الإله، وأن يُولد وليدي المنتظَر في أحضان الحرية والأمان. ولحِقَت سامية بي في بيتنا ذاتَ مساء عائدةً من عمَلها، مُتألِّقة بفرحة أحيت نضارتها التي أضناها الحَمْل وهتفَت: أبشرْ، إنه النصر!
وراحت تخلع مِعْطَفها وتقول: سلَّم جيشُ الحيرة، انتحر الملِك الإله، وأمست الحيرة والمشرق امتدادًا للحلبة، وكُتبَت الحرية والحضارة لشعوبهما.
انتقلت الفَرْحَة إلى قلبي، غير أنَّ بعض المخاوف المتولِّدة من تجارب الماضي جعلَتني أتساءل: ألا يؤدُّون ثمن الهزيمة بطريقة ما؟
فقالت بحماس: مبادئ المرجع واضحة .. ولم يبقَ من عَقَبَةٍ قائمة في طريق الحرية إلا دار الأمان.
فقلتُ ببراءة: إنها على أيِّ حال لم تغدِر بكم، وأنتم تكابدون حربًا طويلة.
فقلتُ بحِدَّة: هذا حقٌّ، ولكنَّها عقبة في طريق الحرية.
وكان يوم عودة الجيش الظافر يومًا مشهودًا. خرجت الحلبة رجالًا ونساءً لاستقباله ورَشْقه بالزهور رغم برودة الجوِّ وانهلال المطر. وتواصلت الاحتفالاتُ على جميع المستويات أسبوعًا كاملًا. وسرعان ما لاحظتُ — ما بين الطريق ومحلِّ عملي في ميدان الفندق — أن حالًا غريبة، مناقضة للأفراح، تسري بقوة، وبلا تردُّد، ولا حذَر. تطايرت إشاعات عن عدد القتلى والجرحى مصحوبةً بالضيق والأسى. ووُزِّعت منشورات تتَّهم الدولة بأنَّها ضحَّت بأبناء الشعب لا لتحرير شعوب المشرق والحيرة، ولكن من أجل مصالح مُلَّاك الأراضي والمصانع والمتاجر، وأنها كانت حرب «قوافل» لا مبادئ. وتلقَّيتُ منشورًا آخَر يتَّهم أصحاب المنشورات السابقة بأنَّهم أعداء الحرية، وعملاء دار الأمان. ونتيجةً لذلك قامت مظاهرات صاخبة تُهاجم دار الأمان، وتطعن في اتفاقية التنازل لها عن عيون الماء. واجتمع الحاكم بمجلس أهل الخبرة، وصدَر قرار بالإجماع بإلغاء اتفاقية عيون المياه، واعتبار العيون مِلكيَّة مُشتركة بين الحلبة والأمان كما كان الحال قديمًا. ومضى الناس من جديد يتحدَّثون عن حرب جديدة مُحتَملة بين دارَي الحلبة والأمان.
وجاء الشيخ السبكي وأسرته للغداء على مائدتي، وجلسنا نتحادث ونتبادل الآراء، وقلتُ للشَّيخ كالمُحتجِّ: إذا كان هذا الاضطراب نتيجة لنصر حاسم، فكيف كان يكون الحال لو جاء نتيجةً لهزيمة؟!
فأجابني باسمًا: هذه هي طبيعة الحرية.
فقلت بصراحة: إنها تذكِّرني بالفوضى.
فقال ضاحكًا: هي كذلك لمن لم يتعامل مع الحرية.
فقلتُ بمرارة: ظننتكم شعبًا سعيدًا، ولكنكم شعوب تُمزِّقها الخلافات الخفيَّة.
– لا دواء إلا المزيد من الحرية.
– وكيف تحكُم أخلاقيًّا على إلغاء اتفاقية عيون المياه؟
فقال بجِديَّة: كنتُ أمس في زيارة للحكيم مرهم الحلبي، فقال لي: إنَّ تحرير البشر أهمُّ من هذه القشور.
فهتفتُ: القشور! .. لا بُدَّ من الاعتراف بأساسٍ أخلاقي .. وإلا انقلبَ العالَم إلى غابة!
فقالت سامية ضاحكة: لكنه كان وما زال غابة.
وقال الإمام: انظر يا قنديل وطنك دار الإسلام فماذا تجد به؟ .. حاكمٌ مستبدٌّ يحكم بهواه. فأين الأساس الأخلاقي؟ ورجال دين يُطوِّعون الدين لخدمته. فأين الأساس الأخلاقي؟ وشعب لا يُفكِّر إلا في لقمته. فأين الأساس الأخلاقي؟
اعترضَت حلقي غُصَّة فسكتُّ، وعاودَتني ذكرى الرحلة فسألت: هل تقوم الحرب قريبًا؟
فقالت سامية: لن تقوم إلا إذا شعر أحد الطرفين بأنه أقوى، أو إذا غلبه اليأس.
وتساءلَت حماتي: لعلك تُفكِّر في الرحلة؟
فقلتُ باسمًا: يجب أن أطمئنَّ أولًا على سامية.
وأنجبت سامية وليدها الأول في أواخر الشتاء، وبدلًا من أن أتأهَّب للرحيل استسلمتُ للحياة الناعمة، ما بين البيت والمحل. انغمستُ في الحلبة، في الحب ووفرة الرِّزق والأبوة، والصداقة، وكنوز السماء، والحدائق التي لا نهاية لحُسْنها، ما حلمتُ بشيء أجمل من أن يدوم الحال، وتوالت الأيام حتى صرت أبًا لمصطفى وحامد وهشام. على أنني رفضتُ الاعتراف بالهزيمة، وكنتُ أقول لنفسي في حياء: آه يا وطني .. آه يا دار الجبل!
وكنت أُسجِّل بعض الأرقام في دفتر الحسابات بمحلِّ التحف عندما وجدت أمامي عروسة. ليس حُلمًا ما أرى ولا وهْمًا. هي عروسة ترفُل في وزْرة قصيرة، ومطْرَف مُطرَّز باللآلئ مما ترتديه نساء الطبقة المحترمة في فصل الصيف. لم تَعُد شابَّة، ولا منطلقة عارية، ولكنها ما زالت متوَّجة بجمال وقور مُحتشِم. كأنها معجزة انبثقت من المستحيل. كانت تقلِّب بين يديها عِقدًا من المَرجان، وأنا أتطلَّع إليها في ذهول. وحانت منها التفاتة إليَّ فالتصقت عيناها بوجهي وهما يتَّسعان، ونسيَت نفسها كما نسيتُ نفسي. ناديتُ مبتهلًا: عروسة!
فردَّدت بذهول: قنديل!
وترامقنا حتى قرَّرنا في وقت واحد أن نُفيق من ذهولنا، وأن نرجع إلى الواقع. قمتُ إليها فتصافحنا مُتناسين ما حلَّ بشريكي من دهشة، وسألتها: كيف حالك؟
– لا بأس، كل شيء طيِّب.
– مُقيمة هنا في الحلبة؟
– منذ تركت الحيرة.
وبعد تردُّد سألتُ: وحدك؟
– متزوِّجة من رجلٍ بوذيٍّ. وأنت؟
– متزوج وأب.
– لم أُنجب أطفالًا.
– أرجو أن تكوني سعيدة.
– زوجي رجل فاضلٌ وتقيٌّ، وقد اعتنقتُ دينه.
– متى تزوَّجتِ؟
– منذ عامين.
– يئستُ من العثور عليكِ.
– إنها مدينة كبيرة.
– وكيف كانت حياتك قبل الزَّواج؟
فلوَّحت بيدها بامتعاض، وقالت: كان عامَ معاناةٍ وعذاب!
فتمتمتُ: يا لَسوء الحظ.
فقالت باسمة: الختام حسن .. سنقوم برحلة إلى دار الأمان، ومنها إلى دار الجبل، ثم نسافر إلى الهند.
فقلتُ بحرارة: لتحلَّ بكِ بركة الله في كل مكان!
ومدَّت لي يدها فتصافحنا، وتناولت مشتراها، ثم ذهبتُ بسلام، وجدتُ نفسي مطالَبًا بإلقاء ضوء على الموقف أمام شريكيَّ. وواصلت عملي كاتمًا انفعالاتي، مع اعتقادٍ راسخٍ بأنَّ كلَّ شيء قد انتهى. واعترفتُ لسامية بما كان، وببساطة ولا مبالاة، ولم أخلُ من شعور بالإثم إزاء ما اضطرم به صدري من اهتمام زائد. اهتَزَّ اهتزازةً عنيفة، وتفجَّرَت من جدرانه ينابيعُ أسًى وحنين. غمرَته دفقات حارَّة من الماضي حتى أغرقَته، ولا أستبعدُ أنَّ الحُبَّ القديم رفع رأسه ليُبعث من جديد، ولكن الواقع الجديد كان أثقل وأقوى من أن تعبث به الرياح. غير أن الرغبة الكامنة في الرحلة استيقظت في روعة ووثبَت إلى المقدمة مُتطلِّعة إلى الغدِ بإرادة صُلْبة لا تَلين، وخشيتُ أن أندفع إلى تنفيذها فأجلب على نفسي الظنون؛ فاتخذتُ قرارًا بتأجيلها عامًا، على أن أمهِّد لها في أثناء العام بما يهيِّئ الأنفُس لتقبُّلها.
وقد كان.
وأذِنَت لي زوجتي المحبوبة بلا حماس وبلا فتور، ووكَّلت عني الشيخ الإمام ليحلَّ محلِّي في التجارة لحين عودتي، وخصَّصت للرحلة من الدنانير ما يُوفِّر لي حياة كريمة، ووعدت بالعودة إلى الحلبة عَقِب الرحلة، على أن أصطحب زوجتي وأبنائي إلى دار الإسلام، فأنسخ كتاب الرحلة، وألقى الباقين على قيد الحياة من أهلي، ثم نرجع إلى الحلبة.
وأشبعتُ أشواقي من سامية ومصطفى وحامد وهشام، وتركتُ زوجتي وهي تستقبل في جوفها حياة جديدة.