دار الأمان
تحرَّكت القافلة تشقُّ ظُلماتِ الفَجْر مُستقبلةً طلائعَ الصيف. الشيخ السبكي قال لي عن جوِّ دار الأمان: شتاؤها قاتل، خريفها قاسٍ، ربيعها لا يُحتمَل، فعليك بالصيف.
وكالعادة ذكَّرتني القافلة بالأيام الماضية، ولكني أمسيتُ كهْلًا يتأثَّر بقدر. وشعشع ضوء النَّهار فكشف صَحْراء جديدة، كثيرة التلال، تَحدُّ جوانَبها وديان منخفضة، وتنتشر بأرجائها نباتات شوكية كالقنافذ، تتميز بخضرتها اليانعة ووحشيتها المثيرة. وبعد أسابيعَ من السير بلغنا منطقة مياه العيون، وهي كثيرة، ولكنها لا تبرِّر نُذُر الحرب التي تُهدِّد بها سلام دارين كبيرتين كالحلبة والأمان. وتواصل السير في أرض آخذة في الارتفاع التدريجي حتى عسكرنا في هضبة النسر. وقال قائد القافلة: سوف نتحرك عند منتصف الليل لنصِلَ فجرًا إلى سور دار الأمان.
وواصلنا السير في جوٍّ لطيف حتى تراءى لنا السور العظيم على ضوء المشاعل. ووقفنا أمام البوَّابة، تَقدَّم منا رجلٌ بين حاملي المشاعل وصاح بصوت غليظ: أهلًا بكم في الأمان عاصمة دار الأمان، أهلًا بكم في دار العدالة الشاملة!
وصمت الرجل دقيقة ثم قال: سيذهب التجار مع مرشد إلى المركز التِّجاري، أما الرحَّالة فيذهبون إلى مركز السياحة.
لم أذهب إلى فندق مباشرة، كما فعلتُ في المشرق والحيرة والحلبة، ولكني تبِعتُ المرشد إلى دارٍ رسميةٍ صغيرةٍ متينةِ البنيان، نظيفة، تقوم في رعاية حُرَّاسٍ مُسلَّحين، واقتدت إلى حجرة مُضاءة بالمشاعل يتصدَّرها موظف وراء مكتب، وعلى جانبيها حارسان كأنَّهما تمثالان. مثَلتُ أمامه فسألني عن اسمي، وعمري، وما أحمل من دنانير، وعن تاريخ رحلتي والهدف منها، ولذت بالصدق المطلق، فقال الرجل: سأعتبرك من أهل الحلبة بعد أن تقبَّلتَها دارًا للعمل والإقامة الزوجية.
فلم أعترض، فقال: سنسمح لك بإقامة عشرة أيام، وهي كافية لما يُريده السائح.
فسألتُ: وإذا طابت لي الإقامة ورغِبتُ في مدِّها؟
في تلك الحال تُقدِّم طلبًا برغبتك لننظر فيه، ونُقرِّر قَبوله أو رفْضه، فأحنيتُ رأسي راضيًا مُخْفيًا في الوقت نفسه دهشتي، فرجع يقول: وسنُعيِّن لك مرافقًا ملازمًا.
فسألتُه: هل يُعرَض عليَّ لأقبله أو أرفضه؟
– بل هو نظام مُتَّبع لا مفرَّ منه لخير الغرباء!
وصفَّق بيديه فدخل الحجرة رجل قصير في الستين، يرتدي نفس الملابس المكوَّنة من سترة كأنها جبَّة قصيرة، ووزْرة تصل إلى الركبتين، وصندل، وطاقية كأنها خُوذة من قطن أو كتَّان. قال الموظف وهو يردِّد رأسه بيننا: قنديل محمد العنَّابي سائح، فلوكة مرشدك ومندوب مركز السياحة.
وغادرنا المركز وفلوكة يتبعني صامتًا كأنه ظِلِّي، وقد سلبني روح المغامرة والحرية. وخطا خطوة واسعة فصار إلى جانبي فخضنا الظلام معًا مستأنسين بأضواء النُّجوم ومشاعل حُرَّاس الأمن. قال باقتضاب: نحن في الطريق إلى الفندق.
ومن خلال ميدان مربَّع اقتربنا من الفندق الذي لاح على ضوء المشاعل فخمًا عظيمًا، لا يقلُّ روعةً عن فندق الحلبة. أمَّا الحجرة فكانت أقلَّ في المساحة، وأكثر بساطة، ولكن لا ينقصها شيء من أسباب الراحة، كما كانت بالغة النظافة، ولاحظتُ وجود سريرين بها جنبًا إلى جنب فتساءلتُ بقلق: ما معنى وجود السرير الآخر؟
فأجاب فلوكة بهدوء: إنه لي.
فسألتُه باحتجاج لم أُعْنَ بإخفائه: أتنام معي بحجرة واحدة؟
– طبعًا، ما معنى أن نَشغَل حجرتين إذا كان يكفي أن نَشغَل حجرةً واحدة؟
فقلت باستياء: قد يطيب لي أن أنفردَ بحجرة.
فقال دون أن يخرج عن هدوئه: ولكن هذا هو النظام المتَّبع في دارنا.
فتساءلت مُتذمِّرًا: إذَن لن أحظى بالحرية هنا إلا في دورة المياه.
فقال ببرود: ولا هذه أيضًا.
– أتعني ما تقول حقًّا؟
– لا وقت لدينا للهذر.
فقطَّبتُ هاتفًا: الأفضل أن أُلْغيَ الرحلة.
– لن تجد قافلة قبل مرور عشرة أيام.
وراح يُغيِّر ملابسه ويرتدي جلباب النوم، ومضى نحو سريره وهو يقول: كلُّ شيء هنا جديد، فهو غير مألوف، فتحرَّر من أسْر العادات السيئة.
وانهزمتُ أمام الواقع فغيَّرتُ ملابسي، وركنتُ إلى فِراشي، وهرب مني النوم طويلًا من شدَّة الانفعال حتى غلبَني التعب.
ومع الصباح بدأ الحرج، غير أنِّي أمرُّ على الأشياء مَرَّ الكرام، ثم قادني فلوكة إلى بَهْو الطعام، فجلسنا إلى مائدة صغيرة، وتناولنا فُطورًا من اللبن والفطائر والبَيْض والفاكهة المسكَّرة، وهو يمتاز بالجودة والكفاية، فالتهمتُه تاركًا قدَحًا من الخمر لم أمسَّه. قال لي فلوكة: ستُقدَّم الخمر مع كل وجبة وهي ضرورية.
فقلت بإصرار: لا حاجة بي إليها.
فقال بهدوئه الملازم: عرَفتُ كثيرين من المسلمين يدمنونها.
فابتسمتُ ولم أعلِّق فقال متسائلًا: أتُصدِّق حقًّا أن إلهك يهمُّه أن تشرب خمرًا أو لا تشربها؟
ولمَّا رأى تغيُّر وجهي قال برقَّة: معذرة!
وغادرنا الفندق معًا للقيام بجولتنا السياحية الأولى، ألقيتُ نظرة شاملة ثم ارتدَّ إليَّ طرْفي فيما يُشبه الخوف. هالني الخلاء. الميدان وما يتفرَّع عنه من شوارع، كلها خالية، لا أثَرَ فيها لإنسان. مدينة خالية، مهجورة، ميتة، إنها بالغة في نظافتها وأناقتها وحُسن هِندامها، في عمائرها الضخمة، وأشجارها الباسقة، ولكن لا أثَرَ للحياة بها. نظرتُ إليه منزعجًا وسألتُه: أين الناس؟
فأجاب بهدوئه المثير: إنهم في أعمالهم، نساءً ورجالًا.
فسألتُه بدهشة: ألا توجد امرأة غير عاملة؟ .. ألا يوجد عاطل؟
– الجميع يعملون، ولا يوجد عاطل، لا توجد امرأة غير عاملة، أمَّا العجائز والأطفال فسوف تراهم في حدائقهم.
فقلت غير مصدِّق: الحلبة تموج بالنَّشاط، ولكن شوارعها تكتظُّ دائمًا بالناس.
فتفكَّر مليًّا وقال: نظامنا لا شبيه له بين النُّظُم، كلُّ فرْد يُعدُّ لعمل ثم يعمل، وكل فرْد ينال أجره المناسب، الدار الوحيدة التي لا تعرف الأغنياء والفقراء. هنا العدل الذي لم تستطع دارٌ أخرى أن تُحقِّق جزءًا منه.
وأشار إلى العمائر ونحن ننتقل من شارعٍ خالٍ إلى آخَر: انظر، كلُّها عمائرُ عظيمة مُتشابهة، لا توجد سرايات ولا دُور منفردة، ولا عمائر عظيمة وأخرى متوسطة، الفروق في الأجور يسيرة، الجميع متساوون إلا مَن يميزه عمله، وأقلُّ أجر يكفي لإشباع ما يحتاجه الإنسان المحترم من مأوًى وغذاء وكساء وتعليم وثقافة وتسلية أيضًا.
عَزَّ عليَّ التصديق، وقلتُ ما هو إلا كلام يحفظه عن ظهْرِ قلب، غير أنَّ منظر الشوارع والعمائر راعني. إنها لا تقلُّ في هندستها عن الحلبة نفسها. ومضى بي فلوكة إلى حديقة مترامية، يبلغها القاصد فوق جِسر كبير مُقام على نهر عريض. لم أشهد حديقة في اتساعها وتنوُّع أشجارها وأزهارها. قال فلوكة: إنها حديقةُ مَن طعَن بهم السنِّ فيما وراء مرحلة النشاط والعمل.
رأيتُ الطاعنين في السنِّ من الجنسين، يجدون في الحديقة مرتادًا للنزهة، وملاعب رياضيَّة خفيفة، ومجالس للسمر والغناء.
– في كلِّ مدينة حديقة مماثلة.
قال ذلك في ارتياح ومُباهاة، فقلت: إنَّه نظام حسَن ورعاية إنسانية لم أجِد لها مثيلًا في الدُّور السابقة، ولفت نظري كثرة المُعمَّرين ممن جاوزوا الثمانين على أقلِّ تقدير، ولم أُخفِ هذه الملاحظة عن فلوكة فقال من فوره: يمتاز الغذاء عندنا بوفرة عناصره الغذائيَّة الأصلية، مع تجنُّب الترف، وممارسة الألعاب الرياضية في أوقات معينة خلال ساعات العمل.
ومن طرائف ما شاهدتُ في الحديقة عروسان يقضيان شهر العسل، أرمل وأرملة في الحلقة الثامنة، وكانا يجلسان على شاطئ بحيرة صناعية مُدلِّيَين ساقيهما في مائها المكتسي بلون أخضر بما ينعكس على سطحه من أوراق الشجر التي تحنو فوقه .. واستأنستُ بالبشر فمكثتُ في الحديقة مدَّة طويلة، حتى قال لي فلوكة: آن لنا أن نزور حديقة الأطفال.
وكان يفصل بينهما وبين حديقة العجائز ميدان مُتَّسع، يكفي لأن تُنشأ فيه مدينة صغيرة، وترامت إلينا أصوات الصِّغار ونحن نقترب منها، وكانت مُترامية الأطراف كأنها دار مُستقلة، مُكتظَّة بسكانها ما بين الطفولة والصبا، وبها ملاعبُ لا حصرَ لها، وأركان للدراسة والتربية، ومربُّون ومربِّيات، فسألتُ صاحبي: أهي للَّهْو أم للتربية؟
فأجاب: للاثنين معًا، وهنا نكتشف المواهب المختلفة، ويتوجَّه كلٌّ بحسب استعداده، وكما يُرسَم له، وينوب المربُّون والمربِّيات عن الآباء والأمهات المنهمكين في أعمالهم.
فقلت ببراءة: ولكن لا شيء يعوِّض عن حنان الوالدين.
فقال فلوكة بهدوء: حِكَم وأمثال لم يعُدْ لها معنًى في دار الأمان.
لم يتَّسع النَّهار لزيارات جديدة، فتناولنا الغداء في الفندق، وكان مكوَّنًا من شواء، وقرنبيط، وخبز، وتفَّاح، ومضى بي إلى الميدان الكبير قبيل الغروب، وقفنا تحت شجرة حور وهو يقول: آن لك أن ترى أهل الأمان.
كان ثمة أربعة شوارع كبيرة تصبُّ في الميدان، ومع الغروب تجلَّت بشائرُ البشر كأنها ساعة البعث، وسرعان ما راح كلُّ شارع يقذِف بجموع لا يُحيط بها الحصر من النِّساء والرِّجال، لكلِّ طائفة زِيٌّ بسيط واحد كأنها فرقة جيش، ورغم أمواجهم المُتتابعة الهادرة تقدَّموا في نظام، لا يندُّ عنهم أكثر من همس، بوجوه جادَّة ومرهَقة، وخُطًى مسرعة. كلٌّ إلى هدفه يسير، للقادمين جانب وللذاهبين جانب، لا اضطراب ولا مرَح أيضًا، صورة مجسَّدة للمساواة والنِّظام والجِديَّة أثارت إعجابي بقدْرِ ما بعثَت فيَّ القلق والحَيرة، وبلغ الزِّحام ذروته ثم مضى يخفُّ وئيدًا، ولكن دون توقُّف حتى استعاد الخلاء مملكته الشاملة مع هبوط الظلام.
سألت فلوكة: إلى أين؟
– المساكن.
– ثم يرجعون كَرَّة أخرى للسهر؟
– بل يبقون حتى الصباح. أمَّا الملاهي فتُبعث فيها الحياة ليلة العُطْلة الأسبوعية.
فسألت بقلق: أيعني هذا أن لياليَنا ستُقضى في الفندق؟
فقال دون مبالاة: في فندق الغرباء ملهًى تجد فيه ما تشاء من شرابٍ ورقصٍ وغناء.
وقد سهِرنا به ليلتنا، فشهدت رقصًا غريبًا، وسمعتُ غناءً جديدًا، وبعض الألعاب السحرية، ولكنها لم تكن مختلفة اختلافًا جذريًّا عمَّا شهِدتُ وسمعتُ في الحلبة.
وفي اليوم التالي زُرْنا مصانع، ومتاجر، ومراكز للتعليم والطب. الحقُّ أنها لم تكن تقلُّ عن أمثالها في الحلبة عظمةً ونظامًا وانضباطًا، واستحقَّت دائمًا إعجابي وتقديري، وهزَّت عقيدتي الراسخة في تفوُّق دار الإسلام في الحضارة والإنتاج، غير أني لم أرتَحْ لتجهُّم الوجوه وصلابتها، وبرودها المخيِّم. هذه السجايا التي جعلت من مُرافقي فلوكة شخصًا لا غنى عنه ولا مسرَّة فيه.
وزرنا قلعة تاريخية جليلة الشأن، حُلِّيَت جُدرانها بالنقوش والصور، قال فلوكة: في هذه القلعة دارت آخرُ معركة انتهت بهزيمة الملك المستبد وانتصار الشعب.
ومضى بي إلى بناء ضخم كالمعبد وهو يقول: إليك محكمة التَّاريخ، هنا حُوكِم أعداء الشَّعب، وقُضي عليهم بالموت.
فسألتُه عمَّن يعني بأعداء الشعب، فقال: مُلَّاك الأرض، وأصحاب المصانع، والحكام المستبدُّون. لقد انتصرت الدولة بعد حرب أهلية طويلة ومريرة.
وتذكَّرت ما أخبرني به أستاذي الشيخ مغاغة الجبيلي من أنه لم يستطع أن يواصل رحلته بسبب نشوب حرب أهلية في دار الأمان. وتذكرتُ أيضًا تاريخ الحلبة الدامي في سبيل الحرية. وهل كان تاريخ الإسلام في دارنا دون ذلك دمويَّةً وآلامًا؟ فماذا يريد الإنسان؟ وهل هو حُلم واحد أو أحلام بعدد الدُّور والأوطان؟ وهل حقًّا وُجد الكمال بدار الجبل؟!
وسألني فلوكة: هل تُمضِي الليلة في الملهى كأمس؟
فأعلنتُ عن فتوري بالصمت فقال مُشجِّعًا: غدًا تحتفل الدار بعيد النصر، وهو يوم مشهود.
وتناولتُ العشاء ثم جلسنا في بَهْو المدخَل بالفندق نتلقَّى نسائمَ الصيف اللطيفة، وقلتُ لفلوكة: إني رَحَّالة كما ترى، وقد جرَت العادة في بلادي أن يُسجِّل الرحَّالة أنباء رحلته، وعلى ذلك تَلزمني معلومات كثيرة لا تكفي المشاهد الإلمام بها.
فأصغى إليَّ بهدوء دون أن ينبِس فقلتُ: يهمُّني أن أجتمع بحكيم من حُكماء داركم فهل تستطيع أن تُحقِّق لي رغبتي؟
فأجاب: حكماء دار الأمان مُستغرِقون بواجباتهم، ولكنني أستطيع أن أمدَّك بما تشاء من معلومات.
فهضمتُ خيبتي بسرعة مُصمِّمًا على خوض التجربة. قلت: أريد أن أعرف نظامكم السياسي، كيف تحكمون؟
فأجاب دون تردُّد: لنا رئيس منتخَب، تنتخبه الصَّفوة التي قامت بالثورة، وهي تُمثِّل صفوة البلدان جميعًا من علماء وحكماء ورجال الصناعة والزراعة والحرب والأمن، ويتولَّى منصبه بعد ذلك مدى الحياة، ولكنهم يعزلونه إذا انحرف.
ذكَّرني ذلك بنظام الخلافة في دار الإسلام، ولكنه ذكَّرني أيضًا بمآسي تاريخنا الدامي فسألتُه: ما هي صلاحياته؟
– إنه المهيمن على الجيش والأمن والزراعة والصناعة والعلم والفن، إذ إن الدولة عندنا هي صاحبة كلِّ شيء، والرعايا موظفون كلٌّ يعمل في حقله، لا فرقَ في ذلك بين الكنَّاس والرئيس.
– ألا يعاونه أحد؟
– مستشاروه، والصَّفوة التي انتخبَته، ولكنه صاحب الرأي الأخير، ولذلك فنحن في مأمَنٍ من الفوضى والتردُّد.
فتردَّدتُ قليلًا ثم قلتُ: ولكنه أقوى من أن يُحاسَب إذا انحرف.
فخرج من بروده لأوَّل مرَّة وقال بحِدَّة: القانون هنا مُقدَّس.
ثم مواصلًا قبل أن أنبِس: انظر إلى الطبيعة، أساسها القانون والنظام لا الحرية.
– ولكن الإنسان دون الكائنات يتطلَّع دائمًا إلى الحرية.
– إنه صوت الشهوة والوهم، وقد وجدْنا أنَّ الإنسان لا يطمئنُّ قلْبُه إلا بالعدل؛ فجعلْنا من العدل أساس النظام، ووضعْنا الحرية تحت المراقبة.
– أهذا ما يأمر به دينكم؟
– نحن نعبد الأرض باعتبارها خالق الإنسان، ومدَّخر احتياجاته.
– الأرض؟!
– وهي لم تفعل لنا شيئًا، ولكنها خلقَت لنا العقل، وفيه الغنى عن أيِّ شيءٍ آخَر.
ثم واصل بكبرياء: دارنا هي الدار الوحيدة التي لن تُصادفك فيها أوهام أو خرافات!
استغفرتُ الله في سِرِّي طويلًا. قد يجدُ الإنسان لوثنيَّة دار المشرق عُذرًا، ومثلها دار الحيرة، ولكن دار الأمان بحضارتها الباهرة كيف تعبد الأرض؟ .. وكيف تبوِّئ عرشها رجلًا منها فتُنزله منزلة الملِك الإله؟ إنها دار عجيبة، أثارت إعجابي لأقصى حدٍّ، كما أثارت اشمئزازي لأقصى حدٍّ. ولكن ساءني أكثر ما آلَ إليه حالُ الإسلام في بلادي، فالخليفة لا يقلُّ استبدادًا عن حاكم الأمان، وهو يُمارس انحرافاتِه علانيةً، والدين نفسه تهرَّأ بالخرافات والأباطيل، أمَّا الأُمَّة فقد افترسها الجهل والفقر والمرض، فسبحان الذي لا يُحمَد على مكروهٍ سواه. ونمتُ ليلتها مُرهَقًا ورأيتُ أحلامًا مزعِجة، وأشرق يوم العيد. ولمَّا كان يوم عُطْلةٍ عامَّة فقد تبدَّت العاصمة حيَّةً دافئةً طيلةَ النهار. وقادني فلوكة إلى ميدان القصر. رأيتُ القصر قلعة منيفة، وتحفة معمارية لا نظير لها، يمتدُّ أمامه ميدان هائل يتَّسع لألوف الألوف من البشر. اتخذنا موقعًا وسطًا وأخذ الناس يتوافدون ويقفون في نظام صفوفًا صفوفًا، فوق محيط الدائرة. تفرَّستُ في الوجوه بحبِّ استطلاعٍ شديد. يا لهم من صور مكرَّرة في الملابس واللون والوزن. بشرة لم تلفحها شمس مُحرِقة، وقامات قوية ونحيلة معًا، ووجوه أشرقت بالابتسام تحيَّةً للعيد، رغم تجهُّمها الدائم فيما عدا ذلك من أيام. جمال الوجوه في الحلبة أرفع درجة بلا شكٍّ، ولكن المساواة هنا تدعو للعَجب، ولذلك تقرأ الأعين طُمأنينة راسخة وشيئًا غامضًا يُنذر بالخمول.
ونُفخ في بوقٍ إيذانًا ببَدْء الاحتفال.
ومن أقصى نقطة في محيط الدائرة المواجهة للقصر تقدَّم موكبُ حاملات الورود، من فتيات مُتألِّقات بالشباب، يسرن في أربعة صفوف نحو القصر، ثم وقفْنَ في طابورَين متقابلَين أمام مدخَله الكبير، واندفعت الجموع تردِّد نشيدًا واحدًا، في قوة مؤثِّرة وجمال أيضًا. تصاعدَ الصوت في انسجام جامعًا الحشود في لحظةٍ وجدانيَّة واحدة مستوحاة من ذكريات حميمة مشتركة. وانتهى بتصفيقٍ حادٍّ استمرَّ دقيقتين، ومسَّني فلوكة بكوعه وهمَس في أُذني: الرئيس قادم.
نظرتُ نحو القصر فرأيتُ جماعة تتقدَّم من أعماق باحته، وكلما تقدمت وضحَت معالمها. الرئيس يتقدَّم تتبعه جماعة من الصَّفوة الحاكمة. وراح يمشي بحذاء محيط الدائرة؛ ليتبادل التحيات مع الجموع عن كثَب. ولمَّا مرَّ أمامي لم يكن يفْصِله عن موقعي أكثر من أشبار. رأيتُه متوسِّط الطول، مُفرِطًا في البدانة، غليظَ القسمات واضحها، ولم تكن حاشيته دونه في البدانة فلفت ذلك انتباهي بشدَّة، وأيقنتُ أنَّ الرئيس ورجاله يحظَون بنظامٍ غذائيٍّ خاصٍّ يشذُّ عمَّا تخضع له جموع الشعب، وتخيَّلتُ ما يمكن أن يدور بيني وبين فلوكة من حوار عن ذلك. سيقول لي إنَّ نظام الأمان لا يخلو من امتيازات يخصُّون بها الأفراد تبَعًا لتفوُّقهم في العلم والعمل، وإنه من الطبيعيِّ أن يكون على رأس هؤلاء الرئيس المنتخب ومعاونوه. وإنَّ هذه الامتيازات تُمنح في حدودٍ ضيِّقة لا تسمح بوجود فوارقَ طبقيَّة، ولأسبابٍ معقولةٍ لا صلة لها بامتيازات الأُسَر والقبائل والطبقات في المجتمعات الأخرى التي يسودها الظلم والفساد. والحق أني لم أجد في ذلك ما يخرق القانون العادل السائد في دار الأمان، ولم أجد به وجْهَ شبهٍ بما يجري في الدُّور الأخرى، وعلى رأسها دار الإسلام نفسها من تفاوتٍ فاحشٍ ظالمٍ في معاملة الناس. وخطَر لي أني أرى الأمور بوضوح أكثر من ذي قبل. أجل، إنَّ لِدار الحلبة هدفًا، وقد حقَّقَته بدقَّة، وإنَّ كذلك لِدار الأمان هدفًا، وقد حقَّقَته بدقة، أمَّا دار الإسلام فهي تُعلن هدفًا، وتُحقِّق آخَر باستهتار وبلا حياء وبلا محاسِب، فهل يوجد الكمال حقًّا في دار الجبل؟!
رجَع الرئيس إلى مِنصَّة أمام القصر فصِعد إليها. ومضى يخطب شعبه، عارضًا عليه تاريخ ثورته، وموقعة نصره، وما أنجز له في مجالات حياته المختلفة. ركَّزتُ على متابعة العواطف المتبادَلة بين الرجل والناس، فلم أشكَّ في حماسهم، وتلاقيهم في آمالٍ واحدةٍ ورؤيةٍ متماثلة. ليسوا بالأمَّة المقهورة المغلوبة على أمرها، ولا الفاقدة الوعي والتربية، لعلَّ ما ينقُصها شيءٌ هامٌّ، لعل سعادتها تشوبها شائبة، رأيتها أمَّة مُتماسكة وذات رسالة لا تخلو من إيمان من نوعٍ ما.
عندما انتهى الرئيس من خطابه اخترقَت الميدانَ ثلَّةٌ من الفُرسان شاهرة رماحها، وقد غُرست في أسنَّة الرِّماح رءوسٌ آدميَّة منفصلة عن أجسادها. غاص قلبي من فظاعة المنظر، ونظرتُ نحو فلوكة، فقال باقتضاب: خونة متمرِّدون!
لم يتَّسع الوقت للحوار. وعاد الشعب يُردِّد النشيد، وانتهى الاحتفال بهُتاف شامل.
وعدنا إلى الفندق لتناول الغداء، وفي أثناء ذلك قال فلوكة: أزعجك منظر الرءوس المقطوعة؟ .. ضرورة لا مَفَرَّ منها، نظامنا يطالبنا بألَّا يتدخَّل إنسان فيما لا يعنيه، وأن يركِّز كلُّ فرد على شئونه، فالمهندس لا يجوز أن يثرثر في الطب، والعامل لا يجوز أن يخوض في شئون الفلاح، والجميع لا شأن لهم بالسياسة الداخلية أو الخارجية، ومَن تمرَّد على ذلك فجزاؤه ما رأيت.
أدركتُ أن الحرية الفردية عقوبتها الإعدام في هذه الدار، واعترتني لذلك كآبة شديدة، وحنِقتُ على فلوكة لإيمانه المتعصِّب بما يقول.
وسهِرنا ليلًا في سيرك كبير اكتظَّ بالناس، وشهِدْنا من أفانين الألعاب والغناء والرَّقص ما يُسلِّي ويَسُرُّ، وتناولنا عشاءً من الشواء والفواكه. وشرِب فلوكة، ودعاني للشرب. ولمَّا لم أستجب اضطُرَّ إلى الاعتدال وهو كظيم. وغادرنا السيرك عند منتصف الليل، وسرنا على مهل تحت ضوء القمر في شوارع معمورة بالمترنِّحين، وطاب لي الحديث فقلتُ: ما أجمل لَهْوكم!
فقال باسمًا لأول مرَّة إمَّا لمناسبة العيد أو الخمر: وما أجمل جِدَّنا!
ورآني أبتسم فلم يرتَحْ لابتسامتي وقال: أترى الحياة في وطنك الأوَّل أو وطنك الثاني خيرًا من حياة الأمان؟
فقلتُ بمرارة: دع وطني الأول فأهلُه خانوا دينهم.
فقال بخشونة: إذا لمْ يتضمَّن النِّظام الوسيلة لضمان تطبيقه فلا بقاء له.
– إننا لم نفقِد الأمل بعد.
– إذَن لِمَ كانت الرحلة إلى دار الجبل؟
فقلت بفتور: العِلم نور.
فقال ساخرًا: ما هي إلَّا رحلة إلى لا شيء.
وتتابعَت الأيام مُضجِرة، وأخذ النَّاس في الفندق يتحدثون عن العَلاقة بين الحلبة والأمان، بنبرةِ إشفاقٍ وتشاؤم، وسألتُ فلوكة عمَّا يكمن وراء ذلك فقال: في حربهم مع الحيرة تظاهروا بالاعتراف بحقِّنا في عيون المياه، ولمَّا انتصروا سحبوا اعترافهم بكلِّ خِسَّة ودناءة، واليوم يُقالُ إنهم يجنِّدون جيشًا من البلدين اللتين استولَوا عليهما، المشرق والحيرة، وهذا يعني الحرب.
واستحوذ عليَّ القلق فسألتُه: وهل تقوم الحرب حقًّا؟
فأجاب ببرود: نحن على أتمِّ استعداد.
فحام فكري نحو سامية والأبناء، وتذكَّرتُ مأساةَ عروسة وأبنائها. وانتظرتُ على لَهفٍ انتهاءَ الأيام العشرة، ومَرَّ يوم ويوم دون حدَثٍ، فاطمأنَّ قلبي وأخذتُ أستعِدُّ للرحيل، وفي تلك الآونة خطَر لي أن أسألَ فلوكة عن الرحَّالة البوذي وزوجته عروسة، اللذين زارا الأمان منذ عام فأكَّد لي أنه يُمكن أن يُمدَّني بمعلومات عنهما عندما نذهب إلى المركز السياحي في آخر أيام الإقامة. وأنجز الرجل وعْدَه، وراجع الدفاتر بنفسه، وقال لي: مكث الزوجان في دار الأمان عشرة أيام ثم سافرا في القافلة الذاهبة إلى دار الغروب، غير أنَّ الزوج مات في الطريق ودُفن بالصَّحْراء، أمَّا الزوجة فواصلَت رحلتها إلى دار الغروب.
هزَّني الخبَر، وتساءلتُ عن مكان عروسة وحالها، وهل أجدها في دار الغروب، أو تكون رحلَت إلى دار الجبل، أو رجعَت إلى المشرق؟!
وعند الفجر كنتُ ومتاعي في محطِّ القافلة، صافحتُ فلوكة وقلت له: أشكر لك مرافقتك لي الطيِّبة، وما أسديتَه إليَّ من فوائد.
فشدَّ على يدي صامتًا، ثُمَّ همَس في أُذني: قامت الحرب بين الحلبة والأمان.
اضطربت لدرجة منعتني من الاستمرار في الكلام، حتى البادئ بالحرب لم أسأل عنه.
وهيمنت عليَّ ذكريات سامية والأبناء، وحتى الوليد المنتظَر.