مقدمة الطبعة الأولى
هذا العمل الذي بين يديك الآن، هو خلاصة جهدٍ استمر عشر سنوات أو يزيد، بدأ العمل فيه عام ١٩٨٧م، وتوقف أكثر من مرةٍ، لكن مجموع تلك الوقفات لم يزد بحالٍ عن مدة سنتَين أنجزتُ خلالها كتاب حروب دولة الرسول، وكتاب إسرائيل، وكتاب رب الزمان، ولم يستغرق أيٌّ من هذه الأعمال سوى بضعة شهور، كنت أعود بعدها إلى موسى مرةً أخرى، بعد أن تتراكم مادةٌ علميةٌ جديدة، تدفعنا إلى البدء من البداية مرةً أخرى، مرات كانت تصل بنا الفروض إلى طرقٍ مُغلقة، فنعود نضع فرضًا جديدًا، لنلهث وراء ما يدعمه شهورًا لنكتشف مرةً أخرى، أننا دخلنا متاهة، فنعود نضع علامات على الطريق المحتمل، لكن لنكتشف خللًا جديدًا، وفي كل مرة كان رجال علم التاريخ وراء تلك المشقة التي كادت تصبح مكابدة لا تنتهي. وما أكثر تناقضات أهل التاريخ، التي تصل أحيانًا إلى حد التضارب الكامل إزاء الموضوع الواحد، ومن ثم يصبح من الرعونة بمكان، إقامة أي بناءٍ علمي على أسسٍ تاريخية، دون فحصٍ دقيق ومراجعةٍ تامة لتلك الأسس، وضبطها ضبطًا كاملًا، وإلا وصل الباحث إلى نتائجَ شديدة الضلال والبطلان؛ لأن أسس التاريخ نفسه كعلم وهي مادته، يختلف بشأنها أصحاب هذا العلم، بحيث لا يمكنك القطع في أي لحظة مع علم التاريخ، أن ما تقرؤه حقيقةٌ وقعت في الزمن المنسوبة إليه أم بناءٌ افتراضي؟ وما هي مساحة الصدق التاريخي فيه، وما هي المساحة التي سمح المؤرخ بها لنفسه بالتدخل في الوقائع وإعادة بنائها تصوريًّا؟ ناهيك عن بعض المؤرخين ذوي الأسماء الكبيرة — كما سنرى في بحثنا — قد قاموا بتفسير النص التاريخي على هوى البناء الذي يريدون، بل وصل ببعضهم حد التساهل — وهي كلمةٌ سهلة — إلى حد أنه لم يجد بأسًا في إبدال لفظةٍ بلفظةٍ أخرى، تناسب مراده في النص التاريخي الأصلي.
أضرب لك مثلًا بسيطًا للتوضيح، رأى أحد المؤرخين بحساباته أن الإسرائيليين، كانوا موجودين في مصر زمن رعمسيس الثاني، ووجد نصًّا من زمن رمسيس الثاني يتحدث عن العابيرو، الذين ينقلون الأحجار لبناء «معبد الشمس الذي توجهت إليه عناية شمس البلاد رمسيس الثاني»، هنا وببساطة يقوم السيد المؤرخ بترجمة العابيرو إلى «الإسرائيليين»، رغم أن الخلاف حول: من هم العابيرو؟ وهل هم العبريون؟ بل وهل العبريون هم فعلًا بنو إسرائيل؟ مشاكل لم تحل بعدُ، وتتضارب بشأنها مدارس المؤرخين شتى.
ومع ذلك وضع الرجل نظريته في خروج الإسرائيليين من مصر على مثل تلك الفروض المختلف عليها.
مثالٌ آخر: يختلف أصحاب علم المصريات الكبار، حول تعيين موضع مدينةٍ كبرى أنشأها الفرعون، عاشق المعمار رعمسيس الثاني باسمه «رعمسيس»، وتعود أهمية هذه المدينة، لكونها المدينة التي ذكرتها التوراة كمدينة للاضطهاد الإسرائيلي في مصر، عندما تم تسخيرهم في بنائها، وكلما تم العثور في حفائرَ مصرية على أثرٍ باسم رعمسيس الثاني، قام أصحابه يُهلِّلون: لقد وجدنا مدينة رعمسيس المفقودة؟! الكارثة تبدأ عندما تحاول أن تعتمد مصادر التاريخ لبحثك في ميدانك الجديد، فمن الطبيعي أن تكون ضمن المطاليب المعرفية، لقارئ كتاب بعنوان النبي موسى، معارف من قبيل: أين تم استعباد الإسرائيليين بمصر؟ هنا يقف عالمٌ عظيم مثل «السير آلن هنري جاردنر»، ليقول لك: إن مدينة رعمسيس هي الفرما الآن على البحر المتوسط شرقي بورسعيد الحالية. ليردف عالمٌ حجة في المصريات هو «بيير مونتييه» ليقول لك: إن مدينة رعمسيس هي «صان الحجر» الآن جنوبي بحيرة المنزلة. لكن ليقف عالم المصريات «محمود حمزة»، معلنًا كشفه لآثارٍ كبرى لرعمسيس الثاني، في مدينة قنتير قرب فاقوس بالشرقية، وأن هنا تقع مدينة رعمسيس، ويذهب رابع إلى تل رطابة بوادي طميلات، وخامس إلى مدينة المسخوطة، وسادس إلى صفط الحنة، وسابع …
هذا بشأن مدينةٍ واحدة فقط اسمها رعمسيس (!) وأين تقع؟ فهل بعد ذلك يصرُّ باحث ليس فقط على العثور على مدينة رعمسيس، بل وعلى تحديد مواضع المدن التي ذكرتها التوراة مجاورة لها؟ نعم لقد أصررنا وأظننا نجحنا، لكن بعد إعادة قراءةٍ شاملة لتاريخ مصر في علاقاتها بجيرانها، «أعادت تنظيم التاريخ مرةً أخرى، وفق نظريةٍ جديدة» هي التي يقوم عليها هذا العمل جميعه، واعتبرناها عمودًا تأسيسيًّا ننطلق منه لبحث موضوع النبي موسى على أرضٍ تاريخية أقرب إلى واقع أحداث زمانها، ولحظة وصلنا إلى أسسٍ نظريتنا، لم نفعل بعد ذلك شيئًا، سوى سحب طرف الخيط، الذي أصبح مستقيمًا سهلًا، بعد أن كان شرنقة من الخيوط المتشابكة، وقد استغرق هذا التأسيس الجزء الثاني بكامله، لكنه التأسيس الخراساني للعمل كله.
وكان هذا التأسيس بهدف إعادة ترتيب للمادة التاريخية المتضاربة، وإعادة صياغتها من جديد، وفق كشوفٍ جديدة تمامًا.
لذلك أعتبر من جانبي شخصيًّا، أن التأسيس هو المعبِّر الصادق والحقيقي، على مدى ما بذل في هذا الكتاب من جهد.
والنموذج الصارخ بصدد تضارب علم التاريخ، أنك ستجد بشأن الهكسوس الذين احتلوا مصر القديمة في نهاية الدولة الوسطى رأيَين أبدًا لا يلتقيان، فهناك فريقٌ يأتي بهم من جزيرة العرب (السعودية الحالية واليمن)، وفريقٌ آخر يأتي بهم من البراري والسهوب الآسيوية الوسطى، وهو ما يعني مفارقةً كبرى؛ لأن سكان جزيرة العرب ساميون وسكان براري آسيا عند قزوين وأرارات من الجنس الهندوآري، وهو أيضًا ما يعني أنه لم يتم حتى الآن الاتفاق حول جنس الهكسوس، والمشكلة تظهر عندما تريد تحقيق حدث يتعلق ببني إسرائيل، زمن الهكسوس، هنا لن تتمكن من بناءٍ بحثيٍّ سليم، إلا بعد تحديد هوية العنصر الهكسوسي، لما بين الشعبَين الهكسوسي والإسرائيلي من وشائج اتصال، كان أول من أشار إليها المؤرخ الكلاسيكي يوسفيوس فلافيوس.
أو أن تبحث عن موقع دولةٍ كبيرة، كانت على علاقةٍ وثيقة بمصر القديمة، زمن الأحداث التي سنتناولها هي بلاد ميتاني، فتكتشف أنه قد تم وضع هذه الدولة في المساحة الواقعة بين الفرات والخابور، بأعالي الفرات شمالي الشام وشرقي تركيا (افتراضًا)، لكن لتكتشف أن هذا المكان كانت تشغله في ذات الفترة الزمنية دولة الآشوريين؟! وتعود تدقق فتكتشف أن ذلك الموضع الجغرافي، الذي تم تحديده لبلاد ميتاني، ليس فيه أية أدلةٍ قاطعة أو حتى مقبولة، لوضع تلك الدولة هناك! نعم إلى هذا الحد يصل التساهل بعلماء التاريخ القديم.
أو تبحث وراء العنصر الآرامي الذي قطن براري الشام وبواديه شرقي مصر، لكن لتكتشف أنه كان عنصرًا أصيلًا في البلاد، التي أطلق عليها المصريون القدماء بلاد بونت أرض الإله المقدسة، وبينما انتهى معظم المؤرخين إلى وضع بلاد بونت على الساحل الأفريقي الشرقي عند الصومال، تجد إشارات ونصوصًا أخرى هامة وكثيرة لا يمكن تفسيرها، بوضع بلاد بونت عند الصومال، وإلا نكون قد أهملنا دلائل وإشاراتٍ أخرى، تذهب بنا إلى مواضعَ جغرافيةٍ مخالفة تمامًا، لما استقرَّ عليه رأي هؤلاء المؤرخين.
وهي المشكلة التي عشتُ معها فترة، عندما كنت أبحث وراء العنصرين الهكسوسي والإسرائيلي، لأنتهي من البحث الذي طال بما فاق كل توقعاتي، إلى رؤيةٍ جديدة ومخالفة تمامًا، تدخل في باب الكشوف المدعمة بالبراهين والقرائن بنصوصٍ آثارية ولوحاتٍ أركيولوجية، وهي الرؤية التي أصبحت العمود الأساسي لعملي هذا، حيث أمكننا العثور على أطراف خيوطٍ مبعثرة، الْتأمت جميعًا في موطنٍ واحد، تجمعت فيه عناصر التاريخ والجغرافيا معًا.
أو نقرأ في نصوص الرافدين عن بلاد باسم «موصري»، ونبحث وراء علماء التاريخ فيقولون لك: إنها إما تقع في أعالي الرافدين في الموضع نفسه، الذي تم تحديده لبلاد ميتاني (!!) أو في منطقة العقبة وشرقي سيناء، هكذا! ولك أن تختار أو تحتار بين موقعَين متباعدَين تمامًا لبلاد «موصري»، وهو الشأن الذي ستعيش فيه معي في تفاصيل من المتعة المعرفية الحقة، فالتاريخ رغم كل ما يعتوره، هو مساحة مغامرةٍ علمية، لها ذائقة من نوعٍ شديد الخصوصية، في المتعة الذهنية والتفرد.
أو أن تبحث وراء جنس أطلقت عليه التوراة الجنس الكوشي (أي الزنجي)، والمعلوم أن موطنه أفريقيا السوداء، لكن لتجد التوراة تحدثنا عن كوشيين يهاجمون فلسطين من الجنوب زمن المملكة اليهوذية، فيضع المؤرخون تفسيراتهم فيما لا يزيد عن سطرين عند كلٍّ منهم، البعض يرفض روايات التوراة تمامًا بهذا الخصوص، فكيف يهاجم الأفارقةُ الزنوجُ فلسطين طوال الوقت، كما لو كانوا جيرانهم؟ بعضٌ آخر فسَّر ذلك بأن المقصود هم المصريون؛ لأنهم من أبناء حام، ومن أبناء حام كان كوش أبو الزنج الكوشيين، وذلك حسب شجرة الأنساب التوراتية، لكن يبقى السؤال البسيط الساذج: إن التوراة طوال الوقت تتحدث عن المصريين باسمهم، فلماذا أسمتهم هنا باسم الكوشيين؟! لذلك لا يقنع فريقٌ ثالث بهذه النتائج، ويرى أن المقصود بالكوشيين هم المصريون فعلًا، لكن في زمن حكم الأسرة السوداء الكوشية، وهي من الأسر الأخيرة لمصر القديمة، وهنا يبرز فريقٌ رابع ليقول: ليس المقصود بالكوشيين في التوراة دائمًا هو العنصر الزنجي؛ لأنه ربما كان يشير إلى العنصر الكشي أو الكاسي، الذي احتل بلاد الرافدين قادمًا من السهوب الآرية الشمالية، في ذات الزمن الذي احتل فيه الهكسوس مصر، ومرةً أخرى لك أن تختار، ومع كل اختيار لا يمكنك أن تتأكد من سلامة مقدماتك، لتمضي في استنباطاتك وأنت مطمئن، وكل هذه الحالات التي نشير إليها كانت عاملًا مشتركًا، في موضوع الإسرائيليين وعلاقتهم بمصر، وهنا لا بد أن ينال موضوعك حجمًا من التضارب، وتصل بك النتائج إلى درجةٍ من التناقض، تتناسب مع اختياراتك من مجموع المتناقضات التاريخية، ويبقى لديك سؤال لم يجبك عليه أهل التاريخ: وعلى أي الأسس يتم الاختيار، وفي هذه الحال يطرح السؤال نفسه: وهل بذلك نبني علمًا؟
ثم إليك ما هو أنكى وأشد، في مثالٍ فصيحٍ واضح، حول موعد خروج بني إسرائيل من مصر، وحتى لا نطيل عليك هنا، سنضرب لك مثالًا برأي مدرسةٍ واحدة فقط، هي التي سادت واستقرت نهائيًّا، في زعم علماء التاريخ حول مسألة الخروج، وهي المدرسة التي تعتمد على ذكر كلمة إسرائيل في لوح مرنبتاح ابن رمسيس الثاني لأول مرة، وربما لآخر مرة في التاريخ المصري، ليقولوا إن الإسرائيليين قد سيموا السخرة والعذاب زمن رمسيس الثاني، وخرجوا من مصر زمن ولده مرنبتاح، الذي حكم حوالي ١٢٢٤–١٢١٤ق.م. خلال الأسرة التاسعة عشرة.
المشكلة تظهر عندما نبدأ في رصد وجود الإسرائيليين في فلسطين، ولما كانت التوراة تطلق عليهم أحيانًا اسم العبريين، فإن التضارب يبدأ صارخًا عندما يعرضون لنا، محتويات مكتبة تل العمارنة عاصمة الفرعون إخناتون، وأغلبها كان رسائلَ قادمة من ولاة مصر على أراضي الإمبراطورية المصرية في الشام، والتي دوَّنت صرخات استغاثة من هؤلاء الولاة بالفرعون، لحماية أراضي مصر في بلاد الشام، من هجوم شعب جاء اسمه على مختلف التنغيمات «العابيرو، الخابيرو، الهبرو، الهابيري، الخابيري، خبر، الأبيري، العابيري الهبيرو … إلخ.» فإذا كان الإسرائيليون هم العبيرو (العبريين)، وأنهم خرجوا من مصر زمن مرنبتاح ١٢٢٤–١٢١٤ق.م. وقد حددت رسائل العمارنة تاريخ ذلك الهجوم العبري على فلسطين، بزمن أمنحتب الثالث ١٤٠٥–١٣٦٧ق.م. وولده إخناتون ١٣٦٧–١٣٥٠ق.م. أي كانوا يهاجمون حدود فلسطين في زمن أمنحتب الثالث، وقبل أن يخرجوا من مصر زمن مرنبتاح ١٢٢٤–١٢١٤ق.م. أي قبل الموعد المقرر تاريخيًّا لخروجهم بحوالي ١٧٠ عامًا بالتمام والكمال؟
ونحن نعلم أن القائد الإسرائيلي للخروج بعد موسى المعروف باسم يشوع، أول ما هاجم في فلسطين «غربي الأردن» عندما عبر نهر الأردن، وهاجم مدينة أريحا ودمرها تدميرًا شاملًا، لكن البحث الأركيولوجي قد أثبت أن أريحا، قد تم تدميرها فعلًا، لكن قبل الزمن المحدد في هذه النظرية للخروج بما يزيد عن ١٥٠ عامًا!
لحل الإشكال لجأ المؤرخون بكل رصانةٍ إلى استبعاد، أن يكون العابيرو هم العبريين التوراتيين، إنما هو اسمٌ مشابه، حملته فئات من شُذَّاذ البدو وقُطَّاع الطرق، ولا يجب ربط تلك الإشارات التاريخية عن العابيرو، بمسألة بني إسرائيل والخروج، وهي النظرية المُعتمدة أكاديميًّا في أقسام التاريخ القديم بجامعات العالم حتى اليوم.
نموذجٌ آخر وما أكثرها النماذج في علم التاريخ! نوضحه بالقول إننا لو حتى أخذنا برأي مدارسَ أخرى، توارت بعد ظهور واستتباب الأمر لنظرية الخروج زمن مرنبتاح؛ سنجدها تضع الخروج في مساحة تتأرجح بين ثلاثة قرونٍ كاملة، تبدأ بزمن الفرعونة حتشبسوت ١٤٩٠–١٤٦٨ق.م. وتنتهي بزمن مرنبتاح ١٢٢٤–١٢١٤ق.م.
ومشكلةٌ أخرى تظهر عندما تبدأ في علاج علاقة الإسرائيليين بالفلسطينيين، فعلم التاريخ الرصين يؤكد لنا أن شعبًا جديدًا باسم البلست أو البلستي، جاء بسفنه البحرية المسلحة من الجزر اليونانية يهاجم مصر، زمن رمسيس الثالث ١١٨٢–١١٥١ق.م. لكننا نجد هذا الشعب في ذات الزمن، يقيم على سواحل فلسطين! والحل ببساطة عند أهل التاريخ، أنه بعد أن هزمهم رمسيس الثالث سمح لهم بالإقامة على سواحل كنعان، التي كانت تابعة لمصر حينذاك، ومن ثم أعطوها اسمهم فأصبحت فلسطين؟! هكذا بكل يسر وسهولة تم حل المشكلة! لكن الصارخ في المسألة أن الإسرائيليين — حسب الكتاب المقدس — عندما خرجوا من مصر كان الفلسطينيون مستقرين في ممالكَ كبرى، وهذا قبل أن يصلوها زمن رمسيس الثالث (؟!) بحسبان الخروج قد تم زمن مرنبتاح ابن رمسيس الثاني، أو ربما قبله في مدارسَ أخرى؟
والأكثر إدهاشًا أن نجد التوراة نفسها، تأتي بالقبيلة العبرية في تاريخها القديم من «أور الكلدانيين» — قبل دخول مصر والخروج منها بزمان — إلى أرض كنعان كقبيلةٍ هامشيةٍ غريبة على البلاد، وتصف التوراة هذه البلاد بأنها «أرض الفلسطينيين» قبل وصول الفلسطينيين إليها، زمن رمسيس الثالث بحوالي خمسة قرونٍ كاملة حسبما يقرر أهل التاريخ؟!
المصيبة هنا أن «كل هذه المتضاربات الصارخة، التي ضربناها مثلًا كانت خلال الفترة الزمنية، وفي المساحة الجغرافية التي يعالجها كتابنا هذا». ومن هنا كان لا بد من إعادة قراءة ذلك الرتل المختل مرةً أخرى، قراءةً تضبط أحداثه وفق منهجٍ علميٍّ صارم ودقيق، وإذا وجد القارئ بعض التضارب أحيانًا في المادة التاريخية، فله أن يستميح لي العذر، وأنني قد حملت عنه عبء إعادة الترتيب والضبط، ويبقى كتابي هذا شاهدًا على مدى تساهل أهل التاريخ، ومدى قيمة ما يتم تدريسه في جامعاتنا، بل وفي جامعات العالم دون الشعور بأي خلل.
لذلك مهدنا لعملنا بالجزء الأول المُعنون ﺑ «تمهيد تاريخي»، بعرض أهم أدوات وأساليب التعامل مع هذا المأثور، بحيث يمكننا بعد العرض النقدي، تقديم شهاداته كشهاداتٍ تاريخية، ونحن أكثر اطمئنانًا لتلك الشهادات، لكن ضمن ذلك المأثور تقع مجموعةً من الأساطير، احتاجت منا تضفير تفسيرها وفضَّ دلالاتها، ومعرفة الغرض من وراء دسِّها وسط السرد التاريخي ضمن مجموع العمل، ومحاولة فهم ما حدث بعيدًا عن منطق الأسطورة والمعجزة، فحاولنا العثور على إجاباتٍ واضحة لمسألة العصا الثعبانية، وفلق البحر، والعليقة المشتعلة بنار لا تحرق، هذا إضافة إلى أسئلةٍ أخرى تأسيسية، حاولنا الإجابة عليها وهي: لماذا يتمسك اليهود بلحظتَين تاريخيتَين أساسيتَين، كلتاهما تتعلق بمصر تحديدًا؛ لحظة العهد مع الله بالختان، والختان شرعةٌ مصرية أساسًا، ولحظة عبور البحر من مصر إلى سيناء، وهو ما يجرنا إلى مناقشة كل لحظة تماس في علاقة الشعب الإسرائيلي بمصر، منذ نزول إبراهيم إليها ومن بعده يوسف والأسباط، حتى ميلاد موسى وخروجهم منها، حسبما وردنا من روايات التوراة، أما الأهم فهو أين كان العرب من كل تلك الأحداث؟
أما «موسى» فهو المبحث الأول والغرض النهائي، ويشكل البحث وراءه الجزء الثالث والجزء الرابع في هذا العمل، لكن ما يجب هنا التأكيد عليه وإعلانه واضحًا، أنه رغم وجود بعض أوجه الشبه في تفاصيل قصة موسى بين التوراة والقرآن، فإن أوجه الخلاف بدورها كبيرة، سواء في الرؤية العامة لمفهوم الألوهية أو النبوة، مع خلافاتٍ أساسية حول بعض التفاصيل والدقائق، وهو ما يجعل من موسى التوراتي شخصًا آخر، يختلف اختلافًا بيِّنًا وحادًّا عن موسى القرآني، ومن هنا نقول بل ونعلن أن بحثنا هذا، يتناول شخص النبي موسى كما ورد بالتوراة وبقية العهد القديم فقط، «ولا علاقة لبحثنا بشخص النبي الجليل موسى الكليم عليه أفضل الصلوات وأزكى السلام»، لا من بعيدٍ ولا من قريب، وإذا وجد القارئ متناثراتٍ نادرة عن النبي موسى كما هو في الإسلام، فإن ذلك قد جاء على سبيل الاستضاءة ليس إلا، ولا يعني أننا نتحدث عن موسى كما هو في الإسلام.