جغرافية الخروج
(١) رأي «دي بوا-إيميه»
حتى الزمن الذي أخرج فيه «دي بوا إيميه» نظريته، ضمن كتاب «وصف مصر»، كانت نظرية «يوسفيوس» ومعاصريه، هي النظرية السائدة في الأوساط العلمية والكهنوتية، وهي النظرية التي تقول: إن الإسرائيليين هم ذات عين الهكسوس، ومن ثم قام «دي بوا إيميه» بتفسير بعض الغوامض، وإضافة بعض المسائل الجوهرية، حيث اعتبر «الهكسوس والإسرائيليين فصيلَين مختلفَين، وإن كانا من أصلٍ عرقيٍّ واحد، وربما تجمعهما ثقافةٌ مشتركة، لكن الإسرائيليين وصلوا مصر متأخرين عن الهكسوس، حيث لحقوا بهم، وعاشوا في كنفهم.»
وبدايةً وقف «دي بوا إيميه» مع الإشارات المذكورة لدى المؤرخين، عن إصابة الإسرائيليين — في مصر — بوباء مرضٍ جلدي تفشى بينهم، وأن ذلك المرض كان سبب طردهم من مصر، منعًا لانتشاره بين المصريين، ليقول إن انتشار وباء البرص أو الجذام، كان عادةً ما ينتشر بين البدو، لجهلهم بمبادئ النظافة والتطهر مع ندرة الماء، وطول عشرتهم للحيوان، مع جهلهم بفروض النظافة، التي جعلتها الديانة المصرية، واحدة من طقوس الإيمان الملزم للعبادة، ومن ثم أطلق المصريون على مرض البرص «مرض الرعاة»، كما أطلقوا على الرعاة أنفسهم لقب «الأنجاس»، وكانوا يشيرون لغزاة بلادهم من الهكسوس بلقب المجذومين والأنجاس.
وقال: قدِّموا طعامًا، فقدَّموا له وحده، ولهم وحدهم، وللمصريين الآكلين عنده وحدهم؛ لأن المصريين لا يقدرون أن يأكلوا طعامًا مع العبرانيين «لأنه رجس عند المصريين». (تكوين، ٤٣: ٣١-٣٢)
فيكون إذا دعاكم فرعون وقال: ما صناعتكم؟ أن تقولوا: عبيدك «أهل مواشٍ»، منذ صبانا وإلى الآن، نحن وآباؤنا جميعًا، لكي تسكنوا في أرض «جاسان»؛ لأن كل راعي غنم «رجس» للمصريين. (تكوين، ٤٦: ٣٣- ٣٤)
ومع المزيد من التدقيق، يمكنك أن تجد إشاراتٍ واضحة، في مناطقَ متقطعة من التوراة، تشير إلى وباء المرض الجلدي، البرص المصحوب بالقرح وبياض الجلد، ولمعانه وظهور نتوءات فيه وبثور، وهو ما تظهره التوراة بداية، كما لو كان معجزةً خاصة بموسى في النص.
ثم قال له الرب أيضًا: أدخل يدك في عبك، فأدخل يده في عبِّه ثم أخرجها، وإذا يده «برصاء» مثل الثلج. (خروج، ٤: ٦)
وتكلمت مريم وهارون على موسى بسبب المرأة الكوشية التي اتخذها؛ لأنه كان قد اتخذ امرأةً كوشية … فحمي غضب الرب عليها ومضى، فلما ارتفعت السحابة على الخيمة، «إذا مريم برصاء كالثلج» فالتفت هارون إلى مريم، وإذا هي برصاء. (عدد، ١٢: ١، ٩، ١٠)
فتذمر كل جماعة بني إسرائيل في الغد على موسى وهارون قائلين: أنتما قتلتما شعب الرب … فكلم الرب موسى قائلًا: اطلعا من وسط هذه الجماعة، فإني أفنيهم بلحظة، فخرَّا على وجهيهما، ثم قال موسى لهارون: خذ المجمرة واجعل فيها نارًا على المذبح، وضع بخورًا، واذهب بها مسرعًا إلى الجماعة، وكفر بها عنهم؛ لأن السخط قد خرج من قبل الرب، «قد ابتدأ الوباء»؛ فأخذ هارون كما قال موسى، وركض إلى وسط الجماعة، «وإذا الوباء قد ابتدأ في الشعب»، فوضع البخور وكفر عن الشعب، ووقف بين الموتى والأحياء فامتنع الوباء، «فكان الذين ماتوا بالوباء أربعة عشر ألفًا وسبعمائة». (عدد، ١٦: ٤١–٤٩)
وكلم الرب موسى قائلًا: «انتقم نقمةً لبني إسرائيل من المديانيين … فتجندوا على مديان كما أمر الرب، وقتلوا كل ذكر … وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم، ونهبوا جميع بهائمهم، وجميع مواشيهم، وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار؛ فسخط موسى على وكلاء الجيش، وقال موسى: هل أبقيتم كل أنثى حية؟ … خيانة للرب … فكان الوباء في جماعة الرب، فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة». (عدد، ٣١: ١، ٧، ٩، ١٠، ١٤، ١٥، ١٦، ١٧)
-
يلصق بك الرب «الوباء» حتى يبيدك (تثنية، ٢٨: ٢١).
-
يضربك الرب «بقرحة مصر، وبالبواسير، والجرب والحكة، حتى لا تستطيع الشفاء» (تثنية، ٢٨: ٣٧).
-
يضربك الرب «بقرحٍ خبيث» على الركبتين وعلى الساقين، حتى لا تستطيع الشفاء، من أسفل قدميك إلى قمة رأسك. (تثنية، ٢٨: ٣٥)
إذا كان إنسان في جلد جسده ناتئ أو قوباء أو لمعة، تصير في جلد جسده ضربة «برص» … في الضربة شعر قد ابيضَّ، ومنظر الضربة أعمق من جلد جسده، فهي ضربة برص، فمتى رآه الكاهن يحكم بنجاسته … إنها برص. (لاويين، ١٣: ٢، ٨، ٣)
ويظل السفر يحدد الأعراض وأساليب عزل المرضى، ومعاملة البيوت والخيام المنكوبة، بعرضٍ وافٍ تفصيلي يثير التقزز، حتى نهاية الإصحاح الخامس عشر من سفر اللاويين، بطول ثلاثة إصحاحات كاملة، رغم وعد الرب لشعبه إن آمن به وخرج مع موسى من مصر وأطاعه، وعدًا يظهر في قول الرب: «وأزيل «المرض» من بينكم» (خروج، ٢٣: ٢٥).
ومثل هذا السرد الطويل، يبرر قول «آبيون» النحوي السكندري، إنهم «طردوا من مصر طردًا، ولم يهربوا، ولم تطاردهم جيوش مصر، وذلك خشية تفشي الوباء» في البلاد، وهو ما وجدناه في التوراة، يصادق على قول آبيون تصديقًا، واضحًا لا الْتباس فيه، إذ يقول: «فقال الرب لموسى: الآن تنظر ما أنا فاعله بفرعون، فإنه بيدٍ قوية يطلقهم، وبيدٍ قوية يطردهم من أرضه» (خروج، ٦: ١).
ونعود إلى «دي بوا إيميه»
يستند «دي بوا إيميه» إلى الروايات المنقولة عن «مانيتو» فيقول: إنه بعد غزو الهكسوس لمصر، واحتلالهم لمنف، لاذ ملوك مصر الشرعيون بصعيد مصر، وكوَّنوا هناك دولةً مستقلة، ثم قام أحدهم وهو ما ينقل اسمه عن القدماء في صيغة «أليسفرا جموتوفيس»، بتجريد جيوشه على منف بمساعدة الإثيوبيين والمصريين الثائرين، وأحرز انتصاراتٍ هائلة على الهكسوس العرب؟! واضطرهم إلى التقهقر شمالًا حتى تحصنوا في مدينة حواريس.
ونظن من جانبنا أن «أليسفرا جمو توفيس»، هذا ليس سوى «كامس»، من «جامس» أو «جوميس»، وهو المعروف في المدوَّنات كأول ملك مظفر حارب الهكسوس، وسجل عليهم انتصارات، ويؤيد ذلك أن الرواية التي بين أيدينا هنا، تقول إن أخاه هو الفرعون الذي ذكره يوسفيوس باسم تثموزيس، والذي ذكره يوسابيوس ويوليوس الأفريقي باسم «أحمس»، حيث كشفت علوم المصريات بعد ذلك، أن أحمس كان ابنًا لكامس هذا مع الإشارة إلى كونه الفرعون الذي حاصر حواريس، ولما طال الحصار وافق على خروجهم مع أملاكهم إلى بلاد الشام، ولما خرج هؤلاء من مصر، تحاشوا عبور بادية الشام خشية بأس الآشوريين، فدخلوا فلسطين من جنوبها، واستقرُّوا في جبال اليهودية «يهوذا»، حيث أسسوا هناك مدينة أورشليم، وهو خط سير يخالف بالمرة خط السير الذي رصدته التوراة للخروج الإسرائيلي من مصر إلى سيناء إلى شرقي الأردن، ثم العبور إلى أريحا من الشرق إلى الغرب، عبر نهر الأردن.
«ويتابع دي بوا إيميه رسم السيناريو الذي ارتآه، فيتابع القول إن الإسرائيليين قد واصلوا البقاء في مصر، وجرت عليهم أقدار المهزومين»، وانسحبت عليهم كراهية المصريين للرعاة المحتلين، وأخذ المصريون يشيرون إليهم بالأنجاس والمجذومين، لكنهم عاشوا في مصر، يتمتعون على تخومها الشرقية بقدرٍ من الحرية، حتى عصر الملك «آمنحتب»، دون تحديد ترتيبه بين الملوك المناتحة، وهو والد الملك الشهير «سيزوستريس»، ودفع كهان مصر ملكهم «آمنحتب» إلى التقرب للآلهة باضطهاد الرعاة، فجمعهم ودفع بهم إلى الأعمال المعمارية الشاقَّة.
وبعد فترة دفعت بعض المخاوف الأسطورية والمتطيرة الملك «آمنحتب»، ليسمح لهؤلاء المستعبدين بالانسحاب إلى أرض جاسان، وهناك اختاروا لهم رئيسًا مصريًّا «كان من كهنة هليوبوليس يدعى «أوزرسيف»، وكان قد نُفي معهم مع عددٍ من الكهنة المصريين ومصريين آخرين، بسبب معتقداتهم الدينية، المخالفة لعقائد البلاد، كما تبعهم عددٌ آخر من المصريين الفارين من الاضطهاد» أو يخشون وقوع اضطهاداتٍ جديدة، لاعتناقهم ذات العقائد المخالفة، وقد أعطى «أوزرسيف» لهذه الألوف من المصريين المنشقِّين، وللرعاة الإسرائيليين «ديانةً خاصة، كانت بالضرورة خليطًا من ديانتَي الشعبين»، ثم أمرهم «أوزرسيف» بألا يتزوجوا إلا من داخل جماعتهم الجديدة، لكي يحول دون أي انحراف أو تصالح مع المصريين، كما أباح لأتباعه أكل الحيوانات التي كانت مقدسة عند المصريين، كما أمرهم بتدمير ما يستطيعون من آلهة مصر.
وكانت النتيجة حنقًا شديدًا من المصريين، والرد بقهرٍ أشد، كان لا بد معه أن يبحث هؤلاء لأنفسهم عن موطنٍ جديد، ويذهب «دي بوا إيميه» إلى أنه «في تلك الفترة» نشأت مستعمراتٌ جديدة في بلاد اليونان، وأن مؤسسيها كانوا فريقًا من هؤلاء الهاربين من مصر، وأن «موسى» قد ولد في عهد «آمنحتب» هذا، وأن أول الاضطهادات تمت في عهد هذا الفرعون.
وكان للخوف من فرعون، والرغبة في الانتقام «دافعًا لأوزرسيف ليطلب من هكسوس أورشليم العودة، ليزخفوا معًا لفتح مصر»، فاستجابوا له وحملوا على مصر، «ولم يكن ثمة ضرب من ضروب القسوة لم يرتكبوه، كما يقول مانيتون، ولم يكتفوا بإحراق المدن والكفور وتحطيم صور الآلهة، إنما قتلوا حتى الحيوانات المقدسة، وأرغموا الكهنة المصريين والعرافين أن يكونوا هم ذابحيها، ثم أطلقوهم بعد ذلك عراةً كما ولدتهم أمهاتهم.»
وانسحب «آمنحتب» إلى ما وراء الشلالات جنوبًا، وثبت هناك مدعومًا من الإثيوبيين، لمدة ثلاثة عشر عامًا يناوئ الرعاة، وفي النهاية تمكن من الهجوم وهزيمة «أوزرسيف»، ومطاردته مع رجاله حتى سوريا.
ولا جدال عند «دي بوا إيميه» أن «أوزرسيف» هذا هو ذاته «موسى»، لكنه يفترض أن جبال اليهودية بفلسطين، كان قد تم احتلالها من قبائلَ أخرى، أثناء تواجد الجميع في حملتهم على مصر، وذلك لتفسير الحروب التي خاضها الإسرائيليون الخارجون من مصر، ضد هذه القبائل لدخول فلسطين.
وقد اهتم «هيرودوت» في تاريخه بالفرعون سيزوستريس المظنون عند المؤرخين المحدثين أنه رعمسيس الثاني، وركز على الأعمدة التي كان يقيمها تسجيلًا لانتصاراته في البلاد المفتوحة، وكان ينقش عليها اسمه ووطنه وكيف أخضع ذلك المكان لسطوته، وهي الأعمدة التي يسميها المصرولوجيون: أنصاب النصر، وأحجار الحدود، لتبين إلى أي مدًى وصلت حدود الملك.
وبالمراجعة وراء «دي بوا إيميه» رجعنا إلى «هيرودت»، فوجدنا «فيرون» عنده مذكورًا باسم «فيروس» ولا بأس فهمًا واحدًا بحذف اﻟ «ن»، وإضافة التصريف الإسمي اليوناني المعتاد، لكن المثير في المسألة أن «فيرون» هنا، ستنطق أيضًا نطقًا مصريًّا وعبرانيًّا صحيحًا باللفظ «فرعون»، ويبدو أنه يعود بدوره إلى أحد الألقاب المصرية الخاصة بهذا الفرعون، وأنه اسمٌ خاص تمامًا بفردٍ بعينه، وهو ما يبدو لنا الأصل في انسحاب اللقب على بقية حكام مصر «الفراعنة»، لكن إذا كان هذا الفرض صحيحًا، فإنه كان هناك فرعونٌ واحد باسم «فرعون»، وأنه يبدأ من لحظةٍ تاريخيةٍ أولى، كانت مع بني إسرائيل زمن الخروج، ويعاضد ذلك تمامًا الفهم الديني المتواتر عن الفرعون زمن موسى، كما لو كان لمصر طوال تاريخها فرعونٌ واحد، هو ذاك الذي غرق في بحر سوف، والأمر بهذا الشكل يستدعي إعادة النظر في التخريج القائل إن كلمة «فرعون» مأخوذة من كلمة «برعو» المصرية القديمة، والتي تعني السور العظيم، أو ربما تعود التسمية للسببين معًا.
يقول الرؤساء وهم منطرحون أرضًا:
السلام
وتبعًا لهذا اللوح، بعد الكشف عنه، أعاد الباحثون النظر في كل ما انتهوا إليه قبلًا، وتم رفض فكرة أن بني إسرائيل هم الهكسوس، حيث تم طرد الهكسوس من مصر زمن أحمس حوالي ١٥٧٥–١٥٥٠ق.م. وهو آخر زمن الأسرة السابعة عشرة وبداية الأسرة الثامنة عشرة، وهو تاريخ يسبق زمن «مرنبتاح» ١٢٢٥–١٢١٥ق.م. بما يزيد على ثلاثة قرونٍ كاملة، ومن ثم ذهب بعض الباحثين إلى القول: إن بني إسرائيل هم بقايا أسرى هكسوس، تخلفوا في مصر طوال تلك السنين، حتى خرجوا زمن «مرنبتاح»، وبعضهم ذهب بحدث الدخول مذاهبَ شتى، لكن الأغلبية اتجهوا إلى القول: إن «رعمسيس الثاني» كان هو فرعون الاضطهاد، وأن ابنه «مرنبتاح» هو فرعون الخروج.
ويبدو أن «مانيتو» هو الواضع الحقيقي لأصول تلك النظرية، حيث قال: إن ثورة أسرى مدينة حواريس بقيادة الكاهن المصري «أوزرسيف»، قد حدثت زمن الملك «آمنحتب»، الذي طاردهم مع ولده الذي حمل عند «مانيتو» أسماءً ثلاثة متضاربة هي: «هورامبيس/سيتوس/رمسيس»، في قولٍ غامض وملتبس يقول: إن ابن «آمنحتب» كان اسمه: «سيتوس»، وكان يسمى أيضًا «رمسيس» من أبيه «هورامبيس».
وقد اتضح لنا أن «مانيتو» كان معذورًا تمامًا في ذلك اللبس، فالرجل قد اعتمد على المدونات المصرية القديمة، التي كانت موجودة حتى زمانه، وقد علمنا مما بقي من قوائمَ ملكية، إسقاطها جميعًا لفترة أسرة العمارنة، وهي فترة حكم الملك «آمنحتب الرابع/إخناتون» وأتباعه الثلاثة المباشرين، وعدم ذكرهم أو الإشارة إليهم، وعندما تم الكشف عنهم بعد ذلك، سواء في حفائر تل العمارنة، أو في مقبرة توت عنخ آمون، كان الأمر كشفًا مدويًا، أعيد بموجبه إعادة ترتيب قوائم الملوك، وإدخال أسرة العمارنة في دائرة الضوء لأول مرة، ليتم إدراجها مباشرة بعد حكم الملك «آمنحتب الثالث»، في الفراغ بينه وبين حور محب أو «هورامبيس».
ومعلوم أن الباحثين قد برَّروا إسقاط المدونات المصرية لأسرة العمارنة، بالهرطقة الدينية التي قادها «إخناتون»، وهاجم بموجبها كل آلهة البلاد، وطاردها لصالح عقيدته في إلهه الأوحد «آتون»، مع تعصُّبه الشديد ومطاردته للآلهة الأخرى، مع فرض عقيدته بالقهر، ومن ثم اعتبره المصريون مارقًا دنسًا، هو وأسرته لا يصح ذكرهم، ووصمة عار يجب تناسيها ومحوها تمامًا من ذاكرة التاريخ، بالضبط كما فعلوا مع فترة الاحتلال الهكسوسي، التي أسقطت تمامًا ولم تدخل في المدون التاريخي المصري القديم، وظلت دومًا فجوة نحاول ملأها بالنُّتف التي يمكن العثور عليها، من آثار الهكسوس أنفسهم، أو من أصحاب التواريخ القديمة مثل «مانيتو»، أو من بردية تشكل حالةً خاصة مثل بردية تورين، ومن ثم أسقطت من قوائم مصر أسرة العمارنة كاملة، «فكانت القوائم الملكية تقفز مباشرة من زمن «آمنحتب الثالث»، منهية به الأسرة الثامنة عشرة، إلى «حور محب» مؤسس الأسرة التاسعة عشر، الذي قضى تمامًا على بقايا عبادة «آتون» الهرطقية».
ولما كان اسم «حور محب» باللسان اليوناني هو «هورامبيس»، فقد سجلها «مانيتو» كذلك، معتبرًا إياه ابنًا لآمنحتب، وأبًا لمشاهير الأسرة التاسعة عشرة «رعمسيس الأول، ستي الأول، رعمسيس الثاني، مرنبتاح … إلخ».
وعليه فلا جدال أن «آمنحتب» المقصود عند «مانيتو» هو «آمنحتب الثالث» قطعًا وتحديدًا، ولم يكن أمام «مانيتو» سوى احتساب «هوارمبيس/حور محب» و«رمسيس الأول» و«سيتوس/ستي الأول» و«رمسيس، رعمسيس الثاني» أبناء مباشرين للملك «آمنحتب الثالث»، أو أسماء متعددة لابنٍ واحد لذلك الفرعون، لكنه أبدى حيرته لنا في قوله إن «سيتوس» هو «رمسيس» من أبيه «هورامبيس»، بحيث بدا متشككًا ما بين وجوب نسبة «رعمسيس» إلى «آمنحتب الثالث» آخر الأسرة الثامنة عشرة، وبين وجوب نسبته إلى «حور محب» مؤسس الأسرة التاسعة عشرة.
ومن بعدُ، وبمرور الوقت، تدعمت نظرية «مانيتو» لكن المؤرخين استبعدوا معركة «آمنحتب الثالث» مع ثورة عبيد حواريس التي قادها «أوزرسيف»، ووقفوا مع من بقي منهم أسرى زمن «رعمسيس»، المفترض عند «مانيتو» ولدًا لآمنحتب الثالث، ليعتبروه فرعون الاضطهاد، ويحددوا ولده «مرنبتاح» فرعونًا للخروج، ومن المفيد هنا بشأن اللبس الحادث عند «مانيتو»، أن نذكر باللوحة التي شاهدناها بالكرنك للفرعون «آمنحتب الثالث»، وإلى جواره ابنه طفلًا، مع تدوين اسم هذا الطفل «حور محب»!
فقد لاحظنا إبان زيارتنا للكرنك، أنه قد صورت على الواجهة الخارجية الجنوبية بقاعة الأعمدة بالصرح البحري، رحلة لمركب الإله «آمون» ومعه الملك «آمنحتب الثالث»، واقفًا داخل المركب مرتين، وبصحبته شخص تمت إزالة صورته لكن عملية الإزالة تركت الأثر السابق واضحًا، ولا شك أن الصورة كانت تمثل ابن «آمنحتب الثالث»، ومحل الصورة تم تدوين اسم «حور محب»، ولما كنا نعلم أن ابن «آمنحتب الثالث» هو «آمنحتب الرابع/إخناتون»، بالقطع واليقين، فلا جدال أن لوحة مثل تلك، كانت كفيلة بإقناع «مانيتو» أن «هرمبيس، حور محب»، ابن مباشر لآمنحتب الثالث، دون أن يضع بحسبانه — بالطبع — الخدعة المتمثلة في إهدار المصريين لأسرة العمارنة بكاملها، والتي تشمل الفراعنة: «إخناتون» وخلفائه على الحكم «سمنخ كارع» و«توت عنخ آمون» و«آي».
فدعا (أي فيرون ابن سيزوستريس، ولاحظ أن دي بوا إيميه يرى آمنحتب هو سيزوستريس) «فدعا موسى وهارون ليلًا وقال: قوموا «اخرجوا» من بين شعبي، أنتما وبنو إسرائيل جميعًا، اذهبوا واعبدوا الرب كما تكلمتم، خذوا غنمكم أيضًا وبقركم كما تكلمتم واذهبوا». (خروج، ١٢: ٣١، ٣٢)
فارتحل بنو إسرائيل من «رعمسيس إلى سكوت»، نحو ستمائة ألف ماشٍ من الرجال عدا الأولاد، وصعد معهم لفيفٌ كثير أيضًا، «مع غنمٍ وبقر ومواشي وافرةٍ جدًّا». (خروج، ١٢: ٣٧-٣٨)
وارتحلوا من «سكوت» … ونزلوا في طرف البرية … وكلم الرب موسى قائلًا: كلم بني إسرائيل «أن يرجعوا وينزلوا أمام فم الحيروث، بين مجدل والبحر أمام بعل صفون» … ومد موسى يده على البحر، فأجرى الرب البحر بريحٍ شرقيةٍ شديدة كل الليل، وجعل الرب البحر يابسة، وانشق الماء، فدخل بنو إسرائيل وسط البحر، وتبعهم المصريون … فقال الرب لموسى: مدَّ يدك على البحر ليرجع الماء على المصريين، فدفع الرب المصريين في وسط البحر، «ثم ارتحل موسى بإسرائيل من بحر سوف، وخرجوا إلى برية شور». (خروج، ١٣: ٢ و١٤: ٢١، ١، ٢٢، ٢٦، ٢٧ و١٥: ٢٢)
ويرى دي بوا إيميه أن أرض جاسان بمدينتَيها فيثوم ورعمسيس، تقع في النهاية الشرقية لوادي طميلات، ويسمى أيضًا وادي السدير، الممتد من الدلتا نحو الشرق، حتى بحيرة التمساح ثم البحيرات المرة، وأن المدينة التي خرجوا منها تقع قرب السبع أبيار على رأس بحيرة التمساح في موقع تل المسخوطة الحالي، واسمها أيضًا «الخشبي» و«أبو خشيب» و«أبو كيشيد»، وأنهم ساروا من هناك عدة محطات، حتى عبروا البحر من عند منطقة تقع إلى الجنوب من المسخوطة، بجوار مدينة السويس الآن على رأس «خليج السويس، الذي كان يعرف بالخليج العربي» حتى زمن دي بوا إيميه. ويرسم لنا سيناريو الأحداث، فيقول إن الركب كان متجهًا في البداية نحو الطريق المباشر إلى فلسطين، وهو الطريق الذي نعلم اليوم أنه كان باسم طريق حورس الحربي، والذي يسير بمحاذاة البحر الأبيض المتوسط، لكنه خشي المرور بهذا الطريق، فيقترب من فلسطين، ويتعرض لهجومٍ مباشر من سكانها؛ لذلك سار برجاله جنوبًا ليخفي — أيضًا — عن المصريين نيتهم في الهرب، وليوهمهم أنه يبحث في الصحاري عن مكانٍ بعيد للاحتفال الديني، فقام يقودهم بالْتفافةٍ طويلة نحو بلاد أنسبائه سكان مديان في سيناء.
وحتى يحدد لنا موضع الخروج بدقة، يضع دي بوا إيميه تصورًا لجغرافية المنطقة زمن الخروج، فيرى أن الخليج العربي/السويس الآن، كان يمتد زمن الخروج ليلتحم بالبحيرات المرة، وبحيرة التمساح حيث السبع أبيار، مدلِّلًا على ذلك بعددٍ وافر من القرائن المفترضة، وأهمها ما جاء في عرضه التالي:
أما عن مدينة هيروبوليس ولعلها هي نفسها مدينة أفاريس (حواريس عاصمة الهكسوس بمصر [المؤلف])، فإنني مصرٌّ على أن أضعها في نفس المكان الذي تشغله اليوم أبو كيشيد (المسخوطة).
ويسير دي بوا إيميه مع الخارجين، حيث يتجهون شمالًا بعد تجاوز رأس الخليج العربي القديم عند بحيرة التمساح، حيث أول محطة ذكرتها التوراة باسم (سكوت)، وسكوت عنده هي من الكلمة العبرية سيخوت، أي المخيمات أو العشش، ومن هناك يعود موسى خشية الحرب مع الفلسطينيين، فيتَّجه برجاله جنوبًا بحذاء الشاطئ الغربي للخليج العربي، حيث يستريحون في محطة إيتام، ويرى أنها حاليًّا بير السويس، ومن بير السويس يرتدون غربًا، حيث كانت تمتد مياه الخليج نحو المنطقة، التي أسمتها التوراة فم الحيروث، ويرى أنها تبعد عن بير السويس غربًا بثلاثة فراسخ، وأنها حصن عجرود الحالي بجبل عجرود، ويطابق فونيطيقيا بين فم الحيروث أو بالعبرية «ﻫ حيروث» وبين «ع-جروت» أو «عجرود» ليراهما موضعًا واحدًا.
ويرسم لنا دي بوا إيميه جغرافية منطقة العجرود بدقة العالم الحصيف، فيرى هناك كتلة رمال جنوب شرقي العجرود، يسعى وراءها فيجدها تتصل بشكلٍ متقطع بخليج السويس، مع وجود خواصَّ عند تلك التقطعات، يشير إلى وجود ماءٍ قديمٍ كثيف، ثم إنها منخفضة عن مستوى الماء بالخليج، وهنا يرى أنها كانت بحيرة تقع في طرف لسان الخليج من شماله الغربي.
ولما كان موسى قد تربَّى بحكمة المصريين وعلومهم، فلا شك أنه كان يعرف ممكنات العبور من هذه النقطة، سيرًا على الأقدام إلى الضفة الأخرى، «وكان المد يأتي فيغطي البحيرة فيصلها بالخليج، ثم ينحسر فتصبح بحيرةً منفصلة عن الخليج». ووقت وصول الفرعون وجيشه كان المد يغطي البحيرة؛ مما جعل الجيش المصري ينشد الراحة بعد المطاردة المجهِدة، وهو يجد الخارجين أمامه مرتعبين محاصرَين وراءهم البحر وأمامهم الجيش، ولم يخطر ببالهم أي خشية لافتلات الخارجين، بينما كان موسى يستفيد من دوامات الرمال والغبار والضباب، ليبدأ التحرك مستغلًا أول ساعات الجزر، فيتبعه خائضًا برجاله في البحيرة الجافة، وعندما لاحظ المصريون متأخرين، مؤخرة الإسرائيليين وهي تنسحب نحو الشرق، كان المد التالي قد بدأ في العودة، ووسط حماس المطاردة ومسابقة للمد الآتي، دخل المصريون في المد بسرعة، يريدون تجاوز ارتفاعه بالوصول إلى الشاطئ وراء الإسرائيليين، مما قلل من إمكانية بلوغ الشاطئ في الوقت المناسب، وأدى لتراجع الجيش وغرق بعضه وانفلات الخارجين، ويطابق دي بوا إيميه نظريته المتماسكة بقول التوراة: «فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم» (خروج، ١٤: ٢٢)، «ويراها مجازًا تمت صياغته في روايةٍ إعجازية، تعبر عن حالةٍ جغرافيةٍ طبيعية، لا علاقة لها بالمعجزات، فقد عبروا عند مخاضة جانبها بحيرة وجانبها الآخر خليج السويس/العربي وقت الجزر، فكانوا يبدون محصورين في مساحةٍ ضيقة، كما لو كانوا بين بحرَين أو داخل بحرٍ مفلوق».
وكان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلًا في عمود نار ليضيء لهم، لكي يمشوا نهارًا وليلًا. (خروج ١٣: ٢١)
وأُسقط في يد عالمنا الجليل، لكنه كان يصرُّ على العقلنة، فقام يقدم للآية التوراتية تفسيرًا جديدًا بعد سقوط نظرية البركان، فقال: إن هذا الإله السحابي الناري، ليس سوى الشعلة النارية الضخمة، التي يحملها البدو إبان سيرهم جماعاتٍ في الصحاري ليلًا ونهارًا، حتى لا يفقد المرتحلون بعضهم، بدليل أن التوراة تؤكد أن دليلهم في الصحراء، كان شخصًا يعرف دروب المنطقة ومن أهلها، هو حوباب المدياني شقيق صفورة زوجة موسى، نظير جُعْل من المال جعله له موسى، والآية تقول: «وقال موسى لحوباب بن رعوئيل المدياني حمو موسى: إننا راحلون إلى المكان الذي قال الرب أعطيكم إياه، اذهب معنا فنحن نحسن إليك … بنفس الإحسان الذي يحسن الرب إلينا نحسن نحن إليك» (عدد ١٠ : ٢٩–٣٢)، ولو كان الرب هو الذي يسير أمامهم، فما حاجته لاستئجار نسيبه ليدلَّه على الطريق في دروب البوادي السينائية؟
ويعرج دي بوا إيميه على قصة المن والسلوى، ويفسر قوله: إن السلوى هو طائر السمان، الذي يتساقط بكثرةٍ في سيناء، نتيجة الإنهاك في رحلته الفصلية، وقد حدثنا ديودور الصقلي عن مصريين منفيين في عهد أكتيزانيس في صحراء برزخ السويس، كانوا يغتذون من الطيور المهاجرة، التي يسهل اصطيادها بعد سقوطها مجهَدة، أما المن فما برح يجمع من شحرٍ وفير في شكل كرات من الصمغ العسلي في المناطق المحيطة بجبل سيناء، أما النار التي كانت تزحف على خيام الإسرائيليين في ذلك الجبل وتحرقهم، فكان ممكنًا تفسيرها بالبركان الذي نفاه السيدان كوتل وروزيير، لكن نتيجة بحثهما دفعت دي بوا إيميه لتفسيرٍ آخر، قال فيه إن تلك النار كانت نارًا انفجارية مصنَّعة، هي التي عرفها اليونان بعد ذلك باسم النار اليونانية، وبالتأكيد عرفها المصريون قبلهم، كأسلوبٍ حربيٍّ متطور، ولا شك أن موسى تعلمها من وجوده بالقصر، حين كان يتعلم كل حكمة المصريين.
رأي هنري بروجش
يشرح بروجش أن مدينة رعمسيس كانت في المصرية القديمة «بي رعمسيس»، و«فيثوم» هي «بي آتوم» أي بيت آتوم ومدينته، ثم يعمد إلى إيراد موجزٍ سريع لقصيدة ألقاها شاعرٌ مصريٌّ قديم، أمام جلالة الفرعون في حفل افتتاح مدينة رعمسيس. ومن جانبنا قمنا بمقارنة ذلك الموجز مع الأصول النصِّية، فاكتشفنا أن بروجش في محاضرته هذه قدم مزيجًا مختصرًا من بردياتٍ ثلاث، ورأينا من جانبنا العودة للنصوص الثلاثة الأصلية، بادئين القصيدة الأولى المعروفة بالقصيدة الصغرى في مديح رعمسيس:
والبردية الثانية ليست قصيدة، إنما تقرير في شكل رسالةٍ مرسلة من كاتب من كتَّاب البلاط، هو «بينبس» إلى رئيس قلم كتاب القصر «آمنموبي» يقول له فيها:
ثم نأتي إلى النص الثالث، وهو «قصيدة في مدح مدينة رعمسيس، تعرف بالقصيدة الكبرى»، لنستمع إلى الشاعر يقول:
ورئيس «بلاد الخيتا» (تركيا الآن [المؤلف]) الأعظم يكتب إلى ملك بلاد كدى:
هذه نصوص البرديات الثلاث التي دمجها بروجش موجزة، ليأخذ عناصرها الأساسية لبحثه، وأهمها أن مدينة رعمسيس «كانت ميناءً عظيمًا، تقع على بحر»، وكانت مقرَّ علية القوم، حيث قصور وضيافة الملوك الأجانب، ومليئة بالخيرات، «وتقع بين مصر وفلسطين، وإنها آخر كل أرض مصرية، وبداية كل أرض فلسطينية، وإنها الطريق الوحيد بينهما»، وهو ما يعني وقوعها على أطراف الدتا الشرقية، «وأنها تتصل بقناة تمدها بالمياه العذبة»، وفي محيطها مجموعة بحيرات ومستنقعات.
ويرى بروجش أن بناء مدينة بهذه المواصفات، لا شك قد احتاج إلى عمالةٍ ضخمة، وهو ما يراه بروجش شرحًا يوافق ما ذكرته التوراة، عن استعباد بني إسرائيل في بناء مدينتَي فيثوم ورعمسيس.
ثم ينتقل بروجش إلى نتائج حفائر المصرولوجيست مارييت في خرائب مدينة صان الحجر، في أقصى شمال شرقي الدلتا قرب بحيرة المنزلة، حيث عثر مارييت على تمثالَين للملك رعمسيس الثاني عليهما نقوش، تؤكد أنه قد بنى مدينة باسمه، ويرى أن تلك المدينة هي صان الحجر، وأنها هي المعروفة لدى اليونانيين باسم «تانيس».
وقد حظيت صان الحجر بعدة حفائر على يد المصرولوجيست الشهير بيير مونتييه، ومن بعده على يد البعثة الفرنسية برئاسة جان بويوت من معهد آثار جامعة باريس، وقد تمكَّن مونتييه من اكتشاف مجموعة مقابرَ مشيدة في صان الحجر من أحجار الجرانيت، كما تم التعرف على مقبرتَين ملكيتَين للملك بشنس الأول والملك شيشنق من الأسرة الليبية التي حكمت مصر، وهي الأسرة الثانية والعشرون.
ويرى بروجش أن «صان الحجر هي ذات مدينة تانيس، هي ذات مدينة صوعن» المذكورة بالتوراة، ثم يلجأ إلى نقش على جدار هيكل الكرنك عن مدينة رعمسيس، يرجع إلى زمن ستي الأول أبو رعمسيس الثاني، حيث يمكن رؤية «جانبي المدينة مرفوعين على شاطئ ومتصلين بقنطرة»، مع رسومٍ توضيحية زيادة في الشرح، حيث نرى على جهة من القنطرة تمساحًا ونباتاتٍ نيليةً نهرية، ليعرفنا الفنان أن المدينة تقع على أحد فروع النيل، وعلى الجهة الأخرى رسم الفنان أسماكًا بحرية، ليعلمنا أنها تقع من الجانب الآخر على بحرٍ مالح، ويرى بروجش أن تلك المدينة، قد اكتسبت أهميتها الخاصة، لوقوعها على طرف بداية الطريق الكبير الموصل لفلسطين، ويقول إنه بجوار هذا الطريق كانت توجد بئر، ذكرها الرومان باسم مجدولان، ويراه بروجش هو مجدل المذكور بالتوراة عند موقع الخروج من البحر «أمام فم الحيروث بين «مجدل» والبحر أمام بعل صفون» (خروج، ١٤).
ويعتقد بروجش جازما أن مدينة رعمسيس هي صوعن، هي صان الحجر هي تانيس الشهيرة في التاريخ، وأنها كانت عاصمة مديرية من مديريات شرقي الدلتا أو عاصمتها جميعًا، «وأن اليونان أطلقوا عليها اسم «تراموس تانيسيس»». ويرى أن جغرافيتها تجعل جزءًا كبيرًا منها يقع على الشاطئ الشرقي لفرعٍ نيلي، وغربها يقع على بحيرة المنزلة، بينما تتماسُّ حدودها الجنوبية مع إقليمٍ آخر من مديريات شرقي الدلتا، هو المعروف باسم «توكو» أو «توكوت»، وهو الذي أشارت إليه التوراة باسم «سكوت»، وأن المؤرخين اليونان أسموا هذا الإقليم باسم «سيتوزيدس»، ويؤكد أن الآثار المكتشفة أسمت هذا الإقليم باسم بي توم، وهو المذكور في التوراة باسم فيثوم.
وقد أطعت الأمر الذي أصدره سيدي فأعطيت قمحًا للعسكر «والإسرائيليين»، الذين ينقلون الأحجار إلى حصن رمسيس العظيم، تحت ملاحظة إفمان رئيس الضباط، وأعطيتهم القمح كل شهر طبقًا للأمر الصادر إليَّ.
كن مسرور الخاطر يا سيدي، فإن «قبائل بدو آدوم» قد مروا بحريةٍ تامة من «حصن الفرعون مرنبتاح»، الذي في «إقليم سوكوت» بالقرب من برك «مدينة بيثوم»، التابعة للملك مرنبتاح الموجودة في أرض سوكوت، وقد صرف لهم ولدوابهم الزاد، الذي هو أرزاق فرعون شمس العالم.
ويعود بروجش إلى اسم المقاطعة التي سكنها الإسرائيليون بمصر، وجاءت باسم جاسان في التوراة، محاولًا العثور عليه على خريطة الدلتا الحالية، فيقول إنه الإقليم الذي أطلق عليه اليونان اسم الإقليم العربي، ويسمى اليوم الصهرجية (بحثنا من جانبنا فلم نجد أية صهرجية، لكن ربما كان بروجش يقصد صهرجت الكبرى وصهرجت الصغرى إلى الجنوب من الموضع الذي يتحدث عنه وليس عند صان، وصهرجت الكبرى قرية تابعة لمركز كفر شكر بالقليوبية، وصهرجت الصغرى قرية تابعة لمركز ميت غمر بالدقهلية، والاثنتان تقعان على الرياح التوفيقي، ولا تزيد المسافة بينهما على ١٥كم [المؤلف])، وكانت عاصمة هذا الإقليم تلك المدينة التي أسماها اليونان «فاقوسة»، «وهي الآن صفط الحنة بجوار الزقازيق وبسطة»، وقد تم العثور على آثار في صفط الحنة، تشير إلى أنها كانت في إقليم مصري قديم اسمه «جوسيم»، ويرى أن المؤرخين قد خلطوا بين اسم «جوسيم» أو فاقوسة الموجودة في صهرجت، وبين اسم مدينة رعمسيس التي هي عنده صان الحجر، أما جوسيم فقد صارت فاقوسة بعد ذلك، بإضافة حرف «فا» أو «با» أو «بي» المصرية المعتادة لأسماء البلدان مثل «بي رعمسيس» ومثل «بي» التي أضيفت إلى توم فأصبحت «فيثوم»، وعليه أصبحت جوسيم «فاجوسيم» التي أصبحت «فاقوسه» التي هي جاسان التوراتية.
ويرى بروجش أن القوم الذين ذكرتهم المدونات المصرية باسم الخالو وكانوا يستقرون هناك، هم بعض الساميين الفينيقيين الذين سكنوا جاسان كجاليةٍ أجنبية، وأنهم وراء إطلاق التسميات السامية على مواضع تلك المناطق المصرية؛ لأن مجدل كلمة عبرية تعني حصنًا أو قلعة، وسكوت كلمة عبرية تعني المخيم أو العشش أو المظلات، وصان هي التي كتبتها التوراة صوعن.
ويسير بروجش مع الخارجين من مدينة رعمسيس، فيتبع الطريق الفرعوني الكبير (طريق حورس الحربي)، المحاذي للبحر الأبيض المتوسط، وأنه قد خرج معهم لفيفٌ كثير حسب التوراة، وهم عنده الفينيقيون/الخالوا، وأنهم استراحوا في أول محطة هي سكوت في إقليم بي توم، ومن هناك اتجهوا شرقًا نحو الصحراء أسمتها التوراة إيتام، لكنهم عادوا لتجنب الطريق الكبير المعروف، ليس لأنهم كانوا يخشون حربًا كما قالت التوراة؛ إنما لأن موسى كان يعلم بمعاهدة السلام التاريخية، التي ربطت مصر بمملكة الحيثيين زمن رمسيس الثاني، والتي تنص على إعادة الرعايا الهاربين من إحدى المملكتين إلى الأخرى.
ومن جانبنا رأينا إيراد ذلك البند من بنود الاتفاقية
المعروف أن حربًا طاحنة قد جرت بين مصر وتركيا، قادها رمسيس الثاني ضد حاتوشيليش الثالث ملك خيتا (بلاد الحيثيين)، لوقف اعتدائه على أملاك مصر في آسيا، وكان ذلك في السنة الحادية والعشرين من حكم رمسيس الثاني، وانتهت المعارك بمعاهدة سلام هي الأولى من نوعها، دُوِّنت بنودها على لوحٍ فضي، وضع عند قدمَي الإله رع، وتم العثور عليه بمصر، بينما حمل الوفد الحيثي النسخة المدوَّنة بالحيثية على لوحٍ فضي، وتم وضعها عند قدمَي إله العاصفة الحيثي تيشوب، وقد عُثر عليها بدورها.
هذه كلمات رعمسيس الثاني ملك أرض مصر العظيم قاهر جميع البلدان، ابن منمورا (اسم العرش لأبيه ستي الأول)، الملك العظيم، ملك مصر القاهر. قالها إلى حاتوشيليش الملك العظيم، ملك بلاد الحيثيين، الشجاع ابن مورشيليش الملك العظيم ملك بلاد حاتي، بالنسبة لنا فإننا إخوة والسلام بيننا قد عقد، وسيكون خيرًا من الأخوة.
وعليه فإن بروجش يرى أن موسى كان على علمٍ ببنود تبادل المارقين الواردة بتلك المعاهدة الدولية؛ لذلك فضل سلوك السبل غير المطروقة في سيناء، فعاد برجاله إلى مجدولان، ويرى أنها كانت تقع بين «الفرما/بيلوز» وبين سيله قرب القنطرة، «أما بحر سوف الذي عبروه فلا بد أن يكون سهل الطينة» جنوبي خليج الطينة وشرقي بحيرة المنزلة، فتبعهم المصريون لكن ليغرقهم مد البحيرة العالي.
وقد حدث في مدة إقامتي بالإسكندرية مد وجزر عظيمان، في مدينة بي لوز قرب جبل كاسيوس، فأغرق الماء تلك الجبال، حتى صار الجبل كأنه جزيرة، وكانت السفن تجري على الطريق المجاور (يقصد الطريق الموازي للبحر المتوسط على اليابسة [المؤلف]) الذي كان يمتد إلى فلسطين حيث غطَّاه الماء.
(٢) رأي بيير مونتييه
ومن بين النظريات الهامة التي اهتمت بحدث الخروج الإسرائيلي، وعلاقة التوراة بمصر القديمة، نظرية المصرولوجيست بيير مونتييه، التي طرحها في كتابه مصر والتوراة، وتعد بدورها من النظريات المشهورة، والمعتبرة بين الباحثين، ولم تزل صامدة حتى الآن، ونوجز لها هنا ملخصًا سريعًا، يبدأ مع دخول يعقوب وأبنائه إلى مصر زمن ولاية يوسف الخزانة المصرية، حسب رواية التوراة، وأنهم سكنوا أرض جاسان التي يجب أن تتموضع شرقي الدلتا، لاعتباراتٍ ساقها مونتييه، أبرزها «أن يوسف حسب التوراة، قد عاش في عاصمة البلاد قرب الفرعون»، وأن يوسف عندما علم بوصول أبيه حدود مصر، أسرع فركب عربته العسكرية، وتوجه للقاء أهله، ثم عاد ليخبر الفرعون، وأن ذلك «حسب التوراة السبعونية قد استغرق يومًا واحدًا»، ثم نعلم أن يوسف استسمح الفرعون لإسكان أهله بأرض جاسان، ومن المحال أن تكون جاسان في طيبة جنوبًا أو حتى في منف؛ لأن الراكب منها إلى حدود الدلتا الشرقية يحتاج أسبوعًا أو يزيد مع عدم التوقف للوصول، وليس يومًا واحدًا.
هذا بالإضافة إلى إفادات ماسبيرو عن المواصلات في مصر القديمة، التي كانت تعتمد على الإبحار في النيل وقنواته العديدة؛ لذلك كان لا بد أن تستخدم العجلات في مناطقٍ، تسمح بها على الأطراف بعيدًا عن الأنهار والقنوات، وهو شرقي الدلتا حيث الصحاري الممتدة المتصلة بسيناء، وعليه لا بد أن تقع جاسان هناك.
ويرى مونتييه أن جاسان كانت المقاطعة الهكسوسية، التي كانت تقع فيها عاصمتهم المصرية حواريس، ولا يشك مونتييه أنها هي مدينة صان الحجر الحالية، ويؤكد لمونتييه أن يعقوب وأولاده دخلوا مصر زمن الهكسوس، أنها كانت الفترة الزمنية الوحيدة التي تسمح بذلك، حيث كانت عاصمة الهكسوس تقع شمال البلاد المصرية قرب الحدود السينائية؛ ولأن عاصمة مصر قد عادت بعد التحرير إلى مقرها القديم العريق في طيبة (الأقصر) بأقصى الجنوب.
ثم يسير مونتييه مع الخارجين ليدقق موقع العبور البحري الإعجازي ويعقلنه، فيراهم ينطلقون من حواريس أو رعمسيس اللتين هما عنده مدينةٌ واحدة هي حاليًّا صان الحجر، ليسيروا بمحاذاة شاطئ بحيرة المنزلة، يريدون الطريق الحربي الكبير المعروف بطريق حورس الممتد على ساحل المتوسط نحو فلسطين، لكنهم يخشون الاصطدام بالتحصينات المصرية القوية على الحدود، وهو الذي أطلقت عليه التوراة خطأً «خشية حرب مع الفلسطينيين»؛ لأن فلسطين كانت بعيدة تمامًا، وهو ما اضطر موسى ورجاله إلى تغيير خط سيرهم من الاتجاه شرقًا إلى الاتجاه جنوبًا.
وللعثور على النقطة المفصلية وهي عبور البحر، يقف مع المحطة التي ذكرتها التوراة باسم بعل صافون، حيث عبروا عند إحداثيات حددتها التوراة بأنها «أمام فم الحيروث بين مجدل والبحر أمام بعل صفون»، فيرى أن «بعل صفون» كانت فيما يبدو معبدًا للإله الكنعاني، الذي يحمل ذلك الاسم، وتعني «رب الشمال»، ويعلمنا أن اليونان كانوا يدمجون «بين بعل صفون وبين الرب اليوناني زيوس كاسيوس»، وقد لاحظ أن اليونان قد أطلقوا اسم زيوس كاسيوس في زمنهم بأرض مصر على منطقة الكسارون الحالية بجوار الفرما/بي لوز على شاطئ البحر المتوسط بسيناء، وبذلك تكون هذه النقطة هي بعل صافون المذكورة بالتوراة، وأن المعبد لا شك كان يقوم هناك، على الشريط الساحلي الممتد أقصى شمال سيناء محاذيًا للمتوسط.
ويصرُّ مونتييه على متابعة التوراة، ويصدق قصة غرق أكبر جيش في العالم آنذاك إبان مطاردة الخارجين، ويجد لها تبريراتٍ جغرافية حيث تقع بحيرة «البردويل/سيربونيس» على الشاطئ السينائي، على البحر المتوسط في بقعةٍ منخفضة عن سطح البحر عدة أمتار، وعادة ما تجفُّ مياهها ويمكن عبورها دون خطر، لكن ذلك لم يمنع أحيانًا من مفاجآتٍ مهلكة للعابرين نتيجة للهبوب المفاجئ وغير المتوقَّع، لعواصفَ شماليةٍ قادمة من البحر المتوسط، وعادةً ما ذكر المؤرخون أحداثًا مأساوية حدثت للعابرين على الشريط الضيق بين البحر والبحيرة، أو خلال البحيرة إبان جفافها.
ويذهب مونتييه مع النظرية التي تقول بالاستعباد زمن رمسيس الثاني والخروج زمن مرنبتاح، وإزاء إشكالية وجوب وجود بركان في طريق الخروج، يفسر أحداث سيناء، مع عدم وجود أثر لأية براكين بسيناء، حسب تقرير علماء الحملة الفرنسية كوتل وروزيير، ومع إصرار مونتييه على تفسير الأحداث التي روتها التوراة بضرورة وجود بركان، فقد ذهب بالخارجين بعد خروجهم من مضيق الشريط الساحلي شمال البردويل، نحو العقبة داخل الأراضي الشمالية للسعودية الآن، ليتمكن من العثور على بركان حيث كانت المنطقة هناك بركانية بالفعل حتى زمنٍ قريب.
(٣) رأي علي بك شافعي
وتُعدُّ هذه النظرية من النظريات المحترمة الجديرة بالاهتمام وبالاعتبار، في محاولة رسم سيناريو لخط سير الخروج من رعمسيس إلى سيناء، بعبور البحر الإعجازي، مع عقلنة ذلك العبور بعيدًا عن أسطورة العصا الثعبانية، ومبدئيًّا يأخذ شافعي بدوره بنظرية الخروج زمن مرنبتاح، ثم يسلم بكشوف محمود حمزة في حفائر مدينة قنتير الواقعة شمالي مدينة فاقوس، ويعتبر قنتير هي رعمسيس بشكلٍ قاطع.
تقول الراهبة إيثيريا إن بلدة «رعمسيس، تقع على مبعدة أربعة أميال من مدينةٍ كانت تعرف في زمنها باسم أرابيا»، ويرجع شافعي إلى المصور الجغرافي الذي وضعه الأمير عمر طوسون، نقلًا عن وصف جورج القبرصي الذي عاش في القرن السابع الميلادي، فيكتشف أن «رعمسيس» كما جاءت في قائمة المقاطعات المحفوظة بأكسفورد «هي فاقوسة، لكنه لا يرى فاقوسة هي صفط الحنة»، كما هو متفَق عليه لدى المؤرخين الكلاسيك، «بل هي مدينة فاقوس الآن جنوبي قنتير بحوالي عشرة كيلومترات»، وهي إلى الشمال الغربي من سفط الحنة/فاقوسة، وعلى نفس البعد من فاقوس توجد آثار تل الضبعة ومعبد أمنمحات الأول على يمين ويسار ترعة الديدمون. ويرى علي بك الشافعي أن تلك الخرائب هي امتداد للخرائب الشاسعة، التي حدثتنا عنها الراهبة إيثيريا في قصة حجها.
تقول إيثيريا إنها عبرت «من بلدة أرابيا إلى مدينة رعمسيس لمسافة أربعة أميال» خلال حقول حتى وصلت رعمسيس، وكانت بدورها حقول دون أية مبانٍ، لكن المنطقة كانت مفروشة بأحجارٍ وآثار مبانٍ متهدمة، فقط شاهدت أثرًا كان باقيًا حتى زمانها لتمثالَين ضخمَين، ربما كان لأحد الفراعين، لكن الناس كانوا يزعمون زمن إيثريا من سكان المنطقة، أنهما للأخوين موسى وهارون؛ مما يعبر عن ذكرياتٍ قديمة لعلاقة موسى وهارون بهذا المكان، تواترت حتى وصلتهم، وتؤكد صلة الإسرائيليين بهذه المنطقة من مصر، وعليه فلا بد — عند شافعي — أن تكون رعمسيس هي قنتير، التي كشف آثارها محمود حمزة.
ومع رحلة الخروج يسير شافعي باحثًا عن موضعٍ، يمكن أن يكون هو استراحة المحطة الأولى للخارجين المذكور في التوراة باسم «سكوت»، فيبحث في المناطق المجاورة لقنتير، ويرى أن الموضع المناسب لمدينة سكوت هو الصالحية الحالية، التي تبعد حوالي عشرين كيلومترًا إلى الشرق من قنتير باتجاه سيناء، وهي مسافةٌ مناسبة للرحلة تستوجب الراحة بعدها، لكن معنى ذلك أن يعبر الخارجون عددًا من قنوات النيل بين قنتير والصالحية، وهو ما لم تذكره التوراة، ولتبرير ذلك يقول إن وقت خروجهم كان النيل في أدنى منسوب له، حيث تتحول كثير من القنوات إلى حياضٍ جافة، ومن ثم لم يكن هناك داعٍ لكي تذكر التوراة عبور مناطقَ جافة. ومن جانبٍ آخر عمد شافعي إلى الصالحية بحسبانها سكوت المذكورة بالتوراة، اعتمادًا على ورقة أنستاسي، التي تعود إلى الأسرة التاسعة عشرة، وتصف سكوت بأنها متاخمة للحدود، ويسكنها أجانب، وبها قلعة باسم «ختم» سكوت، يحتمل أنها مجدل التوراة، بينما كان الرعامسة يسكنون على بعد خمسة وعشرين كيلومترًا شمال غربي سكوت/الصالحية بمدينة قنتير (في مدينة رعمسيس).
وبعدُ، فقد أرسلت من بلاط القصر الملكي وراء هذين العبدَين، في اليوم التاسع عشر من الشهر الثالث من فصل الصيف وقت المساء، ولما وصلت حصن سكوت في اليوم العشرين من الشهر الثالث، علمت أن أخبار الجنوب تقول: فرَّا ذاهبَين … اليوم … من الشهر الثالث من فصل الصيف، ولما وصلت القلعة أُخبرت أن السائس قد حضر من الصحراء، وأعلن أنهما تخطيا الحدود شمالي حصن مجدول سيتي.
ولما لم يكن هناك قصور ملكية — برأي شافعي — في هذه المنطقة سوى في قنتير، فإن «سكوت يجب ألا تبعد سوى مسيرة يومٍ واحد، حسب الوثيقة المذكورة (من اليوم التاسع عشر إلى اليوم العشرين من الشهر الثالث) عن قنتير باتجاه سيناء».
أما الطريق الذي سلكوه على وجه التدقيق، فهو الممتد وراء مدينة تحنفيس القديمة، المعروفة الآن باسم دفنة (تل دفنة) ثم الفرما (بي لوز) إلى الشمال الشرقي منها، وكان هناك فرعٌ نيلي يأخذ ماءه من عند دفنة ليصل إلى تل أبو سيفا، ويفترض شافعي أن هذا التل هو محل القلعة التي حدثتنا عنها النصوص المصرية كثيرًا، وحددت مكانها أقصى الحدود الشرقية للدلتا، وأسمتها سيلة أو ثارو أو زالوا أو شور. وفي هذه الحال يجب أن تقع مجدل شرقي سيلة على أول الطريق نحو فلسطين، وكان فرع النيل الذي ينتهي إلى سيلة/أبو سيفا هو ما ذكرته النصوص المصرية باسم ماء حور أو بالمصرية القديمة سي حور، أما الفرع الأصلي الذي يتفرع منه سي حور، فكان يسمى ماء رع أو سي رع.
ولتفسير العبور من عند «فم الحيروث» يقول علي شافعي: إن حور كان الإله المحلي لمدينة سيلة/ثارو/أبو سيفا الواقعة بين بحيرة البلاح وبحيرة المنزلة، وكان الملح يستخرج من جنوب شرقي بحيرة المنزلة، حيث كان يصبُّ الفرع النيلي دون منفذ على البحر، فازدادت ملوحة الماء في هذه المنطقة، وهذا هو الملح الذي يتحدث عنه الكاتب بينبس في تقريره لسيده آمنموبي؛ وهو الموضع الذي رسمه علي شافعي على خريطته مع التعقيب: «يمكن ملؤه بالماء إذا احتاج الأمر.» وهو المكان أو المصب لماء حور، وتترجمه اليونانية «فم حور»، وهو بالضبط يساوي فونيطيقيًّا فم الحيروث المذكور بالتوراة، كموضع لعبور البحر الإعجازي.
والبحر الذي عبروه ذكرته التوراة باسم بحر سوف، «وكلمة سوف كلمة عبرية تعني البوص»، وهو نبات ينمو في الماء الضحل ومصبَّات الترع والمصارف العذبة والمختلطة بالماء المالح. وقد ذكر الكاتب بينبس أن رعمسيس كانت تأخذ حاجتها من البوص من ماء حور، الذي لا بد أن يكون هو بحيرة ماء حور، وأن تلك المنطقة بالتحديد هي بحر سوف.
ويبحث عن موقع مجدل، ويستند إلى وثيقة مذكرات أنتونين التي وضعته في مكان ما بين سيرابيوم عند رأس البحيرات المرة وبين الفرما/بيلوز إلى الشمال منها، وإلى المصرولوجيست بتري الذي احتسب تل الحير الحالي جنوبي الفرما هو مجدل التوراة، كما أن العرب قد بنوا في تل الحير قلعة، لا شك أنها كانت تجديدًا لمجدل المذكورة بالتوراة.
ويبقى موضع بعل صافون المقابل لموقع العبور من فم الحيروث على شاطئ بحر سوف، فيستعين علي شافعي بما كتبه الأثري نويل جيرون عن ورقتَين اكتشفتا في سقارة عام ١٩٤٠م، واحدةٌ ديموطيقية والأخرى فينيقية، وأكدت إشارات الورقة الديموطيقية أنها معاصرة للفينيقية، وأنهما كتبتا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، ومضمون الورقة الديموطيقية تضرعات من شخص للإله «بعل صافون وكل آلهة دافني» أي تل دفنة، مما يعني أن بعل صافون كان الإله الرئيسي في تل دفنه، وقد عقب جيرون بالقول: إذا قبلنا اعتبار مجدل هي تل الحير، فإن بعل صافون يجب أن يكون هو إله هذه المنطقة الرئيسي.