الأخطاء الكبرى في النظريات المطروحة
- أولًا: في عام ١٩٨٩م تم اكتشاف مجموعة مقابر تضم أربع عشرة مومياءَ مصرية، كان من بينها لحسن الحظ مومياء الملك مرنبتاح بن رمسيس الثاني، وكان العثور عليها شاهدًا ودليلًا على أن الرجل لم يختفِ في لجج البحر المفلوق غرقًا، وزيادةً في الاحتياط تم افتراض أنه غرق بالفعل، لكن البحر قذف بجثته إلى الشاطئ، أو أن أتباعه قد حملوه ميتًا إلى الشاطئ نظرًا لقدسيته، حيث حنطوه بعد ذلك ودفنوه؛ ولهذا الاحتمال تحديدًا تمت إحالة المومياء إلى الأطباء المتخصصين، وخضعت لبحوثٍ طبيةٍ دقيقة، إلا أن كل البحوث أسفرت عن نتيجةٍ واحدة، وهي «أن الفرعون مرنبتاح قد مات ميتةً طبيعية، بعد أن عُمِّر طويلًا، ولم يُعثَر إطلاقًا على أثرٍ لمياه البحر أو أملاحه أو أيٍّ من خواصه بالمومياء» كما لم يُعثَر على أي إشارة بالمومياء يمكن تأويلها لصالح فكرة الغرق بأي ماءٍ عذب أو مالح.
-
ثانيًا: بالنسبة لنظرية دي بوا إيميه ومطابقته لبحر سوف التوراتي بخليج
السويس، وأن العبور تم من عند العجرود قرب السويس الآن، يعتورها
بعض الخلل الواضح؛ لأن كلمة سوف تعني القصب، وهو ما يشير إلى ماءٍ
تنمو فيه نباتات القصب (البوص وليس قصب السكر)، وهو أمرٌ لا يتحقق
إلا إذا كان هذا الماء مالحًا، ويستقبل ماءً عذبًا من مصدرٍ نهريٍّ
دائم أو متقطع بما فيه من طمي، أي أن يكون ماء مالحًا يصب فيه مصرف
يحمل مياهًا عذبة، وحسب نظرية دي بوا إيميه فإن حوض القلزم الممتد
من السويس إلى بحيرة التمساح، لم تظهر فيه أية آثار نيلية، مما لا
يسمح بتسمية منطقة العبور عند العجرود والسويس ببحر سوف، «فهو
إطلاقًا في هذه الحال لا يعرف القصب».
وعلى المستوى الجيولوجي فقد مد دي إيميه خليج السويس/العربي، ليتصل بالبحيرات المرة وبحيرة التمساح، ليضع عند رأسه هيروبوليس التي رآها رعمسيس علمًا على مدينة المسخوطة، لكن جيولوجيا الأرض المصرية، رغم أنها تعترف بأن ذلك كان واقعًا حقيقيًّا، فإنها تردف أن الانفصال بين الخليج والبحيرات قد تم في أقرب التقديرات فيما قبل بدايات عصر البلايستوسين الأول، قبل زمن الخروج بأزمان، وقبل أن تعرف الأرض دولًا وحضارات وممالك.
ثم إنه إذا كانت هيروبوليس هي تل المسخوطة/أبوكيشيد الخشبي قرب الإسماعيلية الآن، مع شبه إجماعٍ الآن على أن تلك المسخوطة هي سيخوت التوراتية، التي تعني المخيم أو العشش أو الحظائر بالعبرية، والمدوَّنة بالنسخة العربية سكوت، فسيكون هناك تضاربٌ واضح يتم التعامي عنه بين هذا المعنى وبين النص التوراتي:«فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى سكوت» نحو ستمائة ألف ماش من الرجال عدا الأولاد. (خروج، ١٢: ٣٧)
وهو ما يعني أن رعمسيس مدينة، وأن سكوت مدينةٌ أخرى، وسكوت تبدو طوال الوقت محطةٌ أولى على طريق الخروج؛ مما يعني أنها لا بد تقع في طريق الخارج من الدلتا إلى الصحراء السينائية، أي يجب أن تقع إلى الشرق أو إلى الشمال الشرقي من رعمسيس وبيتوم معًا، ناهيك عن كون الاسم: تل المسخوطة اسمًا حديثًا لا يشير إلى سكوت القديمة، وقد أطلقه الأهالي المسلمون على تل المسخوطة؛ لما بها من تماثيلَ يعتقد العامة أنها كانت لأشخاصٍ حقيقيين سخطهم الله أحجارًا، ويسقط بهذا التخريج القائل إن محطة الخارجين الأولى سكوت هي المسخوطة؛ لأن التطابق اللفظي وحده لا يكفي، بل ويتعارض مع حقائق الجغرافيا.
هذا إضافة إلى إشكاليةٍ أخرى تواجه نظرية دي بوا إيميه بشدة، فلو افترضنا أن هناك هبوطًا قد حدث بمرور الزمن في مستوى المياه منذ زمن الخروج، مع ارتفاعٍ في اليابس الموجود الآن بين بحيرة التمساح وبين البحيرات المرة وخليج السويس، وهو هبوطٌ شديد بدليل تلك المساحة الكبرى، التي تركها الخليج انسحابه جنوبًا، فلا بد أن يكون هناك هبوطٌ آخر قد حدث على التوازي في مناطقَ بحريةٍ مجاورة، حسب نظرية الأواني المستطرقة، لكن ما نعلمه يقينًا أن العكس هو ما قد حدث، والدليل يستمد من سواحل البحر الأبيض المتوسط القريبة، حيث ارتفع الماء وغطى مساحاتٍ كانت يابسة، بل وعامرة بالمباني وبالبشر، وهو ما نقرؤه في جغرافية جمال حمدان، حيث كان يشرح جغرافية الساحل الشمالي لمصر، بعيدًا عن مشاغل موضوعنا، فيقول:
«تعرض النطاق الساحلي الشمالي من الدلتا خلال العصور التاريخية إلى حركة هبوط وانخفاض بالنسبة لسطح البحر المتوسط، أدَّت إلى غرق وضياع مناطقَ كثيرة منه، والحركة لا شك فيها علميًّا، والأدلة المادية والوثائقية والشهادات والشواهد وفيرة، مثلما هي يقينية ودامغة، لكن أسبابها وتفسيرها هي موضع الخلاف؛ فهل البحر هو الذي ارتفع؟ أم اليابس هو الذي انخفض؟ «المهم في الأمر أن البحر نفسه لم ينخفض إطلاقًا»، إنما احتمال ارتفاعه هو الوارد، والثبات في مستواه هو المقبول، حيث يُجمع الأكثرية على «هبوط الساحل الشمالي؛ مما أدى إلى غرقه تحت البحر، وتحت البحر ترقد الآن المقابر الرومانية الشهيرة بكوم الشقافة Catacombs، وكذلك المقابر البطلمية الغارقة بالشاطبي، وأيضًا أرصفة ميناء الإسكندرية القديم، وما تناثر بينها تحت الماء من تماثيلَ مهشمة، والطبقة الرومانية عمومًا تقع تحت سطح المدينة الحالي بنحو سبعة أمتار، هذا إضافة إلى غرق جزيرة أنتيرودس Antirhodes التي كانت تتوسط الميناء الشرقي القديم، إضافةً إلى ثلاث مدنٍ كلاسيكيةٍ غارقة تحت الخليج هي: هيرا كليوم ومنوتيس Menuthis وكانوب، وفي قاع بحيرة البرلس بقايا وآثارٌ متناثرة، تمثل أرضًا هابطة تشير لغزو البحر للبحيرة. وبحيرة المنزلة تعتبر أكبر متحف مائي لبقايا وأطلال القرى والمدن القديمة الغارقة» تحت البحر، والتي طغى عليها البحر وأغرقها بحسابات المؤرخ المقريزي سنة ٥٣٥م، وعلى أساس رواية المخزومي عن نشأة بحيرات الدلتا في ٩٦١ ميلادية، بواسطة طغيان مياه البحر، وينتهي بوتزر إلى أن هذه العملية كانت جزءًا من ارتفاع مستوى سطح البحر منذ القرن الثاني الميلادي.»١ومثل هذه الشواهد تدحض للأسف الشديد إحدى النظريات العبقرية بشأن الخروج، ألا وهي نظرية دي بوا إيميه، كما أنها من جانبٍ آخر تدحض النظريات التي وضعت مدينة رعمسيس كميناءٍ عظيم تصله سفن العالم القديم عند موضع صان الحجر اليوم؛ لأن صان الآن تقع على مسافةٍ من بحيرة المنزلة، ومعنى أن المنزلة ازداد اتساعها ازديادًا عظيمًا خلال القرون الماضية، هو أن صان الحجر كانت على مسافةٍ أكثر بعدًا من بحيرة المنزلة، بحيث لا يمكن احتسابها ميناء على الإطلاق، ناهيك عن أمرٍ آخر يجب أن نعلمه، يستبعد أي إمكانية لوضع ميناء دولي على بحيرة المنزلة، ونستقيه مرةً أخرى من جغرافية جمال حمدان، فهو يحدثنا عن بحيرات مصر شمالي الدلتا وشرقها، فيقول: «إن الضحالة البالغة قاسمٌ مشتركٌ أعظم، فعمقها جميعًا يتراوح حول المتر أو أقل، وبها مساحاتٌ شاسعة يزيد عمقها عن عدة سنتيمترات، إلى درجة أن الرياح القوية كثيرًا ما تدفع مياهها وترفعها رفعًا، بل وأحيانًا ترفع مستوى المصارف التي تفرغ فيها، وأن الرياح القوية هذه إذا استمرت تجفف مئات الأفدنة فيها أحيانًا لبضعة أيام، وتهلك أثناءها بالطبع ملايين الأسماك.»٢ -
ثالثًا: لاحظنا عند بروجش أنه قد عمد لدعم نظريته إلى تلفيقاتٍ، لا تليق
بعالمٍ جليل مثله، فإذا لم نعتبر إيجازه للنصوص المصرية الثلاثة
بشأن رمسيس في نصٍّ واحدٍ موجز تلفيقًا، فإن التلفيق الأكيد كان في
النص الذي ساقه في شكل رسالةٍ محررة، من الكاتب كويسرا إلى رئيسه
بيكو بتاح حيث أوردها كالآتي: «وقد أطعت الأمر الذي أصدره سيدي
فأعطيت قمحًا للعسكر «والإسرائيليين» الذين ينقلون الأحجار … إلخ.»
وقد تم هنا إبدال كلمة خطيرة عن النص الأصلي، حيث أبدل كلمة
«والعابيرو» بكلمة «والإسرائيليين»، محتسبًا ببساطة أن هؤلاء هم
أولئك (وهو الأمر الذي سنفصل الحديث بشأنه في موضعه من بحثنا هذا)،
كما أن النص الذي أورده عن رسالة بردية المتحف البريطاني:
كن مسرور الخاطر يا سيدي، فإن قبائل بدو آدوم قد مروا بحريةٍ تامة من حصن الفرعون مرنبتاح.
تم فيه إبدال الكلمة الأصلية «شاسو آدوم» ﺑ «بدو آدوم»، فالنص الأصلي حسب جاردنر هو:انتهينا من السماح لقبائل الشاسو الآدومية بتخطي قلعة مرنبتاح، التي في زيكو حتى بحيرات بيتوم مرنبتاح التي في زيكو، ليظلوا هم وقطعانهم أحياء بفضل إحسان فرعون.٣(عقب هنا جاردنر بالقول إن بي توم هنا ربما كانت فيثوم التوراة، لكنه فضل وضعها في وادي طميلات.)
ومما يدحض نظرية بروجش أيضًا أنه اعتمد نصوصًا بالتوراة، وأغفل أخرى عامدًا؛ لأنها ضد نظريته، فحدد بحر سوف التوراتي بموضع خليج الطينة الآن بين الفرما وبين بحيرة المنزلة على شاطئ المتوسط، لكن ذلك يتضارب تضاربًا صارخًا مع بقية قصة التوراة؛ لأن التوراة تستمر فتقول إنه بعد عبور البحر من عند فم الحيروث، «خرجوا من بحر سوف» إلى بادية/برية باسم «شور»، ومن شور ساروا لمدة ثلاثة أيام حتى وصلوا إلى موضع باسم مارة (الخروج، ١٥: ٢٢-٢٣) ثم ارتحلوا من محطة مارة إلى موضع باسم إيليم (خروج، ١٥: ٢٧)، ومن إيليم ارتحلوا «لينزلوا مرةً أخرى على بحر سوف» (عدد، ٣٣: ١٠)، وهنا تظهر المفارقة الكبرى، فلو كان المقصود ببحر سوف خليج الطينة عند المنزلة، فمعنى ذلك أن الخارجين من مصر، قد داروا بقسمٍ كبير في عمق سيناء عبر خمسة مواضع، استغرقت أكثر من ثلاثة أشهر، ثم قفزوا فجأة من إيليم دون المرور بأية مواقع، ليعودوا فجأة إلى خليج الطينة عند بحيرة المنزلة مرةً أخرى، باحتسابه بحر سوف، هذا إضافةً إلى موضع تكرر التوراة ذكره، يقع عند المواقع الأخيرة في رحلة الخروج ميناء باسم «عصيون جابر»، وذلك بعد رحيل استغرق من الزمن سنتين عبر سيناء، وتصف هذا الموضع بأنه ميناء يقع بجوار أيلة (إيلات الآن على العقبة)، ثم تصفه في مواضعَ أخرى بأنه يقع على بحر سوف، انظر مثلًا المراحل الأخيرة في رحلة الخروج تحكي:ثم ارتحلوا من عبرونة ونزلوا في عصيون جابر، ثم ارتحلوا من عصيون جابر ونزلوا في برية صين وهي قادش. (عدد، ٣٣: ٣٥-٣٦)
فعبرنا عن إخوتنا بني عيسو الساكنين في «سعير» على طريق «العربة» على «أيلة» وعلى «عصيون جابر»، ثم تحولنا ومررنا في طريق برية موآب. (تثنية، ٢: ٨)
وعمل الملك سليمان سفنًا في «عصيون جابر» التي بجانب أيلة على شاطئ بحر سوف في أرض آدوم. (ملوك أول، ٩: ٢٦)
وهكذا تكشف لنا رواية التوراة في مجملها دون انتقاءات حسب رغبة الباحث، أن الخارجين كانوا طوال الرحلة لمدة سنتين بالقرب دومًا من ساحل بحر سوف؛ مما ينفي بالقطع أن يكون بحر سوف هو خليج الطينة أو بحيرة المنزلة؛ لذلك نجد تقليدًا إنجيليًّا قديمًا لا نعرف صاحبه أو كيف وصل إلينا يقول: إن بحر سوف هو البحر الأحمر بذراعيه خليج السويس وخليج العقبة، فكان البحر الأحمر بحسبانه بحر سوف موروثًا يتواتر في فلسطين زمن المسيح، وكان المحرر التوراتي لديه وثائقُ جغرافية، تؤكد أنهم داروا بحذاء سواحل البحر الأحمر السينائية من ضلعه الأيسر (خليج السويس أو الخليج العربي)، مع الاتجاه جنوبًا نحوب رأس المثلث السينائي، ثم صعودًا إلى الشمال مع ضلعه الأيمن (خليج العقبة)، حتى عصيون جابر بجوار إيلات. «إن ذلك المأثور التوراتي يتفق تمامًا وخط السير الوارد بأسفار الخروج والعدد بالتوراة، ويدحض تمامًا أية نظرية تبتعد ببحر سوف عن البحر الأحمر بذارعيه: السويس والعقبة».
وقد لاحظ «غطاس الخشبة» تلك المشكلة، لكنه تابع الرأي القائل بأن مدينة الاضطهاد رعمسيس، كانت هي صان الحجر مرة، ثم ناقض ذلك وقال إنها كانت الفرما الحالية، لكن ما يشغلنا في أمره، أنه اتفق مع بروجش وغيره، ممن قالوا إن بحر سوف ليس البحر الأحمر، إنما هو بحيرة المنزلة، وما لاحظه الخشبة هو أن خط سير الخروج كما هو بالتوراة، كان يعود بين كل عدة مواقع بالرحلة إلى شاطئ بحر سوف مرةً أخرى، ومن هنا قام الباحث بوضع عدد من الخرائط، تبين أن الخروج تم على مراحل، كان يقوم فيها كل مرة بالقفز بالخارجين فجأة، من أقصى جنوب سيناء إلى بحيرة المنزلة مرةً أخرى، بحسبانها بحر سوف، كلما مر الخارجون على هذا البحر، دون المرور بأية مواقع، كما لو كانوا قد طاروا ليعودوا إلى المنزلة، في كل مرة يعودون فيها إلى موضعٍ على شاطئ بحر سوف، ودون أية مبرراتٍ عقلية أو موضوعيةٍ واضحة لهذا الطيران غير المقبول أبدًا، ناهيك عن كونه كان يعود بالخارجين في كل دورة إلى قبضة الجيش المصري مرة إثر أخرى دون مبررات.
ومن الجدير بالذكر أنه رغم أن الباحث الخشبة، قد اعتمد نظرية بروجش في كون بحر سوف هو بحيرة المنزلة، فقد استبعد رأيه في تزمين الخروج، ورفض القول بالخروج زمن مرنبتاح بن رعمسيس الثاني، وأخذ بدلًا منه برأيٍ آخر هو رأي (جارستانج)، رغم أنه لم يشر إلى هذا العالم كمصدرٍ لرأيه، ورأي جارستانج هو أن الخروج قد حدث زمن الفرعونة حتشبسوت، والرد السهل والبسيط على ذلك، خاصة أن الخشبة يقر فكرة مطاردة الفرعونة للخارجين وغرقها في خليج الطينة عند المنزلة، هو أن خروج الإسرائيليين سواء من صان الحجر أو من الفرما، كان بأقصى الشمال الشرقي في زمن حتشبسوت، بينما كان مقر حكمها وإقامتها في طيبة بأقصى الجنوب على مبعدة حوالي ١٠٠٠كم، وهو ما يعني أن الفرعونة قد تحركت فورًا للحاق بالخارجين، لتلحق بهم بعد خروجهم من رعمسيس إلى خليج الطينة كالبرق، بينما كانت تحتاج للوصول من العاصمة طيبة حتى خليج الطينة إلى أسبوع على الأقل، بينما التوراة تؤكد لنا أنهم بعد الخروج كانوا داخل سيناء عند إيليم بعد ثلاثة أيام من خروجهم، حيث لحقت بهم جيوش الفرعونة عند فم الحيروث. الأمر هنا شديد الاضطراب ومفكك إلى حدٍّ بعيد، ولا يصمد للنقد وإعمال المنطق، لكنا لا ننكر على الرجل جهده لهذا كان محل اهتمامنا.
أما بيير مونتييه فقد أخطأ مرتين: الأولى باحتساب صان الحجر هي رعمسيس التوراتية، والثانية عندما أخذ من التوراة المقدمات حول مواضع سكنى الإسرائيليين بمصر ومواضع الخروج، ثم قرر بعد ذلك مخالفة التوراة تمامًا في بقية تفاصيل مواضع خط سير الخروج، فأسقطها جميعًا ليصل من المنفذ الشرقي لبحيرة البردويل، إلى أقرب موضعٍ بركاني شرقي خليج العقبة.
هذا ناهيك عن أن كل من ذهب ببحر سوف شمالًا إلى البحيرات المتصلة بالبحر الأبيض المتوسط، سواء بحيرة المنزلة كما عند بروجش، أو بحيرة البردويل كما عند مونتييه، قد أغفلوا أمرًا هامًّا، هو أن «المحرر التوراتي كان يعلم جيدًا، أن هناك فرقًا بين بحر سوف وبين البحر المتوسط وبحيراته»؛ لأنه كان دومًا يتحدث عن بحر سوف البعيد عن أرض فلسطين، وعن بحرٍ آخر يتكرر ذكره ملاصقًا لفلسطين، ويقع غربها تمامًا، يطلق عليه في أكثر من موضعٍ البحر الكبير، وهو البحر المتوسط الآن.
وقد تم تحديد حدود الأرض الموعودة بفلسطين، في عدة مواضع بالكتاب المقدس، كان حدها الغربي دومًا هو البحر الكبير، ولم يخلط المحررون ولا مرةً واحدة، بين البحر الكبير (المتوسط) وبين بحر سوف.
-
رابعًا: إن الاعتماد على الحفائر المصرية وحدها في البحث عن مدينة رعمسيس
غالبًا ما أدى إلى نتائجَ مضللة، فكلما عثر أحدهم في الدلتا على
آثار باسم رمسيس الثاني وقف ينادي: هنا رعمسيس مدينة الاضطهاد، وهو
الأمر الذي من أجله حدث أول إجماع حول صان الحجر بحسبانها رعمسيس،
حيث عثر هناك على نقشٍ يقول: «آمون صاحب بر رعمسيس مرى آمون ذو
الانتصارات العظيمة.» وقد احتسب ذلك دليلًا كافيًا على أن صان،
كانت هي رعمسيس التوراتية، وذهب هذا المذهب مع الإجماع، رجل في ثقل
جاردنر، الذي انتهى إلى أن صان هي التي ذكرتها النصوص باسم حواريس
كعاصمة للهكسوس، وأن رعمسيس الثاني جاء بعد زمن، فجددها وأطلق
عليها اسمه، ثم حملت بعد ذلك ولمدةٍ طويلة اسم تانيس، وأنها هي
التي أطلقت عليها التوراة اسم صوعن، ثم عرفت مؤخرًا باسم صان
الحجر، وقد وافقه على ذلك مصرولوجست آخر محترم هو يونكر، لكن ما لا
يفوتنا هو أن ذلك النص الذي عثر عليه في صان الحجر «آمون صاحب بر
رمسيس» و«مرى آمون ذو الانتصارات العظيمة»، قد أصبح الآن غير ذي
موضوع، بعد اكتشاف أنه نصٌّ متكرر على آثار رمسيس الثاني في أكثر
من موضع بمصر،٤ وما يجب الانتباه إليه هنا وجود خطأٍ آخر شديد الوضوح،
هو احتساب مدينة صان الحجر هي تانيس المذكورة في المصادر
التاريخية؛ لأن تانيس هذه بدورها اختلف بشأن موضعها أشد الاختلاف،
وليس من المقبول علميًّا إلقاء القول هكذا سهلًا: «تنيس هي صان
الحجر»، مع إغفال احتمالاتٍ أخرى لموقع تنيس، لعل أشهرها ما جمعه
محمد رمزي في معجمه الجغرافي للبلدان المصرية، عن تاريخ مدينة
تنيس، حتى أمكنه القول:
تنيس Tinnis من المدن المصرية القديمة التي اندثرت، تكلم عنها ياقوت في معجمه، فقال إن تنيس «جزيرة في بر مصر» قريبة من البر «ما بين الفرما ودمياط»، وبها تعمل الثياب الملونة والفرش الأبوقلمون، وبحيراتها التي هي عليها، مقدار إقلاع يوم في عرض نصف يوم، ويكون ماؤها أكثر أيام السنة ملحًا، لدخول ماء بحر الروم (البحر المتوسط) إليه عند هبوب ريح الشمال، فإذا انصرف نيل مصر في دخول الشتاء، وكثر هبوب الريح الغربية، خلت البحيرة وخلا سيف البحر المالح مقدار بريدين، حتى يجاوز مدينة الفرما، فحينئذٍ يخزنون الماء في حباحب، أي صهاريج لهم، ويعدونه لشربهم مدة السنة، ولما فتحت مصر سنة ٢٠ﻫ، كانت تنيس حينئذٍ أخصاصًا من قصب، وكانت تعرف بذات الأخصاص إلى صدر بني أمية، ثم إن أهلها بنوا بها قصورًا، ولم تزل كذلك إلى أيام بني العباس، فبنى سورها ودخلها أحمد بن طولون في سنة ٢٦٩ﻫ، فبنى بها عدة صهاريج وحوانيت في السوق كثيرة، تعرف بصهاريج الأمير، وأما صفتها «فهي جزيرة في وسط بحيرة مفردة عن البحر الأعظم»، يحيط البحر بهذه البحيرة من كل جهة، فإذا تكاملت زيادة النيل غلبت حلاوته على ماء البحر فصارت البحيرة حلوة، فحينئذٍ يدخر أهل تنيس المياه في صهاريجهم ومصانعهم لسنتهم، وكان لأهل الفرما قنوات تحت الأرض تسوق إليهم الماء إذا خلت البحيرة، وبعضهم سمى تنيس باسم تونة، في حين أن تونة من أعمالها، وبالبحث تبين لي أن الجزيرة التي كانت بها مدينة تنيس، لا تزال موجودة إلى اليوم ببحيرة المنزلة، ومعروفة بجزيرة تنيس، وبها بقايا من الطوب الأحمر المتخلف من مبانيها القديمة.٥ومن جانبنا قمنا بالبحث وسافرنا وراء تنيس، ووجدناها جزيرةً صغيرة عبارة عن تلال من مدينةٍ مدمَّرة، وتقع بين الفرما ودمياط شمالي البحيرة، ويعرفها الصيادون هناك باسم كوم تنيس، ثم وقعنا عند جمال حمدان على حديثٍ فاصل في مسألة تنيس يقول:إن تنيس وحدها بحجمها الضخم وثرائها المعماري، وصناعاتها العظيمة من أفخر المنسوجات والأسلحة والصلب، وتجارتها الواسعة مع العراق بالذات، هي التي كانت تقارن بدمياط وشطا، ولقد كانت تنيس تقوم على «جزيرةٍ كبيرة المساحة»، ويتم الوصول إليها عن طريق قناة تسمى بحر الروم تنتهي إلى الصالحية، وربما كانت جزءًا من الفرع التانيسي، ولكن حتى وقتٍ متأخر كالقرن العاشر الميلادي، ظلت تنيس عامرة بالآثار العظيمة من المساجد والكنائس والحمامات بالمئات والعشرات، وحتى بعد قرنٍ آخر في القرن ١١م، ذهل الرحالة ناصري خسرو لضخامتها ورخائها، حيث وجد بها كما ذكر ١٠٠٠٠ محل تجاري و١٠٠٠ سفينة في مينائها، بينما بلغ عدد سكانها الذكور وحدهم ٥٠٠٠٠ تقريبًا، وعلى الجملة كانت من أجمل مدائن مصر، والأكثر إثارة أن هذه الجزيرة لم تكن تزرع شيئًا، واعتمدت في كل غذائها وتموينها على التجارة، كانت تعيش على الصهاريج في مياه الشرب، فأثناء الفيضان كانت مياه النيل تكتسح المياه المالحة المحيطة بها، فتملأ الصهاريج الباطنية الشاسعة، حيث تخزن العام كله، ولقد ظلت جزيرة تنيس تقاوم غزو مياه البحر، لكنها عجزت عن أن تواجه منفردة غزاة البحر؛ إذ أصبحت معرضة لخطر غارات القراصنة والصليبيين من صقلية وفلسطين، فأمر صلاح الدين الأيوبي بإخلائها في نهاية القرن ١٢م، وفي أوائل القرن ١٣م هدم الكامل حصونها وسورها وسوَّاها بالأرض، وتركها مجرد كومة من الحطام، لتظل بعدها جزيرة مهجورة خربة، تعرف الآن بكوم تنيس أو تل تنيس.٦وهو ذات ما قاله «إبراهيم محمد كامل»: «تل تنيس يقع حاليًّا في بحيرة المنزلة، «التي لم تكن قائمة خلال العصر الفرعوني»؛ إذ تكونت البحيرة تدريجيًّا على أثر عواملَ طبيعية، سببت هبوط الأرض في تلك الجهة، وبقايا التل تشكل جزيرة وسط المياه ذات معالم أثرية واضحة للعين المجردة. والتل هو بقايا مدينة تنيس المشهورة، التي لم يحاول الأثريون إزاحة الستار عن ماضيها المجيد. ولا شك أن المدينة القديمة تنيس كانت قائمة في العصور الفرعونية، وأنها كانت تقع على مصب الفرع التنيسي.»٧
«وهذا بحد ذاته ردٌّ كافٍ على من يزعمون أن بحيرة المنزلة كانت هي بحر سوف التوراتي؛ لأن البحيرة لم تكن قد وجدت بعدُ حينذاك».
ثم اشتد نافيل في المخالفة، وذهب إلى أن رعمسيس التوراتية، هي التي كان يطلق عليها اليونان اسم فاقوسة، التي هي برأيه سفط الحنة الآن، والسبب أيضًا آثار لرمسيس، حيث تم العثور هناك على قطعتَين من الجرانيت الأسود باسم رمسيس الثاني، مع قطعتَين أخريَين من البازلت باسمه، ومن هنا «رأى نافيل أن سفط الحنة هي رعمسيس التوراة»، وأنها كانت عاصمة المقاطعة العشرين من مقاطعات الدلتا، التي عرفها اليونان باسم المقاطعة العربية «أرابيا».
وكلما زادت مساحة الكشوف الأركيولوجية، زادت الخلافات وازداد الالتباس، فقد عثر المنقب محمود حمزة على دورٍ سكنية في حفائرَ قام بها في قنتير شمالي الزقازيق، وتبعد حوالي ١٧كم إلى الجنوب من صان، وتقع فوق تلٍّ أثري تآكل بمرور الزمن، وأصبح في مستوى الأرض الزراعية، ووجد في حفائره آثارًا من الأسرة الثانية عشرة والأسرة التاسعة والعشرين، كما عثر على أطلالٍ لقصر يخص الملك ستي الأول، أما الأهم فكان عثوره على لوحةٍ دُوِّن عليها «الإله الطيب الأسد ضد السوريين الإله الطيب حبيب سوتخ»، وهي إشارةٌ واضحة للإله سيت، الذي كان يعبده الهكسوس في حواريس، وعبده رعمسيس الثاني في مدينته رعمسيس.
ونظرًا لأهمية هذا الكشف تحديدًا، نستمع إلى محمود حمزة نفسه، يعقب على حفرياته في قنتير فيقول:
ومن ثم اعتمد المهندس علي بك شافعي اكتشافات محمود حمزة، وسلم بأن قنتير هي رعمسيس، وأن فاقوس الحالية (وليس فاقوسة/سفط الحنة) هي فيثوم، ويرسم خريطة الخروج اعتمادًا على دليل سفر حج الراهبة إيثيريا، لكنه يتغافل تمامًا عن المسافة التي ذكرتها تلك الراهبة بين فيثوم ورعمسيس؛ «لأن المسافة بين فاقوس وقنتير تصل إلى حوالي ضعف المسافة، التي ذكرتها إيثيريا بين فيثوم ورعمسيس».
وحتى لا نغمط دي بوا إيميه حقه، فإن الكشوف الأركيولوجية الحديثة، يمكنها دعم وجهة نظره بعد رحيله بزمن، في أن موقع تل المسخوطة كان هو مدينة رعمسيس، فقد جاء من بعده فرديناند دليسبس، ليعثر أثناء حفر قناة السويس في موقع المسخوطة على عددٍ من التماثيل والنصب، وأشكال لأبي هول صغير تعود إلى عهد رمسيس الثاني، وهي محفوظة الآن في متحف الإسماعيلية، كذلك تم العثور على ثالوثٍ من الجرانيت الوردي لرعمسيس الثاني، جالسًا بين الإلهَين حورأختي وخبري، ولوحة أخرى من ذات المادة لرعمسيس الثاني، يقدم تمثال ماعت للإله حور أختي، ثم محراب من الجرانيت الأحمر لرعمسيس الثاني، وهو يحتفل بعيده الثلاثيني «حب سد»، وتمثالًا لابي الهول من الجرانيت الأسود، من الدولة الوسطى سبق واغتصبه لنفسه أحد ملوك الهكسوس، ثم جاء رعمسيس الثاني فاغتصبه لنفسه ثانيةً ودوَّن عليه اسمه، كما عثر على صقر يحمل طغراء الملك رعمسيس الثاني من الجرانيت الأسود.
والأهم أنه تم العثور على آثارٍ واضحة، لسورٍ ضخم من اللبن حول معبدٍ كبير، وقد جاء في رواية التوراة: «فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنفٍ، ومرروا حياتهم بعبوديةٍ قاسية في الطين واللبن» (خروج، ١: ١٣-١٤)، وحديث «الطوب اللبن» متكرر في سفر الخروج، كما في الإصحاح خمسة مثلًا، وهو ما يرجح بدوره أن تكون المسخوطة هي رعمسيس التوراتية.
وهكذا كانت شخصية رعمسيس الثاني النرجسية المتضخمة، وعشقه للمعمار وانتشار هذا المعمار في مناطقَ واسعة، مدعاة لتعدد الاحتمالات حول موضع مدينة رعمسيس التوراتية، كلما وجد المنقبون اسم رعمسيس في موضعٍ من المواضع؛ ومن ثم «نؤكد مرةً أخرى أن الآثار وحدها، ليست بالقطع كافية وحدها، للفصل في مسألة أين تقع مدينة رعمسيس التوراتية؟!» وهو ما فعلته النظريات السوالف جميعًا، وكان نقطة ضعفها الأساسية، حيث اعتمدت على الآثار والحفائر وحدها.
ومن أجل وضع تصورٍ واضح أقرب إلى القبول، حول تلك المواضع التوراتية، والاتفاق مع ما لدينا من مصادرَ ومادةٍ علميةٍ هائلة، رغم تنافرها وتضاربها، علينا أن نعيد ترتيب ما بيدنا الآن من أوراق.
-
أولًا: أقام الهكسوس في مصر عاصمة لهم هناك، على الحدود الشرقية للدلتا،
باسم يمكن نطقه متعددًا بين لسانٍ مصري وسامي ويوناني دون خلاف، هو
«حوت وعرت، حوارة، هوارة، حواريس، أواريس — أفاريس، حويرة، حويلة»،
وإن تلك المدينة كانت مقرًّا عسكريًّا ودينيًّا، وكان الإله
المعتبر فيها هو إله الشر المصري سيت، أو كما نطقه الهكسوس «سوتخ»
بتصريفه اسميًّا، وإنها بالتأكيد تقع إلى الشرق من الفرع البوباستي
للنيل، حسبما جاءنا في مقبرة الضابط المصري أحمس بن أبانا، الذي
حكى لنا قصة معارك التحرير، التي قادها الفرعون أحمس بن
سقننرع.
- شيد الفرعون رعمسيس الثاني مدينة باسمه، أو أعاد بناءها حيث كانت قائمة قبله، ويحتمل أن تكون هي ذات مدينة الهكسوس حوايس أو لا تكون، وإلى القرب منها حسب خط سير رحلة الراهبة إيثيريا بحوالي ٤ أميال، أي حوالي ستة كيلومترات ونصف، تقع مدينة أخرى باسم فيثوم أو بي توم أو باتوموس.
- إلى الشرق من هاتين المدينتين تقع محطةٌ أولى على طريق الخروج باسم سكوت، المظنون أنها الآن الخشبي أو أبوكيشيد المعروفة باسم تل المسخوطة، وأن المسخوطة كانت تلك التي جاءنا ذكرها عند اليونان باسم هيروبوليس، أو بترجمة البعض لها «مدينة الأبطال» إلى القرب من الخليج العربي/القلزم/السويس الآن.
-
ثانيًا: اختلفت آراء الباحثين في تحديد موقع مدينة رعمسيس وجارتها فيثوم
كالآتي:
- افترض دي بوا إيميه أن رمسيس أو ربما بيتوم، هي التي ذكرها اليونان باسم هيروبوليس، وأنها تل المسخوطة الآن، وأنها كانت ميناءً دوليًّا على قمة الخليج العربي، المعروف الآن بخليج السويس، وأن الخليج كان يمتد في ذلك الزمن ليملأ كل حوض القلزم، ويلتحم بالبحيرات المرة وببحيرة التمساح.
- افترض آخرون مثل بروجش وجاردنر أن مدينة رعمسيس هي ذات عين المدينة المذكورة بالوثائق التاريخية باسم تانيس، وأنها هي هي صان الحجر حاليًّا، وذهب معهما ذات المذهب بيير مونتييه، إلا أن يونكر رفض توحيد حواريس — الهكسوسية — بتانيس، بعد أن وجد كلًّا منهما مذكورًا بمفرده في قائمة آمنموبي.
- رأى بتري أن رعمسيس هي تل رطابة الحالية بوادي طميلات، دون تقديم بحثٍ واضح وحقيقي.
- رأى محمود حمزة أن رعمسيس هي قنتير الحالية، مع رفضه أن تكون هي حواريس الهكسوسية، وقد تابعه على ذلك علي بك شافعي، الذي رسم وفقًا لاكتشاف حمزة خطًّا لسير الخروج الإسرائيلي من مصر.
- اعتمد نافيل على كشوفٍ أثرية بدوره، ليقول إن رعمسيس هي سفط الحنة الحالية، وكان اليونان يسمونها فقوسة، وكانت عاصمة المقاطعة التي عرفها اليونان بالمقاطعة العربية، لغلبة العنصر السامي بين سكانها، ورفض بدوره أن تكون هي حواريس الهكسوسية.
-
ثالثًا: إن لمدينة رعمسيس عدة مواصفات أمكن تحديدها من التوراة، من
اللوحة المنقوشة على جدار الكرنك، ومن رسالة أحد الكتبة إلى سيده
كاتب البلاط، ومن قصيدتَين في مديح مدينة رعمسيس، تعرفان باسم
القصيدة الصغرى والقصيدة الكبرى، ومن هذه المصادر يمكن تجميع أهم
الصفات والشروط للمدينة، التي نبحث عنها في موقع يجمع «مواصفات من
الصعب أن تجتمع لمدينةٍ على خريطة مصر»، وهذه المواصفات
كالتالي:
- نحن بحاجة إلى «موضع تتوافر فيه آثارٌ مصريةٌ قديمة، تشير إلى المدينة باسم رعمسيس بشكلٍ واضح»، وهذا شرطٌ أول، وقد أخذ به الباحثون المصرولوجيون كشرطٍ وحيد وليس أولًا؛ مما أدى إلى تضاربٍ شديد في تحديد موضعها مع تعدد المواضع، التي عثر فيها على اسم رعمسيس في آثاره الهائلة عددًا وتفرقًا.
- «يجب أن يقع هذا الموضع في أقصى شرقي الدلتا على الحدود مع البراري المتصلة بسيناء»، بحيث يكون حسب قصائد مديح رعمسيس، «آخر كل أرضٍ مصرية وبداية كل أرضٍ أجنبية» أو فلسطينية.
- إن تلك المدينة «عند طرف الطريق الوحيد المؤدي إلى خارج مصر شرقًا»، رغم تعدد الطرق إلى الشرق، وهو الأمر الذي يزيد في الالتباس؟!
- أن يسمح الموضع بقيام «ميناءٍ دولي» يستقبل سفنًا بحرية، تفد إليه بجزية بلدان العالم المعروف آنذاك، سواء تلك القادمة من آسيا، أو القادمة من أفريقيا، أي ميناء يقع على البحرين الأبيض والأحمر في ذات الوقت، وهو المستحيل عينه، فكانت تأتي إليه جزية بلاد كدى (تركيا)، وجزية السواحل الأفريقية مباشرة إلى مدينة الميناء رعمسيس!!
- أن يكون في الجوار موضع أو «قناة ماء بالتحديد، تحمل اسم شيحور» حسبما جاء في التوراة، أو باسم سيهور حسبما جاء بقصائد مديح رعمسيس المصرية.
- «أن تطل كميناء على الساحل الغربي لبحر يحمل اسم سوف»، وأن يتناسب هذا البحر في ظروفه مع اسم سوف أي «بحر البوص»، فيجب أن يكون ضحلًا، وأن يستقبل ماءً عذبًا من قناةٍ نيلية، وتلك الضحالة ستتضارب مع القول بميناء يستقبل سفنًا كبرى، وهي بذاتها مشكلةٌ مستعصية.
- «ربما كانت رعمسيس هي حواريس الهكسوسية»، وإذا لم تكن فيجب البحث عن موضعٍ مناسب لمدينة حواريس لقطع الشك باليقين.
- في جوار رعمسيس وعلى حوالي بُعد أربعة أميال، منها حسب الراهبة إيثيريا، يجب أن تقع «مدينةٌ أخرى باسم فيثوم» أو بيتوم، ويجب أن نعثر هناك على آثارٍ مصرية تؤكد ذلك، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
- أن تقع رعمسيس وفيثوم في محيط إقليمٍ واحد، يعرف حسب المؤرخين اليونان باسم «الإقليم العربي»، وفي التوراة باسم «جاسان».
- أن نجد ما يشير إلى أن إحدى المدينتَين رعمسيس أو فيثوم، كانت «تحمل اسم صوعن» الوارد بالتوراة.
- أن يقع «إلى الشرق» من موقعنا هذا موضع يحمل اسم «سكوت يبعد بمسافة سفر يومٍ واحد، بالعربة التي تجرها الجياد»، حسبما علمنا من التوراة السبعونية، عن سفر يوسف من القصر الملكي إلى الحدود لاستقبال أهله، كما كانت سكوت محطة الراحة الأولى في طريق الخارجين، كذلك من خبر الموظف المطالب بمطاردة عبدَين هاربَين من القصر الملكي، واستغرق بدوره سفر يومٍ واحد، وهذه وثيقةٌ مصرية توافق ما قالته التوراة السبعونية، أي يجب وقوع سكوت قرب طرف الطريق للخارج من رعمسيس نحو الحدود، وأنها أول ما يقابل الداخل من سيناء إلى مصر نحو رعمسيس، «مع وجوب وجود آثارٍ مصرية» تشهد بذلك.
- أن يقع موضعنا الذي نبحث عنه غربي بحر سوف، بينما «يقع شرق هذا البحر صحراء/برية باسم شور»، حيث إن الخارجين قد خرجوا من البحر المفلوق (سوف) إلى برية باسم شور، حسب الأسطورة التوراتية.
- إلى الشرق من موضعنا هذا بمسافة سفر يومٍ كامل، تقع مجموعة إحداثيات جغرافية على الساحل الغربي لبحر سوف، هي «مجدل وبعل صافون وفم الحيروث»، حيث تمَّ فلق البحر في الأسطورة التوراتية، بينما يقع إلى شرق هذا البحر الموضع شور.
… «وهكذا فنحن نبحث تقريبًا عن المستحيل».