الفصل الثاني
قناة سيزوستريس وهندسة المكان
هناك معلوماتٌ مؤكدة أن الفراعنة قد وصلوا النيل بخليج السويس على البحر الأحمر،
وينسب المؤرخون اليونان تلك القناة للفرعون الشهير سيزوستريس، المظنون أنه ربما كان
رمسيس الثاني، لكن يبدو لي وحسب فروضي، ومما جمعتُ من الأخبار غير الكاملة التي
وصلتنا، أن شأن القناة أقدم من ذلك بكثير، وأنها ربما تعود إلى زمن ما يسمى بالفترة
الوسطى الأولى، الواقعة بين نهاية الأسرة السادسة في الدولة القديمة وبين قيام
الأسرة الثانية عشرة في الدولة الوسطى، حيث استغرقت تلك الفترة خمس أسرات كان من
بينها أسرةٌ قوية، اتخذت من مدينة إهناسيا بمصر الوسطى عاصمة لها، وقد تلقَّبَ
ملوكها باللقب «خيتي» أو «أخيتوي»، لنستمع هنا إلى «جون ويلسن» يحدثنا عن أسرة
الملوك الإهناسيين، نسبة إلى إهناسيا المعروفة يونانيًّا باسم «هيرا كوبوليس»
فيقول: «لقد كان العدو الذي يخشاه الإهناسيون هم الآسيويين حَمَلة القوس — رغم رنة
الاحتقار في حديث الملك الإهناسي — ذلك لأن طبيعة بلادهم القاسية وما يلاقونه فيها
من متاعب، تدفعهم إلى السطو على الدلتا، ويصفهم خيتي بقوله: انظر إلى الآسيوي
اللعين، إن الأمور سيئة في البلاد التي يعيش فيها، فهم في حزنٍ من أجل المياه،
وبلادهم من الصعب الوصول إليها «بسبب كثرة الأشجار، والطرق هناك وعرة بسبب الجبال»،
ومن ثم فإن الآسيوي لا يقطن في مكانٍ واحد، وساقاه خلقتا للتجول.»
١
ثم ينبِّه ولده في مجموعة نصوص، عُرفت بالعنوان «نصائح خيتي إلى ولده مري كارع»،
أن يكون مستعدًّا لكل الاحتمالات، إزاء هؤلاء الآسيويين الذين يربضون على حدود
الدلتا الشرقية، ينتهزون أي فرصة ضعف تبدو هناك، ومن هنا يقول «أحمد فخري» إن خيتي
قام يُنبِّه ولده إلى أن يكون مستعدًّا للبدو دومًا، فمن خاف الحرب استعدَّ لها؛
ولذلك يوجه اهتمامه إلى «منطقة البحيرات المرة» لحماية مصر من خطر البدو، وينصحه
بتحصين جزء منها، ثم تعمير الجزء الآخر «وإمداده بالماء»،
٢ ويعود ليؤكد على ولده: «إذا قامت بلادك في الجنوب بثورة، فإن الأجانب
في الشمال سيحاربونك؛ فعليك أن تقيم مدنًا في الشمال.» بقصد إيجاد مجتمعٍ مصريٍّ
مدني على الحدود يصدُّ أي اعتداءات.
٣
ويقول «إبراهيم كامل» إن ملوك إهناسيا الملقبين باللقب أخيتوي أو خيتي «قد قاموا
بتحصين الحدود الشرقية، «وإغلاق الوديان الصغيرة، إما بغمرها بالمياه عن طريق تحويل
قنوات النيل إليها»، أو بتأسيس المدن المحصنة عليها.»
٤
وإذا كان ذلك صحيحًا، فإنه يفسر لنا الإشارات القديمة الغامضة، عن وجود قناة
النيل-البحر الأحمر زمن الدولة الوسطى بعد زمن إهناسيا وأخيتوي، وتلك ملاحظة
«إبراهيم كامل» إذ يقول: «إن البحوث الجيولوجية وما كتبه المؤرخون القدامى من
الإغريق والرومان، نقلًا عن المصريين أنفسهم، تدل كلها على أن تلك القناة كانت
موجودة خلال عصر الدولة الوسطى.»
٥ كذلك نجد «مانيتو» قد وضع في قائمته للملوك ملكًا باسم «سيزوستريس»
الذي سميت القناة نسبة إليه في الترتيب رقم ٣ لحكام الأسرة الثانية عشرة أول أسر
الدولة الوسطى،
٦ مما يدحض الاتفاق غير المفهوم حول كون سيزوستريس هو رعمسيس الثاني.
ويمد «إبراهيم كامل» الخيط على استقامته، «فيرى أن وجود القناة في هذا الزمن
القديم، يفسر لنا عودة رحلة حتشبسوت من بونت عبر النيل، من الشمال مباشرة بالسفن
التي أقلعت بها من القصير جنوب مصر على البحر الأحمر» ويقول: «يبدو واضحًا من واقع
دراستنا لمناظر ونصوص رحلة بونت، التي أرسلتها الملكة حتشبسوت إلى تلك البلاد، أن
السفن المصرية لدى عودتها من الرحلة، محملة بمحاصيل بلاد بونت، كانت تصل إلى قرب
مدينة منف، حيث بدء القناة، ثم تبحر في النيل مُصعِدة حتى مدينة طيبة، عاصمة البلاد
في ذلك الوقت.»
٧
ويؤكد هذا المعنى، أنه قد تم العثور في تل رطابة بوادي طميلات إلى الغرب من تل
المسخوطة، على «أثرٍ يرجع إلى الملك خيتي» من الأسرة الحادية عشرة من الفترة الوسطى
الأولى، وهنا يتساءل المؤرخون: «ولكننا لا ندري إن كان هذا الأثر مؤكدًا قد نقل إلى
البلد، أم أن «تاريخها (أي تاريخ تل رطابة) يرجع لعصرٍ سابق لعصر رعمسيس الثاني»،
وإن كان هذا غير مؤكد.»
٨
وفي أكثر من موضعٍ في كتاب الموتى، نستمع إلى إشاراتٍ حول ما يُسمى بالبحيرة
«المزدوجة» المقدسة في أكثر من موضع،
٩ وفي اللوحة الرابعة من الفصل السابع عشر، بذات الكتاب نشاهد «كهنةً
مصريين يقومون بواسطة الحيات بمعجزة فلق بحيرة ما».
ربما تلك البحيرة المزدوجة تحديدًا، والتي نعتقد من جانبنا أنها بحيرة التمساح
تحديدًا، وأن قناة سيزوستريس المشهورة كانت تصب هناك.
للتيقن من هذا الفرض، نبحث فنعثر على خبر من زمن آمنحتب الثالث، آخر يفيدنا علمًا
أن كهنة آمون عندما رفضوا أن تقوم زوجته الملكة تي بجولتها الطقوسية، كملكةٍ أولى
رئيسية بالبحيرة المقدسة؛ لأنها غير مصرية الأصل، قرر آمنحتب الثالث الذي تولَّه
بزوجته حبًّا، الاستمرار في سلسلة صداماته مع الكهنة، بإنشاء بحيرةٍ كبرى لهذا
الغرض وصلتنا أطوالها؛ فعرضها يصل إلى ١٢٠٠ قدم أي حوالي ثلاثة كيلومترات، ويصل
طولها إلى ٦٤٠٠ قدم أي حوالي ثمانية عشر كيلومترًا.
١٠
وبالبحث في مصر عن بحيرةٍ موجودة الآن تحمل هذه المواصفات، لم نعثر سوى على بحيرة
التمساح، وسنرى أن البحيرة بالفعل بحيرةٌ مزدوجة، يصل بين شقَّيها الشرقي والغربي
مضيقٌ ضحلٌ صغير، فلم تزل حدودها الحالية شاهدة على وضعها قبل حفر قنال السويس،
ويبدو أن القسم الغربي الأصغر كان البحيرة التي تم حفرها للملكة تي، حيث تأتي
أطوالها في النص الملكي بعرض ٧٠٠ ذراع أي حوالي نصف كيلومتر، وطولها ٣٧٠٠ ذراع أي
حوالي ثلاثة كيلومترات، عن طريق وصله بالقناة النيلية بعد أن طمت هذه القناة بعد
زمن خيتي، وكانت المنطقة بحكم طبيعتها الجيولوجية المرئية منخفضًا طبيعيًّا، لم
يحتج جهدًا عظيمًا لإزالة ما تراكم بينه وبين البحر من سدودٍ ملحية، لتترك مياه
النيل تنساب لتملأ منخفض التمساح، وأنه سرعان ما تسربت المياه عبر هذا المضيق إلى
المناطق الواطئة إلى الشرق منها، مع فيضاناتٍ متتالية لتشكل بحيرةً أخرى أطول منها
وأعرض، لتظهر لنا بحيرة التمساح بحيرةً مزدوجة قولًا وفعلًا.
ويبدو لنا أو ضع بحيرة تي في ذلك المكان، يتفق تمامًا مع منطق أن تي من تلك
المناطق البدوية الشرقية — كما سنُثبت ذلك في أبوابٍ لاحقة — فهي حسب بحثنا هذا
بشواهدَ وأدلةٍ غفيرة وكثيفة من أصلٍ مدياني سيناوي، ويدعم ذلك أن النص الخاص
بإنشاء البحيرة يقول: «إن جلالته قد أمر بعمل بحيرة الملكة تي «عند مسقط رأسها»
جاروخا
Djarkha»، و«إن جلالته أقام احتفال
«هدم السدود» في السادس عشر من الشهر المذكور، ثم أبحر في رعاية الله في مركبه
الرسمي آتون المتألق.»
١١ والقول بهدم السدود يعني أنه قد تم توسيع القناة القديمة والقناة
المؤدية لها، وعند الوصول إلى نقطة الالتقاء بينهما أقيم سد يمنع المياه عن السقوط
في حفائر البحيرة، انتظارًا لحضور جلالة الملك ليفتتحها بنفسه، وأنه قد تم هدم هذا
السد يوم افتتاح البحيرة بحضور الفرعون ومليكته العظمى، ونستمع من عبد المنعم أبو
بكر للحدث كما دوَّنه المصري القديم يقول:
العام الحادي عشر الشهر الثالث من الفصل الأول، اليوم الأول من حكم الملك
آمنحوتب له الحياة وزوجته الكبرى زوجته الكبرى تي لها الحياة.
إن جلالة الملك قد أمر بحفر بركة لزوجته الملكة الكبرى تي في مدينة زارو
خع، على أن يكون طولها ٣٧٠٠ ذراع وعرضها ٧٠٠ ذراع، وقد احتفل الملك بافتتاح
البركة في الشهر الثالث من الفصل الأول، وفي اليوم السادس عشر أبحر فوق
سطحها على الزورق الملكي بهاء آتون.
١٢
ولدى المؤرخين العرب تختلط الحقائق بالأخيلة، وتختلط الأماكن ببعضها على حد تعقيب
جمال حمدان، وهو يحدثنا عن ياقوت في حديثه عن مدينة تنيس، يقول: «إن التي أسستها
وسمَّتها باسمها هي دلوكة ملكة مصر الفرعونية القديمة، بعد حادثة خروج موسى وكانت
هي التي «قادت إليها مياه النيل»، بينما كانت منطقة المدينة أرضًا صلبة كلها.»
١٣
وقد علمنا أن تنيس كانت داخل بحيرة المنزلة، وبالتالي لم تكن أرضًا صلبة ومحيطها
كله زراعي لا صحراوي، إنما الأرض الصلبة كانت عند بحيرة التمساح، والمهم في الخبر
أنه يتحدث عن «قناة تخصُّ فرعونة»، وهو ما يلتقي مع خبر بحيرة تي، ناهيك عن كون اسم
دلوكة لا يلتقي مع اسم تنيس، بينما ياقوت يؤكد أنها دلوكة هي التي أسست المدينة
وأسمتها باسمها، لكن علينا أن نلحظ بشدة التطابق الفونيطيقي بين اسم دلوكة أو
تاروكا، وبين الاسم الذي أعطانا إياه نص آمنحتب الثالث لمكان البحيرة «زارو خا»، أو
«زارو كا»، أما المدهش حقًّا أن ياقوت يقول إن مدينة دلوكة أو زاروكة في زمنه كانت
تسمى ذات الأخصاص، أي العشش أو الحظائر أو المظلات، وهو اسم لا تجده إطلاقًا في
سيرة مدينة تنيس، إنما هو المعنى العبري لكلمة سكوت، المحطة الأخيرة للخارجين من
مصر قبل شق البحر؛ لأن سكوت تعني الحظائر أو العشش أو الأخصاص، ثم إننا نعلم أن
جميع الحملات العسكرية المصرية، تتحدث عن خروجها من آخر مدينةٍ مصرية نحو سيناء،
والشام تقع على الحدود المصرية الشرقية، وجاء اسم هذه المدينة على مختلف القراءات
«سيلة، زل، شور، ثارو، زارو، شارو»، والواضح أن الشق الأول من اسم مدينة بحيرة
التمساح «زارو-خع»، يلتقي تمامًا مع اسم «زارو» أو «سيلا» المشهور للقلعة الحدودية
الكبرى، منطلق الحملات المصرية على آسيا.
وقد ترك هذا الوادي (وادي طميلات) بمدنه ذكريات عظمى في مخزون الذكريات العربي عن
المدائن القديمة الكبرى بالمنطقة، مأثورًا يتحدث عن قصورٍ عظيمة عرفها العرب في
ترحالهم لقربهم منها، ومعلوم أن وادي طميلات عرف بهذا الاسم حديثًا، لكنه كان يعرف
قديمًا باسم وادي «الساتير أو السدير»، والساتير عرفه اليونان باعتباره وحشًا
إلهيًّا شريرًا، يلقي بنا اسمه مع الإله المصري للشر «سيت»، «فهو وادي سيت وهو ما
يمكنه تفسير الاسم سيترويت، كاسم لتلك المقاطعة المتصلة بالبوادي السينائية دون
بقية البلاد المصرية»، وقد ذكره باسم السدير معجم البلدان لياقوت الحموي ومعجم محمد رمزي.
١٤
وفي وادي السدير قامت مدائن فيثوم ورعمسيس، وفيها قصر الفرعون الذي عرفه العرب
باسم قصر السدير، وتغنَّوا به شعرًا كما جاء عند عدي بن زيد يقول:
وتبين رب «الخورنق» إذ
أشرف يومًا وللهدى تفكير
سره حاله وكثرة ما يملك
«والبحر معرضًا والسدير»
١٥
ولا يحتاج إلى تنبيه ربطه بين «بحر مستعرض»، الذي نراه قناة سيزوستريس (الذي يسير
عرضًا بين الغرب والشرق، بعكس كل مجاري الدلتا التي تسير من الجنوب إلى الشمال)،
وبين الوادي المسمى بالسدير، حيث يجري هذا البحر، أما الخورنق فلا شك لدينا أنه
الكرنك، وقد اشتهرت قصر الكرنك الشتوي وقصر السدير الصيفي لفراعنة مصر، حتى صارا
مضرب الأمثال كما في الأبيات القائلة:
ولقد دخلت على الفتا
ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر
فل في الدمقس وفي الحرير
وأحبها وتحبني
ويحب ناقتها بعيري
وإذا شربت فإنني
رب «الخورنق والسدير»
وإذا صحوت فإنني
رب الشويهة والبعير
نعم نحن نقول إن تلك القناة التي كانت بعكس كل فروع الدلتا، تسير عرضًا هي
المقصودة في شعر عدي بن زيد «بالبحر المعرض»، وسنعلم بعد قليلٍ لماذا اعتبرت
«بحرًا» رغم أنها قناة.
ومع الاتفاق بين المؤرخين الذين قلَّما يتفقون على كون المسخوطة هي التي عرفها
اليونان باسم هيروبوليس، فإننا — وفق كل ما بيدنا الآن — من معطياتٍ، يمكننا أن
نجازف ونقول إن مدينة الهكسوس الكبرى بمصر، والتي حملت اسم حواريس وأواريس وهوارة،
قد قامت في تل المسخوطة تحديدًا، وأنها هي التي حملت بعد ذلك اسم رعمسيس، فالكلمة
بوليس اليونانية تعني مدينة، أما الشق الأول من اسم المدينة وهو «هيرو» أو «إيرو»،
ولا تعني «هيرو» الأبطال، إنما هي مدينة الهكسوس «حيرو»، ومع تصريفها اسميًّا تصبح
حيرويس أو حواريس، وبكتابتها يونانيًّا تصبح حيروبوليس، أو هيروبوليس، ويحدثنا
«الدكتور محمد سيد غلاب» بما وصله من معلوماتٍ عن مدينة هيروبوليس فيقول: إن هذه
المدينة قد «نمت إلى مدينةٍ تجارية في عهد بطلميوس الثاني، كما كانت مدينةً دينية
إلى جانب مكانتها كمدينةٍ تجارية ومركزٍ دفاعي وميناءٍ نهري وبحري، «فقد كانت منطلق
السفن الملكية الحربية» والتجارية نحو البحر الأحمر، «وقد عرفت في عهد الرومان باسم
مدينة إيروبوليس
Eropolis أو إيرو، وكانت مركزًا
تجاريًّا وحربيًّا» شيد على قناة النيل/البحر الأحمر، وقد ظلت قناة النيل/البحر
الأحمر هذه مهملة بعد ذلك — الترتيب الزمني للأحداث مرتبك — حتى ولي الملك نيخاو من
ملوك الأسرة السادسة والعشرين ٦٠٩–٥٩٤ق.م. وحاول إعادة حفر القناة، ولكنه لم يتم
مشروعه هذا رغم اهتمامه بقوة مصر البحرية، ثم حفر دارا بن قمبيز الفارسي الذي فتح
مصر في القرن الخامس ق.م. ترعة على غرار ترعة الفراعنة القديمة، وكانت هذه القناة
تخترق وادي الطميلات (السدير)، وتتبع مجرى ترعة الإسماعيلية الحالية، وقد أمكن تتبع
مجرى هذه القناة، بما وضعه دارا من شواخصَ حجرية تخليدًا لذكرى هذا المشروع، الذي
كان يرمي من ورائه إلى تنشيط تجارة مصر مع بلاد فارس عبر البحر الأحمر.»
١٦
ويقول إبراهيم نصحي: «إذا كان من الجائز أن يكون قد سبق دارا إلى حفر قناة وادي
الطميلات، «أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة أو حتشبسوت»، فإن النصوص التي تتحدث
صراحةً عن هذه القناة مدونة على اللوحات الفارسية، ولوحة بطلميوس الثاني، فقد أقام
دارا على مجرى القناة ثلاث لوحات في تل المسخوطة وسيرابيوم وكبريته، وأقام «خلفه
الفارسي» أجزركسيس لوحةً رابعة عند الكوبري شمالي مدينة السويس بستة كيلومترات، وقد
لوحظ أن كل لوحة تبعد عن الأخرى بحوالي ٢٥ كيلومترًا، وأن المسافة بين تل المسخوطة
ومخرج القناة من النيل عند تل بسطة، تبلغ ضعف هذه المسافة؛ ولذلك إما أن تكون قد
أقيمت لوحةٌ خامسة (في المنتصف) بمنطقة التل الكبير على الحافة الجنوبية للهضبة
الصحراوية، لكن هذه اللوحة لم تكتشف بعدُ، وإما أن يكون نخاو هو الذي أعاد حفر
القناة من تل بسطة حتى تل المسخوطة، ويكون دارا وأجزركسيس قد أعاد حفر الباقي، من
تل المسخوطة حتى رأس خليج السويس.»
١٧
ويضيف «غلاب» القول: «ويتحدث مؤلف كتاب تاريخ الفرنجة
Histoire des frances ٥٧٦م، عن «طريقٍ مائي يصل بين ذراع البحر الأحمر
والمستنقعات والبحيرة المرة والتمساح، وقناة تصل هذا كله بالنيل»، فهل معنى هذا أن
القناة كانت موجودة حتى القرن السادس الميلادي؟ على كل حال فقد كانت مدينة «إيرو»
(يقصد هيروبوليس) موجودة في القرن الرابع، كا لو كانت كليزما (السويس الآن) قائمة
أيضًا حتى الفتح العربي لمصر، وكان البحر الأحمر معروفًا عند العرب باسم القلزم،
وهو تحريف لكليزما اليونانية، ويبدو أن قناة النيل/البحر الأحمر ضؤل شأنها بعد
القرن الثاني الميلادي، وكانت تتعرض لسفي الرمال، ولم يكن خليج وادي طميلات، يمتلئ
بالماء إلا أوقات الفيضان، ولكن بعض البرك والمستنقعات تخلفت عنها، فكانت تطهر من
الرمال حينًا وتترك حينًا آخر، وقد استطاع العرب بعد فتح مصر مباشرة، الاستدلال على
مكانها بسهولة؛ فأعيد حفرها باسم خليج أمير المؤمنين، وتم حفرها عام ٣٤ للهجرة، ولم
ينقطع سيل ماء النيل عند البحر الأحمر إلا سنة ١٥٠ﻫ/٧٦٧م، في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور.»
١٨
وهذا يعني «أن القناة قديمة العهد، بدأ ذكرها منذ عهد خيتي في زمن الفترة الأولى،
وظل حتى الزمن العربي في عصره العباسي، وأنها قد ربطت بحيرة التمساح بالبحيرات
المرة بالخليج العربي (خليج السويس/البحر الأحمر)، دون الاحتياج لعصورٍ جيولوجية
ودون مد خليج السويس خارج حدوده (كما افترض دي بوا إيميه) وهو ما ربط البحيرات
جميعًا بالخليج، لتشكل خطًّا واحدًا هو امتداد للبحر الأحمر، وأصبحت جديرة جميعًا
باسم «بحر سوف»، الذي تصب فيه مياه النيل قادمة عبر القناة».
ولقد ذهب «دي بوا إيميه» إلى حل لغز مدينة رعمسيس، عندما جعلها المدينة التي
عرفها اليونان باسم «هيروبوليس»، ووضعها على رأس الخليج العربي/السويس، الذي أسموه
حينًا الخليج العربي، وحينًا الخليج الهيروبوليتي؛ مما أدى إلى استنتاجه أن
«هيروبوليس» تقع عند قمته وأعطته اسمها؛ لذلك مد الخليج وعبر به الحوض جميعه، ليعبر
به البحيرات المرة ويصله ببحيرة التمساح، وهناك عند منطقة السبع أبيار (الإسماعيلية
الحالية) أو إلى الغرب منها، حيث تقع تل المسخوطة، وضع دي بوا إيميه مدينة رعمسيس،
وقد استند دي بوا إيميه في وصلة خليج السويس ببحيرة التمساح عبورًا على البحيرات
المرة إلى عدة شواهدَ هامة فعلًا، فكما أوردنا سلفًا أنه عُثر في الحوض الرملي ما
بين خليج السويس والبحيرات المُرة على طبقاتٍ من الملح البحري، تصل في كثافتها إلى
درجة أنها أخذت شكل قباب من الملح، وبالحفر في مواضعَ مختلفة من ذلك الحوض الطويل،
كان الماء يوجد دومًا على عمق ما بين أربعة وخمسة أمتار فقط، وله ذات مذاق مياه
البحر، وإنك في ارتحالك بطول ذلك الحوض المستطيل، ستصادفك مناطقُ كثيرةٌ موحلة مع
مستنقعاتٍ ملحيةٍ متناثرة، ناهيك عن كون الحوض نفسه ينخفض عن سطح البحر بحوالي خمسة
عشر مترًا. وقد عثر «دي بوا إيميه» إبان بحثه الميداني في هذا الحوض على قواقعَ
بحرية ومخلفات لنباتاتٍ بحرية، تنتشر على خطٍّ طولي يسير على مستوًى خطٍّ واحد من
خليج السويس/العربي إلى البحيرات المرة، ثم من البحيرات المرة إلى بحيرة التمساح،
حيث يتوقف هناك. وتأسيسًا على هذا أقدم «دي بوا إيميه» على فرضيته، فقام يوصل أو
يمد أو يدمج الخليج العربي/الهيربوليتي/السويس بالبحيرات حتى التمساح، حيث احتسبه
كان يصل إلى هناك زمن الخروج، لتقع تل المسخوطة هيروبوليس على قمة ضفته الغربية،
١٩ ومع هذا الفرض لا بد من افتراضٍ آخر، هو أن الخليج عند هذه القمة كان
فسيحًا متسعًا، كي يمكنه أن يغطي عرضًا ستة عشر كيلومترًا كاملة، هي المسافة بين
الشاطئ الغربي لبحيرة التمساح وبين تل المسخوطة، إلى الغرب منها «بستة عشر
كيلومترًا».
ولتأكيد وجهة نظره يذهب دي بوا إيميه في وصلة الخليج ببحيرة التمساح، إلى القصص
القديم المتواتر عن قناةٍ كانت تربط النيل بالخليج، وعرفناها باسم قناة سيزوستريس،
ويقول إن مدينة القلزم القديمة المظنون أنها السويس القديمة لو كانت كذلك فعلًا، أي
لو كانت تقع قديمًا محل السويس الحالية، فكان لا بد أن تمر القناة منطلقة من النيل،
لتعبر وادي طميلات الدير إلى بحيرة التمساح، لتخرج منها جنوبًا لتعبر البحيرات
المرة، حتى تصل رأس الخليج عند السويس الحالية، لتصب في الخليج، لكن ذلك ليس صحيحًا
بالمرة؛ لأن دي بوا إيميه لم يجد أي أثر لطمي النيل في حوض القلزم جميعه، أو حتى
أية بقعةٍ قريبة من بحيراته: التمساح والمرة الكبرى والمرة الصغرى. ولم يسفر البحث
عن وجود أي طمي، وكل ما وجده آثار للبحر وليس للنهر، ويستنتج دي بوا إيميه من ذلك
أن البحر كان يمتد بخليجه العريض حتى بحيرة التمساح، وأن القناة القادمة من النيل
من الغرب، كانت تصب في بحيرة التمساح، وعليه فقد كانت ميناء القلزم تقع على الشاطئ
الغربي لبحيرة التمساح، التي كانت بهذا الشكل هي قمة الخليج، ولم تكن القناة تصب
عند السويس الحالية، إنما في بحيرة التمساح، التي هي في رأيه مع البحيرات المرة
كانت جزءًا من خليج السويس، انفصل عنه بعد ذلك بعواملَ جيولوجية.
وقد استشهد «دي بوا إيميه» على مذهبه بوصف «لوبير
Le pepere» لمياه الفيضان، وهي تندفع نحو الشرق قادمةً من الدلتا،
خارجةً بشكلٍ طبيعي من النيل، لتجري بكمياتٍ كبرى واندفاع؛ مما يشير إلى انحدارٍ
سريع للأرض على خط المجرى، وقد أكد شيوخ البدو في تلك المنطقة (عند السبع أبيار)
للمسيو «ديفيليه»، أن الماء كان يستمر في تدفُّقه حتى يصل إلى موضعٍ يتجمع عنده،
أطلق عليه البدو اسمًا على مسمى، هو «رأس المية» قرب بحيرة التمساح، وهذا يعني أن
مياه النيل وقت الفيضان كانت تندفع بشكلٍ تلقائيٍّ طبيعي، في منحدر يخترق وادي
طميلات/السدير، لتصب في نقطة قرب بحيرة التمساح، وهو الأمر الذي يؤكد أخبار
القدماء، عن وجود قناة تربط خليج السويس بالنيل، وربما كانت المسافة من النيل حتى
هذه النقطة، التي تقف عندها مياه النيل، هي التي أشار إليها الدكتور غلاب من هنيهة،
أن من حفرها هو الفرعون نخاو أو على الأصح هو من أعاد حفره، ثم جاء «دارا» الفارسي
واستكمل حفر الجزء الباقي حتى السويس، وبخصوص تلك القناة يقول «هيرودت»: «وأنجب
بسماتيك ولدًا هو نيخوس (نخاو) الذي حكم مصر، وهو أول من شرع في حفر القناة التي
تؤدي إلى بحرٍ أروتري (بحر أروتري هو الإريتري أي الأحمر، وقوله إن أول من حفرها هو
نخاو، يعني أن هذا ما وصله وليس بالضرورة صادقًا [المؤلف])، والتي حفرها من بعده
دارا الفارسي، وطول القناة يساوي مدى إبحار أربعة أيام، وقد حفرت عريضة «حتى إن
سفينتَين من ذوات الثلاث صفوف من المجاديف، تعبرانها جنبًا إلى جنب (لاحظ هذه صفات
سفنٍ بحريةٍ ضخمة وليست نيلية [المؤلف])، ويؤتى إليها بالماء من النيل منصرفًا من
مكانٍ فوق مدينة بوابسطيس بوبسطة (ضمن مدينة الزقازيق حاليًّا [المؤلف]) بقليل،
بالقرب من المدينة العربية باتوموس»، وتنتهي إلى بحر أروتري، ثم تسير في منحدراتٍ
متجهة من الجبل نحو الجنوب، حتى تبلغ الخليج العربي. وقد هلك من المصريين أثناء
عملهم فيها في عهد نيخوس مائة وعشرون ألف عامل.»
٢٠
وهنا يقف دي بوا إيميه مستندًا إلى هيرودت، ليقول إن تلك القناة الكبرى كانت تخرج
من جنوب تل بسطة، وهذا يعني خروجها من الفرع المعروف بالفرع البوباستي، القادم من
الزقازيق لتصل مباشرة إلى الخليج العربي، الذي يمتد عنده حتى بحيرة التمساح؛ لذلك
رفض دي بوا إيميه الطول الذي أعطاه لنا هيرودت للقناة وهو تسعون ميلًا؛ لأنه يصل
بها للسويس الحالية، ويأخذ برأي بلليني
Pelline
الذي قال إن طولها كان ٦٢ ميلًا فقط؛ لأن ٦٢ ميلًا كانت أقرب للمسافة بين بسطة
وبحيرة التمساح.
٢١
المشكلة هنا كما سبق وأشرنا، أن مد الخليج حتى بحيرة التمساح، كما يريد «دي بوا
إيميه» إن كان حقيقةً، فقد كان أمرًا قديمًا قدم عصره الجيولوجي، ويؤكد لنا رفضنا
لاحتساب الخليج كان يمتد بحجمه الهائل هذا حتى التمساح، أن الدراسات الحديثة بعد دي
بوا إيميه بزمانٍ، أعادت دراسة حوض القلزم، فوجدت تحت آثار البحر بأعماقٍ أبعد،
طبقات طميٍ نيليٍّ وافرة، لا تشير إلى قناةٍ صناعية كانت تربط النيل بالخليج، إنما
إلى فرعٍ نيليٍّ حقيقيٍّ قديم، كان يعبر الحوض جميعه ليصبَّ عند السويس الحالية،
وفي ذلك يقول جمال حمدان إنه كان ضمن أفرع النيل «فرعٌ ناقص أو متدهور نوعًا، كان
يخرج قبل الفرع البيلوزي، ويتَّجه شرقًا ليتصل بالبحيرات، ليخترقها جنوبًا نحو
البحر الأحمر عند كليسما/السويس، ويبدو أن هذا الفرع كان يسير بوضوحٍ في وادي
طميلات الحالي.»
٢٢ ثم يزيدنا إيضاحًا بشأن هذا الفرع النيلي القلزمي، ضمن حديثه عن انقراض
فروع الدلتا القديمة، حتى لم يبقَ منها سوى فرعَي دمياط ورشيد، فيقول حمدان: «يبدو
أن الانقراض قد بدأ من الشرق، حيث «الفرع الواهي الضعيف الطميلاتي القلزمي»، وبعده
أتى دور البيلوزي أقصاهم شرقًا، الذي ذكره الجميع إلا جورج القبرصي، مما يوحي أنه
كان قد اختفى قبل القرن السابع الميلادي على الأقل، ويلي بعد هذا غربًا التانيسي فالمنديسي.»
٢٣
لكن العمق الذي تم فيه العثور على طمي ذلك الفرع القلزمي القديم، يشير إلى أنه
كان في عصورٍ قديمة، لكن آثاره هي التي أوعزت للفراعنة بشق القناة على ذات خطه
القديم.
هنا تواجه نظرية دي بوا إيميه مشكلةً كبرى، تسقطها تمامًا رغم عبقريتها؛ لأن وجود
فرعٍ نيليٍّ قديم، يعني أن حوض القلزم كان كما حوضنا، وليس امتدادًا للخليج، وأنه
كما هو لأزمانٍ بعيدة، وأن انفصال البحيرات هو أقدم من زمن ذلك الفرع النيلي
المنقرض، ويعود إلى حقبٍ موغلة في القدم، بدليل أن النيل هو الذي كان يسير في حوض
القلزم وترك آثاره هناك، «ولم يكن الخليج ممتدًا حتى التمساح، لكن هنا يبقى اللغز
الكبير، فمن أين جاءت آثار البحر المالح، لتترك آثارها في الطبقات العليا الحديثة
لحوض القلزم؟»
ثم يأتي هيرودت ليزيد الأمر اضطرابًا، بقوله إن في المنطقة مناط الحديث، كان يوجد
أقصر طريق بين البحر الأحمر وبين البحر الأبيض، وأن هذا الطريق (موضع قناة السويس
حاليًّا)، هو الحد الفاصل بين البلاد المصرية والبلاد الفلسطينية (كانت سيناء
تُعدُّ عند المؤرخين اليونان فلسطينية لسكناها بالبدو؛ ولذلك أسموا خليج السويس
بالخليج العربي)، فيقول نصًّا: «وهناك يوجد أقصر طريق وأصغر، للذهاب من البحر
الشمالي إلى البحر الجنوبي، وهذا نفسه يسمى بحر أروتري، من جبل كاسيوس والحد الفاصل
بين مصر وسوريا.» لكن المثير للبلبلة في كلام هيرودت، وهو يتحدث عن خط جبل كاسيوس
(الكسارون الآن عند الفرما) يقول: «إن القناة هناك تصبح أكثر تعرجًا؟ وهكذا فالقناة
هنا تتجه شمالًا نحو الفرما، وليس جنوبًا نحو السويس، وهي عند الفرما أو قربها تصبح
أكثر تعرجًا!».
ولمزيدٍ من الاضطراب بشأن قناة سيزوستريس، ما جاء عند دي بوا إيميه وهو يتحدث عن
الفراعنة في آخر عهودهم زمن البطالمة، عندما أراد أحد البطالمة إعادة حفر القناة،
بعد أن عدَتْ عليها الأيام والإهمال وسفي الرمال فطمرتها، فيقول: «بطلميوس حاول
إعادة المشروع، لكن مهندسيه أكدوا أن «مستوى سطح البحر الأحمر، يرتفع بمقدار ثلاثة
أذرع عن سطح مصر»، فخشى غرق المنطقة، أو أن يتلف ماء البحر مياه النهر، فأمر بإيقاف
العمل بعد أن وصل إلى العيون (يقصد البحيرات [المؤلف]) المُرة.»
٢٤
والآن لنتوقف لنلتقط الأنفاس وسط هذا الرتل المختل، نحاول أن نحدد ما لدينا من
معلوماتٍ عن قناة سيزوستريس:
- (١)
أن هناك «قناةً عرضية»، كانت تربط فرعًا شرقيًّا لدلتا النيل بخليج
السويس، عبورًا على البحيرات الواقعة بينهما. لكن من عند البحيرات
جنوبًا وحتى خليج السويس العربي، ينعدم وجود تلك القناة، لعدم وجود أي
أثرٍ حديث لطمي النيل في حوض القلزم جميعه، والأثر القديم للطمي يشير
إلى أن النيل كان له في العصور الجيولوجية القديمة، فرعٌ قديمٌ متدهور
يسير في حوض القلزم حتى السويس، وهو ما يعني تراجع البحر عن حوض القلزم
والبحيرات قبل ذلك بأزمان، ليسمح للنهر وطميه بالتواجد في هذا الحوض،
وتبقى مشكلة من أين أتت الآثار الباقية لمياه البحر المالح (الأحدث)
بحوض القلزم؟
- (٢)
زمن الحملة الفرنسية على مصر، لم تكن قناة سيزوستريس موجودة عمليًّا،
لكن زمن الفيضان كانت مياه النيل تجري شرقًا بشكلٍ طبيعي تمامًا
مندفعةً مخترقة وادي طميلات، حتى تصب عند رأس المية قرب المسخوطة
وبحيرة التمساح؛ مما يشير إلى وجود فرعٍ نيليٍّ قديم تجري محله تلك
المياه.
- (٣)
أن إشارة هيرودت لاتساع القناة، بحيث تستوعب «عابرتَين متجاورتَين»،
من السفن البحرية ذوات الثلاثة صفوف من المجاديف، تشير إلى أن القناة
لم تكن مجرد ترعةٍ صغيرة، إنما جهزت لاستقبال السفن العابرة للبحار؛
مما يتعارض مع القول إنها كانت فرعًا ضعيفًا واهنًا.
- (٤)
أن أحد البطالمة أراد إعادة حفر القناة، فأكد له مهندسوه أن مستوى
البحر الأحمر أعلى بمقدار ثلاثة أذرع، وهو ما وجدناه حقيقة إبان
ارتحالتنا وراء مواقع الأحداث؛ إذ ينخفض هذا «الحوض حوالي خمسة عشر
مترًا» عن سطح البحر، وأمر بطلميوس بإيقاف المشروع، بعدما تبين له
الخطر عندما وصل بالحفر إلى البحيرات المرة؛ «مما يشكك في كل ما
سبق».
والآن ما قيمة كل تلك المعلومات؟ وماذا لدينا لينتج جديدًا بعد النماذج التي
طرحناها لعلماء أجلاء، من أجل تحديد موقع مدينتَي رعمسيس وفيثوم الواقعتين في
مقاطعة جاسان؟
لقد تأكد لنا من المؤرخين والجغرافيين الكلاسيك، وجود فرعَين شرقيَّين منقرضَين
للنيل، كان الأول وهو البيلوزي ينطلق من جنوبي تل البسطة أي من الفرع البوباستي،
ويتجه نحو الشمال الشرقي ليصبَّ عند بيلوزيوم/الفرما، والثاني ينطلق من موضعٍ ما
بالقرب من بسطة بدوره، ليتجه شرقًا عبر وادي طميلات، ليلتقي ببحيرة التمساح، ويتصل
بعد ذلك بالبحيرات المرة، ثم يهبط إلى رأس خليج السويس، وعرَّفه المؤرخون الكلاسيك
باسم قناة سيزوستريس. وقد وصلتنا خرائطُ أولية رُفعت عليها القناتان كما في خريطة
استرابون وخريطة هيرودت (حسب تفسير بول)، في زمن كان فيه النيل لم يزل يحتفظ بسبعة
أفرع بالدلتا، وقبل أن تنقرض جميعًا وتتحول إلى ترعٍ ومصارف، بحيث لم يبقَ منها
الآن سوى فرعَي دمياط ورشيد.
وحتى زمن الحملة الفرنسية، نسمع «لوبير» أحد علماء الحملة، يؤكد أنه حتى زمانه —
فقط منذ قرنَين من الزمان — كان الفيضان يدفع بكمياتٍ هائلة من الماء شرقًا، حتى
قرب المسخوطة غربي بحيرة التمساح على حدود سيناء الغربية، وذلك يعني أنه مع انقراض
فروع الدلتا القديمة، «فإن الماء كان يعرف طريقه الشرقي العتيق حتى زمن الحملة
الفرنسية»، ويتفق ذلك مع تقرير عالم الحملة المسيو ديفليه عن رأس المية، عند موضع
ألسنة كراش قرب بحيرة التمساح، كمصبٍّ للمياه المتدفقة من النيل نحو الشرق.
كما أن ذات الخرائط القديمة تؤكد وجود قناة، تربط بين الفرع البوبسطي وبين خليج
السويس، وقال هيرودت حسبما وصله إنها حفرت زمن نخاو، ولكنا ذهبنا إلى أنها حفرت قبل
ذلك بزمان، ربما من أيام خيتي في العصر المتوسط الأول، لكن بالتأكيد منذ زمن آمنحتب
الثالث وزوجته تي، لكن هيرودت يقول إن بطلميوس لما حاول حفرها من جديد، حذَّره
مهندسوه لانخفاض سطح مصر هناك عن مستوى سطح البحر، ويكون السؤال البدهي: «إذا كانت
الأرض هناك منخفضة عن سطح البحر وهو الثابت فعلًا، فكيف أمكن حفر القناة زمن نخاو
ومن قبله آمنحتب الثالث، ثم زمن سيزوستريس ومن قبله زمن خيتي أو أخيتوي قبل الدولة
الوسطى وقبل الجميع؟» لم نجد حلًّا سوى افتراض أن قناة سيزوستريس، لم يكن الغرض
منها إيصال الماء العذب إلى منطقة القلزم والبحيرات، كهدفٍ أول لمثل هذا العمل،
بدليل أنها بالفعل لم تصل بمائها العذب إلى هناك، حيث لم يعثر على طمي النيل في حوض
القلزم، وعوضًا عنه وجدنا آثارًا بحرية، وعليه «لا حل سوى افتراض أن غرض القناة كان
غرضًا تجاريًّا عسكريًّا في المقام الأول»، فلم يشغل الفرعون الماء العذب أو
المالح، إنما شغله إقامة الخط التجاري البحري، وخط حماية خندقي بالمياه، هو ما
نعتقد أنه المعروف في التاريخ المصري القديم، باسم سور الأمير (الحاكم) الذي يصد
الآسيويين. لقد تم حفر القناة ليس لتحمل مياه النيل من عند مصبها عند بحيرة التمساح
إلى الخليج، بل العكس هو المقصود، أي «لتحمل مياه البحر الأحمر المنحدرة في
القناة»، بعد إزالة الحاجز الرملي الكبير، لتندفع باتجاه البحيرات عبر حوض القلزم،
ثم نحو الوادي المنخفض طميلات، حتى تتوقف عند أكثر المناطق موازنة على اليابس مع
سطح البحر، وهناك — عند منطقة التوازن — تلتقي المياه الحلوة القادمة من القناة من
الغرب، من مخرجها عند الفرع البوبسطي.
ولأن الماء المالح كان لا بد سيختلط بالحلو، ويغلب أحدهما الآخر حسب قوَّته
وتدفُّقه، فقد لاحظ الدكتور «نصحي» ذلك، وقال لمحةً سريعة في جملةٍ واحدة: إن «حوض
البحيرات المرة كان بمثابة حوض موازنة، بين المياه القادمة من النيل، وبين المياه
القادمة من البحر الأحمر.»
٢٥ وإن كان تحديده لمكان الموازنة برأينا غير موفق ولا دقيق.
ولما كان اليابس حسب جميع التقارير أدنى ارتفاعًا من سطح البحر، خاصةً إذا ما
اخترقت القناة أوطأ مناطق الدلتا الشرقية في وادي طميلات العميق؛ لذلك «نفضل افتراض
حوض الموازنة في وادي طميلات، أو بالأحرى في نقطةٍ ما شرقيه تقع في مكانٍ ما يحتاج
إلى تحديد، عند موضع التقاء القناة القادمة من الجنوب بماء البحر المالح، مع الفرع
النيلي العذب القادم من الغرب؛ لأن الطرف الشرقي من وادي طميلات أكثر انخفاضًا من
حوض القلزم نفسه، وهو بدوره كان منخفضًا عن سطح البحر أصلًا».
ومن ثم نرسم تصورًا أن فرع القناة الجاري عبر وادي طميلات، كان هو منطقة التوازن
بين لحظات مد، تندفع معها المياه المالحة، ثم تعود مع الجزر ليندفع ماء النيل العذب
يطاردها مرةً أخرى، ويترك لنا آثاره طميًا واضحًا بطول وادي طميلات، «ويحوِّل سواحل
القناة إلى مناطقَ غنية بأحراش البوص»، حيث توافُر الماء العذب مع المالح مع ضحالة
قياسًا على حال البحر نفسه، ومن هنا نعتقد سبب إطلاق التوراة اسم بحر البوص على
البحر الأحمر جميعه، باعتبار هذا الفرع أو تلك القناة كانت تحتسب جزءًا من خليج
السويس؛ لأنها امتدادٌ صناعي له، وهو ما لمحه «إبراهيم نصحي» إذ يقول: «إن القدماء
كانوا يعتبرون البحيرات المرة امتدادًا للبحر الأحمر؛ ولهذا فإن بلينوس كان يدعو
خليج السويس بأجمعه الخليج الهيروبوليني نسبة إلى هيروبوليس»،
٢٦ بينما هيروبوليس كانت تقع في شرقي وادي طميلات غربي الإسماعيلية
الحالية وبحيرة التمساح، وليست عند خليج السويس.
إذن، وبهذا المعنى لدينا هنا قناتان وليس قناةٌ واحدة، قناة ماء عذب مخرجها من
الفرع البيلوزي، تنحدر بمائها طبيعيًّا عبر وادي طميلات، حتى تصل إلى نقطةٍ قرب
بحيرة التمساح، ربما تكون المسخوطة، وأن اسم التمساح يشير إلى أن هذه القناة كانت
تحوي ماءً عذبًا لا مالحًا، فالتماسيح المصرية لا تعيش إلا في الماء العذب النيلي
في مصر، وربما جرت تسميتها بهذا الاسم تمييزًا لها عن البحيرات المالحة، التي لا
تعيش فيها التماسيح، وأطلق عليها اسم البحيرات المرة، فالماء المر عند المصري حتى
اليوم يعني الماء المالح، هذا علمًا أن دي بوا إيميه لم يشر لا من بعيدٍ ولا من
قريب، إلى نتائج بحثه عن آثار البحر المالح ما بين البحيرات المرة وبحيرة التمساح؛
مما يعني أن المسافة بين البحيرات المرة وبحيرة التمساح شمالًا، كانت تخلو من آثار
البحر التي أشار إلى انتشارها بطول حوض القلزم، وهذا أيضًا يعني أن القناة التي
تمَّ شقها من عند السويس الحالية، وتم وصلها بالبحيرات المرة، لتنحرف بعدها غربًا
نحو النقطة، التي يتوقف عندها صعود الماء المالح في منطقة توازن حاملة معها ماء
البحر، لم تكمل خطها المستقيم نحو الشمال حيث بحيرة التمساح، وخلو المسافة ما بين
بحيرة التمساح والبحيرات المرة من آثار البحر يؤكد ذلك، وهو ما يعني أن القناة قد
انحرفت بعد البحيرات المرة غربًا، بمياهها المالحة القادمة من الخليج، لتلتقي
بالمياه العذبة القادمة من النيل (ويبدو أنه قد تم مد قناة الماء العذب من بحيرة
التمساح، لتلتقي بالفرع البيلوزي مرةً أخرى قرب شرقي مدينة القنطرة، لتصبح القنطرة
غربها وتل أبو سيفا بشرقها، وكان لا بد هناك من إنشاء قناطر للعبور نحو أبو سيفا
وسيناء، تركت أثرها في اسم البلدة «القنطرة»، وهي فيما نعتقد تلك القناة الضائعة،
التي كانت تعرف تاريخيًّا باسم قناة الجفار)، ومعنى هذا أن «الفرعون ومهندسيه قد
قاموا بحفر القناة من السويس إلى البحيرات المرة، ثم حفروا من غربي البحيرات المرة
منحرفين بها نحو الغرب، لتلتقي بفرع الماء النيلي الطبيعي القادم من الزقازيق عند
نقطةٍ بعينها، وهي تلك النقطة التي أصبحت مركز التوازن، أو ملتقى البحرين أو مجمع
البحرين، وأن عند هذه النقطة أنشأ الفرعون مدينته العبقرية، لتكون ميناءً عالميًّا
تلتقي عنده السفن القادمة ببضائع أفريقيا والجنوب الآسيوي عبر البحر الأحمر، عبورًا
بالقناة المالحة على البحيرات المرة ثم غربًا إلى المسخوطة، بالسفن القادمة من عالم
البحر المتوسط عبر الفرما، فقناة الجفار حتى التمساح فمدينة الفرعون، التي حملت بعد
ذلك اسم رعمسيس، والتي وصفت بأنها بوابة مصر الوحيدة، وهو التعبير الذي يجد صداه في
تخريجنا هنا وحده دون غيره؛ إذ تصبح جميع الطرق إلى مصر بهذا الشكل محاطةً بخندقٍ
مائيٍّ عظيم، ولا يبقى سوى منفذٍ واحدٍ بري، يصل إلى تلك المدينة، هو المسافة
المثلثة بين البحيرات المرة وبحيرات التمساح، وأن هذا المنفذ لا بد ينتهي نحو
المدينة، التي يلتقي عندها طرفا الماء في زاويةٍ حادة (حسب ما هو مبين بالشكل رقم
٢-٦)، لتجعل مدينة رعمسيس بوابة مصر الوحيدة».
وهذا التخريج الذي نسوقه يلتقي بشدة مع خرائط جغرافيي ومؤرخي العصر الكلاسيكي،
وخاصةً مع أخبار هيرودت وخريطة بطلميوس واسترابون وتفسير بول لخريطة استرابون، الذي
يأخذ من الفرع البوبسطي/التانيسي «فرعَين»، يتجه أحدهما نحو الشمال الشرقي حتى يصب
عند بيلوز/الفرما، ويتجه الآخر نحو البحيرات المرة والتمساح البحر الأحمر.
وهيرودت من جانبه يخرج الفرعَين جنوبي تل بسطة/الزقازيق بقليل، ويضع المدينة
الثانية من مدن الاضطهاد (فيثوم/بي توم/باتوموس)، عند نقطةٍ مقوسة في انحناءة قناة
سيزوستريس من الشرق نحو الجنوب.
وذلك يفسر لنا أيضًا التضارب بين هيرودت وبليني، حول طول قناة كان مظنونًا أنها
واحدة، فقال هيرودت إنها كانت تسعين ميلًا، وقال بليني إن طولها كان ستين ميلًا،
«بينما كان بليني يتحدث عن طول القناة العذبة من الزقازيق إلى المسخوطة، وهيرودت
يتحدث عنها بشكلٍ طولي من الفرما إلى السويس، كما هو حال قناة السويس
اليوم».
لقد حفر الفرعون أخيتوي ثم آمنحتب الثالث قناته البحرية، وهو يعلم ماذا يفعل
بالضبط، لقد كان يعرف جيدًا عن انخفاض حوض القلزم، وبعض من سطح وادي طميلات عن سطح
البحر، ومع ذلك أمر بإزاحة أكوام الرمال العظيمة من أمام خليج السويس، لينحدر الماء
في الحوض المنخفض، حاملًا معه الماء المالح دافعًا البحر خارج حدوده، ليظل في طريقه
حتى يتوقف عن الصعود عند نقطة، يلتقي فيها بالفرع العذب القادم من النيل، ليبني
الفرعون في نقطة اللقاء مدينته العبقرية وزهرة مدائن العالم القديم، التي أصبحت
بهذا الشكل مركزًا وسطيًّا رئيسيًّا، بين فرعَين يشكلان سورًا حاميًا لمصر، ثم إنها
بذلك أصبحت ميناءً فريدًا من نوعه في تاريخ الدنيا، فهي بذلك ميناء للبحرين الأبيض
والأحمر في عمق الأراضي المصرية داخل اليابس، وليست ميناءً على بحر، هي الميناء
الوحيد عبر التاريخ كله داخل عمق اليابس، تصلها السفن القادمة ببضائع الهند
وأفريقيا من البحر الأحمر عبر القناة المالحة، وتصلها السفن القادمة من بلاد الشام
وتركيا وجزر المتوسط عبر الفرع قناة الجفار، ويشرف الفرعون منها على ممتلكاته في
آسيا من أقرب نقطةٍ ممكنة، لتتحول المنطقة إلى منطقة جذبٍ تجاري عظيم وعالمي. وهكذا
فقط يكون المستحيل قد أصبح ممكنًا! لميناء داخل اليابسة ويستقبل سفن عالم الشمال
وعالم الجنوب.
وفي الوقت نفسه تقع المدينة العبقرية عند منطلق الخطوط الرئيسية للمواصلات مع
آسيا، فعندها يبدأ الخط المتجه شمالًا فشرقًا المحاذي للبحر المتوسط، المعروف بطريق
حورس الحربي الكبير، ثم طريق متلا وطريق الجدي اللذان يخترقان وسط سيناء نحو الشرق
ونحو الجنوب، بينما المنطلق للجميع من عند نقطة انطلاقٍ واحدة لا يوجد غيرها، عند
المدينة الميناء، وتصدق قصيدة مدح رعمسيس الكبرى ثم الصغرى، وهي تصف المدينة بأنها
تقع على بداية «الطريق الوحيد نحو آسيا، وأنها بمفردها كمدينةٍ حدٌّ فاصل بين
الأراضي المصرية والأراضي الفلسطينية».
ثم إن الفرعون المصري قد ضمن بذلك سيطرته التامة أيضًا على بلاده من الداخل لمنع
أي عمليات هروب، فمدينته العبقرية تقع على المجرى النهري الرئيسي، لقد كان الموقع
فريدًا يليق بمن هندسه.
وحسب هذا التصور، فإن ذلك التخطيط الاستراتيجي العسكري الإداري الفني الفذ، قد
حجز مصر تمامًا عن سيناء بقناة سيزوستريس المتصلة بالخليج العربي (السويس)، بالبحر
الأحمر جنوبًا وقناة الجفار والفرع البيلوزي المتصلة بالبحر الأبيض المتوسط شمالًا،
ولم يترك مكانًا مفتوحًا للقادم من سيناء إلى مصر، سوى تلك المساحة الصغيرة، ولا بد
في هذه الحال للداخل إلى مصر من المرور على قلاعها الواقفة بين القناتَين عند مدينة
رعمسيس، كي يتمكن من دخول مصر، وأصبح الماء حائلًا دون الدخول أو الهروب، إلا عبر
تلك المساحة الضيقة الواقعة تحت رقابة الجيش الكاملة، والأكثر يسرًا في مدينة
المدائن وميناء الموانئ اللغز المعجز «رعمسيس».
وأصبحت مساحة وادي طميلات المحصورة بين بحيرة التمساح والبحيرة المُرة شرقًا،
وحتى نقطة التقاء الماءين عند رعمسيس غربًا، مساحةً خاصة جدًّا كادت تكون سينائية
تمامًا وخارج مصر؛ لذلك يصبح مفهومًا لماذا أسماها اليونان المقاطعة العربية
والفلسطينية لاتصالها المباشر ببوادي سيناء السامية.
وتحكي لنا التوراة حكاية خروج بني إسرائيل من مصر تحت قيادة «موسى»، وتفصل أسماء
المواضع بتفصيلٍ يقول:
فارتحل بنو إسرائيل من «رعمسيس» إلى «سكوت» نحو ستمائة ألف ماشٍ من
الرجال عدا الأولاد، وصعد معهم لفيفٌ كثيرٌ أيضًا مع غنمٍ وبقر «ومواشٍ
وافرة جدًّا». وكان لما أطلق فرعون الشعب «أن الله لم يهدهم في طريق أرض
الفلسطينيين مع أنها قريبة» لأن الله قال: لئلا يندم الشعب إذا رأوا حربًا
ويرجعوا إلى مصر، «فأدار الله الشعب في طريق برية بحر سوف»، وارتحلوا من
«سكوت» ونزلوا في إيثام في طرف البرية. وكلم الرب موسى قائلًا: كلم بني
إسرائيل أن «يرجعوا»، وينزلوا أمام «فم الحيروث بين مجدل والبحر أمام بعل
صفون»، مقابلة تنزلون عند البحر … فلما أخبر ملك مصر أن الشعب قد هرب، تغير
قلب فرعون وعبيده على الشعب، فقالوا ماذا فعلنا حتى أطلقنا إسرائيل من
خدمتنا، فشد مركبته وأخذ قومه معه، وأخذ ستمائة مركبةٍ منتخبة وسائر مركبات
مصر، وجنودًا مركبية على جميعها، وشدد الرب قلب فرعون ملك مصر، حتى سعى
وراء بني إسرائيل، وأدركوهم جميع خيل مركبات فرعون وفرسانه وجيشه، وهم
«نازلون عند البحر عند فم الحيروث أمام بعل صفون». ومدَّ موسى يده على
البحر، فأجرى الرب البحر بريحٍ شرقيةٍ شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة
وانشق الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والماء سور لهم
عن يمينهم وعن يسارهم، وتبعهم المصريون، فمد موسى يده على البحر، فرجع
البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة، والمصريون هاربون إلى لقائه، فدفع
الرب المصريين في وسط البحر. ثم ارتحل موسى بإسرائيل من «بحر سوف، وخرجوا
إلى برية شور». (خروج، ١٢: ٣٧، ٣٨؛ ١٣: ١٧، ١٨، ٢٠؛ ١٤: ١، ٥، ٦، ٧، ٨، ٩،
٢١، ٢٢، ٢٣، ٢٧؛ ١٥: ٢٢)
فماذا لدينا هنا من مواضعَ جغرافية على خط السير الهلامي هذا؟
الفرض التأسيسي أن مدينة رعمسيس تقع على حدود الدلتا الشرقية مع البراري
السينائية، بين البحر المتوسط شمالًا، وخليج السويس أو القلزم أو العربي من البحر
الأحمر جنوبًا.
والنص يقول إنهم ارتحلوا من رعمسيس إلى موضعٍ آخر، يحمل اسم سكوت، وأن الموقع
سكوت كان أول محطة على طريقٍ يحمل اسم طريق أرض الفلسطينيين، وأن «طريق أرض
الفلسطينيين» كان قريبًا من الموقع سكوت، أي إنهم اتجهوا نحو بداية طريقٍ معلوم،
يعبر سيناء ليفضي إلى أرض فلسطين، وهو طريق حورس الحربي السائر بحذاء شاطئ المتوسط،
لكن النص يقول إن الرب بعد أن تركهم يمضون هذه المسافة إلى سكوت نحو الطريق الدولي،
خشي من تعرض شعبه لمعركة وحرب؛ مما يعني أن هذا الطريق يقف عليه قومٌ مسلحون،
يمكنهم أن يجعلوا الشعب يندم على خروجه من مصر، أو بالأحرى أن موسى قد شاهد علامات
وجود تلك القوة العسكرية الحدودية، فأمر رجاله بالعودة مرةً أخرى، وهو ما يفهم من
التعبير: «فأدار الله الشعب في طريق بحر سوف.» وكانت تلك العودة نحو صحراء تحمل اسم
برية بحر سوف، وهو ما يفيد أن تلك البادية تحمل اسم بحر داخل محيطها الجغرافي، هو
بحر سوف، وهكذا عادوا من سكوت أول محطات الطريق الدولي نحو فلسطين، ونزلوا إلى
موضعٍ باسم إيثام في هذه البادية (برية بحر سوف)، ومن هناك رجعوا مرةً أخرى، ونزلوا
في موضعٍ تتعدد إحداثياته الجغرافية، حتى تكاد التوراة تضع له حدوده الأربعة، فالحد
الأول الواضح هو البحر، وفي المقابل الآخر للبحر «مجدل» أي القلعة، وعليه فقد كان
الإسرائيليون لحظة الخروج بين القلعة والبحر، وأمامهم يقع موضع باسم «بعل صفون»،
وهو اسم إله، مما يشير إلى معبدٍ أو تمثال لهذا الإله في ذلك الموضع، أما الموضع
الذي نزلوا فيه على بحر سوف، فكان يحمل اسم «فم الحيروث»، التي هي في أصلها العبري
بي ﻫ حيروت، ومن بي ﻫ حيروت عبروا البحر المفلوق بالعصا الثعبانية، ليخرجوا إلى
صحراء باسم برية شور، تقع إلى الشرق من بحر سوف.
نحن إذن بعد أن حددنا موضع رعمسيس بالمسخوطة حاليًّا أو الخشبي، ولا زلنا نجمع
لها الأدلة، بحاجةٍ إلى تحديد عدد من المواضع الجغرافية هي:
-
«فيثوم»: رفيقة رعمسيس في التوراة، حيث استُعبِد بنو إسرائيل في بناء
المدينتَين.
-
«سكوت»: الواقعة على أول الطريق الدولي وإيثام الموجود في برية بحر
سوف.
-
«فم الحيروث»: بين مجدل والبحر أمام بعل صفون.
-
«بحر سوف»: الذي تقع على شاطئه الغربي الإحداثيات السابقة.
-
«برية شور»: على الشاطئ الشرقي من بحر سوف.
(١) هندسة المكان
المفترض حسب رواية التوراة، أن تقع مدينة الاضطهاد «رعمسيس» قرب بحر سوف،
وعلى جانب هذا البحر من جهة الغرب، وعليه يتم الاستنتاج أن الخارجين خرجوا من
رعمسيس، ولم يتجهوا شرقًا نحو البحر مباشرة، الذي لا نجد له مقابلًا له في تلك
المنطقة، سوى بحيرة التمساح، إنما اتجهوا شمالًا نحو الطريق الدولي (طريق حورس)
الحربي المتجه نحو فلسطين، ونزلوا محطة سكوت، ثم عادوا منها جنوبًا مرةً أخرى
نحو بحيرة التمساح، بعد أن خشوا حربًا، ليحدث العبور من مدينة رعمسيس التي
خرجوا منها في البداية، وهو ما يعني افتراض وجود رعمسيس قرب بحيرة التمساح، وهو
ما سبق وذهب إليه دي بوا إيميه عبقري الحملة الفرنسية الفذ، عندما اعتبر تل
المسخوطة هي مدينة رعمسيس، وهو الأمر الذي عثرنا له على كثيرٍ من القرائن
والشواهد والمؤيدات، فقد عثر ليبسيوس في موقع تل المسخوطة عام ١٨٦٠م، على
تماثيل لرمسيس الثاني مع الإلهَين رع وآتوم، كما عثر على آثار سورٍ عظيم يحيط
بالبلدة، كما عثر على تماثيل لأبي الهول من الجرانيت الأسود، تحمل اسم رمسيس
الثاني، كذلك عثر نافيل هناك عام ١٨٨٤م على حجرات مخازن مصنوعة من اللبن؛ لذلك
ذهب كلاهما إلى موضعة مدينة رعمسيس في موضع المسخوطة/الخشبي الآن بوادي طميلات
غربي بحيرة التمساح،
٢٧ لكن دون أن يقدم أحدهما أو يكابد ما كابدناه هنا، لقد وضعوها
فروضًا سريعة في شكل فكرةٍ فلاشية، تنبني على وجود آثار مصرية لرعمسيس الثاني
وليس أبعد من ذلك.
وهنا نعثر بعد لأيٍ على واحدة من أخطر الشوارد لكنها الشواهد، المتمثلة في
الإله الذي أفصحت عنه آثار المسخوطة، الذي ورد مكتوبًا «وع نب هوو»، الذي يعني
«الرب الوحيد هوو»،
٢٨ وهو ما يصادق على كل ما قلنا حتى الآن؛ لأن «هوو» ببساطة هو
«يهوه»، هذا ناهيك عن دليلٍ قاطع، حيث لا يكتب النصب السبعوني للتوراة اسم
مدينة الاضطهاد بالاسم رعمسيس، إنما بالاسم هيروبوليس، والمعلوم أن اسم
«هيروبوليس» في العصر اليوناني كان الاسم الذي أطلقه الإغريق على تل المسخوطة
الحالية، فقد ذكر استرابون أن هيروبوليس تقع قرب ميناء أرسينوي على خليج العرب،
وقد أكد أميلينو في جغرافيته أن هيروبوليس هي المسخوطة.
٢٩
لكن يبقى المأخذ على هذا الفرض؛ لأن تل المسخوطة لا تقع على بحيرة التمساح،
إذا افترضنا أن بحيرة التمساح هي بحر سوف، إنما تبعد عنها إلى الغرب، بمسافةٍ
تصل إلى ستة عشر كيلومترًا.
خاصةً أننا سبق ورفضنا نظريات، تجعل بحر سوف مجرد بحيرة مثل بحيرة المنزلة
عند بروجش، أو بحيرة البلاح عند علي شافعي، أو بحيرة البردويل عند بيير
مونتييه، وأصررنا على خليج السويس بالبحر الأحمر، فهل ثمة حل؟
لقد حللنا ذلك عندما قلنا إن الماء العذب كان يتدفق تلقائيًّا حتى يصل
المسخوطة، وإن ما فعله آمنحتب الثالث، أنه أعاد الحفر من فرع النيل البوباستي،
الذي سبقه إليه أخيتوي، للمسافة بين المسخوطة وبين بحيرة التمساح (١٦كم)،
لإقامة بحيرة لمليكته تي، وحفر من جنوب البحيرات المرة إلى خليج السويس، ليأتي
بالماء المالح القادم من البحر إلى البحيرات المرة، بإزالة التلال الملحية أمام
ماء الخليج ليس أكثر، ليندفع الماء للبحيرات المرة، ومن البحيرات المرة تم حفر
مسافة ستة عشر كيلومترًا غربًا، ليلتقي ماء البحر بماء النيل في نقطة، لتقام
هناك مدينة رعمسيس، في موضعٍ بحاجة بالضرورة إلى قناطرَ للعبور، ولا ننسى لوحة
الكرنك، التي رسمت لنا مدينة رعمسيس، في هيئة قناطر تطل على نهرٍ وبحر
معًا.
ويظل علينا مع كل تلك المجازفات أن نحدد: أين تقع رفيقة رعمسيس التي دونت
التوراة اسمها فيثوم؟
وهنا نقف مع أميلينو الذي اعتمد على خط سير أنطونين الروماني، وقد وضع
أنطونين مدينة فيثوم (بي توم أو باتوموس بالنطق اليوناني)، على بعد ٢٤ ميلًا
غربي هيروبوليس/المسخوطة غربًا، ومن ثم استند أميلينو إلى ذلك، وانتهى إلى أن
بي توم هي التل الكبير الآن، فحدد موقع فيثوم بأنه التل الكبير،
٣٠ وهو ما نخالفه فيه بشدة، كما سيأتي بيانه.
وفي رسالة الكاتب بينبس لسيده أمنموبي، يقول عن مدينة رعمسيس:
لقد وصلت إلى مدينة بيت رعمسيس.
محبوب آمون …
لديها مؤن وذخيرة كل يوم.
بركها تزخر بالسمك و«بحيراتها» بالطيور
…
وشواطئها محملة بالبلح
…
وهي تناطح السماء في «ارتفاعها»
…
وفيها سمك وز الأحمر من «قناة» (تلف بالوثيقة)
…
وسمك بتن من «بحيرة» (تلف بالوثيقة)
…
ويستخرج من «بحيرة حور» النطرون
…
وسفنها تروح وتجيء إلى «الميناء»
…
إن «مستنقعات» زوف تنبت لها البردي
«وسيحور» تمدها باليراع
«والبحر» فيه سمك بج وسمك أد.
وإشارة الكاتب بينبس إلى سمك وز الأحمر، من عند مدينة رعمسيس،
إشارة لسمك ليس نيليًّا على الإطلاق؛ لأن النيل في مصر لا يعرف أي لون للأسماك
سوى الرمادي، التي تظهر في نادر أنواعه الخضرة القاتمة والصفرة فيما هو أشد
ندرة. وعليه لا بد أن يكون سمك وز المستخرج من مياه مدينة رعمسيس سمكًا
بحريًّا، والأكثر التقاء معنا إشارة التقرير، أن «هذا السمك الأحمر البحري لا
يعيش في بحر، إنما في قناة» فقدنا اسمها بتلف الوثيقة، ومعنى ذلك أنه يتحدث عن
سمكٍ يعيش في القناة القادمة بمياه البحر الأحمر، حتى المسخوطة حيث منطقة
التوازن، أما «سيحور» فهي الفرع البيلوزي (قناة الجفار) أو «الشيحور» بالتوراة،
الذي وصفته التوراة بأنه «الشيحور الذي هو أمام مصر» (يشوع، ١٣: ٢). وعن ماء
حور أو سي حور أو الشيحور، حدثنا النبي الإسرائيلي إرميا، وهو يندد بشعبه الذي
يلجأ بسوائمه إلى مياه مصر، يناديه قائلًا: «والآن مالك وطريق مصر لشرب مياه
شيحور» (إرميا، ٢: ١٨).
ولا حل سوى أن تكون بحيرة حور، هي التي نعرفها اليوم باسم بحيرة البلاح، أما
مستنقعات زوف التي كانت تمد مدينة رعمسيس بالبردي، فيمكن أن تكون هي بحيرة
التمساح.
ثم بهذا التصور الذي طرحناه وحده، تنطبق لوحة الكرنك وتتطابق بالكامل مع
الموضع الذي حددناه، حيث وضعت مدينة رعمسيس على ماءين: أحدهما مالح بتصوير
الأسماك البحرية، والآخر عذب بتصوير بيئةٍ نهريةٍ نيلية.
وفي التوراة يتكرر ذكر مدينة مصرية باسم «نو آمون»، كما في سفر «ناحوم، ٣:
٨–١٠»، وتذكر في مواضعَ أخرى باسم «آمون نو» كما في «إرميا، ٤٦: ٢٥»، وأحيانًا
تذكر فقط باسم «نو»، كما في «حزقيال، ٣٠». وقد ذهب الباحثون إلى أن المقصود بها
طيبة (الأقصر الحالية)، لورود اسم آمون وهو سيد طيبة ورب الدولة، في اسمها
المركب «نو آمون».
لكننا نعلم أن أحد الألقاب المتكررة لرعمسيس — الذي منح المدينة اسمه — الذي
عادةً ما يلازم اسمه هو «رعمسيس ميامون»، ونظن مدينة «نو آمون» هي «ميامون»
لاختلاط النوم بالميم، إشارة لمدينة رعمسيس العبقرية كما حددنا موضعها، ويدعمنا
في ذلك المواصفات التي قدمتها التوراة لمدينة «نو آمون» أو كما نظن «ميامون»،
حيث تطابق المواصفات التوراتية خريطتنا لرعمسيس تطابقًا تامًّا، انظر معي
التوراة تقول مخاطبةً أورشليم، تصغيرًا إزاء مدينة عظيمة أخرى، تقع في مصر
اسمها «نو آمون»:
هل أنت «يا أورشليم» أفضل من نو آمون؟ «الجالسة بين الأنهار، حولها
المياه حصن ومن البحر سور لها». (ناحوم، ٣: ٨-٩)
ومثل هذا الوصف إطلاقًا لا يطابق «طيبة/الأقصر»، فالبحر ليس سورًا لها، فهي
بعيدة تمامًا عن أي بحر بالمطلق، وليس هناك أنهار بل نهرٌ واحد هو شريان النيل
القادم من أفريقيا، أما تلك الجالسة «بين الأنهار والبحر سور لها والمياه
حصون»، فلا شك لدينا أنها مدينة رعمسيس/المسخوطة، حسب نظريتنا أو
جغرافيتنا.