إحداثيات مواضع الخروج
(١) فيثوم
فيثوم العبرية هي في المصرية القديمة بي - توم، أي مقر الإله آتوم، ورد ذكرها عند المؤرخين الكلاسيك مصرفة اسميًّا بالاسم باتوموس، وقد وضعها هيرودت على القناة الواصلة بين الفرع البوبسطي للنيل وبين بحيرة التمساح، والتي تمتد حتى الخليج، وأطلق المؤرخون الكلاسيك على مدينة بيتوم «أرابيا» أي المدينة العربية، نسبةً إلى غلبة العنصر الآسيوي البدوي على سكانها حتى العصر اليوناني.
ولدينا الآن وثيقتان شديدتا التنافر، كلٌّ منهما تعطي تقريرًا عن موضع فيثوم بالنسبة لرعمسيس: الأولى هي خط سير الحاجة إيثريا، التي تقول إن المدينة العربية «أرابيا»، تبعد عن رعمسيس مسافة أربعة أميال فقط، والثانية خط السير الروماني «أنطونين»، ويعطينا مسافة أربعة وعشرين ميلًا كاملة، وعليه سنقوم بتحقيق كلتا المسافتَين، لنرى إلى أين تلقي بنا تقديراتهما، ونبدأ بخط السير الروماني «أنطونين».
وباعتماد لوحات دارا التي وضعت على مسافاتٍ متساوية كل منها ٢٥كم، يمكننا أن نقوم ببعض الحسابات مع أنطونين (وليس مع أميلينو الذي ذهب إلى أن بيتوم حسب أنطونين هي التل الكبير ولا نعلم كيف).
إن المسافة إذن بين تل المسخوطة وبين تل بسطة/الزقازيق حاليًّا خمسون كيلومترًا، لو طرحنا منها ٢٤ ميلًا أي ٣٧ كيلومترًا ستكون المسافة بين الموضع الذي نبحث عنه (فيثوم) وبين تل بسطة/الزقازيق حوالي ١٣ كيلومترًا، ولو بحثنا شرقي الزقازيق على خط وادي طميلات بعد ثلاثة عشر كيلومترًا سنجد قريتَين متجاورتَين يفصل بينهما كيلومتر واحد، إحداهما باسم «سفط الحنة» والأخرى باسم الصوة، وعندما وصلنا إلى ذلك، «ومضينا نبحث وراء سفط الحنة والصوة، كانت النتائج مبهرة حقًّا».
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ*بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ. (الرحمن: ٢٩-٣٠)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا. (الفرقان: ٥٣)
وقد ذهب المفسرون في تفسير هذه الآيات مذاهب شتى، فمنهم من قال إن البحرَين هما خليج السويس وخليج العقبة، أما البرزخ فهو مثلث شبه جزيرة سيناء، لكن ذلك التفسير لا يطابق القول بلونَين متمايزَين من الماء. ومنهم من قال إن البرزخ هو مصبُّ نهري دجلة والفرات، وهما المقصودان بالبحرين، حيث يسير الماء العذب في البحر مسافة، يمكن شرب الماء العذب منها داخل البحر، وقد استند هؤلاء لكلمة فرات، رغم أنها في اللغة تعني الماء العذب على إطلاقه، ولا تخصُّ نهر الفرات العراقي بالتخصيص وبالذات.
ومن جانبه احتفظ المأثور الإسلامي بذكرياتٍ، تربط بين ملتقى البحرين عند مدينة رعمسيس، وبين النبي موسى الذي ذهب إلى موضع ملتقى البحرين، ولا نعرف لموسى أية علاقة بالعراق والفرات، لكن علاقته بمصر هي الفصل، ليلتقي هناك بالحي الغائب المعروف باسم الخضر عند مجمع البحرَين.
ثم يجب فهم ما ورد متكررًا بالنصوص المصرية في أزمنةٍ مختلفة عن «سور الأمير أو سور الحاكم الذي يصد الآسيويين» في ضوء ما طرحناه، فهو لم يكن سورًا حجريًّا بطول المسافة بين البحر الأبيض والبحر الأحمر، إنما كان فقط مجموعة قلاع بين بحيرة التمساح وبحيرة البلاح، بينما شكلت القناتان عائقًا مائيَّا ضد أي محاولة دخول، وكان يكفي نثر بعض القلاع، وهنا وهناك للمراقبة، كي تكون حدود مصر آمنة بما يكفي؛ ومن ثم كان لا بد على الداخل إلى مصر، أن ينتهي اضطراريًّا إلى مدينة رعمسيس أولًا، حيث الطريق الوحيد الفاصل بين كل أرضٍ مصرية وكل أرضٍ فلسطينية.
أما عند الفاصل البري بين بحيرة التمساح والبحيرات المرة، فلا بد أنه قد تواجد أكبر معقلٍ عسكريٍّ مصري.
وكان أول محط نزل به ستي للاستراحة، عند قلعةٍ مستطيلة تقع على بركةٍ مستطيلة الشكل، والاستطالة من الشمال إلى الجنوب، وهي في رأينا قلعة المسخوطة/هيروبوليس، أما البحيرة التي تجاورها في اللوحة فهي بحيرة التمساح المستطيلة من الشمال إلى الجنوب، وقد دون النص اسم تلك القلعة «عرين الأسد» كناية عن الفرعون.
ويدعم ذلك التفسير أن رعمسيس الأول، كان يحمل وهو وزير في عهد الفرعون حور محب، عدة ألقاب تُحيل إلى الموضع الذي نقف عنده الآن، فهو:
-
حارس الحدود الشرقية ومقره قلعة «ثارو».
-
رئيس «قلعة مصبات النيل».
-
رسول الملك إلى البلاد الأجنبية.
-
المشرف على «قلعة العدل».١٩
فهل لم يجد سنوحي للهرب سوى مكان تقف عليه الحراسة؟ وأمامه كل بوادي سيناء المفتوحة على الدلتا الشرقية؟ نظريتنا وما طرحناه يجيب على السؤال؛ لأنه لم يكن هناك سوى طريقٍ واحد ومدينةٍ واحدة يمكن الخروج منها. وتقول القصيدة الكبرى في مدح رعمسيس: «وجميع الممالك تسعى إليك على الطريق الوحيد.»
«وهنا أقول لأهل الأركيولوجيا وعلوم المصريات، احفروا المسخوطة وستجدون هناك بقية آثار مدينة رعمسيس كاملة، وتحت رعمسيس ستجدون مدينة الهكسوس «حواريس»، واحفروا الصوة وسفط الحنة أو تل رطابة، وستجدون هناك مدينة «فيثوم»، أو هكذا أرجو حسبما وصلت إليه نتائج هذا البحث، القائم على النظر العقلي في وثائق التاريخ، وفق منطقٍ رياضيٍّ بحت، وتكون جهودكم مشكورة».
(٢) سكوت
(٣) فم الحيروت
لحل تلك الإشكاليات جميعًا حلًّا سهلًا، ولاحتمالات سكنى الإسرائيليين بمصر في أقصى الشمال، عند صان الحجر أو قنتير، واحتمالاتٍ أخرى بسكنهم في وادي طميلات، والاحتمالان يستتبعان الخروج عبر طريق حورس الحربي المنطلق من صان الحجر، محاذيًا للبحر المتوسط، أو الخروج عبر وادي طميلات إلى ممر متلا أو ممر الجدي الممتدين إلى وسط سيناء، فقد تم طرح حلٍّ سريع وسهل، أصبح اليوم كما لو كان ليس له بديل، يقول بدفعتَين للخروج، أي إن الإسرائيليين خرجوا على مرتين: الأولى من صان الحجر أو ربما قنتير، والدفعة الثانية من وادي طميلات عند المسخوطة، لكن نظريتنا لم تُبقِ مساحة للطروحات المجازفة المستسهلة، فالإسرائيليون حسب خريطتنا قد خرجوا من فيثوم/الصوة/سفط الحنة، ليمروا بعد ذلك على رعمسيس (المسخوطة/الآن: الخشبي)، ليأخذوا بقيتهم من هناك نحو الشمال إلى القنطرة غرب «سكوت»، لينيخوا هناك يتدبرون أمرهم، فيقررون التوجه نحو بداية خط الطرق الدولية المؤدية إلى فلسطين، لكن ليكتشف الخارجون أن قلاع مصر في سيلة/شور (القنطرة شرق)، كانت قد أخذت عدتها كاملة، وتحاشيًا للحرب حسب نص التوراة:
إن الله لم يهدهم في «طريق أرض الفلسطينيين» مع أنها قريبة؛ لأن الله قال: لئلا يندم الشعب إذا رأوا حربًا ويرجعوا إلى مصر، فأدارهم الله في طريق برية بحر سوف. (خروج، ١٣: ١٧، ١٨)
وكلم الرب موسى قائلًا: كلم بني إسرائيل أن «يرجعوا» وينزلوا أمام «فم الحيروت» بين «مجدل والبحر» أمام «بعل صافون»، مقابلة تنزلون عند البحر. (خروج، ١٤: ٢)
وعند فم الحيروت أو بي ﻫ حيروت بالعبرية، تتم المعجزة الكبرى، فيقول المقدس التوراتي إن العصا الحية اللاعبة بسحرها قد فلقت بحر سوف، وعبر الخارجون بعيدًا عن الطرق المطروقة المعروفة.
- فم الحيروث: أو بي ﻫ حيروت.
- مجدل: أي القلعة.
- البحر: وهو بحر القصب سوف.
- بعل صافون: وهو معبد للإله بعل السامي الأصل.
لقد سبق وعلمنا أن هذه المنطقة، كانت مركزًا كبيرًا لعبادة الإله بعل صافون/سيت وكل آلهة دافيناي (ارجع إلى نظرية علي بك شافعي)، ومعلوم أن التمساح كان من أبرز الرموز المصرية للإله الشرير «سيت بعل»، فقد عرفنا أن هذا المعبد كان في القنطرة غرب، حيث قلعة سكوت، حيث كانت تقع قلعةٌ أخرى هي قلع العدل «مجدل ماعت»، التي هي في رأينا مجدل التوراة، أما فم الحيروت فهو ما ترجمته «مدخل الحيروت»، وإذا كنا قد اتفقنا على أن مدينة رعمسيس هي هيروبوليس، وأن هيروبوليس (الاسم الروماني لمدينة الهكسوس)، هي مدينة الهكسوس التي عرفها اليونان باسم «حواريس»، فإن اسمها المصري كان «حوت وعرت»، وهو ما يتطابق تطابقًا مدهشًا مع الكلمة التوراتية «حيروت»، فقد عبروا تمامًا وبكل دقة، من المنطقة التي يمكن للآبقين والخارجين على القانون استخدامها، وأعطوها اسمًا يدل على معناها الجغرافي، فهي المدخل غير المطروق المؤدي إلى «حيروت» أو «حوت وعرت» أو «حواريس»، عبر بحيرة التمساح.
وبحيرة التمساح كان يمكن عبورها يبسًا، فتصبح كبحرٍ عن يمين وعن يسار، حتى يتم العبور من الخانق الواقع في أقصى جنوبها الشرقي، مع أول بادرة ريح شديدة، وهو ما قالته التوراة كسبب لجفاف البحر المفلوق، أما ما أضافته التوراة عن المطاردة، وغرق جيش أكبر دولةٍ معروفة آنذاك، فهو الأمر الذي ليس عليه دليلٌ واحد في أي وثيقةٍ من وثائق دول المنطقة، بل ولا أي إشارة يمكن تأويلها أو حتى وضعها موضع الاحتمال الظني.
لقد خرج موسى التوراتي مخرج المجرمين والعبيد الفارِّين، مطرودين لا مُطاردين.
وغني عن الذكر أنه في تلك المنطقة، التي عرفها اليونان باسم المقاطعة العربية، تم اكتشاف (دوَّنته هنا أثناء كتابة هذا الفصل [المؤلف])، وردت أخباره بصحيفة الأخبار القاهرية بتاريخ ١٠/ ١١/ ٩٤ بالصفحة الأولى، تحت عنوان: «العثور على ٥٠ مقبرةً من عصر الهكسوس، حقائق علمية عن الخروج الأول لليهود»، وتحت هذا العنوان يأتي الخبر يقول: «تم اكتشاف جبانةٍ أثرية ترجع إلى عصر الهكسوس، في منطقة تل الكوع بوادي الطميلات بالإسماعيلية، تم العثور على ٥٠ مقبرةً حتى الآن بحالتها كاملة، وتضم الأثاث الجنائزي وعددًا كبيرًا من الأواني الفخارية والأدوات والجعارين، كما عثر على دفنات لحيوانات يرجح أنها الحصان الذي أدخله الهكسوس لمصر لأول مرة، يستكمل الاكتشاف الجديد حلقةً مهمة في التاريخ لوقوعه في وادي طميلات، والمشهور بخط سير الخروج الأول لليهود من مصر … صرح الدكتور عبد الحليم نور الدين الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار «أن هذا الاكتشاف يثير تساؤلاتٍ علميةً مهمة، لوجوده في موقعٍ لم يكن معروفًا من قبلُ، أي علاقة بوجود الهكسوس في مصر».» لكن حسب بحثنا هذا نكون قد سبقنا هذا الكشف، إلى معرفة ذلك الموقع واتصاله عبر سيناء بمواقع الهكسوس الكبرى، ووضعنا للكشف أسسه التاريخية والجغرافية، وهو ما ستتضح تفاصيله الكاملة التامة المانعة والخرسانية في الجزء الثاني من هذا العمل.
وبهذا التصور لخريطة الخروج، لا بد أن تكون هناك قلعة قرب موقع التسلل عبر بحيرة التمساح، تستحق الاسم العبري مجدل، وفي هذه المساحة التي حددناها تؤكد الورقتان الديموطيقية والفينيقية، اللتان اكتشفهما نويل جيرون أن في هذا المحيط الجغرافي الضيق، كان يوجد معبد للإله بعل صافون/سيت رب الهكسوس المقدم، فالورقة تحوي تضرعات للإله «بعل صفون وكل آلهة دافني»، ودافني هي دفنة الحالية التي أسمتها التوراة تحفنح، أو بالتصريف الاسمي تحفنحيس، المنشأة على اسم ملكة مصرية، ودافني تقع في مركز وسط بين القنطرة وبين بحيرة التمساح إلى الغرب قليلًا.
والتوراة تردد أن عبور البحر الإعجازي، قد تم «أمام فم الحيروت بين مجدل والبحر، أمام بعل صفون» (خروج، ١٤: ١).
أما المنطقة التي خرجوا إليها فتقع إلى الشرق من جنوبي بحيرة التمساح، ليتجهوا نحو جنوبي سيناء، ولا شك أن اسم تلك المنطقة «برية شور»، يعود إلى اسم القلعة المصرية الكبرى سيلا/زارو/شارو/شور، التي منحت اسمها بشهرتها للبوادي الممتدة من البحر المتوسط شمالًا، إلى خليج السويس جنوبًا، إلى الشرق من سور الأمير العظيم، الذي يصدُّ الآسيويين وعابري الرمال.
أما الآن فسنعرض لخط سير بني إسرائيل الخارجين من مصر عبر سيناء، بعد عبورهم البحر المفلوق «سوف» بالعصا المعجزة، لتدقيق المواضع التي مرُّوا بها في محطات حِلٍّ وترحال.
(٤) الخروج عبر سيناء
-
الخروج من بحر سوف مباشرةً إلى صحراء برية شور (خروج، ١٥: ٢٢)، وهو اسم الساحل الشرقي للبحر المفلوق، ويؤدي إلى بداية الطريق السينائي، ومعلوم أن «إيل» أو كبير الأرباب السامي الذي حل محله يهوه السينائي، كان يلقب باللقب «ﻫ-شور» أي الثور، وقريبٌ منه في المصرية القديمة «ﻫ-تور» أي بقرة السماء، أو البقرة العالية أو السامية، وتقابل هذه الكلمة في الآرامية Tor، وفي الأكادية والعبرية Shor، وفي الأوغاريتية الحورية و ت ر، وفي الحبشية سور، وفي اللاتينية Taurus، وفي اليونانية Touros، وفي اللتوانية Tauras، المهم في كل هذا ما يقوله علي الشوك: «والعلاقة واضحة بين كلمة ثور والفعل ثار … وتقابل ثار العربية شاور العبرية وتعني: يثب، يقفز، يقوى، وهناك كلمة سار العربية بمعنى مشى، وتقابلها شور العبرية وتعني: يدور، يسافر، ويمكن ذكر كلمة السور أيضًا ومثلها شور العبرية، وتفيد المعنى نفسه.»٣١ وهنا نتذكر أن آخر مدينةٍ شرقية في مصر كانت تحمل اسم «ثارو» في المدونات المصرية، وأنها كانت مخرج جميع حملات مصر على آسيا، وأنها كانت أول الطريق نحو سيناء، وأنها كانت قلعة ذات أسوارٍ عظيمة، وأنها والأهم تنطق في العبرية «شور»، لقد كانت ثارو أو سيلة هي أول مدائن الخروج بعد عبور البحر المفلوق.
-
تحرك الركب بعد ذلك في سيناء، مسيرةً استغرقت ثلاثة أيام جنوبًا، بلغوا بعدها موضعًا باسم مارة «فجاءوا إلى مارة، ولم يقدروا أن يشربوا ماءً من مارة؛ لأنه مر؛ لذلك دعي اسمها مارة، فتذمر الشعب على موسى قائلين: ماذا نشرب؟ فصرخ إلى الرب، فأراه شجرة فطرحها في الماء فصار عذبًا» (خروج، ١٥: ٢٣–٢٥) وبعد رحلتنا المعذبة الشاقة وراء مواضع الخروج، أمكننا افتراض أن الموضع مارة هو موضع البير المرة الآن أو جبل مر، وتقع داخل سيناء إلى الشرق من مدينة السويس الحالية.
ومن المناسب هنا أن نعلم أن تلك المعجزة التوراتية، أمرٌ اعتيادي تمامًا يمارسه الأهلون هناك حتى الآن، فمعلومٌ أن بعض الآبار في الصحراء، تحتوي على كبريتات الكالسيوم، التي تجعل الماء مر المذاق، وأنه إذا أضيف لتلك المياه حمض الإكساليك، تَعادلَ التركيب واختفت المرارة، ولم يزل بدو سيناء حتى اليوم يستخدمون أغصان شجرة اسمها «ألواح»، تحتوي على حمض الإكساليك لإزالة مرارة الآبار، بحكم التجربة المكتسبة خلال الأجيال.
-
ارتحلوا من مارة إلى منطقة اسمها إيليم، وصفتها التوراة بأنها غنية بالنخل وبالعيون (خروج، ١٥: ٢٧)، وهو المكان الذي يمكن احتسابه منطقة عيون موسى الحالية جنوب شرقي السويس.
-
ارتحلوا من إيليم ونزلوا على ساحل بحر سوف، وهو ما يعني أنهم كانوا يلتزمون الطريق المحاذي لشرقي خليج العرب/السويس.
-
عادوا من ساحل بحر سوف إلى عمق الصحاري السينائية مرةً أخرى، ليعمقوا بالداخل إلى منطقةٍ باسم برية سين (خروج، ١٦: ١)، المحتمل أنها المعروفة الآن باسم جبل سن البشر، وهناك يعاني الخارجون من الجوع، رغم ما نعلمه من وجود السوائم معهم، ونفسره بأوامرٍ بعدم أكل اللحم، تحت قيادة رجلٍ عاش في قصور مصر، ويعمل في الغالب بمحرماتها؛ لذلك كان اعتراض الخارجين على موسى وهارون يقول: «ليتنا متنا بيد الرب في مصر، إذ كنا جالسين عن قدور اللحم نأكل خبزًا للشبع، فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر؛ لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع» (خروج، ١٦: ٣) وهنا تأتي معجزةٌ جديدة، تستمر مدةً طويلة، تتمثل في طعام المن وطيور السلوى، التي قدمنا بشأنها التفسير، ونضيف هنا ما اكتشفه بودينسها يمر عام ١٩٢٧م في سيناء، لصنف من الأثل يفرز في الربيع سائلًا حلو المذاق، سرعان ما يجفُّ ويتحول إلى كراتٍ بيضاء، تشبه حبات البرد فور تعرضه للهواء، وإذا حُرق يعطي تبخيرًا طيب الرائحة، وحتى اليوم ينطلق بدو سيناء مع بداية الربيع في جماعاتٍ كبيرة لجمع تلك الكرات، وبإمكان الشخص الواحد أن يجمع حوالي كيلوجرام ونصف في اليوم، وهي كميةٌ كافية لتغذية فرد ليومٍ واحد أو يومَين، ويبدو أن موسى كان يعرف القيمة الغذائية لهذا المنِّ.٣٢ أما السلوى فسوف نعرفه في الأبواب المقبلة بحسبانه طائر السمان/الزقزاق.
-
ارتحلوا من برية سين إلى موضع باسم دفقه (عدد، ٣١: ١٢)، والتي نحققها بموضع «عين الفوقية» الآن، إلى الجنوب من جبل سين البشر، ومن هناك ارتحلوا إلى موضع باسم الوش (عدد، ٣١: ١٣)، لم نتمكن من تحقيقه، وإن كنا نظنه موقع سرابيط الخادم الآن.
-
ارتحلوا من الوش إلى رفيديم (عدد، ٣١: ١٤)، وقد عثرنا إبان سعينا في رحلتنا التنقيبية على ثلاثة مواضع باسم رفيه، فهناك على التجاور وادي رفية وجبل رفية وبئر رفية وجمعها العبري «رفيديم»، وتقع هذه الرفيات أو بالجمع العبري رفيديم في صحراء الطور، إلى الجنوب الشرقي من وادي مكتب، ووادي فيران، وهناك تحدث مشكلة عدم وجود الماء مرةً أخرى، فنجد أعجوبةً أخرى لم تزل إلى الآن من الأمور الاعتيادية، فيضرب موسى الأرض بعصاه، فتنبجس بالمياه عيونًا (خروج، ١٧: ١)، وبدو سيناء حتى اليوم يمارسون ذلك أيضًا؛ لأنهم يعلمون أن مياه الأمطار تتجمع عند سفوح الجبال، تحت شريطٍ رمليٍّ متماسك، وهو التماسك الذي ينشأ من رطوبة الماء تحت الرمل، ويكفي في هذه الحال طرقه بأداةٍ صلبة لتنبجس المياه من تحته.
وعند رفيديم تأتي جماعات تسكن سيناء، يسميهم الكتاب المقدس باسم العماليق أو العناقين على التبادل المتكرر، العمالقة لتدخل معركة مع الخارجين ينسحب العمالقة بعدها.
-
يرتحلون من رفيديم إلى برية سيناء (خروج، ١٩: ١)، ليجدوا جبل سيناء يرتجف بالزلزلة والدخان والنار (خروج، ١٩: ١٨)، ويبدو أن المصريين كانوا قد أقاموا هناك تمثالًا عظيمًا من الفيروز (الحجر الأزرق الصافي، وهو من أحجار سيناء المشهورة)، ربما كان للإله حور أو للإله سيت؛ لأن نص التوراة يحدثنا عن كون موسى أخذ معه سبعين من شيوخ إسرائيل، وصعد بهم الجبل ليشاهدوا رب البركان، ربهم؛ لأن جبل سيناء هو جبل الله حوريب المقدس، وتقول التوراة: «ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل، ورأوا إله إسرائيل، تحت رجلَيه شبه صنعه من العقيق الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل، فرأوا الله» (خروج، ٢٤: ٩–١١).
وفي موقع برية سيناء/جبل الله حوريب/كاترين وموسى الآن، يصعد موسى الجبل وسط ضباب البركان، ليأتي بألواح الشريعة المكتوبة بإصبع الله، ويغيب هناك أربعين ليلة يزوغ أثناءها الخارجون عن ربهم، ويعبدون العجل الذهبي الذي صنعه هارون، ويرقصون حوله عراة، فيغضب موسى ويكسر الألواح، ويضربهم يهوه بالموت في تبعيرة ومسه وقبروت هتأوت، على مسيرة ثلاثة أيام من الجبل (عدد، ١٠: ٣٣)، وفي ذات الموقع يأتي الأمر الإلهي، بصناعة التابوت الذي سينزل الرب ليسكن فيه، ويحملونه معهم في ارتحالاتهم. ونظننا قد تمكننا من تحقيق موضع قبروت هتأوت، أي المقابر بموقع بئر الرقبة وجبل البرقة الآن، إلى الشمال الشرقي من جبل كاترين على الجانب الأيسر لخليج العقبة.
بعد ذلك يصل المرتحلون إلى محطة باسم حضيروت (عدد، ١١: ٣٥)، وهناك تتذمر مريم شقيقة موسى وهارون، وتحمل غاضبة هي وهارون على موسى، اعتراضًا على زواجه من امرأةٍ كوشيةٍ زنجية، وهو ما أغضب يهوه على مريم، فأصابها بعدوى البرص (عدد، ١٢: ١–٩)، وقد أمكننا تحقيق حضيروت بموضع الحضيرة الآن شمالي جبل البرقة وجنوبي وادي وتير الحالي.
يمرون بعد ذلك بعددٍ من المواقع، أمكننا تدقيق بعضها، ولم نتمكن من تحقيق أغلبها، وهي على الترتيب: رثمه (عدد، ٣٣: ١٨)، ثم رمون فارص (عدد، ٣٣: ١٩)، ثم لبنة (عدد، ٣٣: ٢٠)، ثم رسة (عدد، ٣٣: ٢٤)، ثم قهيلاتة (عدد، ٣٣: ٢٢) وربما كانت هي وادي القهلت أو القلت الآن بين إيلات والثمد، ثم جبل شافر (عدد، ٣٣: ٢٣)، ثم حرادة (عدد، ٣٣: ٢٤)، ثم مقهيلوت (عدد، ٣٣: ٥)، ثم تاحت (عدد، ٣٣: ٢٦)، ثم تارح (عدد، ٣٣: ٢٧)، ثم مثقة (عدد، ٣٣: ٢٨)، ثم حشمونة (عدد، ٣٣: ٢٩)، ثم مسيروت (عدد، ٣٣: ٣٠)، ثم بني يعقان، ثم حور الجد جاد (عدد، ٣٣: ٣٢).
والواضح أن كل تلك المراحل من خط السير كانت تقع على الساحل الغربي لخليج العقبة؛ لأنها تنتهي عند قمة خليج العقبة في موضع باسم «يطبات» (عدد، ٣٣: ٣٣)، ويوجد بهذا الاسم عدد من المواقع هناك، مثل طوبية وطابا ويطبات، والأغلب أن المقصود بها طوبية إلى الجنوب من قمة الخليج ببضعة أميال؛ لأنهم بعد ذلك يمرون بموقع عبرونة (عدد، ٣٣: ٣٤)، ثم ميناء عصيون جابر، الذي تذكره التوراة باعتباره يقع على بحر سوف، على قمة خليج العقبة بجوار أيلة (إيلات)، الميناء المعروف على خليج العقبة (عدد، ٣٣: ٣٥؛ تثنية ٢: ١).
ويبدو أنهم كانوا في مبدأ الأمر يريدون الوصول إلى نقطةٍ حصينة، تسمح بإيواء هذا العدد الغفير جنوبي فلسطين، حتى يقرُّوا قرارهم بدخول فلسطين من جنوبها أم من شرقها، وكانت تلك المنطقة المختارة هي قادش برنيع/عين مشفاط عدد ٣٣ / ٣٦، التي تم تحقيقها والاتفاق عليها بين مدارس نقد التوراة بعين قديس الحالية، عند برية صين وبرية فاران، اللتين حققناهما ببرية تسين وبرية باران الحاليتَين، ومن قادش بعد ثمانية وثلاثين عامًا، تخللتها صراعات واتفاقات بين أهل مديان وبين الخارجين، قرروا عبور بلاد آدوم من عند العقبة وعصيون جابر، دون الدخول في أية صراعات أو معارك مع أهل آدوم؛ مما يشير إلى التحالف القرابي بين الجميع، ومن هناك يعبرون بلاد موآب ثم عمون إلى جبل نبو شرقي الأردن مقابل أريحا، حيث تزعم التوراة موت موسى هناك (عدد، ٣٣: ٤٧)، وكان هارون قد مات قبله ودفن في جبل هور (عدد، ١٤: ٢٢)، الذي يحمل أيضًا اسم جبل موسير (تثنية، ١٠: ٦)، وبعدها يقودهم يشوع عابرًا نهر الأردن من شرقيه إلى غربه، لفتح فلسطين بادئًا بأريحا.
وهنا تحكي لنا التوراة عن معجزةٍ جديدة، بطلها هذه المرة يشوع بن نون خليفة موسى، فقد كانت أريحا قلعةً حصينة، يحيط بها سورٌ قويٌّ منيع، يقف عقبةً كئودًا إزاء أي طامع، وهنا تروي التوراة أن يشوع قام بعملَين معجزَين: الأول عند عبور نهر الأردن، والثاني عند اقتحام أريحا.
والمعجزة الأولى هي تكرار لمعجزة فلق البحر الموسوية، فقد أمر يشوع باختيار اثنى عشر رجلًا، يمثلون الأسباط ليحملوا تابوت العهد على أكتافهم، ويخوضوا به في ماء الأردن، وعندما فعلوا ذلك توقفت المياه المنحدرة من فوق، وقامت ندًّا واحدًا بعيدًا جدًّا عن آدام المدينة التي إلى جانب صرتان، والمنحدرة إلى بحر العربة (البحر الميت) بحر الملح، انقطعت تمامًا وعبر الشعب مقابل أريحا (يشوع، ٣: ١٦-١٧).
أما المعجزة الثانية فكانت حول حصون أريحا، عندما أمر يشوع رجاله قائلًا: «تدورون دائرة المدينة سبع مرات، والكهنة يضربون بالأبواق، ويكون عند امتداد قرن الهتاف، عند استماعكم صوت البوق، أن جميع الشعب يهتف هتافًا عظيمًا فيسقط سور المدينة مكانه» (يشوع ٦: ٤-٥).
وإن المرء ليسأل نفسه في دهشةٍ عن الحكمة، في دوران جيشٍ هائل حول مدينةٍ محصنةٍ مطمئنة سبع مرات، والكهنة ينفخون الأبواق، والجيش يهتف بصوتٍ عالٍ قوي، وعلاقة هذا كله بسقوط السور المفاجئ، اللهم إلا إذا كان هذا كله لإلهاء حراس الأسوار، وإلقاء الرعب والذعر بين سكان أريحا، مع التغطية على عملٍ عسكريٍّ حقيقي، يتم تحت ستار من الهرج والمرج والأصوات المُفزعة، في خفاء الغبار الذي يثيره دوران المهاجمين حول القلعة.