حليم
فقال له الشيخ: وهل تقيم عندنا طويلًا يا بنيَّ.
فأجاب الشاب: نعم يا عم فإنني جئت من أقاصي البلاد لأشاهد المدن الثلاث التي سار بذكرها الركبان، وربما استغرقت إقامتي عندكم شهرًا على الأقل، لأنني سأزورها واحدة واحدة وأبحث في شؤونها بحث مؤرخ دارس لا بحث متفرج.
فتنفَّس الشيخ الصعداء وقال: أفٍّ أفْ، كم يزور الناس هذه المدن الثلاث، فهم يظنونها عجيبة من عجائب الدنيا مع أننا نحن لا نراها إلَّا مدنًا كباقي المدن، انظر إليها، أي فرق بينها وبين باقي المدن سوى قيامها في هذا السهل الفسيح بشكل مثلث.
فنظر الحاضرون إلى حيث أشار الشيخ فشاهدوا أمامهم سهلًا فسيحًا لا يعرف الطرف آخره، وكان في هذا السهل ثلاثة بلدان جميلة البنيان محاطة من كل جهة بالحدائق والبساتين والحقول الصفراء من منظر الزرع تتخللها المواشي المختلفة وهي ترعى بحراسة فتيان وفتيات كانوا جالسين أفرادًا وأزواجًا وجماعات تحت الأشجار المثمرة أو في ظل بعض السياجات.
فقال الشاب بعد أن سرَّح طرفه في هذا المنظر البرِّي، حقًّا إنه منظر بديع.
وكان المكان الذي يقيم فيه الشاب والشيخ مع بعض من الزائرين منزلًا صغيرًا في قرية صغيرة قريبة من «المدن الثلاث» وكانت هذه القرية في أول السهل على مقربة من النهر الجميل الذي كان ينساب في السهل انسياب الأفعى ليسقي زروعه وأشجاره، وقد سمى الناس هذه القرية «الدخول» أو قرية الدخول لأنها المدخل إلى المدن الثلاث، إلى تلك البقعة التي كان يحسبها الناس جنة الله في أرضه.
فبعد أن أمعن الشاب النظر قليلًا في المدن الثلاث التفت إلى الشيخ وقال: هل تعرف يا عم تاريخ تأسيس هذه المدن بالتدقيق.
فأجاب الشيخ: كل الناس هنا يعرفون هذا التاريخ يا بنيَّ لأنهم لا ينسون ذكر ذلك الرجل الكريم والإنسان الذي لا مثيل له بين البشر، مؤسس هذه المدن ومنشئها، انظر إلى تلك الحديقة البعيدة الكائنة في وسط المدن الثلاث، هذه حديقته وقد أقام له فيها أهل هذه المدن تمثالًا عظيمًا يحتفلون بتذكاره مرة في كل عام.
فقال الشاب: إنك تتكلم عن المرحوم الشيخ سليمان فاحكِ لي قصته وقصة تأسيس هذه المدن من أولها.
فسعل الشيخ قليلًا وأصلح جلوسه فوق الوسادة ثم أخذ يقول: منذ نحو مائة سنة يا بنيَّ كان الشيخ سليمان فتى فقيرًا يتيمًا يتجول في المدن يطلب عملًا، فذاق في صباه كل أنواع العذاب في هذه الحياة، ومما كان يزيد عذابه نفسه الحساسة الكبيرة، طبقًا لما قيل:
ولكن يظهر أن العناية الإلهية يا بنيَّ لا تخصُّ بعض هذه النفوس بالشقاء والنقم والعذاب إلا لمقاصد سامية، فإنه إذا كانت المصائب تسحق النفوس الصغيرة وتفلّ عزائمها فإنها تشدّد عزائم النفوس الكبيرة لأنها تعلّمها بالاختبار ما لا تتعلمه بسواه، فهي كالعود الطيب الذي لا تنتشر رائحته إلا متى مسته النار، أو كالزيت الذي لا يضيء إلا بالاحتراق، وهذا ما جرى للشيخ سليمان، فإنه بعد أن ذاق من مصائب الحياة ما ذاق في إبان الفقر والضيق لم تسمح له طبيعته الكريمة أن ينسى ذلك في أيام الثروة والرخاء.
ولذلك كان همه أول ما أثرى وجمع مالًا طائلًا أن يقوم بمشروع كانت تحدثه نفسه به منذ صباه.
فإنه في ذات يوم أعلن في البلاد كلها إعلانًا غريبًا ألصقه في الشوارع وفرقه في الناس وبعثره في الطرق والأسواق، ومحصل هذا الإعلان أن كل فتى وكل فتاة يجولان في الشوارع بلا شغل ولا رزق إذا قصداه فإنه يعطيهما شغلًا ورزقًا واسعًا، فلم يمض على هذا الإعلان أسبوع واحد حتى بلغ عدد الفتيان الذين قصدوه ٣٢٤٥ فتى وعدد الفتيات ٣١٢٠، فاشترى الشيخ سليمان هذا السهل الواسع الذي أمامنا ومساحته ٥٠٠٠ فدان، وأسكن أولئك الفتيان والفتيات فيه وأحضر لهم زراعًا وصناعًا يدربونهم على الزراعة والصناعة، وأقام منهم حكومة لهم، وسن لهذه الحكومة قوانين وجعل فيها قضاة وجندًا ورئيسًا أعلى، نعم إن ذلك كان مضحكًا في بدء الأمر ولكنه لم يلبث أن صار جديًّا مهمًّا، فإن أولئك الفتيان والفتيات الفقراء الذين اجتمعوا من كل الجهات انتقلوا بهذه المعاملة من حالة إلى حالة، فبعد أن كانوا مثلًا يجمعون أعقاب السكائر من الشوارع والأسواق ليبيعوها إلى تجار الدخان، أو يطوفون المدينة بالنهار بأثواب بالية قذرة يستعطون قوتهم أو يطلبونه من فضلات المنازل في المزابل، وفي الليل ينامون أكداسًا أكداسًا في زوايا الطرق على البلاط البارد حتى في أشد ليالي الشتاء بردًا كأنهم حيوانات لا بشر — صاروا يشتغلون بشرف واجتهاد في أماكن معدة لذلك ويلبسون من أجرة شغلهم ثيابًا نظيفة ويتغذون بأطعمة مغذِّية، ولم تعد ترى في عيونهم ذلك القلق الشديد الذي كان فيها حين كانوا في تيار تلك المعيشة الهائلة التي لا يكون فيها الإنسان على ثقة حتى من بلغة يسدّ بها رمقه في المساء أو في الصباح لتدوم له حياته، بل حلَّ محل ذلك القلق طمأنينة تامة لثقة ذلك العامل الصغير بأن حياته صارت مضمونة، ولذلك صار يبتسم للحياة ابتسام الراحة والارتياح بعد أن لم يكن يبتسم من قبل إلا ابتسام عدم المبالاة بشيء حتى بالحياة، ومما زاده راحة وسعادة حكومته نفسه بنفسه تحت مراقبة الشيخ سليمان وصيته، فإنه لم يمرّ على هؤُلاء الأولاد نحو سنة من الزمان حتى صاروا يشعرون بالتبعة التي عليهم ولذلك صاروا يراعون الحدود في سلوكهم، ومن هذا اليوم يبدأ تاريخ نهوضهم من عثرتهم.
فقطع الشاب كلام الشيخ وقال: إذًا أجداد سكان هذه المدن الثلاث كانوا من فضلات الأزقة والشوارع.
فقال: نعم يا بني ولكن تذكر أن الورد لا ينبت إلا من الشوك والنرجس لا يخرج إلا من بصل، على أننا نحن سكان هذه القرية كنا نودّ لو اقتصر سكان هذه المدن الثلاث على المعيشة التي عاشها أجدادهم أولئك الفتيان العاملون؛ لأن في ذلك راحتنا من الاضطرابات والفتن التي قام قائمها بين السكان في الأزمنة الأخيرة، فأولئك الفتيان كان لا همَّ لهم غير زراعة أرضهم وإتقان مصنوعاتهم والمعيشة بسلام بعضهم مع بعض، أما أصحابنا هؤلاء فإن دأبهم النزاع والخصام، فنعم الآباء ولكن بئس ما ولدوا.
فقال الشاب: وما سبب نزاعهم وخصامهم؟
فقال الشيخ: أنتَ ترى يا بنيَّ أن هذه المدن ثلاث، فإحداها تُدعى مدينة المال لأن أهلها كلهم يشتغلون بجمع المال، والثانية تدعى «مدينة العلم» لأن أهلها كلهم يشتغلون بالعلم، والثالثة تدعى «مدينة الدين» لأن أهلها كلهم منقطعون إلى الدين، وقد حدث هذا الانقسام على ما ترى منذ زمن بعيد، فإن أولئك الفتيان والفتيات الذين أسسوا هذه الجمهورية الصغيرة بعد اشتغالهم بزراعة الأرض وإتقان المصنوعات أصابوا نصيبًا من الثروة والسعة، فلما تزاوجوا وتكاثروا جاء أبناؤهم أرقى منهم وأكثر ميلًا إلى الشؤون النفيسة، فعكف بعضهم على التجارة وبعضهم على العلم وبعضهم على الأدب وبعضهم على الدين، كل بحسب استعداد نفسه وقابليتها، فلم يمر زمن طويل حتى قام النزاع بينهم على ساق وقدم، فارتأى بعض منهم زيادة في توسيع المعيشة على السكان أن ينشئوا بلدتين أخريين قريبتين من البلدة الأصلية، ثم رغبةً في حصر النزاع في مكان واحد أو منعًا للنزاع قرروا أن تسكن كل طبقة في بلدة، فطبقة المال تسكن في البلدة الشرقية وطبقة العلم في البلدة الغربية وطبقة الدين في البلدة الجنوبية، ولكنَّ هذا التدبير قد ذهب سدى بلا جدوى لأنَّ النزاع ما زال قائمًا بينهم.