تحالف الأرض والسماء
ولما أقبل المساء ساد على المدينة سكون تام، فتنفس الحكام وأصحاب الأعمال الصعداء واطمأنت نفوسهم قليلًا، وعاد لمدينة المال شيءٌ من منظرها الاعتيادي بعد ذلك الاضطراب، فكان الناس في القهاوي والساحات العمومية جالسين يستنشقون نسيم المساء وهم يتباحثون بهدوءٍ في حوادث النهار.
ثم انتصف الليل فأطفأت الأنوار في المدينة ونام جميع السكان، وساد سكوت تام حتى لم يُسمع فيها سوى خرير النهر الجاري يسقي المدن الثلاث وصوت الخفاش في طيرانه في الظلام ووقع أقدام الجنود والحراس الذين كانوا يحرسون المدينة في الليل، وكان هؤلاء الحراس يسمعون حينًا بعد حين في ظلمة الليل صوت طائر بعيد فيقول بعضهم لرفاقه: إن عظامي تنتفض كلما سمعتُ هذا الصوت في الليل في أحوال كهذه الأحوال.
ذلك أن ذلك الصوت كان صوت البوم المشهور بأنه نذير الخراب.
وبقيت المدينة نائمة بهدوء واطمئنان تحت جنح الدجى حتى الساعة الثالثة قبل الفجر، ففي هذه الساعة انتشرت في أنحاء المدينة أنوار مختلفة في جوانبها الأربعة، ثم علا الصياح والصراخ، ثم ارتفع الدخان فسد منافس الفضاء، وحينئذٍ حدث حادث ترتعد له الفرائص وترتجف القلوب، فإن المدينة كلها هبت من الرقاد هبة مجنون، وصار الرجال يصرخون والنساء يولولن والأولاد يبكون وينتحبون، ذلك أن لسان النار لعبت في أكثر منازل المدينة خصوصًا في معاملها ومتاجرها ومنازل أصحاب الأعمال فيها، وهجم عليها جماعات كأنهم أبالسة خرجوا من الجحيم فصاروا ينهبون ويسلبون، وكان حليم ورفيقه نائمين في فندق من أشهر فنادق المدينة، فلما انتبها وشاهدا النار تأكله أخذا الستائر والسجادات فعملا منها سلمًا وتدليا عليها إلى الأرض، ولما باتا في الشوارع أبصرا فيها ما تتفطر له القلوب، أبصرا الإنسان بحالته الحيوانية الحقيقية، فإن جماعات السلابين النهابين كانوا يهاجمون كوحوش ضارية ويكسرون المخازن والحوانيت ويحملون ما فيها، وكانوا يصعدون إلى القصور الكبيرة والنار تضطرم فيها وبدل أن ينقذوا النساء والأولاد الذين كانوا يختنقون فيها من الدخان أو يحترقون بلهيب النار كانوا يقتلون وينهبون كل ما وصلت إليه أيديهم، أما الجند والمطافئ فماذا تقدر أن تصنع في ثورة عمومية كهذه الثورة، فإنه لم يكن في المدينة سوى ١٠ مطافئ ومع ذلك فقد كانت النار مضطرمة في ٥٠٠ منزل، وعن قريب ستصل إلى باقي المنازل فتأكلها كلها.
وقد ظن حليم لأول وهلة أن هذا المصاب قد حلَّ بمدينة المال وحدها ولكنه لم يلبث أن سمع الصراخ من جهتي مدينة العلم والدين ورأى اللهيب يرتفع من جوانبهما، فقال لرفيقه: هذه مؤامرة دبرها الغلاة المتطرفون ولا شك أنها نتيجة الإعلان الذي نشر أمس، فسأله رفيقه وما رأيك فيها، فأجاب حليم لو كنت أملك الآن مسدسًا ومائة خرطوشة لكنت أظهر لك رأيي فيها، فإنني كنت أذهب وأحرق أدمغة كل من أراه في طريقي من هؤلاء الأبالسة الذين يقتلون وينهبون، ولا شكَّ عندي أن عقلاء العمال والاشتراكيين أنفسهم يأنفون من إنزال مبادئهم إلى هذه الحمأة من اللصوصية والسفالة، فقال له رفيقه: ولكن ألا تظن أن هذا التطرف نتيجة لازمة عن تطرف الفريق الثاني.
فهمَّ حليم أن يجيبه بأنه لا يريد أن يعرف عذرًا للسلب والقتل والنهب مهما كان سببه، وإذ ارتفع في المدينة صراخ اليأس والاضطراب تمازجهما طلقات البارود، فأصغى حليم وسأل ما هذا؟ ثم علم أن الجنود قد أخذوا كل ما في ثكناتهم من الرصاص وهجموا بقيادة رؤسائهم على جماعات الثائرين يفتكون بهم فتكًا ذريعًا، فدارت بين الفريقين رحى حرب حقيقية سالت بها الدماء، وكانت لتلك الدماء على أشعة النيران المتقدة حولها بين حشرجة القتلى وولولة النساء وصراخ الرجال منظر مريع.
وكان حليم يُسرح نظره من بعيد في المشاهد الفظيعة التي كان يراها أمامه وهو مشتغل البال بها لا يقدر على رد شيءٍ منها، ومضطرب الفكر لما عسى أن يكون قد جرى للفتاة العزيزة التي شاهدها في البستان عند «قرية الدخول» وكان يفكر بها، لكنه بعد برهة سمع هديرًا عظيمًا قريبًا فعلم أنه صوت انهدام القصور المحترقة، ثم سمع أصوات القتل والبنادق أقرب منه مما كانت، فرأى أن يخرج من المدينة فرارًا من البلاء ما دام لا يقدر أن يرده، فأخذ رفيقه وخرج معه من المدينة بنفس متألمة أشد ألم، وقصدا أكمة قريبة مشرفة على المدن الثلاث وكانت مغروسة أشجارًا يتفيأ السكان ظلها في حر الهجير، فشاهدا منها مشهدًا جميلًا مريعًا، فإن ألسنة النار كانت تندلع في المدن الثلاث فتنير الأفق بنور تخالطه سحب من الدخان القاتم تحت سماء مستترة بالغيوم السوداء، كأن السماء خجلت من أن تشاهد فظائع البشر في الأرض في تلك الساعة، وكانت أصوات القتال تردُ من المدن الثلاث في صفاء ذلك الليل فتزيد ذلك المنظر رهبة وفظاعة.
ولكن يظهر أن السماء كرهت أن تبقى واقفة لدى هذه الفظائع الأرضية وقفة المتفرج المشاهِد زمنًا طويلًا، نعم إن صبرها طويل ولكن لكل شيء حدًّا، ولذلك تناول جوبيتير أقوى صواعقه وأرسلها في الفضاء، فلعلع الرعد فوق تلك المدن الثلاث كإنذار وتهديد للأرض من السماء أن تسكن وتهدأ وإلا أخربتها، ولكن أهل الأرض لم يسمعوا هذا الإنذار لأن أصوات البارود وصراخ القاتلين والمقتولين كانت تصمُّ آذانهم، فحدث حينئذ ما زاد تلك المناظر رهبة وفظاعة، فإن زوبعة هائلة هبت على السهل الذي كانت فيه المدن الثلاث وصارت تكنس كل ما في طريقها، وزأرت الريح وقصفت الرعود ومدت التنانين خراطيمها من السحاب وهطل المطر كأفواه القرب، وكأن الأرض خشيت من السماء قبل البشر ولذلك اهتزت تحت المدن الثلاث بزلزلة شديدة، وهكذا تحالف على المدن الثلاث التعيسة النار والقتل والصواعق والزوابع والزلازل، كأن السماء تخلت عنها وقضت عليها قضاءً نهائيًّا.
وكان حليم في ذلك الحين جالسًا مع رفيقه تحت شجرة والمطر قد بلل ثيابهما، ومع ذلك فقد كانا ينظران باهتمام إلى تلك المدن وينتظران طلوع الفجر، فلما طلع الفجر وصار في إمكانهما أن يلمحا المدن لم يشاهدا فيها — وا أسفاه — سوى خرائب وأكوام سوداء ينبعث الدخان عنها.
فصاح حليم حينئذٍ: وا حرباه، أهكذا خربت سدوم وعمورة وبابل ونينوي في القرون الماضية؟
ولما لفظ حليم هذه العبارة وقع نظره على فرسان قادمين من جهة مدينة المال، فلبث يحدق في جهتهم حتى انكشفوا له وكان الفجر قد زاد إشراقًا، فدبت حينئذ في نفس حليم قشعريرة شديدة، ذلك أن هؤلاء الفرسان كانوا خمس فتيات، وهن هن اللواتي شاهدهن في البستان قرب قرية الدخول، وكانت حسناؤه صاحبة الحلة البيضاء راكبة في وسطهن كما كانت هناك، فصاح حليم برفيقه: ماذا نصنع الآن، أترى هؤلاء الفتيات بقية من بقي من سكان المدن الثلاث فجئن يلجأن إلى هذه الأكمة فرارًا من الزلازل والنار، عزيزي صادق ماذا نصنع، ألا تظنُّ أنهن يجفلن ويخفن منا إذا شاهدننا هنا.
وبعد برهة دنت الفتيات على أفراسهن، وكان في يد كل واحدة منهنَّ منديل تمسح به دموعها من حين إلى حين، وهنَّ بلباس النوم، وكانت وجوههن صفراء كوجوه الموتى، فلما وقع نظر حليم على هذه الوجوه وتلك الدموع لم يتمالك أن بكى ملء عينيه، وقال في نفسه، إن الأبالسة والشياطين حين إتيانهم الشر في الأرض لا يفتكرون أن شرهم لا يقع أشد أذاه إلا على اللواتي هنَّ أقل تحملًا له.
ولما صعدت الفتيات إلى الأكمة وشاهدن فيها بشرًا أغرقن في البكاء، وصرن لا يرفعن مناديلهن عن عيونهنَّ إلا للنظر إلى المدن وما صارت إليه، فأين بكاء أرميا على أنقاض «ابنة صهيون» من بكاء هؤلاء العذارى على وطنهنَّ المحبوب، لقد فقدن — بفقده — كل شيءٍ، لقد خرجن منه كما يخرج السيف من غمده، فالأهل والمال والمنزل والصداقة ورغد العيش والوطن والعائلة والآمال، كل هذه ذهبت في ليلة واحدة ولم يبق في مكانها غير أكوام الفحم والحجارة وأشلاء القتلى ورائحة الدماء والدخان، فيا أيتها السماء لماذا كنت قاسية إلى هذا الحد، يا أيها الخالق الحكيم ليتك كنت أكثر رحمة وأشد رأفة؛ لأنه إذا استأهل كل أولئك العتاة القساة عقابك فهؤلاء الضعيفات الطاهرات الرقيقات — وألوف غيرهن — لا يستأهلنه.
وكان حليم في تلك الأثناء منزويًا مع رفيقه وقلبه يتقطع حزنًا وأسفًا، وبعد برهة تقدم وهو يبكي لبكاء الفتيات التعيسات وقال مخاطبًا حسناءه وكان يظهر أنها أكبرهن سنًّا وأرشدهنَّ رأيًا: هل تسمح سيدتي في حين كهذا الحين أن أعرض عليها وعلى رفيقاتها خدمتي؟ وكان حليم قد خاطب حسناءه بقلب خلا في تلك الساعة من الحب لأن عاطفة الحب قد غرقت حينئذٍ في عاطفة الحزن والشفقة والرأفة، وهذا شأن القلوب الكريمة؛ ذلك لأن عاطفة الحب أكثرها مصوغ من عاطفة محبة الذات، وأما عاطفة الحزن والشفقة والرأفة فأكثرها مصوغ من محبة الغير، والقلب الكريم في ساعة كهذه يفتكر بغيره لا بذاته.
فاشتدَّ بكاءُ الفتيات عند سؤال حليم، وأجابته فتاته: عفوًا يا سيدي، ماذا تقدر أن تعمل؟ إن أبانا حاكم المدينة كان أول القتلى، ومنزلنا كان أول المنازل المحروقة، ولولا مساعدة الجند الذين كانوا نيامًا في دارنا لما نجا منا أحدٌ، بل كان حل بنا ما حلَّ بباقي السكان الذين مات نصفهم بالسيف والنار والرصاص ونصفهم بالزوابع والزلازل، فكل ما نطلبه منك هو أن تصلي إلى الله معنا أن يرحمنا ويعزينا.
ورغبة من حليم في أن يروح هموم الفتاة قليلًا ويشغل فكرها عنها ولو دقيقة سألها: ولكن ما الذي دعا إلى هذه الفاجعة الهائلة يا سيدتي بعد ما رأيناه من سكينة الأحزاب؟
فأجابت الفتاة والدموع ملء عينيها: إنني أنقل لك يا سيدي السبب الذي ذكره لي أبي أمس قبل دخولي إلى غرفة النوم، فإنه أخذ يدي بين يديه وقال لي: أتعرفين سبب كل هذه القبائح يا بنية، سببها الشراهة والأثرة والطمع، ولست أبرئ منها حزبًا دون حزب، لأن التبعة واقعة على الجميع، ولا أستغرب أن تخسف بنا الأرض أو تنقضّ علينا صواعق السماء ما دمنا بعيدين إلى هذا الحد عن مبدأ الرفق والإخاء.