الحديقة
والظاهر أن حليمًا ورفيقه قد ناما قليلًا في الفندق بعد الغداءِ ولذلك لم يخرجا منه إلا بعد العصر، فأقبلا نحو الحديقة وكانت غاصة بالناس من كل الطبقات.
وكان في الحديقة ثلاث قاعات كبرى كل واحدة منها قائمة في أحد جوانب الحديقة، فكان كل فريق من سكان مدينة العلم والدين والمال يجتمع في إحدى هذه القاعات للبحث في شؤونهم وأحوالهم، فكانت قاعة أهل المال عبارة عن بورصة صغيرة وقاعة أهل العلم عبارة عن مكتبة كبيرة، وقاعة أهل الدين نصفها مكتبة ونصفها مجتمع للحديث.
فلما دخل حليم ورفيقه إلى الحديقة شاهدا الناس منتشرين في أطرافها بين أشجارها الجميلة وأزهارها العطرية، وأكثرهم يتحادثون ويتجادلون بحدَّة، غير أن دخول هذين الزائرين الغريبين إلى الحديقة نبَّه المتنزهين فيها إليهما فصاروا يقلبون أنظارهم في هيئتهما وملابسهما، فقال حليم حينئذ لرفيقه: إن القوم قد التفتوا إلينا فإذا سألك أحد عن اسمي فقل له: إنني أدعى حليمًا وصناعتي التجارة وقد جئنا نستبضع من مدينة المال، وإياك أن تذكر لأحد اسمي فإنني أكره الرسميات في سياحتي هذه.
وبينما كان حليم يوصي رفيقه بهذا الأمر على مقربة من قاعة أهل العلم كان ثلاثة شبان وقوفًا قرب هذه القاعة وهم يتفرسون بهما جيدًا، ثم سُمع أحدهم يقول: لا شك أنه هو لأنني شاهدتُ صورته قبل اليوم في إحدى مجلاتنا، فقال الآخر: لا يبعد أن يكون هو بعينه فإن منظره اللطيف الهادئ لا يُكذّب شهرته الواسعة. وحينئذ انفرد المتكلم الأول عن رفيقيه وسار نحو حليم وصديقه بخطى واسعة وهو يبتسم.
فلما رآه حليم قادمًا بهذه الهيئة لم يشك في كونه قادمًا لمخاطبته فتشاغل عنه بمحادثة رفيقه، أما الشاب القادم فإنه لما صار على مقربة منه مدَّ يده إليه مسلمًا وقال باحترام وبشاشة: أرجو أن تسمح لي بسؤال يا سيدي، هل تريد أن تشرّفني بمعرفتك، فتلعثم حليم قليلًا لأنه كره الكذب ثم أجاب: نحن ضيوف يا سيدي في المدن الثلاث الجميلة وقد جئنا لمشاهدتها والاستفادة من أهلها الكرام، فقال الشاب: نعم، لا ريب عندي في أنكم ضيوف، ولكني أول ما وقع نظري على جنابك تذكَّرت أنني شاهدت هذا الوجه قبل الآن في إحدى مجلّاتنا، أَلست جنابك الخواجا حليم المصوّر الطائر الصيت.
فلما رأى حليم أنهم عرفوه ضحك وأجاب: إن ذكاءكم في هذه البلاد غريب يا سيدي فإنكم تعرفون الرجل من غير أن تعرفوه.
فلم يتمالك الشاب أن عاد وثبًا إلى رفيقيه وأخبرهم أن ذلك الضيف هو المصوّر حليم نفسه، فانتشر هذا الخبر بسرعة البرق في الحديقة كلها، فصار الناس يتداعون لمشاهدة الرسام الطائر الصيت الذي بارى في هذا الفن أشهر الرسامين وطارت شهرته في جميع أقطار العالم، ولم تمض دقيقتان حتى اجتمع كل من في الحديقة من أهل العلم والمال والدين حول حليم ورفيقه وصارت الأعناق تتطاول إليهما من كل صوب، فازداد الورد في وجنتي حليم خجلًا من ذلك لأنه كان كثير التواضع قليل الجرأة على مقابلة آلهة الشهرة، ولكنه لم يكن ضعيفًا إلى حد الجبن، ولذلك رفع رأسه بعد ذلك الحياء بجرأَة وبشاشة وحيّا بهزّ رأسه باسمًا، وكان الجمع الذي حوله في حركة في ذلك الحين ثم انفرد منهم خمسة بينهم رجال من أهل المال والعلم والدين وتقدموا نحوه، فتبعهم باقي الجمع زاحفين نحو حليم كالجند وهم كالبناء المرصوص، فخطا حينئذ حليم نحوهم بخطى واسعة وهزَّ الأيدي التي كانت تُمدُّ إليه من كل جانب كأنها أغصان مشتبكة.
ومنذ هذا الحين فقد حليم نصف لذة السفر لأنه صار مقيدًا بعد أن كان مطلقًا يروح ويجيءُ كما يشاءُ، إلا أن خسارته هذه لا تعادل الفائدة التي استفادها في ساعة واحدة بعد أن عرفه أهل هذه البلاد، فإنه صار دفعة واحدة في وسطهم فأصبح قادرًا على الوقوف على كل ما أراد الوقوف عليه منهم.
وبعد أن جلس حليم واستراح برهة حدثهم في أثنائها عن سفره وما شاهده في المدن الثلاث همَّ بالاستئذان فدنا منه الشاب الذي كان أول من عرفه وقال: لي على جميع أخواني حق التقدم لأنني كنت أول من تشرف بمعرفتك، فأنا أرجو أن تتخذني صديقًا ورفيقًا لك في هذه الديار لأدلّك في سياحتك، فشكر له حليم لطفه وأدبه، ثم نهض يطلب الخروج من الحديقة وكل جوارحه تتمناه، فهمس ذلك الشاب في أذنه قائلًا: ألا تحضر الاجتماع الليلة في الحديقة، فقال حليم: وأي اجتماع؟ فقال الشاب: إن الليالي الثلاث القادمة ليالي في غاية الأهمية، فإن السكان عزموا على الاجتماع فيها ثلاث مرات لحلّ بعض المشاكل التي بينهم والتي هي سبب النزاع والخلاف بين طبقاتهم، ولا ريب أنَّ خراب مدننا الثلاث وعمرانها يتوقفان على نتيجة هذه الاجتماعات، والليلة الأولى مخصوصة بالمال، والليلة الثانية بالعلم، والليلة الثالثة بالدين. فقال حليم: سأحضر هذه الاجتماعات لا محالة، ثم ودَّع وخرج مع رفيقيه وهو يقول في نفسه: إنه قد جاء في أحسن الأوقات وأهمها.