وضع الجنون موضع العقل
وخرج الجمع من الحديقة وهم يتباحثون في هذه الاقتراحات، وكان حليم في جملتهم يباحث فيها رفيقه صادقًا ويعرب له عن سروره بنيل الشعب ما لم ينله سواه في باقي البلاد.
الشعب المهذب يخون الشعب المسكين
أيها الإخوة العمال والمستخدمون، لقد خانوكم وضحكوا عليكم، فلا تصدقوهم، ولا ترضوا باقتراحاتهم؛ إذ لا غرض لهم من هذه الاقتراحات سوى إرجاعكم إلى العبودية بالأجرة، وأنتم لا تطلبون الضريبة على الإيراد ولا زيادة رواتبكم، بل تطلبون مشاركة أصحاب الأعمال في أعمالهم، فإذا رفضوا هذا الطلب فإن من حقوقكم الاستيلاء على المعامل والمزارع والمتاجر والمصانع؛ لأنها ملك لكم بحكم الطبع وهو خير من حكم الشرع، فاستولوا عليها ولا تخافوا فإن الجيش معكم.
أيها الأخوة، هل تعرفون الذين خانوكم؟ خانكم أولئك الذين يسمون أنفسهم علماء معتدلين، وما دروا أن الاعتدال لا يُحصل حقًّا ضائعًا، يقولون إنهم أهل العلم وإنهم خرجوا من أحشاء الشعب ولذلك يرومون خدمته، فأخبروهم أنكم في غنى عن خدمتهم إذا كانت على هذا المثال، وخير لنا عداوتهم، إنهم اقتدوا برؤساء الدين ومالوا لأصحاب الأموال ترويجًا لمصالحهم وإشباعًا لبطونهم، فقولوا لهم إن خيانتهم مزدوجة، أولًا لأنهم يفتخرون بكونهم خرجوا من الشعب، وثانيًا لأنهم تهذبوا ولم يمنعهم تهذيبهم من الخيانة، فما أحط ابن الشعب الذي حين ارتقائه لا يصرف همه إلا لخيانة أبيه الشعب الفقير المسكين، وأنتم تفضلون ولا شك أرباب الأعمال المتغطرسين عليكم والمقاومين لكم على هؤلاء الأخوة الكاذبين الخائنين.
أيها الأخوة، نحن في غنى عن الجميع، واعتمادنا على أنفسنا، فلنجتمع اليوم على أبواب المصانع والمزارع والمتاجر لنناقش أصحابها الحساب ونريهم قوتنا ونبلغهم نهائيًّا أننا نطلب الموت أو مشاركتهم في أرباح أعمالهم.
فلما نزل حليم من الفندق وقرأ هذا الإعلان في الشارع أحس بقشعريرة تدبُّ في جسده، وقال لرفيقه صادق: إن الموقف حرج والمصير سيئٌ، ثم ذهب يجول في أسواق المدينة وشوارعها فوجد الاضطراب سائدًا فيها، فإن أصحاب المعامل والمزارع والمتاجر بعثوا حين وقوفهم على ذلك الإعلان يطلبون من الحكومة جندًا لحراسة مخازنهم ومعاملهم، فجاء الجند وطوقوها تطويقًا، وكان العمال والمستخدمون يتوافدون عليها مئات مئات من كل صوب وهم يصيحون: «الاشتراك أو الموت»، فلما قربوا منها وشاهدوا الجند حولها ازدادوا حدة وهياجًا وصاروا يصيحون: «أيها الجنود نحن وأنتم إخوان لأننا جميعًا من أبناء الشعب، فلا تسيئوا إلينا»، وكانت الجنود تسمعهم وتحول نظرها عنهم اتباعًا لنظامها.
ولما حاول بعض العمال الدخول إلى المعامل والمخازن حال الجنود بينهم وبين الدخول، فحدثت فتنة بين الفريقين، واتفق في هذا الحين أن أطلق واحدٌ من العمال طلقًا من مسدس كان معه فأصاب كتف أحد الجنود، فعمَّ الاضطراب في تلك الناحية، وصدر الأمر إلى الجنود بأن تجرد السلاح وتهجم لتفرق العمال من غير سفك دم، فهجمت الجنود طاعة لرؤسائها هجمة واحدة، غير أن صفًّا واحدًا منها كان مؤلفًا من ٥٠ جنديًّا ألقى سلاحه وانضمَّ إلى العملة، فصرخ العملة حينئذٍ صراخ الابتهاج والفرح، أما رؤساء الجند فعلا وجوههم الاصفرار من هذا التمرد، وخافوا أن يحذو باقي الجند حذو هؤلاء المتمردين فيصير الأمر للعمال، ويقضى على السلطة القديمة.
لكن النظام العسكري كان متأصلًا في نفوس أولئك الجنود بتربية عدة سنين، ولذلك كان أكثرهم يسيرون كالعميان إلى حيث يقودهم رؤساؤهم، ولو كان ذلك ضد مصلحتهم، فتمكن الجند في ذلك النهار من تفريق العمال وإعادة النظام، ومع ذلك لم يرضَ الشيخ الرئيس حاكم المدن الثلاث أن يعقد جلسة في تلك الليلة في الحديقة لأن الأفكار كانت شديدة الحماسة.