بين السماء والأرض!
كانت الطائرة «الجامبو» تشقُّ الفضاء بسرعتها الفائقة التي تتخطَّى المائتي ميل في الساعة بينما تبدو للناظر وكأنها واقفة في الفضاء بلا حركة … هكذا قال «أينشتين» عالم الرياضيات الشهير … فالسرعة لا تُقاس إلا من خلال الأشياء الثابتة.
كان «أحمد» شاردًا وهو ينظر من نافذة الطائرة والأضواء تبدو من بعيد وكأنها أشباح لا تُرى … كان «كلاوس روبيرتو» الميت الحي يشغل عقولَ الشياطين جميعًا … وكلما اقتربَت الطائرة من حدود «الأرجنتين» كلما شغل عقول الشياطين هذا الرجل … أسئلة كثيرة كانت تبحث عن إجابات، فلماذا اتخذ من «الأرجنتين» مقرًّا له؟ … ولماذا «سانتا كروث» بالذات؟ وكيف قبض على هذا الرجل ثم مات مرتين ليظهر بعد ذلك من جديد؟
نظرَت «إلهام» … ﻟ «أحمد» وعرفَت على الفور ما يدور بخَلَده وشاركَتهم «هدى» بالنظرات أيضًا.
وسرعان ما همس «بو عمير» في أُذُن «أحمد» قائلًا: إنني أرى الآن «كلاوس روبيرتو». ألَا تراه؟! وابتسم «أحمد» في نفس الوقت الذي تعالَى فيه صوتُ المضيفة وهي تعتذر لركاب الطائرة بكلمات مختصرة: رجاء ربط الأحزمة جيدًا سنضطر للهبوط اضطراريًّا بسبب عطب مفاجئ أصاب الطائرة … ثم أكملَت: لا داعيَ للقلق؛ فكل شيء سيمضي على ما يرام، وابتسمَت.
لم تمضِ سوى ثوانٍ حتى ظهرَت مضيفة أخرى لتقول نفس الكلام، وسرعان ما بدَا الذعر والخوف على وجه الركاب، وتوالَت بعد ذلك التعليمات بشأن استخدام المظلات؛ فقد خرج مساعد كابتن الطائرة، وظل يشرح كيفية استخدام مظلة الطوارئ لمن يريد أن يهبط بها … بينما ناشد كبار السن والسيدات بعدم اللجوء إلى المظلات وأن يبقوا في أماكنهم.
كان الشياطين أول مَن استعدَّ للهبوط بالمظلات … فقد واجهوا نفس الموقف من قبل. كانت الطائرة العملاقة قد هدأت من سرعتها تدريجيًّا استعدادًا للهبوط، وأخذَت تتمايل يمينًا ويسارًا مع بعض الصيحات للركاب الذين لم يواجهوا مثل هذا الموقف من قبل … كان من الواضح أن كابتن الطائرة … يحاول أن ينتقيَ مكانًا صالحًا للهبوط.
كان الشياطين في تلك الأثناء قد أتموا الاستعداد للهبوط بالمظلات حين تعالَى صوتُ إحدى المضيفات قائلًا: السادة الذين يمكنهم الهبوط بالمظلة الآن الظروف تسمح بذلك؛ فنحن على ارتفاع ٧٠٠ قدم والقفز سيكون من الباب الجانبي وأشارت باتجاه الباب.
كان ذهن «أحمد» يعمل بسرعة؛ فكل شيء تغيَّر فجأة، وأشار ﻟ «بو عمير» وﻟ «عثمان» إشارةً فهِمَا منها الشيطانان ماذا يقصد «أحمد»، وسرعان ما اندفع الشياطين باتجاه الباب.
كان معظم الركاب في حالة هلَعٍ ورعب، وخاصة كبار السن، وكانت المضيفات يفعلن المستحيل من أجل تهدئتهم.
انفتح الباب الجانبي فجأة وقفز الشياطين ومعهم بعض الركاب من الطائرة، كان أول مَن قفز «أحمد»، وتبعه «عثمان» ثم «إلهام» و«هدى»، وأخيرًا «باسم» و«فهد» و«بو عمير» …
وسرعان ما ابتعدوا عن الطائرة بثقل أجسامهم بفعل حركة الجاذبية الأرضية، وسبحوا ثوانٍ في الفضاء قبل أن تنفتح المظلات تباعًا.
ظل الشياطين معلَّقين بين السماء والأرض لمدة نصف ساعة، وكان «بو عمير» أولَ مَن وصل إلى الأرض تَبِعه «فهد» و«باسم» ثم «عثمان» و«إلهام» و«هدى»، وكان آخر مَن هبط من الشياطين هو «أحمد»، وسرعان ما انضم إليهم بعضُ ركاب الطائرة، وكانت المفاجأة أن يكون ذو اللحية السوداء أو السيد «إدوار» بينهم، وكان يقترب من الشياطين ثم توجَّه إلى «عثمان» وهو يتخلص من المظلة، وخاطب «عثمان» قائلًا: ها هي الصدفة تجمعنا مرة ثانية، والآن يا صديقي أنت وأصدقاؤك ستكونون في ضيافتي هذا اليوم، ثم ابتسم وهو ينظر لبقية الشياطين.
وتدخل «أحمد» في الحديث قائلًا للرجل: لكننا لا نعرف في أي بلد نكون؟ ثم أكمل متسائلًا: ثم في أي مكان ستكون ضيافتنا؟
ضحك الرجل وهو يردِّد: كل شيء سيمضي على ما يرام … نحن الآن في بلدة اسمها «بانيا بلانكا» وهي قريبة جدًّا من نهر «نجرو» الذي يتوسط «الأرجنتين». وأكمل الرجل: نحن لا نبتعد كثيرًا عن العاصمة «بيونس آيرس» في الوقت الذي يمكننا فيه الذهاب إلى «سانتا كروث»، ولم يكَد الرجل ينتهي من كلمته حتى التقَت أعين الشياطين … كان من الواضح أن هذا الرجل يعرف كلَّ شيء عن الشياطين … وأن مغامرة الرجل ذي السبعة أرواح قد بدأت بالفعل.
قال «أحمد» مخاطبًا الرجل: ولماذا «سانتا كروث» بالذات؟!
ضحك الرجل وهو يقول: إنها بلدة رائعة وطبيعتها الساحرة تجعل معظم السياح مثلكم يتجهون إليها. ثم أكمل الرجل: إنكم ستحددون إلى أي مكان سنتجه، ثم ضحك وهو ينظر ﻟ «عثمان» ويقول: أليس كذلك يا صديقي … فأومأ «عثمان» برأسه موافقًا.
كان الوقت فجرًا حين تحرك الشياطين بصحبة «إدوار»، وامتد السير بين الحقول والمزارع المغطاة بالندى ورائحة الزهور.
كان الجو يميل إلى الدفء بالرغم من أنه في بدايات اليوم، وكان «إدوار» كثير الثرثرة، وأخذ يقص على الشياطين بعض المواقف التي تعرَّض لها من قبل وكم مرة قفز بالمظلة، وكيف أنه يواجه هذه المواقف بأعصاب هادئة … وحدَّث الشياطين عن عمله بإحدى الشركات، وكيف استقال ليُدير بعض الأعمال الخاصة به.
ظل الشياطين يستمعون إلى «إدوار» وعيونهم مملوءة بالتحفُّز والترقُّب، ولم يمضِ وقت طويل حتى كان الشياطين ومعهم «إدوار» قد وصلوا إلى حدود «بانيا بلانكا»، وهي بلدة صغيرة تُطلُّ على المحيط الأطلنطي، وقابلهم بعضُ الأهالي بمجموعة من الأسئلة؛ فقد انتشرت أخبار فشل هبوط الطائرة اضطراريًّا مما تسبَّب في انفجار خزانات الوقود واحتراق الطائرة بالكامل، وكيف أن رجال الإنقاذ يحاولون إخماد النيران.
كان ثمة آخرون قد نجوا من الموت بواسطة القفز بالمظلة، وتابعوا السير إلى حدود نفس البلدة … وسرعان ما كانت المنطقة تزدحم برجال الشرطة والإنقاذ، وكان غريبًا أن يختفيَ «إدوار» فور وصول رجال الشرطة وسط دهشة الشياطين.
استقل الشياطين إحدى سيارات رجال الشرطة التي انطلقَت بهم صوبَ إحدى نقاطها في «بانيا بلانكا»، ومنها استقل الشياطين ميكروباصًا مجهَّزًا انطلق بهم إلى العاصمة «بيونس آيرس».
عندما وصل الشياطين إلى «بيونس آيرس» كانت الساعة تقترب من التاسعة صباحًا … وأمام أحد الفنادق الفاخرة توقَّف الميكروباص، وسرعان ما هبط الشياطين، وكان بصحبتهم أحد الضباط الذي أنهى إجراءات السكن بسرعة … صَعِد بعدها الشياطين إلى غُرَفهم ليغطُّوا جميعًا في نومٍ عميق.
عندما استيقظوا من نومهم كانت ساعة الفندق تُشير إلى الثالثة عصرًا بتوقيت «الأرجنتين»، كان من الواضح أنهم في غاية الإرهاق، حتى إنهم ناموا ستَّ ساعات دون أن يشعروا بالوقت.
قالت «إلهام»: وهي تفرك عينَيها: غريب ما حدث … لقد استعدتُ كلَّ الأحداث أثناء نومي.
فردَّ «بو عمير»: إن الأحداث مرَّت بسرعة فعلًا … فمَن يصدق أننا كنَّا في «لندن» أمس بصحبة «ستيفن» … ثم الآن ﺑ «الأرجنتين» بعد هذه الرحلة الغريبة فعلًا.
قال «أحمد»: لقد تعرضنا لأكثر من هذا بكثير، ولكن المفاجأة كانت كبيرة فعلًا … ولكن هذا لا يُزعجني بقدر غموض المغامرة التي سنُقدم عليها … فكل معلوماتنا عن «كلاوس روبيرتو» لا تتعدَّى كونه يسكن «سانتا كروث» في حصن منيع، وتقوم بحراسته منظمة خطيرة جدًّا اسمها «توبا ماروس»، وهي منظمة إرهابية تخشاها معظم السلطات في دول «أمريكا اللاتينية» … فهي لا تتورَّع في عمل أي شيء لتحقيق أغراضها.
قال «عثمان»: والسيد «إدوار»؟!
فأجابه «فهد»: ماذا تقصد يا «عثمان»؟
قال «أحمد»: لعل «عثمان» عنده حقٌّ فعلًا … فكل تصرفات هذا الرجل غير طبيعية بالمرة.
قالت «هدى»: حتى طريقة تقرُّبِه منَّا عن طريق «عثمان» بالذات شيء يزيد الشكوك.
ردَّ «عثمان» وهو يحاول إضحاك الشياطين: ماذا تقصدين بالضبط يا «هدى»؟! وأشار إلى لون وجهه الأسمر.
فانفجر الشياطين بالضحك برغم صعوبة مهمتهم الغامضة … كان الوقت يمر بالشياطين بسرعة، وكان عليهم التحرك بسرعة لإنجاز مهمتهم الصعبة، بل المستحيلة.
وما إن أنهى الشياطين اغتسالهم واستعدادهم لتناول طعام الغداء، حتى سمعوا طرْقًا خفيفًا على باب غرفتهم، فقام «أحمد» مسرعًا ليفتح الباب، بينما أسرع خلفه «بو عمير» و«فهد».
كان الواقف على باب غرفتهم أحد الضباط. كان طويل القامة قمحي اللون، صاحَ وهو يحيي «أحمد»: إن السيد «خافير» بانتظاركم، ثم ناول «أحمد» ورقة صغيرة … قرأها «أحمد» بسرعة ثم قال للضباط: سنكون معك بعد عشر دقائق.
حيَّا الضباط الشاب «أحمد» وانصرف … بينما أسرع «أحمد» ليعقد اجتماعًا عاجلًا مع الشياطين قال فيه: لقد اتصلَت بنا السلطات ﺑ «الأرجنتين» وأن السيد «خافير» هو أحد المسئولين الكبار بالأمن العام، وأكمل «أحمد»: لقد كتب لنا كلمة السر التي من خلالها نتحرك ونعمل بها معهم … وسرعان ما استعد الشياطين لمقابلة السيد «خافير».
كانت السيارة التي تنقل الشياطين لمقابلة السيد «خافير» من النوع المصفح، وكان يقودها أحد السائقين، وبجانبه جلس أحد الضباط ومعه اثنان من الجنود.
سارَت السيارة «الفورد» المصفحة وسط شوارع «بيونس آيرس»، وتوقَّفت أمام مبنى نظيف من طابقَين وأمامه ارتفعَت هامات الأشجار، وانتشر حوله الحراس بملابسهم المدنية، وقد عرفهم الشياطين بسرعة لطريقة تجولهم حول المنزل … تقدم الضابط الذي كان بصحبة الشياطين، فرفع الحراس أيديَهم بالتحية، فردَّ الضابط تحيتَهم، وهو يتقدم ويُسرع الخُطَى بداخل المبنى، وتَبِعه عن كثب الشياطين السبعة! …