الفصل الأول
جماليات المكان في الرواية الأفريقية
المكان عنصر أساسي من العناصر الفنية في بناء الرواية، جماليته يستقيها من الحبكة
ودينامية الأحداث، والشخصيات المركزية في الرواية. يثير المكان خيالَ الروائي في نسج
القصة
وتطورها، إثر تفاعلات وصراعات تذهب بالرواية إلى حيث لا يدري الراوي. ومن المكان تُعاد
بناء
الفكرة، وتتابع الصور والتخمينات، وإعادة بناء للذات في وعي الذات بذاتها، وبالعالم الخارجي
الذي يتفنَّن في تصويره وإعادة تشكيله وفق المأمول من أهدافِ الروائي. الأمر يتعلق بتيار
الوعي
وعودة الذات إلى ذاتها في فحص ما ينتابُها من مشاعر وردود أفعال جديدة. مونولوج حقيقي
بين
الذات في انسيابٍ وغوص باللغةِ الأم. لغة اليوربوبا والسوتو والهوسا والإيبو والكيكويو
والأتشولية لغاتٌ محلية حاملة للرموز والقيم العميقة في القبيلة، ومنغرسة في اللاشعور.
نحمل
في أعماقنا صورًا وذكريات وعمقًا يأبى الذوبانَ والانصهار في حضارة الآخر.
يعرف الإنسان
الأفريقي أنه ضحية للاستعمار الغربي، ضحية للممارسة المشينة للثقافة الاستعمارية والأدوات
الأيديولوجية التي استهدفت المكان والهوية. لا ينفصل المكان عنَّا، محفور في ذواتنا،
ومنقوش
في نفوسنا. والبيت الأفريقي طيفٌ للتفاعل والتجانس بين الأسرة الممتدة، وفضاء منفتح على
القبيلة ومفتوح للكل، والإنسان يعلم غريزيًّا أن المكان المرتبط بوحدته مكانٌ خلَّاق.
يحدث هذا
حتى حين تختفي هذه الأماكن من الحاضر، وحين نعلم أن المستقبل لن يعيدها إلينا.
١ يتبدل الزمن ويصمد المكان، ويبقى صورة للماضي، وأحلام اليقظة والمأمول من
المستقبل البعيد. يعود الروائي الأفريقي إلى المكان من المهجر، يعانق الذاكرة وتلك الهواجس
العميقة للحنين، وإضفاء شيء من الوعي الجديد المحمل بآلية الحفر في أعماق الذات والهوية
من
طفولة عايشت وقائع، وبقيت شاهدة على أحداث لا زالت توجِّه السلوك، وتفعلُ دون أن يدرك
الإنسان
ذلك. فمن المكان تُروى الحكاية في قالبٍ سردي تندرج ضمنَه الحبكة. واللغة الشعرية فياضة،
والحوار الذي لا ينتهي بين الشخصيات الروائية. المكان فضاء مليءُ بالأشياء والكائنات،
فضاء
للسكون والاستقرار، وفضاء للرحيل والانتقال، يمتلك سلطة على الجسد، ويرغم الوعي في عملية
التلقي باستمرارٍ لما يجري من وقائع، وما يُعاشُ من تجارب خاصة بالجماعة والفرد.
زمن الحكاية
يُحاك في أمكنة متباينة، ينساب الزمان وفق إيقاع الرواية وأدوار الشخصيات، ووفق ما ينتجه
المكان من نتائج محسومة، أو غير مأمولة النتائج لما يرسمه الروائي من البداية. زمن الحكاية
يختلف بين الرواية الحديثة والرواية المعاصرة. قوالب المتن الحكائي والأدوات الجديدة
تبدَّلت
نوعًا ما نحو أفق ينفتح على الممكن، والمستحيل المنسي والمهمش، والمكبوت من القول والكتابة.
روايات ما بعد الحداثة، أو هكذا تُوصف عند النقاد، جماليتُها في عدم الاستكانة للرسمي
والواقعي
الفج الذي ينقل الأحداث بالحرف، ويصور البطل الحامل للقِيَم الثابتة، وينتصر للخَيْر
على الشر،
جمالية مستقاة من التصوير الفني للعمل الروائي، والمعطيات التي تهيمن على السرد العمودي
الميال إلى غرس قيم معينة من عالم يأبى إلا أن يتغير، ويميل إلى الاختلاف والنسبية وترك
بصمة منفتحة يرويها الراوي، وتتفاعل في قلبها شخصيات بدون بوصلة. وأسمى رأس مالٍ عند
الروائي
الخيالُ وشاعرية الكلمة، عندها يتداخل الخيالي والواقعي، ويتكسر زمن السرد الروائي بين
الأزمنة، وتذوب الأمكنة أحيانًا بالمعنى الجغرافي والنفسي والفلسفي. والحال أن المكانَ
لا
يعيش منعزلًا عن باقي عناصر السرد، وإنما يدخل في علاقاتٍ متعددة مع المكونات الحكائية
الأخرى
للسرد، كالشخصيات والأحداث والرؤيات السردية … وعدمُ النظر إليه، ضمنَ هذه العلاقات والصِّلات
التي يقيمها، يجعلُ من العسير فهم الدور النصي الذي ينهض به الفضاءُ الروائي داخل
السَّرد.
٢ فالمكان شبكة من العلاقات المتشابكة والقوى الفاعلة، ونتاجٌ للثقافة التي تعني
إنتاج الإنسان للقيم المادية والروحية والرمزية.
مكان ولادة الإنسان أفريقيا الخصبة، أرض
السودان، ونهر الغونغو، إثيوبيا، وجيبوتي، والقبائل الدالة على الأمكنة والأزمنة التي
تروى
فيها الحكايات. لا يمكن أن نماثل بينها وبين أمكنة أخرى. رحلة في نهر الغونغو من قبل
مارلو في
رواية «جوزيف كونراد» بمثابة استكشاف أفريقيا، والقول الفصل في جمالية المكان وما يحتويه
من
كنوز الطبيعة، وثقافة عميقة في القارة التي تنمُّ عن وجود ساكنة لها تاريخ طويل من السكينة
والعيش دون مركب نقص في أعماق الطبيعة، والقول بالفعل المشين للغرب من خلال شخصية كورتيس،
والسرقة المباشرة للخيرات واستغلال بساطة الناس للتبشير بالمسيحية، والتماهي في طقوسهم
وعاداتهم.
نهر الغونغو غدير مشرق من مناظر تحفة للناظر القادم من أجل الاعتراف بأفريقيا.
صحيح أن «جوزيف كونراد» وقف عند حقيقة واضحة من حضارة فقدَتْ إنسانيتها عند وصف الأفارقة
بنعوت
قدحيَّة واستعلائية. الرجل الأبيض الذي تسلَّلَ إلى أفريقيا تحت عباءة المسيحية وقيم
الأنوار وجدَ
نفسه راغبًا نهِمًا في مكان غني بالخيرات، مستعملًا كلَّ آليات التدمير للطبيعة البكر.
لقد جلب
الرجل الأبيض دينًا مجنونًا حقًّا، لكنه بنى أيضًا متجرًا. ولأول مرة أصبحَ زيت النخيل
والبدور
أشياء غالية الثمن، وتدفقت أموالٌ كثيرة.
٣ يبدأ المكان في إزالة قشوره السميكة، وتنتقل الشركات للعمل والإنتاج. أفريقيا،
المكان الذي يجلب الموارد الأولية، شعوبها نائمةٌ في سُبات دوغمائي من المعتقدات، والطقوس
القديمة التي تلونت بألوان متباينة في القبيلة.
لقد مدَّت الدراسات الأنثروبولوجية والبعثات
التبشيرية الاستعمارَ بالخرائط الجغرافية والفكرية عن الإنسان الأفريقي، ذهنيات من صناعة
الإنسان في مكانٍ بقي صامدًا وحريصًا على الهوية التي تعني ببساطة التطابق والتماهي بين
الذات
والثقافة. وإن كانت المسألة تحتاج للتغيير؛ فإن الأمر لا يعدو أن يكون مقبولًا ومستساغًا
من
قبل أبناء القبيلة؛ فنحن لسنا في حاجةٍ لتبنِّي مُعتقدات الغرب أو الشرق، كما أننا نعي
مساوئَ
الاحتكار، ونؤمن بالإنسان والأرض التي هي أرض القبيلة.
٤ تنهض أفريقيا من المكان وهمم أبنائها للحرية والتحرر، ومن هذا المكان يقف
الروائي على شُرفة عالية، يطل من رؤية خيالية ممزوجة بالواقع وعبَق التاريخ. يحرك الجمود
في
المكان من صُور جزئية وذكريات منسية، وزمان ساكن نحو العودة من جديد نحو الماضي، واستباق
المستقبل. إن الروائي عندما يبدأ في بناء عالمه الخاصِّ الذي سوف يضع في إطاره الشخصيات،
ثم
يسقط عليه الزمن (حيث إن الزمان لا يوجد مستقلًّا عن المكان) يصنع عالمًا مكونًا من الكلمات.
وهذه الكلمات تشكل عالمًا خياليًّا قد يشبه عالمَ الواقع، وقد يختلف عنه. وإذا شابهه
فهذا الشبَهُ
خاصٌّ يخضَعُ لخصائص الكلمة التصويرية؛ فالكلمة لا تنقل إلينا عالم الواقع، بل تشير إليه
وتخلق
صورة.
٥
هذا العالم الذي يتغذَّى منه الروائي عالمٌ متخيل يستقِي النماذج من الواقع، ويبني
قصة ذات حبكة تجمع بين الوصف والسرد. إيقاع الحركة تحدده الشخصيات، ليست حركة دائرية
ميَّالة
للاكتمال ومنغلقة، بل حركة مستقيمة تسير نحو نهاية غير محتملة. والروايةُ رحلة وسفر في
أمكنة وأزمنة، عوالم سردية من صُنع الخيال، يدور الوصف ولا ينتهي السردُ عند نقطة نهاية
محددة. يختفي الروائي وسطَ كومة من الأحداث، وتتوارى ذاتيتُه أمام صعود لافتٍ للشخصيات
الروائية، ويتنوع الزمن بين زمَن الأحداث وكتابتها، وزمن القراءة. أما المكان وجمالية
بنائه
في الرواية الأفريقية؛ فهو تعبيرٌ عن رؤية ليست معزولة عن المعيش، وعن ماضي الإنسان ومستقبله،
وهموم الذات في الحكاية المروية عن ضياعِ المكان بفعل عواملَ ساهمت في تغيير معالمه،
مكانٌ
يملأ الذاكرة صورًا وحنينًا نحو الأفق الذي عاشَ فيه الإنسان الأفريقي منسجمًا مع ذاته
وثقافته،
من بساطة الحياة وحميمية المشاعر والعواطف بين المجموع الكلي، مشاعر ألهمت خيال الروائي
الأفريقي للعودة مرة أخرى إلى القبيلة، كما هو الشأن مع «وول سوينكا»، و«أتشيبي» و«الطيب
صالح». لا
مفرَّ من الماضي ومن البيوت التي حفرت في ذاتية الروائي الأفريقي وعيَه، وعاش ردحًا من
الزمن في
مدينة لندن، وباريس، ونيويورك، ودبي. يعود مرة أخرى في حلة جديدة، يعانق الذكريات ويجدد
الهوية
بالانتماء للمكان.
إن البيوت المتعاقبة التي سكنَّاها جعلت إيماءاتِنا عادية، ولكننا نندهش حين
نعود إلى البيت القديم بعد تجوالِ سنين عديدة، أن نجد أدق الإيماءات وأقدمها تعود دونَ
أدنى
تغيير. وباختصار؛ فإن البيت الذي وُلدنا فيه قد حَفَر في داخلنا المجموعةَ الهرمية لكل
وظائف
السكنى.
٦ غرفة نوم «مصطفى سعيد» في لندن فضاءٌ للتذكر وتحفة للتعريف بالثقافة. جمالية
المكان ليست في الجدران أو شكله الهندسي، إنما في الأغراض والأشياء التي يتزيَّن بها
من صندل
وريش نعام، وتماثيل العاج والصور، والرسوم للنخيل … مجموعة من الأهداف في نقطة التقاء
بين
الشرق والغرب. وغرفة «مصطفى سعيد» في القرية مزينة بأشياء غريبة من ثقافة الآخر، كالمدفأة
الإنجليزية، وأبسطة فارسية … يبقى المكان للألفة والسكون، والعبور بالذاكرة والتذكر نحو
بناء
عالم من الأحلام.
يسكن الروائي الأفريقي في الربط الحقيقي بين الأمم، دون إرغام على نسيان
المكان. يضيع المكان وينسل من الذاكرة بمجرد النسيان والفراق الأبدي، هناك جسورٌ متينة
بين
الروائي والمكان، يحركها عاملُ الزمن الذي يدور بانسياب. الإنسان المتكلم في الرواية
هو
دائمًا صاحب أيديولوجيا بقدرٍ أو آخر، وكلمته هي دائمًا وجهة نظر خاصة إلى العالم تدعي
قيمة
اجتماعية، والكلمة، قولًا أيديولوجيًّا، هي التي تصبح موضوع تصوير في الرواية.
٧ سواء كانت الفكرة ظاهرة أو كامنة؛ هذا يعني أنَّ الروائي الأفريقي في بنائه
للمكان المتخيَّل أو الواقعي يعبر دائمًا عن الهاجس في الكتابة، وإسماع الصوت الأفريقي
للعالم
بلغة الآخر، وكل شكل أدبي ولد للتعبير والقول عن مضمون جوهري. النص الروائي يفصح عن ذاته
في
مرامي القصة، دينامية الشخصيات، وتفاعلها في المكان. يرحل الروائيُّ الأفريقي بالوصف
والسرد في
مراحل مختلفة، من تطور الرواية الأفريقية إلى أمكنة موصوفة بجمالية الطبيعة، محسوسة أو
متخيَّلة في ذهن الروائي، تنم عن تأثير الطبيعة في الإنسان. والانهمام بالمكان وعدم الرحيل
دليلٌ على قيمة الوجود الإنساني، ورؤيته للعالم من خلال الانتماء. شاعرية المكان وجماليته
منها يستمدُّ الإنسان الأفريقي بُعده، ككائن يعيش دون أدنى شعور بالنقص، صحراء شاسعة
وممتدة
تعكس شدة الميل للحرية والتحرر، وولعًا بالمسير والترحال، ومكانًا للتأمل والغوص في أسرار
الوجود، والانفلات من رتابة السكون، وطبيعة خلابة من غابات وأشجار، وتضاريس متنوعة تجلب
الناظر. نحن لا نؤمن بتعطيل الذاكرة، نحن هنا نعيش حياة طيبة ونعرف التناغم والوئام،
وهذا
يكفي. فذلك هو المبدأ الأساسي الذي نلقِّنُه لأطفالنا. إنهم يكبرون على ازدراء المعارف
الميتة
المتعفنة. هذا لا يعني أننا نخفي عنهم الحقائق؛ فكل أبناء قومنا يعلمون من أين
انحدرنا.
٨ ذاكرة حيَّة مليئة بالجزئيات الملتقطة عبر زمن التجارب المُرَّة، والصور المعاشة
الراسخة في الذهن من مكان تغيَّرت معالمُه بين الأمس واليوم.
يعود الروائي الأفريقي للتاريخ
والتراث الشفهي، ويحكي الحكاية عن الجذور، عن أفريقيا الحروب والصراعات والاعتقالات،
عن
أمكنة هيمن عليها الأغراب في غيابِ وعيٍ اجتماعي. تسلل الإنسان الأبيض إلى عقول الناس،
أضفى
بُعدًا معرفيًّا على الطبيعة والمجتمع، أنزل الآليات المناسبة في تطويع الطبيعة والنيل
من
عنفوانها، ومن المكان كفضاء للالتقاء والاختلاف في أجواء من القيم والأعراف والطقوس التي
تم
استنباتها، وشكلت الموروث الشعبي الذي يَنظُر من خلاله الأفريقي للوجود. وإن كانت أفريقيا
في
حاجة إلى الغرب؛ فإن الأمر يستدعي المثاقفة واحتكاك الحضارات، دون إدخالها في بوتقة الآخر
تحت
دافع القيم العقلانية والأنوار. المكان الذي تُروى منه الحكاية يحمل شبكةً من العلاقات
الإنسانية التي تنمُّ عن حضور الإنسان في وسط غني بالرموز والدلالات. بصورة عامة؛ فإن
الوضع
المكاني في الرواية يمكنه أن يصبح محددًا أساسيًّا للمادة الحكائية، ولتلاحق الأحداث
والحوافز؛
أي إنه سيتحول في النهاية إلى مكوِّن روائي جوهري، ويحدث قطيعة مع مفهومه كديكور.
٩ شعرية المكان وسيميائيته، ومدى التأثير الواضح في سردية الروائي عن المكان
وجماليته في مواصلة الحكاية، والعودة مرة أخرى لأمكنة متعددة، هناك يسكن وجدان الروائي؛
حيث
يزدادُ الشعور بالانتماء، ويهفو الحنين نحو معانقة المكان الذي تربَّى فيه الإنسان، والبيت
الذي حفر في أعماق اللاشعور؛ فالبيوت على بساطتِها من طين وخشب تقاوم عامل الزمن، وتغدو
أمكنة للسكن الروحي والوجداني، أمكنة للبناء والعيش المشترك في ظل الأسرة الممتدة
المتداخلة، والجوار الدال على الأُنس، وتذويب الصراعات في مجتمعات منتظمة، وفق نمط تقليدي
أساسه البساطة والعواطف المشتركة. المجتمع الميكانيكي يعتمد التقدير والقيم الجماعية
المشتركة؛ فقد وجد الرجل الأبيض في المكان ما يُغري على تفكيك أوصاله وتمزيق وحدته، وتحويل
هذا المجتمع من ميكانيكي إلى عضوي؛ من خلال مؤسسات صناعية، وزرع الانشقاق في الجماعة
المتراصَّة كبداية للقيم الفردانية، وجعل المال وسيلة لذلك. يحكي «وول سوينكا» من قبيلة
«الإيبو» من عبق التاريخ والمكان الذي يضفي لمسةً على السرد، وسط كثبان من الحقائق كدرت
صفاء
الوعي في ملامسة حقيقة المكان الضائع، ويحكي «إتشيبي» عن أومووفيا، ويحكي «أمير تاج السر»
عن
أرض السودان، ومدى التغيُّر الذي أصاب هذه الأمكنة، والفكر النقيض للمستعمر؛ فقد وصل
المبشرون
إلى أومووفيا، بَنَوا كنيستَهم هناك، وكسبوا حفنةً من المهتدين، وراحوا يرسلون مبشِّرين
إلى المدن
والقرى المجاورة. كان ذلك مصدرًا أساسيًّا كبيرًا لزعماء منهم اعتقدوا أن الإيمان الغريب
وإله
الرجل الأبيض لن يدوما.
١٠ فحيازة المكان تطرحُ أسئلة جمة عن دوافع الوجود، والمبتغى من قيم ليست متماثلة
مع إرادة وحرية الإنسان الأفريقي، الذي لا تحكمه قوانين وضعية مفروضة بالقسر، أو إملاءات
من
الانضباط والإكراه. فالخصوصية السوداء تيَّار فكري يعيدُ للذات والمكان خصائصَ متجذرة
في عمق
التاريخ والتراث الشفهي، والثقافات الواسعة التي استوطنتْ أفريقيا من شتَّى حدودها.
ومن يستعين
بالأدبيات النقدية المعاصرة؛ يدرك مدى قيمةَ ما يحمله المكان من دلالةٍ وعلامة على حياة
تنبض
بالحيوية والصفاء. لا يقف الوصف والتأويل للمكان في بُعده الجغرافي، بل في مضمونه الثقافي
والاجتماعي، وكيفية انعكاس ذلك على وحدة الشعور، وقوة الانتماء إلى أفريقيا. هاجر «مصطفى
سعيد»
إلى لندن وبقي المكان محفورًا في الذات، ومنطبعًا في الهوية. الأشياء معلَّقة في البيت
تدل على ما
يحتويه المكان من أشياء رمزية، تعرف الآخر بالطبيعة والمكان. لعل «مصطفى سعيد» سكنت روحه
نوعًا
ما من الانتقام، والتعبير عن نقطة الالتقاء بين الشرق والغرب، وبين السخط والحنق على
المستعمر البريطاني، وبين الأرض والقبيلة والقرية. دائمًا ما يجب البحث عن العلاقات الرابطة
بين الأثر الأدبي وسياقه الاجتماعي والثقافي، الذي يجسد رؤى الروائي وخياله الملفوف بالمجتمع
الأصلي. الأنا الحاضر في المكان، والقابع وراء ركام من الوقائع لا يعبر إلا عن ذاتيَّة
الروائي
في رسم الممكنِ من عالم متغير، ومن ذاكرة أسيرة للماضي، ومستقبل يتمنى أن ينبجس. لا شك
أن
الرواية المعاصرة تختلفُ في البناء الكلي عن الرواية التقليدية والحديثة، وزمن الرواية
الأفريقية لا يُقاس بالمدة التي ظهرت فيها الرواية، لكن بالأفق التي عبرت عنه. في قلبها
تعيش
أفريقيا أحلامًا وآمالًا ممزوجة بالحروب والصراعات والكفاح، بالكلمة نحو عصر جديد. وإن
خابت
الأماني المعقودة من قبل رؤية حالمة ومتجددة للروائي الأفريقي، يبقى الأمل في التغيير
قائمًا لو تمكنت أفريقيا من العودة إلى ذاتها؛ للتقييم وربط الصلات بالآخر، من المكان
المنغلق
الواحد إلى المكان المنفتح المتعدد، ومن الشخصية الأحادية إلى شخصيات متعددة، ومن الواقع
الحرفي إلى العوالم المتخيلة في ذهن الروائي. ترصد الروايةُ الأفريقية جماليةَ المكان
وشعرية
اللغة، وتكشف عن التناقضات والشقوق في الذات؛ أوطان متنوعة وممتدة في الجغرافية الغنية
بالكنوز الظاهرة والباطنة، وغنية بالحكاية الشعبية. ظلَّت المادة الحكائية مستلهمة من
المكان الفضاء الممتد من الغرب للشرق، ومن الشمال للجنوب، أفريقيا الشاسعة بالصحراء،
غابات ووديان
ومجاري مياه، منبع النيل والأراضي المعطاء التي لا تُستغل بالشكل الأنسب. فعندما يعبر
الروائي
عن جمالية المكان يريد العودةَ السريعة للماضي؛ للتناسق والتطابق بين الإنسان وبيئته.
إن
الواقع في نظر الروائي هو المجهول، هو المحجوب، هو الوحيد الذي تتوجب رؤيته، هو فيما
يبدو
له أولُ ما يتوجب إدراكه، هو ما لا يقبل التعبير عنه بأشكال معروفة ومستهلكة، بل هو الذي
يتطلب؛ لكي ينكشف، أسلوبًا جديدًا في التعبير، وأشكالًا جديدة لا يمكن أن ينكشِفَ دونها.
١١
واقع السرد واستحضار الأمكنة والأزمنة يستوجبُ ذاكرةً ممتدة في الماضي، وحاملة
للصور والذكريات الجزئية والكلية، ويستبقُ الروائي الوقائع في رؤية مبنية على الاستباق
والتوقع. نسبية الزمان ودينامية الأمكنة تجعل الروائي الأفريقي في ترحال مستمر في زمن
الحكاية، وفي مدن من عوالم أخرى، شأنَ الروائية السودانية «بثينة خضر مكي» في عملية ترحال
بين
أديس أباب، ولندن، وكندا، والسعودية، والخرطوم، ودبي … وترحال الروائية يعني أحيانًا
الاستقرار
للعيش، ودراسة للمكان في العادات والطقوس، وأحيانًا الإحساس بالغربة والتمييز، والحاجة
في
تعزيز الهوية والانتماء للجذور. هذا يعني أن الروايةَ رحلةٌ ممتعة في الزمان والمكان،
وبالنسبة للقارئ رحلة في طيات السطور، وتأملات في مرامي ومقاصد الروائي، وحضور رمزي في
قلب
المكان. القارئ الجيد الملمُّ بآليات النقد والكتابة السردية، ومتاهة القصة أحيانًا،
يدرك
تمامًا هذا التأثير في القارئ، رغم ما يقال إن الرواية شديدةُ التعقيد؛ فالرواية ككل
ظاهرة
متعددة الأسلوب واللسان والصوت، ويعثر المحلل فيها على بعضِ الوحدات الأسلوبية اللامتجانسة
التي توجد على مستويات لسانية مختلفة، وخاضعة لقواعد متعددة.
١٢ هذا الجنس الأدبي تتكامل عناصره من شخصيات وحبكة وقصة، يضاف إليها عناصر أخرى
مع لمسة الروائي في الكتابة، والأسلوب، والبناء العام للمتن الروائي.
والكتابة الإبداعية ثمرةُ
تلاقح الأفكار، وتركيبها في تماسك يُضفي على العمل الروائي بُعدًا جماليًّا يضاف للأبعاد
الأخرى.
هكذا تنقلنا الرواية الأفريقية إلى عوالم واقعية ومتخيلة، نلمس حضور المكان وجماليته
في
إضفاء دلالة وجودية للإنسان، داخل شبكة من الرموز والعلاقات المتشابكة، والمجتمعات المحلية
التي أصابها فيروس الاستعمار ومخلفاته، وما بعد المرحلة التي بقيتْ أسيرة للعداء والقهر
من
نُخب مكبَّلة بالوصايا شربت من دمِ المستعمر. رفع الروائي الأفريقي القلمَ من المكان
وخارجه
بالتعاطف، من قِبل كتاب ينتمون إلى حضارات أخرى؛ للتعبير والقول الصريح عن مكانة أفريقيا
بين
الأمم في ماضيها وحاضرها، مسلَّحين بالنقد والتعرية للخطاب الاستعماري في خلخلة تامَّة
للنواقص
والادعاء الباهت، مع الإعلان الواضح عن تهافت وتهاوي هذا النمط من الخطاب. يحكي الروائي
في
مذكراته عن السجون، والقبيلة التي أصابها العدوى، وضياع المكان عند اختفاء السمات الخاصة
بالزنوجة، وتلك الحضارة الضاربة في التاريخ، ويروي في ظمأٍ شديد للحرية والعدالة الاجتماعية
والتحرر من مخالب العولمة الاقتصادية والليبرالية المتوحشة. من هنا عادَ الروائي الأفريقي
للتذكير بجمالية المكان وسحره؛ للعودة التامة للأصول والهوية، عودة للبناء واستلهام الهمم.
إن أفريقيا غنيَّة بمواردها وكوادرها، لكنها بالموازاة تحتاج إلى إرادة سياسية واستثمار
في
الإنسان والصلح مع ذاتها؛ حيث انتبه الروائي الأفريقي الذي عاش مدة في الغرب أن أفريقيا
لا
تعاني من نقص، وأن الأفريقي تنطبق عليه النعوتُ القدحية، كما في رواية «قلب الظلام» وشخصية
كورتيس، وتحايله على الناس البسطاء من الناس. لكن هذا الإنسان الذي يعيش في تناغم مع
الطبيعة لم يطلب الأنوارَ من الغَرب، أو أحس بالتدني والنقصان في ثقافته، ما جعل الرواية
الأفريقية الجديدة تعيد النظر في تجديد الرؤية، وتجاوز المرحلة الاستعمارية نحو واقع
جديد
يعاد فيه ترميم الذات، والنظر للمستقبل في أدب ما بعد المرحلة الاستعمارية. فمن صميم
الإبداع تقف الرواية الأفريقية عند واقع الحالِ في قضايا معاصرة، ومستجدات آنية تؤرخ
انشغال
الروائي في العبور بأفريقيا نحوَ المستقبل.
هكذا يفتِّش الكاتب في طياتِ التاريخ والتراث عن
أصالة الحضارة الأفريقية التي تغيَّرت بفعل عوامل خارجية، وعن شاعرية وحميمية المكان
المفعم
بالقيم النابعة من الشعوب ذاتها. هناك عقدة أجَّجت في الروائي دوافع الكتابة، وتحريك
القلم؛
للتعبير عما ينتاب الذات من همومٍ واقعية أضفَى عليها نوع من الخيال والرؤية المتجددة
للحاضر والماضي. لا شك أن الإنسان يعِي جيِّدًا ذاتيتَه وسط مجموعة من الناس؛ فالوعي
هو وعي
الإنسان بالتجربة الإنسانية، وهذا لا يستثني شيئًا على نحو كلي؛ فهو يشمل الأحاسيس والذكريات
والمشاعر والمفاهيم والأوهام والتخيلات، وتلك الظواهر التي ليست فلسفية، ولكن لا يمكن
تفاديها باطراد، وهي التي نسيمها الحدس والرؤية والبصيرة.
١٣ يعود الروائي الأفريقي إلى المكان لاستِحْضار الوقائع، وإعادةِ ترميم التاريخ
المنسي، ويلوذ للخيال في عملية بناء القصة، ونسج خيوطها في شخصيات متخيلة تفعل وتؤدي
وظائف
معينة. وينتاب الروائيَّ رغبةٌ في فك الارتباط مع القيود التي يفرضها المجتمع بقوانينه
ومؤسساته التي هيمنت على الإنسان، عندما يبدأ الإنسان يفقد الثقة في الرسمي والأيديولوجي.
وهذه سمة الرواية الجديدة التي أحدثتْ شرخًا في الزمان والمكان، وفي الشخوص والبناء العام
للرواية؛ إيمانًا بآليات جديدة في التأليف والقراءة؛ لأجل خلخلة الثابت في الفكر والمبادئ،
وفتح
نقاشات وسجالات عن الإبداع والكتابة الإبداعية.