الفصل الرابع
المكان في الرواية السودانية المعاصرة
تنتهي الرواية الأفريقية الحديثة عند أساليب تقنية، ونماذج حكائية من التاريخ مكتوبة
بلغة
المستعمر. فنشأت الرواية الأفريقية من سياق الحاجة إلى التحرر الوطني، ونقد الصورة المزيفة
التي رسَّخها الرجل الأبيض عن أفريقيا، ونقد ثنائية الخير والشر، الأسود والأبيض، والعودة
بالرواية إلى زمن الماضي والمكان الذي يَحملُه الإنسان الأفريقي في أعماقه، وما يمثِّله
من قيم
ورموز. هكذا وُجد الإنسان الأفريقي خصوصًا من النخبة المثقفة نفسها، ركامٌ من الأكاذيب
والأوهام
العالقة في ذهن الناس عن الحضارة الأوروبية، والأنوار المشعة في سماء الغرب، التي ينبغي
حملها لأفريقيا. هذا المثقف الأفريقي الذي نال نصيبًا من المعرفة وسبر أغوار الثقافة
الغربية أُصيب بالدهشة من جرَّاء التناقض بين الخطاب والممارسة، من العلمية والموضوعية
في فهم
الآخر، عبر الفصل بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، كما هو السائد في العلوم الإنسانية
إلى
سياسة النهب والقتل والتبشير؛ من خلال الإرساليات والبعثات والمدارس، وكل المؤسسات التي
تكرس
هيمنة الرجل الأبيض. المكان المحتل لم يَعُد فضاءً للحرية وممارسة الطقوس والاحتفالات.
هناك
مؤمنون جُدد بالدين الجديد، وعقول ترى أن أفريقيا الماضي انتهت، وبدأت مرحلة جديدة من
استلهام النموذج الغربي في السياسة والثقافة.
الكتابة بدورها خضعتْ لهذا الانقلاب في الأسلوب
من بداية التسعينيات إلى الآن في إطارِ ما يُعرف بالرواية الجديدة، رواية ما بعد الحداثة.
أُسُسها قائمة على التشكيك والنقد والخلخلة وإعادة البناء، والاهتمام بالمنسي، وإيلاء
أهمية
للهامش، ونقد المركزية في العقل والفكر والمبادئ التي تبدو أنها يقينية. مَن يقرأ تيارات
ما
بعد الحداثة في الفلسفة والأدب والثقافة، يدرك تمامًا هذا الانقلاب الذي أجهز على اليقين
المؤسس في كل ما هو أيديولوجي. الشكل أقوى من المضموم، والآليات في الإنتاج والإبداع
أقوى
من المضمون، العناية بالسؤال والشك أكثر من الجواب، والانفتاح والحرية أقوى من اليقين
والمنغلق، ثنائيات الخير والشر أو الأسود والأبيض أصبحتْ من زمن الأمس. الاختلاف محل
التطابق، والنسبي بدل المطلق. هناك قضايا ووقائع صغرى يمكن أن تشكل هاجس السرد الروائي،
وتنوع الإبداع حسب الأوطان. من السودان، على سبيل المثال لا الحصر، بدأت تحولات الرواية
الأفريقية نحو نمط جديدٍ من الكتابة والأسلوب، إذا ما استثنينا أعمال «الطيب صالح»، نجد
أعمالًا
كثيرة. ومن سمات رواية التسعينيات، وما بعدها: استبطان الواقع المحلي وأسطرته، واتخاذ
المحلي
مسارًا إلى الإنساني والكلي والكوني، مثلما نجد عند «إبراهيم إسحاق» في مجمل أعماله الروائية،
كرواية «أخبار مياكايا، ٢٠٠٠م»، و«وبال في كليمندو، ٢٠٠١م». وعلى الرغم من أن كشوفات
«إبراهيم
إسحاق» ما زالت محجوبةً عن جمهرة القراء، بسبب عالمه المنزاح عن السياقات السردية السائدة؛
فإن
أعماله استقطبتْ حولها خطابًا نقديًّا واسعًا، كشف بعض الأنهار التي تغذِّي تربة حقوله
السردية:
أعمال «فوكنر»، و«جيمس جويس».
١
الرواية السودانية حافلة بالمعاني التي تجزم على قيمة المكان، أو بالمعنى
البسيط: الربط بين المكان والإنسان الأفريقي، وبين المكان والعالم المحلي والكوني، الهامش
والمركز، لا مركزية السرد وتنبيه القارئ إلى التأمل في متن الحكاية، واستعارة التاريخ،
والالتفاف على الأسطورة والحكايات الشعبية. سكان السودان أفارقة أصليون، فتحوا أبوابهم
للوافدين الجدد، أو كما توضح رحلة الشابِّ البريطاني المغامر في القرن التاسع عشر، اسمه
«جلبرت
أوسمان» الذي تحوَّل إلى «عثمان زمزمي»، في رواية «أرض السودان الحلو والمر» لأمير تاج
السر. رحلة
في سبر أغوار الناس والأرض دون احتلال المكان، انطباعات أولية عن الأمكنة التي تسكنها
جماعات بشرية، تتطلَّب من الرجل الأبيض الإلمام بالمكان كفضاء للعيش، لن تمتلك مفتاح
الجماعات
والقوميات دون امتلاك لغتها والانخراط داخلها. لغات الشعوب هي مفاتيحها، لن تدخل قلوب
الغرباء عالمًا تفقد ألسنتهم، وقد استعمرنا الناس حين امتلكنا مفاتيحهم، وستعثر في أرض
السودان على كثير من وطنك المستعمر، وأوروبيين آخرين، وعدد من الوافدين من شتى بقاع العالم،
موجودين لأهداف مختلفة يحملون تلك المفاتيح.
٢ جمالية المكان من مغامر عابر للحدود، سمع أخبارًا عن أرض السودان من الخباز
«هارولد سامسون» الذي تحدَّث عن طقوس وعادات واحتفالات أهل السودان. فهل كان هؤلاء في
حاجة إلى
الأنوار؟ هل استدعى أهلُ السودان الإنسان البريطاني ليتعلم الحضارة؟ جاء المغامر ليكتشف
عالمًا آخر منبهًا أنه ليس موظَّفًا في حكومة صاحبة الجلالة، ثم نقله بغير رضا وينفذ
الأوامر،
ولا باحثًا عن ثروة أو ملك، أو حتى قبر مجهول في بقعة مجهولة، ولست إلا جلبرت أوسمان،
مغامرًا
عاديًّا من الطبقة الوسطى، يخوض دروب المغامرة مصادفة لأول مرة.
٣ شخصيات من أماكن متنوعة سكنتْ أرض السودان، تركية وكردية وهندية ويمنية. وما
يغري في جمالية المكان طبائعُ البشر وبساطة الحياة، وقناعة الإنسان الأفريقي في أسلوب
العيش
الذي يتناسق مع الطبيعة.
يبدو أن الروائي السوداني «أمير تاج السر» يحكي من المكان الأصل،
يعود للتاريخ البعيد والقريب، ويقترب من ظواهر معينة، ويمنح المعطيات التاريخية تأمُّلات
ذاتية، تتحرك بموجبها الشخصيات في تقديم صور عن المكان والزمان والإنسان. ابتعَدَ عن
نمط
الرواية الحديثة في جلد الاستعمار، ليتحوَّل إلى الذات والمعيش من خبرته في مجال الطب،
يشخص
الواقع الفعلي ويبني عوالم متخيلة من السرديات التي تنهل من التاريخ. يوجد خارج المكان
وهويته يستقيها من المكان، الواقعية وسحرية المكان الذي يغري بالبقاء والاستقرار نتيجة
قناعة الشخصيات التي سكنتْ أرضَ السودان مدةً معينة من الزمان. الأكيد أن جمالية المكان
باعتباره فضاء للأنس والكرم، ومجمل الصفات التي تميز الإنسان الأفريقي والسوداني بالخصوص.
في رواية «منتجع الساحرات»، والمكان المختلط بالأجناس الوافدة على السودان، عوالم المهمشين
والصراع ضدَّ المرض والجوع والحرمان، في غياب القانون والمجتمع المنفلت من الرقابة والعقاب،
هروب قسري لامرأة تدعي «إبيا تسفاي» من أريتيريا، وجدت نفسها في مكان غير مناسب ستكون
محطَّ
أطماع «عبد القيوم دليل جمعة»، كانت «إبيا» شهيةً جدًّا بحسب انطباع عبد القيوم، وانطباع
«قنديل»
شاعر الأغنيات المرهف المخضرم، الذي نجح في كتابة قصائد عدة من وحيها، كان يخبئها عن
الآخرين، ويدلقها على سمعها فقط، وربما كثيرون غيرهما لم يعرف أحدٌ انطباعهم
بالتحديد.
٤ قد يكون الأمر حبًّا وإعجابًا منذ اللحظة الأولى، أو مطاردة ومعاكسة للشابة
الجميلة. دخول المرأة إلى عالم المهمَّشين البسطاء يُحيي في نفوس هؤلاء الإحساس بالذات
والرغبة
في الاستفراد والظفر بالجميلة الأريتيرية؛ أما اللاجئ والعابر عبر الحدود، فيعرف تمامًا
أن
الحرية وظلال الأمن كل ما يبتغيه من الهروب القسري من وطنه، منتجع للمهمش، نقطة التقاء
الناس من الطبقة التي تعيش على قارعة الطريق. أوصاف السارد توحي لك أن المنتجع بالفعل
يوجد
في مكان راقٍ، وأن المقبلين عليه من الطبقة الأرستقراطية، والواقع أن العنوان في الرواية
المعاصرة أصبح ذا دلالة أخرى من الناحية السيميائية. لا بدَّ أن يلتفتَ الروائي الأفريقي
إلى
ذرات الأحداث التي تؤسِّس للفكرة المنقسمة إلى أجزاء، يعيد ترميمها وتحبيكها بالسياق
الذي
يريده السارد، منتجع يحيلك على فضاء للبيع والشراء لأشياء.
تعمل «إبيا تسفاي» مع عبد القيوم
في بيع الشاي، ويزدحم المكان بالعشاق، والذين في نفوسهم رغبات معينة. كان عبد القيوم
متفانيًا في خدمة جمالها، أو لعلَّ الجمال اخترع منه خادمًا مطيعًا لن يعصي الأمر، حتى
ولو كان
مزحة. لم يكن يحلم قط بامرأة تخصِّص نفسها وكثيرًا من وقت فتنتِها له وحده.
٥ فالتنافس على امرأة لاجئة يُدخِل عبد القيوم السجن وتختفي اللاجئة، ومن مرارة
الانتقام والسجن ينتقم عبد القيوم. نحن أمام مأساة إنسانية بالمعنى الحقيقي للكلمة، مأساة
لا زالت تعاني منها الأمم المستقبلة للهاربين والحالمين بالأمن والسلم. عندما تصاب الأمكنة
بالدمار وفيروس الحروب، وصراع الإرادات بين قوى متباينة المصالح والأهواء، تدفع المرأة
والأطفال لذلك ثمنًا.
يتحقق السرد في روايات «أمير تاج السر» بالتأمل في الفكرة التي يجدها
واقعية أو متخيلة؛ ليمنحها دلالة جديدة، يتقدم فيها السرد إلى نقطة بدون نهايات محددة.
لا شكَّ
أن الرواية المعاصرة نهر بدون ضفاف، صوت يدوي في الأفق دون نهايات مرسومة من قِبَل الروائي،
عدا ما تنتجه الشخصيات من دينامية في المشهد الروائي. يترك الروائي أحيانًا السرد للشخصية
الروائية، ويعود مرة أخرى للتنقيب والحفر في التاريخ الذي نسِيَه المؤرخ سهوًا أو قصدًا،
ينتقي
منه الفكرة، يقوم بتدويرها ويمنحها الصبغة الخيالية. في رواية «مهر الصياح» تعود الحكاية
إلى زمن الماضي، للمكان الذي شَهِد وجود سلطنات قديمة في السودان. رحلة إلى «جوا جوا»
عاصمة
«أنسابا»؛ حيث تبدأ الرواية من شخصية «آدم نظر» ابن صانع الطبول الفقير في هذه السلطنة
العجائبية والغرائبية. داخل المدينة نوع من التعايش وهيمنة الطبقية في حياة البذخ التي
يعيشها السلاطين، وحياة الفقراء التي يعيشها الشعب. عيوب السلطنة في قيادة الفرد الواحد،
وما يمثله مجلس «الكوراك» الذي يُعقد في قصر السلطان المغروس في وسط العاصمة «جوا جوا».
بناء
من طين أحمر داكن على مساحة شاسعة من الأرض، تتخلَّلها الحدائق والنوافير، يتوسطه بابٌ
عريض من
خشب «المهوقني» الفخم، وتتوزع على طول نسيجه نوافدُ صغيرة الجسم تمتص الشمس، أو ترضع
الهواء،
أو تحمل نظرات معذَّبة من حريم القصر إلى فُضول الطريق.
٦ يعرف المكان حضورًا للسلطان رغد الرشيد؛ للبث والاستماع لشكاوى الناس ورغباتهم.
وجاء «آدم نظر» مع أبيه، وهو في سن الخامسة عشرة، وكان لأبيه مطلب واحد؛ هو السماح له
بالحج ضمن
القوافل السلطانية. قرار المنع كان مبرَّرًا بحالته الصحية التي لا تسمح بذلك. يموت الأب
دون
أن ينال تحقيق المبتغى، يتحوَّل السرد إلى أعماق الشخصيات المتخيلة. يحكي عن زمن القرن
الثامن
عشر، يرمِّم الأشياء ويجمع الخيوط الرقيقة المتناثرة؛ لكي يعبر عن رحلات في مشاعر وأفكار
مجموعة من الذوات الفاعلة والمنفعلة، ويكشف عن الواقع الآني الذي يمكن أن نجد صداه في
التاريخ القريب والبعيد، آليات الفرد في ممارسة السلطة، والمكان كفضاء كان بالفعل مكبَّلًا
بالسلطة المطلقة.
لا بدَّ من القول إن للرواية التاريخية عطرَها الخاص، وإن كان الروائي
الأفريقي نهل من التاريخ والتراث الشفهي، واستأنس بالأسطورة والحكايات من زمن ولى؛ فإن
الرجوع للتاريخ بمثابة قراءةٍ في الحاضر والمستقبل. يلتفت الروائي السوداني «أمير تاج
السر»
للظواهر الدقيقة، أو للفكرة في أدق تفاصيلها عندما يمزج الواقع بالخيال. يختار الشخصيات
بعناية وأحيانًا بالصدفة، «علي جرجار» في رواية «العطر الفرنسي»؛ حيث تناولت الرواية
البيئة
والعادات الشعبية، وحلول الفرنسية «كاتيا دويلي» من فرنسا. انتشر الخبر بسرعة عند الكل
بقدومها، دهشة «علي جرجار» من مجيءِ الفرنسية إلى الحي الشعبي. انتابه هواجس وأحلام،
حي غائب،
مكان للفقراء والمهمَّشين من الناس، يعيشون حياة بسيطة ويحلمون بالأريج الجديد القادم
من
فرنسا. «علي جرجار» يعيش على إيقاع الانتظار الوشيك. يسكن الرجل في بيتٍ وسط الحي تقريبًا،
بيتٍ
كسائر البيوت، نصفه من طين، ونصفه الآخر من خشب مشقق. الذين أنشَئُوا الحي فيما مضى أنشَئُوه
هكذا … كانوا واعين سطوةَ الفقر على حياتهم، ومهووسين بغرسه في النطق؛ حتى لا يموت أبدًا.
حتى
اسم «غائب» الذي يعني عدم الوجود أو الانمحاء، لم يأت من فراغٍ أو سذاجة. إنه الاسم الذي
اتفق
عليه الجميع، وهم يصفون اللبنات الأولى في بناء الحي.
٧ إذن لماذا سعى أهل الحي للكتابة على بيوتهم اسم «كاتيا»؟ المكان الذي يُضفي جماليةً
على القرية يجب أن يتغير بمحض إرادة وقناعة الناس بوعي تاريخي جديد.
أما شخصية «عبد الله
حرفش» الملقَّب بعبد الله فرفار في «صائد اليرقات»، ضابط الأمن المتقاعد، تروقه فكرة
الكتابة.
لكن كيف جاءتني تلك الفكرة الغريبة، ولم أكن قارئًا طوال حياتي، ولا واسع الخيال إلا
في مجال
عملي؟! وما وقفت من قبلُ إلا حين يدخلها مشبوه مُلاحَق من أجهزتنا، أو تتحدث التقارير
عن كتب
ممنوعة تدخل البلاد خفيةً؛ بواسطة مهربين محترفين.
٨ فالخطوة الأولى الذهاب إلى مقهى المثقفين والشعراء، يتعرف على البعض منهم دون
أن يتلقى اهتمامًا موازيًا. مهمة تعلم الكتابة مسألةٌ شاقة وسط نخبة من الكتاب لهم صيتٌ
في
الكتابة. لا يدخل مجال الكتابة الروائية إلا مَن يمتلك الخيال والقدرة على السرد والغوص
في
متاهة الذوات. إن كتابة الرواية أصبحتْ هوايةَ مَن لا هواية له، وشغل مَن لا شغل له.
ومثلما تمَّ
امتطاء عرَبة الشعر من قبلُ حتى ضجَّت بما تحمله، وبركت في الدرب لافظةً الجيد والرديء،
وطاردة
للقرَّاء من تلك القراءة، وساحبة الشِّعر من رقبته لتمرِّغه في التراب؛ سيحدث الآن للرواية،
ستبرك
عربتها قريبًا، وسيفرُّ الناس من قراءتها؛ خاصةً أن دور النشر قد كثُرت وتشعَّبت، وما
تحصده من
مبالغ ضخمة من جيوبِ مدَّعي كتابة الرواية.
٩ نوع من النقد الصريح الموجَّه للمتطفلين على عالم الكتابة الروائية، ونقد مباشر
لآفاق الرواية عندما تفقد بوصلتها في معالجة قضايا الشعوب الأفريقية. هذا الأمر يعالجه
الروائي «أمير تاج السر» عن الفن والفنانين في رواية «زحف النمل»؛ من خلال شخصية «أحمد
ذهب»
الذي التقى بشاعر يطلق عليه الراوي «دودة القز»، الذي أطلق عليه الناس أسماء من قبيل
سلطان
الطرب، ومطرب الملايين، وفنان الشعب. تزيد الأوصاف شعور «أحمد ذهب» بالانتماء للمكان
وللشعب.
خانَه المرض العضال، هذا الزحف الذي يدمِّر الجسد، يُضاف إليه زحف آخر سيقتات على أعماله
وأمواله
للشخص الذي تبرَّع بكليته. كانت الأمور على غير ما توقَّعه المطرب «أحمد ذهب» في عملية
الابتزاز
المستمرة من عائلة المتبرع.
يبدو أن الراوي في سرد الأحداث يكيِّف الوقائع مع دينامية
الشخصيات الروائية، خيال خصب والتفاف نحو البشاعة في ظاهرية للوصف، والتعبير عما يخالج
الإنسان في نفوس ليستْ طيبة. يغريك العنوان بالقراءة ويتهيَّأ للقارئ أن النملَ هنا يحمل
من
الصفات الإيجابية للكدِّ والمثابرة في سَرد وقائع شخصيات، تنتهي إلى نتائج إيجابية. القارئ
النقدي مُطالَبٌ أن يجيد قراءة النص وما وراء السطور. علاقة السرد بالمكان والذات القارئة
لازمةٌ للتعبير عن تأملات في متن الرواية. يحكم القارئ على الأعمال الروائية، خصوصًا
النقاد
منهم، في إطار القراءة الموضوعية وما بين عوالم السَّرد. أعتقد أن ظروفًا كثيرة تحيط
بعمل
الكاتب تجعل من ذلك النصِّ تحفة، ومن العمل الآخر عاديًّا لا يَلفت النظر. هناك أعمال
كُتبت تحت
ظروف سياسية واقتصادية معينة، عاصرها الكاتب.
١٠ وفي مراحل معينة تتغير آراء الكاتب أو تتجدد آليات الكتابة، وينمو الوعي بقضايا
معينة في صَميم ما تعانيه المجتمعات الأفريقية. الأكيد أن الرواية السودانية تُقاس دائمًا
بالطيب صالح، بَل إن السودان يحيل عليه أحيانًا في ذهن الناس. الرواية الجديدة تعيد الحبكة
من
وقائع شتى، الواقعية السحرية في السرد، والخيال الخصب في انتقاء الشخصيات، وترك هامش
من
الحرية لهم في عالم متشظٍّ، ديمومة في الزمن وتعدد الأمكنة. من مضمون رواية «إيبولا»
الذي
عُرفت به بعض مناطق أفريقيا، المرض القاتل العابر للحدود من منطقة «إنزارا» جنوب السودان،
شخصية «لويس نوا» موضوع الرواية الذي جلَب هذا المرض إثرَ خيانة زوجته في نزل للفقراء
بكنشاسا، شبح قاتل وفتَّاك يقضي على حُلم الإنسان في مواصَلة الحياة. لا أمل في القضاء
على
الفيروس، ولو التمس الإنسان الأفريقي المساعدة من الرجل الأبيض. لا يدري «إيبولا» القاتل
الذي
يروع الناس وينشر الجثث، ترقبه أعين العالم لوضع حدٍّ لانتقاله.
يتقدَّم السرد ولا يعرف نهاية
محددة، ويتحوَّل «أمير تاج السر» إلى إثارة الحكاية تلو الحكاية من هموم أفريقيا، وحالة
المهمشين والمبعَدين والمنسيين من القول. يعود مرةً أخرى إلى المكان، ومنه يستقي الحكاية.
بداية
الحكاية من ١٩٧٩م، حزمة من الرسائل مكتوبة بحبر، ومعنونة برسائل المرحوم إلى أسماء.
ماذا تحتوي الرسائل؟ بقيت الرسائل في الذاكرة بعد ضياعها دون أن يحدِّد الراوي السبب.
أنا
المرحوم، وليس هذا اسمي بالطبع، ولكنه الاسم الذي اقترحته المحنةُ، حين اقتربت من النهاية،
وارتديته عن قناعة. رسالتي إليك ليست عادية، وأعرف أنها لن تصلَك في أي يوم من الأيام،
ولكني
كتبتها. سميتها ٣٦٦؛ كنايةً عن سنة لاهثة مؤلمة مريضة، قضيتها في حبِّك؛ ذلك الحب الذي
كان
بلا أمل من بدايته، واستمر بلا أمل، ولم ينته.
١١يسرد البطل لحظات البحث عن هذا الطَّيْف الذي ظهر واختَفَى، صورة لامرأة دخلت خلسة
إلى عقل البطل، وهام في عشقها حتى تحولت حياته مجردَ حديث عنها. يحكي الروائي بصيغة الحاضر،
ويستحضر الغائب وأثره على الذات. يَحكي لأسماء عن وُجوه وأماكن وشخصيات من الواقع، يحكي
عن
الموت المعنوي، وعن المكان والزمان الذي رأى فيه أسماء. يتعب القارئ في تتبع مسار الحكاية،
يتبع الراوي حتى النهاية. روايات من المكان والتاريخ لا تزال من مميزات الرواية الجديدة،
يزداد الوعي بالحاضر والمكان، فيزداد الاهتمام بالتاريخ. حمو زيادة في رواية «شوق الدرويش»،
رواية من تاريخ السودان المعاصر وتقلباته السياسية إثر هزيمة الدولة المهدية، وسقوط الخرطوم
في نهاية القرن التاسع عشر. انكسرت هذه الدولة، من يومين سقطت المدينة، بلغهم في سجنهم
أن
خليفة مهدي الله وقادته قد فرُّوا، دخل المصريون أم درمان، وجاء إلى السجن جماعةٌ من
النصارى
والمصريين، أطلقوا سراح بعض مَن يعرفون من أكابر الناس، وتركوهم.
١٢
شخصية الرواية «بخيت منديل»، السجين الذي أطلق سراحه، حياته سلسلة من عذابات لا
تنتهي، العبودية والأسر والسجن والاستغلال الجسدي من قِبَل الإنسان الغربي، في سجونهم
التي
اكتظت بأصناف من الناس، قادة وأمراء ومناوئين وخصوم سياسيين. أما «بخيت منديل» فقد كان
وحيدًا،
لا يملك وزنًا اجتماعيًّا، وليس من أشراف المدينة ووجهائها، أو أشياء من هذا القبيل.
وقع بخيت
في حب «تيودورا» التي جاءتْ من بلاد بعيدة، أصولها من اليونان ووُلِدت في الإسكندرية
بمصر، جاءت
إلى أرض السودان لخدمة الرب، جزء من البعثة الأرثوذكسية. دار البعثة مكونة من الطوب
المحروق، مقسَّمة إلى جناحين شمالي وجنوبي. تحيط بها حديقة واسعة على مساحة أكبر من مساحة
المبنى. بالحديقة أشجار كثيفة، حتى تبدو كغابة صغيرة، تلهو فيها أنواع من الطيور والعصافير،
ويشق الحديقة درب مفروش بالحصَى، يصل إلى مدخل الدار.
١٣ المكان يحيل إلى الصراع بين الأديان. تريد المسيحية أن تجد موقعًا في السودان
والدولة المهدية نقيض ذلك. يصف الروائي مسار بخيت في نيل الحرية والانتقال من مكان إلى
آخر.
إنها قراءة لاستعادة المكان والزمان في مرحلة معينة من تاريخ السودان، رواية ما بعد
الاستعمار وتأملات في الماضي لأجل الحاضر؛ لذلك حاولت الرواية السودانية الخروج من هيمنة
السرد الخطي، وتوارى الراوي في السرد والوصف؛ لترك المجال للشخصيات للتعبير والصراع.
يضاف
إلى ذلك إلمام الرواية المعاصرة بتقنيات السَّرد والنظريات الجديدة في الأدب، وسيكون
هذا
موضوعًا آخرَ من الدراسة عن التقييم للرواية الأفريقية، وانفتاح المتن الروائي على مستجدات
الكتابة الآنية في العالم.
أما الرواية النسوية في السودان، فقد راكمتْ تجارب بشكل لافتٍ في
حقبة التسعينيات وما بعدها. وإذا كانت الفترة من الأربعينيات البعيدة حتى الثمانينيات
لم
تشهَدْ ظهور روائية بارزة، سوى ملكة الدار محمد عبد الله (١٩٢٠–١٩٦٩م)، وبعمل روائي واحد
هو
الفراغ العريض؛ فإن حقبة التسعينيات وما بعدها دفعَا عددًا كبيرًا من الكاتبات إلى ساحة
المشهد
الروائي. على سبيل المثال: زينب بليل، بثينة خضر، ليلى أبو العلا، أميمة عبد الله، ليلى
صلاح، عايدة عبد الوهاب، غادة الحاج، سارة فضل.
١٤ بصمة الرواية السودانية مستوحاة من المكان وهموم الواقع السوداني. تحكي المرأة
من عالم الأنوثة والذكورة، الهوية والذاكرة، الوطن والاغتراب، ويزداد السرد تفصيلًا وإلمامًا
بالجزئيات من المكان الواقعي أو المتخيل. العاطفة ورهافة المشاعر حاضرة بقوة، وتعكس الرواية
النسوية الخيالَ الواسع في تصوير الحياة فنيًّا وإتاحة الفرصة للشخصيات المتخيلة في التعبير
عن
قساوة المكان.
في رواية «ابن الشمس» للروائية «رانيا مأمون»، حكاية رجل اسمه «كرم» يومياته
وعالمه الخاص وهواجسه الداخلية، عدميٌّ باحتراف، يعاني من الوحدة والخوف من النساء، يرسم
لنفسه عوالم خاصة. يرمز عنوان الرواية إلى طبقة المهمَّشين الذين يعرفون في السودان بالشماسة؛
حيث يستظل الشخص بأشعة الشمس. التيه والاغتراب عن الذَّات والمكان من علامة الحياة التي
يحياها كرم. هذا الخط مليءٌ بالسوداوية والشقاء، والخط الثاني الذي يمثله «جمال» يمثل
الحياة،
وعكس شخصية كرم الانطوائية، تنتهي الروايات بدون نتائج محددة. ولو أن رواية «رانيا مأمون»
رسمت الخطوط الواضحة في عالم التشرُّد بين ذوات مختلفة، وعلاقتها بالواقع والعالم، عليك
أن
تتبع الراوي في مسار الحكي وتؤول الرسالة التي أراد أن يوصلها للكل. ما في شك أن ظاهرة
التشرد تعاني منها أفريقيا وباقي الدول الأخرى، وبالطريقة التي يتم صياغتها، يلفت انتباه
القارئ إلى أن الطبائع متباينة بين البشر حتى في عالم المتشردين.
أما الروائية السودانية
«بثينة خضر مكي»؛ فهي تغرد داخل السرب، من هموم الوطن والهوية، ومسألة الهجرة والعودة،
وقضايا
أخرى من صميم العالم السياسي والاجتماعي. تستخدم ضمير الغائب والمتكلم أحيانًا في السرد،
تحكي في «أغنية النار» عن المكان الأصل، بلد المهجر إنجلترا لا يملَّان الوجدان، لكن
الوطن
الأول يظل في قلوبنا دائمًا، حيث مراتع الطفولة ونزَق الصبا وطيش الشباب والبيت الكبير.
نحن
نتعلق من «عراقيبنا» وأنزفنا وآذاننا فوق شجر السيال والتبلدي والطلح، ونهفو إلى قمم
الباباي والنخيل، رغم أننا نعيش هذه الحياة المتحضرة، ونقطن في ربوع الريف الإنجليزي
بكل ما
فيه من جمال الطبيعة الخلاب.
١٥ المدينة كمكان للسفر والاستقرار غير النهائي. لندن بشوارعها ومصابيحها تكتسي
جمالًا. في المدينة أطياف من الناس، منهم السودانيون، لاجئون يتواجدون في المقاهي وأماكن
أخرى. يتحدثون في السياسة والمجتمع، يجري السَّرد إلى حيث الطبيعة الساحرة والمكان الأخَّاذ
بالمواصفات التي تثلج الصدر، وتنير العقول وتُوقد القلوب بالعواطف في وصف الأمكنة. كانت
مناظر
الحقول الخضراء المنبسطة في التلال والوديان تستهدفها تمامًا وتغرقها في جو أسطوري حالم،
وهي
تتابعها من خلال نافذة البصر. بينما راحت سعاد في إغفاءة، لم تنتبه منها إلا عند مداخل
«سويندون»، أعجبها منظر الأبقار الإنجليزية تقف في جمال وأرستقراطية بطول الطريق.
١٦
الإعجاب بالبلد يعني أن للمكان جاذبية، والخوف يأتي من المكوث طويلًا هنا يكون
الموت والإنسان يريد أحيانًا الموت بين أحضان عائلته، والدفن في الوطن الأم، الأمر الذي
تثيره الرواية يتعلَّق بالقيم هنا وهناك، أثناء لقاء سعاد بمحمود. لندن بلد الحريات الفردية
والجماعية، سلوكيات الفرد خالية من كوابح أو موانع أخلاقية. التقبيل مسألة عادية، في
أم
درمان الأمر يُعَد خروجًا عن القيم والعادات، وخدشًا للحياء. تتحول الرواية من مكان إلى
آخر،
وتظهر شخصيات جديدة، وتنتعش القصةُ بتفاصيل جديدة في عالم الاغتراب والصراع الفكري، بين
منطق
يفضِّل اكتساح العالم والسفر بعيدًا في أوطان مختلفة، وبين منطق العودة للمساهمة في تغيير
الأوطان والمكوث هنا في البلد الأم. ومن رواية «حجول من شوك»، وكعادة الروائية بثينة
خضر
مكي، العودة للمكان الأصل طبيعية، الجذور تشد الإنسان إلى مسقط رأسه. الفضاء السوداني
يبقى
مدينًا للإنسان الأفريقي الذي وفدت عليه أقوام وقوميات. وكانت الروائية تقول إن الهوية
الأفريقية هي الحقيقة واليقين، ناهيك عن انفتاح الأنا على الآخَر من الشرق العربي وتركيا
وأوروبا. السودان تخترقه هويات وأيديولوجيات متقاتلة في بُعدها السياسي. قلق الأنا من
الآخر
عند وجود البطلة «نصرة» في أماكن أخرى. تعاني البطلة «نصرة» قلق الانتماء؛ لأنها لم تستطع
حسم
أمر انتمائها إلى السودان العربي أم الأفريقي؛ فهي تعتز بسودانيتها وبأصلها الهجين الذي
يجتمع فيه العنصر العربي والعنصر الأفريقي، مما يعني أن ما يشكِّل «أنا» البطلة هو امتزاج
هذَين العنصرَين معًا؛ لذلك لم تحس بالقلق تجاهَهما، إلا بعد أن ابتعدت عن وطنها.
١٧ تصف المكان أحيانًا بالقبح وأخرى بالجمال، يعني في الأمكنة الموصوفة ما يوحي
على الجمالية، وما يوحي على شظَف العيش. وليس المكان ذلك الفضاء الذي يحيل على البيئة
والطبيعة، بل المكان الذي يَحمل دينامية وسكونًا خاصًّا بالبشر. البطلة في حيرة كغيرها
من الأفارقة
الذين وجدوا أنفسهم أمام هوية جديدة حملها الرجُل الأبيض، واعتنقها الإنسان، وبالتالي
تغيرت
معالم القيم. البطلة نصرة هي الأخرى حملت هذه الأسئلة الوجودية والمعرفية من صميم الذات
إلى
عالم الآخر. الطبيعة، كما تقول الروائية، ليست المسئُولة عن فساد الأمكنة، بل الصراعات
الداخلية
والحروب الفكرية والانقلابات العسكرية. المكان فضاء للعيش والأنس والبناء. والإنسان عندما
يترك وطنَه بالقسر ويغترب؛ فإن ذلك يعود إلى الاستبداد، والبحث عن فَضاء أرحب وفرص للعيش.
الأكيد أن ذاتية بثينة خضر مكي موجودة في الرواية، وتقبع بداخلها عندما تحمل مسئُولية
ضياع
الأمكنة للفساد الذي يستشري في الناس؛ من جراء الصراعات التي لا تنتهي. يضيع الوطن والإنسان
معًا، وتهوِي قيمٌ ومعالم كانت قريبةً من البناء المتين، يتماهى صوت الكاتب نوعًا ما
في الرواية
من خلال تجارب في المشرق العربي. البطلة في السعودية، والروائية في الإمارات. الأماكن
والسفر
دائمًا يذكِّرنا بآلية الوصف التي تعتمد عليها بثينة خضر مكي. الأجزاء والتفاصيل من صميم
السرد،
والهوية والانتماء للبلد والقارة. وهكذا تعيد الكاتبة المتماهية مع بطلتِها الاعتبار
لفضاء
الوطن؛ حين قررت العودة، فنجدها على نقيضِ رؤيتها لحظةَ مغادرته؛ إذ بدأت تنظر إليه بعين
الحب، فتستشف ما فيه من جمال يستحق أن يُرى أو يعاش، كما تقدمه بعين موضوعية تنقد ذاتها.
فترى البؤس الذي يشوِّه ملامحَ الوطن، يتحمل بعض مسئُوليته الإنسان المثقف الذي يُهمل
دوره في
المشاركة في التَّغيير والنهضة.
١٨أو لنقل إن المكان تربة لاستنبات أشياء تنير طريق الإنسان. السودان كفضاء
للحكاية والعودة من قبل الروائية يعيش مخاضًا في البناء للذات، إذا فهم هذا الإنسان الانتماء
والقضايا المصيرية التي يعانيها دون أن يلتفت للهجرة والاغتراب عن الوطن.
مجمل القول أن
الرواية النَّسوية في السودان تَسكنها مشاعر وعواطف عن المكان، تحكي الحكاية من الواقع
المعاش،
وتمنح للشخصيات دلالة حيث تجري الأحداث. وتبدأ المرأة في الولوج إلى أعماقها للتعبير
عن
الرجل، أو معاناة نفسية في المكان، والضيق أو الفرح الذي ينتابُها من أمكنة معينة. وما
يؤخذ
على الكاتبة السودانية بثينة خضر هيمنة صوت «الأنا» النسوية؛ فلم تتغلغل إلى أعماق
الرجل، ولم تفسح له المجال، كما أفسحت لأعماق المرأة؛ على الرغم من أنها بدتْ للمتلقِّي
مأزومة
(محجوب، مرغني، مهدي …)، وإن كانت تتميَّز في تقديمها صوتَ الرجل في لحظة معاناته من
ضغط
العادات الاجتماعية كالمرأة، ولكن بدتْ معاناته أقل حرقة؛ إذا لم نجد لغةَ الوجع والقهر
التي
لمحناها لدى المرأة.
١٩
الأكيد أن في الحكاية ما يجعل نصرة تفضِّل الأصل والهوية الأفريقية؛ سواء كانت
المسألة قناعة ذاتية وتأملات في الهوية والتاريخ البعيد الذي يدل أن أفريقيا بلادٌ استوطنت
فيها أممٌ وقبائل، وعاشت هنا وانصهرت أحيانًا، أو أن الأمر يعودُ بالدرجة الأولى إلى
عوامل
موضوعية من حياة نصرة في السعودية، أو أن الروائية تتوارى خلفَ القضية؛ لأنها عاشت كذلك
مهاجرة
ومغتربة في أماكن أخرى. لا يصبح الأمر مدعاةً للتعصب والغلو؛ لأن السودان أفريقي بهويات
مختلفة، حتى وإن كان شعبها مسلمًا. هذا لا يلغي التنوع العِرقي والثقافي، تلك ميزة الشعوب
المختلفة. عمومًا قطعت الرواية السودانية أشواطًا كبيرة؛ للخروج من دائرة المحلية إلى
العالمية، وتركت الرواية السودانية فكرة واضحة عن غِنى المتن الروائي، دون وضعِ صورة
الطيب
صالح كروائيٍّ وحيد في الساحة الأدبية السودانية. بالمقابل لا أحدَ ينكر هذا الهرم الكبير،
الذي يذكرنا بموسم الهجرة إلى الشمال في التعرُّف على الآخر الذي جاء عندنا مسلحًا بالبندقية
والهيمنة، ونتعرف عليه كآخر يحمل شعاع العلم والتنظيم في نقطة، يمكن أن تكون مجالًا للحوار
الحضاري بين الشرق والغرب من جِهة، وبين الأسود والأبيض من جهة ثانية، دون عقدة التفوق
أو
ممارسة خطاب الدونية، والكراهية في حق الشعوب الأخرى.
أمَّا الإنتاج الروائي لدى أمير تاج
السر؛ فهو غني عن التعريف في تحويل مسار الرواية وممكنات السرد نحو آفاق جديدة في جس
نبض
الواقعي والمتخيل، وتركيبهما؛ لأجل بناء صورة مغايرة عن قضايا أفريقية من صميم المكان
والأمكنة المجاورة. لا زالت الرواية الأفريقية تتغذَّى من الواقعي والتاريخي، وتنحو الرواية
نحو مستجدات الكتابة الإبداعية أسلوبًا وكتابةً ولغة، أن ترسم الأفق الممكن من ملامسة
قضايا
الوجود الإنساني في القارة السمراء، وتضع اللبنة الأساسية في الارتقاء بالرواية الأفريقية
للعالمية؛ فالرواية السودانية جسر للعلاقة بين العالم العربي وأفريقيا، معبر نحو فهمِ
الذات
الأفريقية التي انصهرت مع قوميَّات أخرى، وشكَّلت تركيبية من عناصر موحدة، طبعت المزاج
والخيال
والعلاقات الإنسانية بين أفريقيا والشرق.