الفصل السادس
نماذج روايات أفريقية (ذوات مبدعة)
تستمر الرواية الأفريقية في التعبير عما يخالج الذات في القرن الواحد والعشرين. الرواية
الجديدة بنكهة الأسلوب واللغة الشعرية، والمتخيل الواسع في رحاب القضايا التي لا زالت
تعاني
منها أفريقيا: موضوع الاغتراب والنفي، الفرار والمقاوَمة. تعيد الروايةُ الأفارقةَ للكتابة
من
جديد مستلهمةً التاريخ، والتفاصيل الدقيقة من الحكايات التي ألهمتْ خيال المبدع. من جنوب
أفريقيا جاءت الرواية الأفريقية حاملةً همومَ الواقع الذي يعاني من التمييز العنصري؛
الشكل
واللون والعِرق. الروائية نادين غورديمير الأفريقية، البيضاء كما تسمِّي نفسها، أيقونة
الرواية
الأفريقية في مجال السرديات، ناصرتْ قضايا الأفارقة، ودافعت عن حق الإنسان في العيش بكرامة.
دقة الكتابة والحبكة التي تنسجها من عالم واقعي ممزوج بالشخصيات المتخيلة، وذلك التناقض
الصارخ بين الخطاب الاستعماري في أفريقيا، والخطاب السائد في أوروبا. أصبحت الروائية
عضوًا في
المؤتمر الأفريقي الذي كان يرأسه المناضل الراحل نيلسون مانديلا، سهام القلم اخترقت نظام
الفصل العنصري، وتحوَّلت الرواية إلى صيحة من أجل التعايش، ونبذ كل أشكال العنصرية والتعصب.
تعددت مؤلفاتها، مُنعت بعضها بدافع الرقابة، والنقد لفكرة الاستعباد والسيطرة، تارةً
أخرى
الإساءة للحكومة؛ فالرجل الأبيض استحوذ على المكان، ووجد في الأرض كنوزًا كثيرة من الطبيعة.
فاستوطن الناس هنا وشيَّدوا مدنًا ومؤسسات، حتى أصبح هذا الجزء من أفريقيا تهيمن عليه
أقلية
البيض. هنا نشب الصراع وتعمق بالفكر والمناهَضة بالكلمة الحرة عند ذوي الضمائر الحية
الذين
اعتبروا سياسة الفصل العنصري في تناقض، والحرية والعيش المشترك مع الأفارقة.
رواية «أيام
الكذب» وبداية انفتاح صبية على سياسة الميز العنصري، و«شعب يوليو»، وقيام انتفاضة السود
على
البيض، ورواية «بيت البنادق»، وبعض المشكلات كالغربة والهجرة والصراع الطبقي، وروايات
أخرى
من المكان المفقود بفضل سياسة لا إنسانية؛ لذلك وقفت الروائية إلى جانب الحق، وكل المطالب
العادلة للشعوب الأفريقية في دَحْر الاستعمار، ونقد البورجوازية والمجتمع الرأسمالي الجشع.
يمكن للنقاد أن يبدءُوا أسئلةً تتعلق بالعلاقة بين الروائية وأصولها؛ من قبيل: كيف يمكن
للبيض
الدفاع عن حقوق السود؟ وهل يمكن للثورة السوداء في جنوب أفريقيا أن تستوعب الإنسان
الأبيض؟
عالَجتْ نادين الإشكالية من خلال تعرية الاستعمار وآفة العنصرية، واقتنعت أن جنوب
أفريقيا
لا بدَّ أن تختار التعايش والسلام، والخيرات الطبيعية مِلكٌ للكل. كان التحريض الفكري
واقعيًّا من
خلال الكتابة، وآلية المنع سرعان ما تهاوتْ أمام مَطالِب الكل بعدالة القضايا المطروحة.
أمكنة
الروائية: مدن جنوب أفريقيا؛ جوهانسبورغ وكيب تاون، ومدن أخرى في العالم الغربي، خصوصًا
لندن.
تحكي نادين غورديمير عن العالم البورجوازي الزائل كرواية. واللافت للنظر بالنسبة للقارئ
العادي أن هذا العالم آيل للسقوط؛ ليأتي العالم البديل، الاشتراكية؛ أيْ إن الثقافة التي
حملها البيض إلى جنوب أفريقيا تنتهي للزَّوال والتلاشي. من قوة الكاتبة وصف الأمكنة بدقة
عالية ومتناهية. «ماكس» والسيدة «فان دن ساندت» من شخصيات رواية «العالم البورجوازي
الزائل». «كبر ماكس وسط ذلك الجو، لكنَّه كان يشاركني عدم الاهتمام بحديثهم عن الأسهم
المالية
والسوق والكمبيالات التي يعتمدون فيها على العامل الرخيص، وكنا نشعر بالغثيان حين يتحدثون
عن البنوك والاستثمارات وتقسيم الأراضي، وكيفية الاحتفاظ بأفضلها لهم.»
١ هذا يعني أن شخصية ماكس التي رسمَتْها الروائية مضادة للحكومة والبيض بصفة عامة.
سجن ماكس بالتخريب واستقالَ والده من البرلمان، وتوقفت أمه للحضور إلى المحكمة. قضية
كبرى
سياسية محضة، واتهامات بالجملة تتعلق بالتحريض ضد البيض. كان ماكس أحد الرجال البيض الذين
زحفوا إلى مواقع الأفارقة المحظورة عليهم؛ حيث شارك السود والهنود الاعتصام في ميدان
عام
احتجاجًا على سياسة التمييز العنصري. وبعد القبض على معظمهم، تم الإفراج عن ماكس دون
معرفة
السبب، لكنه قال: «إن أبي بالطبع وراء قرار الإفراج، وهو لم يفعل ذلك من أجل نفسه؛ إذ
ليس
مناسبًا لرجل مثله أن يكون ابنه في السجن؛ لأسباب تتعلق بالوقوف ضد قوانين حاجز
اللون.»
٢ أصبحت المؤسسات رهينة أحكام الرجل الأبيض المهيمن على القرار. تطبيقه أو العدول
عنه، والتحايل على القانون بدافع هيبة الأب. دولة منشطرة إلى صنفين: من البيض الذي ينتمون
إليها، والسود كيانات أو جماعات خارج الدولة. ماكس صنع الحدث، ناصَرَ القضية العادلة
والجوهرية، وخرج من البيت البورجوازي. للأم مكانة اجتماعية وللأب أدوارٌ سياسية. وكان
طموحهم أن يكون الابن في خدمة الأقلية البيضاء؛ للحفاظ على الوجود والمصالح الدائمة.
تحكي
الروائية بوصفها ساردة للحكاية عن وقائع وأحداث ذاتية؛ من خلال زواجها بماكس والتقائها
مع
المحامي جراهام. عملها في تحليل الدم والبراز قادَها إلى نتيجة محددة: أن البشر من طينة
واحدة. إذن لماذا كل هذا التمييز بين البشر على أساس العِرق أو اللون؟ شخصية ماكس دليل
أن في
الرجل الأبيض ما يدعو إلى قول الحق ومناصَرة القضايا العادلة للأفارقة. الصورة التي تركها
ماكس قبل موته أكيد أنها نموذجية للشباب الذين ينحدرون من وسط بورجوازي، ويدافعون عن
قضايا
إنسانية. يتعجَّب الرجل الأبيض من العنف الذي يستشري في جنوب أفريقيا من القوميين والرافضين
للهيمنة والفصل العنصري. وهذه الدولة الفاشلة القائمة في بلد أفريقي على مصلحة الطبقة
البورجوازية. وتمرُّدُ ماكس على مجموعة البيض جعلَهم يشعرون بحُسن نيته، رغم إيمانهم
بأنها حركة
أفريقية تبحث عن التأييد الجماهيري، لا يمكن أن تضم أعضاء من البيض، وكنت أيضًا من الأعضاء
المشاركين في مؤتمر الديمقراطيين، لكنني لم أعمل مع ماكس، وإنما مع المجموعة السرية التي
تطبع
النشرات للمؤتمر القومي الأفريقي.
٣
النشاط السياسي الذي واكَبه ماكس وزوجته السابقة، التي تتحدَّث بالتفصيل عن هذه
المرحلة، كان الشرارة النضالية في رد جنوب أفريقيا إلى العدالة الاجتماعية ومجتمع الحرية،
بعد صراع مرير ضد الرجل الأبيض، تنفذ الروائية كما هي العادة إلى الطبقات الاجتماعية،
والصراع
من أجل الاعتراف والسيادة المشتركة على الثروة الاقتصادية، والمشاركة في العمل السياسي،
وتتخذ من الثنائيات المركزية الأساسَ في هدم وتفكيك العلاقات، وأسس الدولة اللاعقلانية:
(السود/البيض)، (الفردي/الجماعي)، (الوحدة/التشتت) … تحكي عن نشأة ماكس في بيت أرستقراطي،
والزواج
أفقده كثيرًا من الامتيازات. يلوذ للصمت، وعند الكلام يمتلك طاقات وقدرات في الإقناع
والكتابة
في أمور عملية. يستمع للتحاليل والآراء التي تدعو للمجتمع البديل، وصعود البروليتارية
العمالية في المجتمعات الأفريقية البديل عن البورجوازية الزائلة. الاشتراكية بديل تحتاج
إلى
رجال يؤمنون بمبادئها، وإلى تربيةِ جيلٍ على قناعات من هذا القبيل، هكذا يقنع ماكس الآخر
بجدوى التغيير. تحكي ليز (زوجة ماكس) عن مغامراته، ونهاية العلاقة بالطلاق واختفائه.
ونتيجة
لاضطراباتٍ اعتُقِل الناس بما فيهم البيض، وحُكِم على ماكس بالسجن خمس سنوات نال فيها
الإهانة
والتعذيب، وكانت نهايته مأساوية.
تكتب الروائية نادين غورديمير عن أزمنة وأمكنة، ويصبح
الأخير فضاءً وبيئة للحكاية، من جنوب أفريقيا البلد الذي عانى من الاستغلال والحَيْف
الممارَس
على الحقوق الشرعية والتاريخية، للإنسان الأفريقي الذي وجد نفسه خارج المكان بفعل سياسة
الإقصاء والتهميش. والشيء الذي لا يستسيغه الرجل الأبيض أن يتحوَّل إنسانٌ أبيض للدفاع
عن
عدالة المطالب الخاصة بالرجل الأسود. ظلت القضيةُ المركزية إنسانيةَ الإنسان في رؤية
الكاتبة
للمشهد السياسي الذي عاشته جنوبُ أفريقيا. وتمتلك جرأة كبيرة في موضوع السياسة والجنس
والطبقية، والصراع الوجودي بين السود والبيض. لا بدَّ أن ينتهي هذا الصراع حسبَ البعض
إلى
إقامة النظام الاشتراكي على الطريقة الأفريقية، وإزالة الرأسمالية وهيمنة البورجوازية.
والرأي السديد إقامة نظام ديمقراطي قائم على المواطَنة والحق والقانون والعدالة الاجتماعية.
تنتقل الرواية من الذات إلى الواقع للتعبير عن قضية الإنسان الأفريقي، لا مناصَ من الإذعان
للحكمة وصوت العقل.
تعود في رواية «شعب يوليو» قصة عائلة «سميلز» البيضاء شبه الأرستقراطية
التي وجدت في الهرَب من أحداث أعمال شغب كبرى، قام بها المواطنون السود مع خادمِهم الذي
يُدعى
«يوليو» (جولاي). وتسكن هذه العائلة في كوخ في قرية فقيرة ومعزولة. إنها حكاية من واقع
جنوب
أفريقيا؛ تارةً يكون الأرستقراطي مناصرًا للسُّود ومدافعًا عنهم أمام بطش البيض وسياسة
الإقصاء
الممنهج، وأحيانًا يحتدُّ الصراع بين الجانبَين إثرَ نضج الحَراك الشعبي في جنوب أفريقيا،
فيكون
الرجل الأسود مُنقِذًا لعائلة بكاملها. هذا النوع من الهروب والاختفاء، وهذا النوع من
النبذ
والإقصاء مَردُّه بالأساس إلى غياب الاعتراف المتبادل، والصفح لأجل إرساء السلم وتحقيق
السيادة
المشتركة على الخيرات والسلطة. أدركت الروائية الأفريقية أن البيض سكنوا في مكان غير
مكانهم، والأحرى أن يلتفتوا بالشكر والامتنان للعيش في أرض بعيدةٍ عن أوطانهم. عالمهم
البورجوازي أو الأرستقراطي سيتداعى أمام وعيٍ صاعد من قِبَل القوميين الأفارقة، الذين
توحدت
كلمتهم واختلفت أيديولوجيتهم. في ثورة الغضب يتبدَّد الوئام، ويحضر ذلك الوحش الذي يسكن
الإنسان، هدفه الانتقام وممارسة العنف المضاد. عائلة بيضاء يساهم رجل أسود في إبعادها
عن
منطقة الخطر والتصفية. كلما اختلفت الظروف والملابَسات يحدث التحول في الأحياء والأشياء.
والرهان على البقاء بطبيعته لا يمكن الكشفُ عنه قبل أن تسفر الأحداث عن وجهِها. كيف للمرء
أن
يعلم؟ الأحداث المتوالية بالطريقة التي وقعت بها كانت أمرًا ليس في حسبان أحد، وعلى غير
المتوقع.
٤
في عملية الفرار تعيش العائلة على إيقاع ثقافة «يوليو» في المسكن والمأكل،
وسيكون الالتقاء الطَّبَقي مناسبًا للتعرف على هويَّتَيْن متناقضتَين في البلد الواحد.
ثقافة الخادم
وثقافة العائلة بمكانة أفرادها في المجتمع المنقسم عِرقيًّا وثقافيًّا. الاعتياد على
الاستحمام،
وأكل الفاكهة تحوَّل إلى أنواع أخرى من الغذاء الخاص بالطبقة الفقيرة. موطن «يوليو» لم
يكن
قرية، بل هو تجمُّع سكني من بيوت طينية يقطنها أعداد من عائلته الممتدة الفروع. من المسلَّم
به
أن ما أقدم عليه «يوليو» مخاطَرة؛ إذ استطاع أن يضمن قبول عائلته لذلك التواجد الغريب
لعائلة
بيضاء بينهم، وأن يحملهم على التزام الصمت؛ فهو لا يمكنه أن يمنعَ الآخرين الذين يعيشون
في
الجوار من اكتشاف عربة لرجل أبيض، ونقل تلك المعلومة إلى قوات الدورية السوداء.
٥ يتفانى الخادم في تقديم ما تستلزمه العائلة البيضاء. السود ينتفضون ضد البيض
ويهجمون على منازلهم، الشيء نفسه في كل مكان. إنهم يطردون البيض من منازلهم، والبيض يخوضون
المعركة معهم. ويحدث الشيء نفسه في كل مكان. أين يمكنه الفرار بعائلته؟ أصدقاؤه أيضًا
يفرون.
إذا هو أراد أن يذهب إلى صديقٍ في مدينة أخرى؛ فلن يجد الصديق هناك. صحيحٌ أنه يستطيع
الذهاب
إلى أي مكان يحبه، لكن عند وصوله هناك ربَّما يلقَى مصرعه.
٦
المكان غريب عن نمط عيش العائلة، لا بدَّ من التكيُّف مع الوسط الجديد. التفوق
للجنس الأبيض أمر واقعٌ في الإدارات والهيمنة على المؤسسات الحكومية. الأمر مختلف في
الأكواخ البالية، حيث تختفي مواصفاتُ الحياة، الكوخ الذي يعجُّ بالصراصير والحشرات التي
تزحف
خصوصًا عند هطول المطر. حياة في الكوخ بالوصف والسرد لأحداث مستمرة. تتعرف العائلة على
أعراف
السود وطبائعهم، تكتشف الزوجة «مورين» المكان، وعمل النساء ونظراتهم. أدركت المرأة البيضاء
المكانَ في بساطة عيش الفقراء السود، خمس سنوات من الانتفاضة والرعب من كلا الطَّرفَين
رصدت من
خلالها الروائية بالوصف للمكان الذي شهد صراعاتٍ عمَّت جميع المدن في جنوب أفريقيا عن
سياسة
الفصل العنصري. تفاصيل صغيرة وأماكن كثيرة تروي منها قصصًا ووقائع عن رحلة تجمع عائلة
من
البيض، تمتلك مكانة اجتماعية في المجتمع، وخادم أفريقي «يوليو»؛ حيث قاد عربة الهروب
إلى
الأكواخ النائية في قريته. المكان ممتلئ بالكائنات الأخرى، القطيع والحشرات وغيرها، أكواخ
تدل على الحَيْف الممارَس على السُّود في وطنهم. هذا الوطن الأسير المكبَّل بسياسةٍ إقصائية
نالت
من قيمة الإنسان الأفريقي في بلده. خرجت السيطرة هنا من يد الرجل الأبيض، وقاد العربة
إلى
المكان الذي أراده حماية للعائلة. رسالة الروائية إلى الإنسان الأبيض للكفِّ عن السياسة
التي
قادت البلد إلى الصراع الوجودي، حاولت الكاتبة سحب البساط من الطبقة الغنية ذات الرأسمال
الرمزي
والمادي في حكومة يهيمن عليها البيض.
كان يوليو دائمًا يعطي الانطباع الإيجابي للعائلة التي
خدم عندها أمام عائلته، زوجته وأطفاله. واللافت للنظر أن رحلة الهروب من القتل كانت بداية
التعرف على ثقافة أهل القرية من النساء. كانت «مارتا» زوجة يوليو في احترامها للعائلة
تشرح
طريقة العمل في الحقول، وتنقية المساحات الخضراء من الأعشاب المُضِرة، الكد من أجل العيش
والاستمرار في الحياة. على ظهر «مارتا» طفلُها الذي لم يتجاوز العام الأول من عمره، وفوق
رأسها وعاءٌ خزفي منقوش بداخله مدينة صغيرة، وزجاجة قديمة مملوءة بمزيج الماء وأوراق
الشاي …
وببعض كلمات من اللغة الأفريكانية التي جاء بها رجال القرية أثناء العمل بالمناجم
وبالمدينة، ومخالطتهم لفقراء البيض نصف المتعلمين. كانت تتحدث «مارتا» مع المرأة البيضاء
موضِّحة لها الفرق بين أوراق العشب الضار التي تستطيع الأبقار تمييزها ولا تقترب منها،
وبين
أوراق نبات تفيد في تغذية أطفالها.
٧
حياة السود في جنوب أفريقيا ومكان العيش حاضرة بقوة في الوصف. وشخصيات الرواية
عبارة عن ذوات يخترقها الأمل والرغبة في العودة للحياة الطبيعة من البذخ والهدوء في غياب
الاضطرابات والصراعات التي اجتاحتْ مدينتهم، وانتشرت إلى باقي المدن. وطموح السود في
المساواة والاكتفاء من الأشياء المادية في الحياة اليومية؛ من خلال مثال الخادم يوليو.
الأكيد أن ستائر الحقيقة انجلتْ في غياب تلك الطبقية الواضحة في العائلة البيضاء، أصبح
المصير
مرهونًا بيد الرجل الأسود. إن رسالة الروائية موجَّهة لكل الأطراف، وبالدرجة الأولى للرجل
الأبيض، والحكومة المهيمنة على الشأن السياسي والاقتصادي والثقافي. المكان دال على سوء
الأوضاع المعيشية التي يعيشها الأفريقي في بلده، والصراع المرير يستند على حقائق من المكان
المكبل بقيود القوانين، والقيم الغربية التي فُرِضت على الشعوب الأفريقية.
تعود الروائية
للحكاية عن أفريقيا، عن بلد آخَر بعد مرحلة ما بعد الاستعمار، وظهور الدولة القطرية بحدودها
الجغرافية وهيكلها السياسي، وعودة الاستعمار في أشكالٍ مغايرة عن التدخلات المباشرة.
من
رواية «ضيف شرف» تحكي عن شخصية «جيمس براي» الموظف الإداري الاستعماري الإنجليزي، الذي
تم
طرده من دولة أفريقية، دون أن تذكرها بالاسم؛ بسبب اصطفافه إلى جانب القوميين السود.
عاد من
جديد ضيفًا هذه المرة، لقد حافظ على اتصال وثيق مع «أدمسون مويتا»، وزعماء آخرين من حركة
الاستقلال الأفريقية، منذ غادر أفريقيا نهائيًّا قبل عشر سنوات.
٨ دعوته للعودة من جديد إلى أرض أفريقية. ستكون العودة موازية للاحتفال بعيد
الاستقلال. أخذ النقاش مدة مع زوجته في مرامي العودة للمكان. كان قرار السفر نهائيًّا،
وعندما
وصل اكتشَف عالمًا جديدًا يحيط بمويتا في الاحتفالات كزعيم، شخصية لا زالتْ لصيقةً بالاستعمار،
تخدم مصالحه عن طريق تشجيع الاستثمارات، وتكريس حكم بالقوة الحديدية، والاستفراد بالقرار
والهيمنة على السلطة. أما «إدوارد شينزا» فعلى النقيض من ذلك. سأل براي في كل مكان عن
إدوارد شينزا، لكن بالتأكيد لم يكُن ثمة دليلٌ على وجوده في أية مناسبة رسمية. شعر براي
أنه
لا بدَّ أن يكون في مكان ما في الجوار، كان من الصعب أن يتخيَّل هذا العهد بدونه، كان
عهده بقدر
ما كان عهد مويتا.
٩ غيابه حاضرًا عند براي. يستقبل الرئيس مويتا براي بعد دعوته إلى حفلة عشاء، سمع
الكثير من الشبهات حوله، حكومته منتقاة. كان معظم المعيَّنين أسماء لا يمكن لفظها، ووجوهًا
سوداء لم يسمع بها أصحاب الحوانيت وموظفو المناجم من قبلُ قطُّ. أما في القانون والزراعة
والصحة العامة والتعليم، فقد كان ثمة الكثير من البيض الخبراء الأجانب، وقليل من الوجوه
المألوفة — كوجه الكولونيل «إيفيلين جيمس براي» — التي أظهرت في الأيام الخوالي اهتمامًا
بمصالح الأفارقة، أكثر من اهتمامها بحياة البيض في المستعمرة.
١٠ مرت الأيام وتصاعدت الأحداث، وانتهت إلى نهاية جيمس براي؛ فالنظام عاد إلى
طبيعته بعد صمت بريطانيا التي استجابت لطلب «مويتا»؛ حيث عاد هذا الأخير إلى بيته الكبير
ونُفي شيتزا إلى الجزائر، وآخرون كان نصيبهم السجن. إنها السلطة وشهوة التفرد وطغيان
الفرد.
جيمس براي رجل عسكري في زمن الاستعمار، وعودته إلى بلد أفريقي تلزمه أن يكون إلى جانب
طرف
معين، حتى وإن أراد الصلح وإرساء معنًى مغايرٍ للسلطة في أفريقيا.
قراءة الكاتبة للواقع
الأفريقي تعني الإقرار بالهوية، وعدم نكران الانتماء للبيض مع قول الحقيقة والاستماتة
في
الدفاع عن مكونات جنوب أفريقيا السُّكانية. تعرَّضت كُتبها للمنع والمضايَقة؛ فالقيم
الإنسانية
تلغي التقابلات والمفاضَلة بين الناس على أساس الجنس والعِرق والثقافة. كتبت نادين غورديمير
روايات من صنع الخيال بلغة سردية دقيقة، ووصف في عين المكان للعلاقة المختلة بين البيض
والسود، عن السياسة الأحادية التي تُمارَس تحت دافع المصلحة والمنفعة للشركات العاملة.
المجتمع البورجوازي الزائل وجد في أفريقيا خزانًا للموارد الطبيعة والبشرية الرخيصة
والمأجورة، استوطن الأرض وصادَر الملكيات، ونهج سياسة البقاء للأصلح على الطريقة الداروينية.
وعندما قامت الثورة والعصيان، تعجَّب البيض من هذا العمل. مفارَقة صارخة وعجيبة عندما
يتعجَّب
هذا المجتمع من القوى المناهِضة للاستغلال والعنصرية!
مَن يقرأ في السيرة الذاتية للروائية
يستنتج هذا الميل الفعلي للنِّضال ضد الظلم والاستغلال، سيعرف أن الإنسانية أرقى أشكال
الإيمان بالإنسان في حقيقته الوجودية، والصراع الدموي يبني مجتمعًا منقسمًا ومتشظيًا،
تتقاتل
فيه الهويات المتصارعة على الأصوب والأجدر بالقيادة. رغم عودة السلم وانتهاء نظام الفصل
العنصري، كتبت الروائية عن قضايا جديدة في بلدها، عن مخلَّفات الماضي الذي ترسَّب في
عقول
القوميات، عن الانتقال الديمقراطي والعدالة الاجتماعية في مجتمعٍ أراد القطع نهائيًّا
من خلال
العدالة الانتقالية، وجبر الضرر والاعتراف بحقوق الإنسان من أوسع أبوابها. نقد الروائية
ظل
متواصلًا في أمل بناء الدولة التي تمتد أيديها للكل، وأن يصير المكان مفتوحًا لكل القوميات
والكيانات التي يحتويها الوطن الواحد.
نالت الروائية نادين غورديمير جوائزَ عدة من أبرزها
جائزة نوبل للآداب في ١٩٩١م؛ اعترافًا بكل ما قدَّمته من أعمال إبداعية، كما ظلت الكلمة
رنينًا
وشوكة في تعرية العنصرية المقيتة في جنوب أفريقيا. أما مُواطِنها الآخر «جون ماكسويل»
الحائز
على جائزة نوبل للآداب في ٢٠٠٣م، الذي وُلِد في جنوب أفريقيا، فرغم انتمائه للبيض فإنه
يحمل روحًا
إنسانية نقدية للعصر الراهن الذي تعيشه جنوب أفريقيا، والعالم الرأسمالي الذي كرَّس ثقافة
السلع والمال، والإجهاز على الإنسان من خلال سياسة عنصرية استئصالية قسَّمت بلد جنوب
أفريقيا
ما بين أبيض وأسود وملون وهندي.
في رواية «في انتظار البرابرة» تجري الأحداث في مدينة
صغيرة على حدود إمبراطورية عظمى لا اسمَ لها، يديرها قاضٍ يجمع الضرائب، ويقوم بحل
النزاعات بين الناس على أساس العدل والتراضي. أنا قاضٍ مدني مسئُول أعمل في خدمة
الإمبراطورية، أكملُ ما تبقَّى من خدمتي، في هذه الحدود الباعثة على الكسل، منتظرًا التقاعد.
أجمع العشور والضرائب المشاعة، أتابعُ انتظام إمدادات الحامية، أشرِفُ على الموظفين الأدنى
رتبةً، الذين هم الموظفون الوحيدون لدينا هنا، أراقب التجار، أترأس المحكمة الصغرى
مرتين.
١١ رجل بهذه المواصفات في مكانٍ ما، كفيل أن يجعل المدينة تعيش في سلام، دون أن
يتحايل الآخر بدعوى الأخطار المهددة للحدود والإمبراطورية. ومن الهاجس الأمني تتحوَّل
المدينة
إلى مكان للاعتقال والتعذيب. من أكاذيب الآخر أن البرابرة قادمون، والأخبار الواردة تدل
على
الفساد الذي يستشري في المجتمع. أنا شخصيًّا لم أرَ من هذه الأخبار شيئًا، لاحظتُ بشكل
خاص
أنه يحدث مرةً في كل جيل، حالة من الهيستيريا حول البرابرة، ولم أخذل ولا مرة، ليست هناك
امرأة واحدة تعيش على طول الحدود.
١٢
ينطلق الروائي بضمير المتكلم يفنِّد فكرة وجود البرابرة، وأن وَحْدة هؤلاء للهجوم
على الإمبراطورية من كل حدودها، عملٌ يستلزم وَحْدة من الجيش وتعزيز الحصون، وكل الخبراء
والأجهزة العاملة في الضبط والمراقَبة. حملة الاعتقالات تطال كثيرًا من الناس، القبض
على الناس
بالشبهة للعِبرة أو للمثال. المكان الذي يصفه الروائي فضاء مكبَّل بأغلال المراقَبة،
عيون
الجنود تتابع وتعتقل، أحوال السجناء يصفها السارد بلغة دقيقة من قلب السجن، القاضي الذي
يروي قصصًا مؤلمة للسجناء الذين يعتقد أنهم يشكِّلون خطرًا على البلد، الأوامر تأتي من
العاصمة
لأجل حماية الإمبراطورية من البرابرة، لكنَّ ستارًا سقط في هذا العام على طول الحدود.
نحدق
إلى الخلف من وراء متاريسنا نحو الأراضي القفر؛ لأن كل ما نعرفه أن عيونًا تتطلع بالمقابل،
التجارة وصلت إلى نهايتها. ومنذ أن وصلت الأنباء من العاصمة عن أي إجراء، مهما يكن، يجب
اتخاده؛ من أجل حماية الإمبراطورية، دون أي اعتبار للثمن. عُدنا إلى عهد الغزوات والاحتراس
المسلح، ليس هناك شيء نفعله غير الاحتفاظ بسيوفنا لامعة، نراقب وننتظر.
١٣
إنها حروب وهمية من أعداء وهميين، برابرة مصطنعين يعيشون في عالم الفقر
ويجابهون الحياة بالقليل. إنه الرعب الذي يُزرع في مناطق شتَّى من العالم عن طريق تلفيقات
وأكاذيب، وحقائق مزيفة عن العدو خلف الحدود والقريب من الأبواب، في أمكنة متعددة من أفريقيا.
يسود هذا النوع من الترقُّب المفتعَل، وتسود الحاجة إلى تعزيز أمكنة الجنود للمواجَهة
المحتملة.
القاضي يعرف طريق الحق والعدالة، يهتدي بالحكمة والتريُّث في تدبير أمور المدينة؛ فالتفكير
في
البلد لا يعني التماثل في الرأي بين الجنود وما يُسمى البرابرة. نحن نفكِّر في هذا البلد
وكأنه
ملكنا، جزء من إمبراطوريتنا، قادتنا الأمامية، مستوطنتنا، مركزنا التجاري. ولكن هؤلاء
الناس، هؤلاء البرابرة لا يفكرون إطلاقًا بالطريقة نفسها، لقد مضى على وجودنا هنا أكثر
من
مائة عام، استصلحنا أراضيَ من الصحراء، وأنشأنا مشاريعَ للري، وزرعنا حقولًا، وبنينا
منازلَ ثابتة ووضعنا
سورًا حول بلدتنا، ولكنهم لا يزالون يفكِّرون فينا على أننا زُوَّار عابرون.
١٤
يقود العميد حملة عسكرية ضد البرابرة؛ رافضًا نصائح القاضي الذي فهم الحقيقة.
القضية لا تعدو أن تكون حملة عدائية ضد هؤلاء الناس المسالمين الذين يعيشون على هامش
المدينة يمتهنون الزراعة والرعي، إنها القوة السلبية في تمزيق وحدةِ الناس، وإشعال الصراعات؛
خدمة لهؤلاء الجنود الذين يأتمرون بأوامر العميد. رحلة في أمكنة يصفها الروائي، ويروم
تقديم
المكان للقارئ الشبيه بجنوب أفريقيا أو الولايات المتحدة. الآن الأمكنة لها من المواصفات
ما
يجعلنا نقول إنَّ المكان مجهول الاسم، والغاية محدَّدة من الطرف الذي يريد اكتشاف العالم
الآخر،
الذي يريد تقويضَ أسس الإمبراطورية. مَن يفكِّر عميقًا سيجد أن النظرة السائدة في الرواية
أقرب
إلى عالم القرن العشرين، حيث الهَيْمنة للرأسمالية على العالم وصراع القوى، وذاك التقابل
بين
العالم المتحضر والعالم المتوحش. انتظار البرابرة وهمٌ في خيال الآخر المستبدِّ والمهيمن
على
المكان، كأنه الاستعمار الغربي لأفريقيا الذي جاء بفكرة الأنوار والحضارة، والبرابرة
مرادفة
للشعب المسالم الذي يعيش في الطبيعة، وفي تناغُم مع قِيَمه، يمارس أنشطةً يومية، ولا
يوجد لديه
عقدة أو مركب نقص من الآخر. القاضي الذي يحكي الحكاية والمسار إلى ديارهم يدرك من البداية
زيفَ الفكرة، وأن الحرب والتوجُّس ما هما إلا حيلة ماكرة للقوة السلبية في وجه أعداء
وهميين.
يُتَّهم القاضي بالخيانة، لقد اتضح الأمر إذن. «مفاوضات تنطوي على الخيانة»: عبارة مأخوذة
من
كتاب. أقول: «نحن في سلام هنا لا أعداء لنا.» صمت هناك. أقول: «ما لم أكن مُخطئًا، ما
لم نكن
نحن الأعداء.» لست واثقًا أنه يفهمني، يقول: «السكَّان المحليون في حربٍ معنا.»
١٥ هذا الكلام يدل على اختلاف الفهم للناس هنا، أو ما يُسمى البرابرة، الأمر الذي
جعل القاضي يُدرج ضمن المعارَضة أو الصوت الرافض لكلِّ قوة غير مشروعة في حقهم، والعلاقة
التي
تكسَّرت بسبب ذلك مصيرها أن ينال القاضي السجن، مجموعة من التهم الموجَّهة إليه تتعلق
بالعمل
والأحكام والعلاقة مع عاهرة. تمضي الأيام في السجن، يحكي عن الألم والمعاناة، لا يمتلك
إلا
ذاكرة وأسئلة لا تنتهي. يصف المكان وصفًا دقيقًا، والتعذيب النفسي والجسدي للسجناء من
قِبَل
الجنود الذين يستخدمون عصيًّا من القصب الأخضر المتين، يُنزِلونها في لطمات ثقيلة، أشبه
بأصوات
صادرة عن اللوح الخشبي الذي تُغسل عليه الملابس؛ مسبِّبة آثارًا حمراء على ظهور السجناء
وأردافهم. بحذر شديد يمد السجناء سيقانهم؛ حتى يستلقوا تمامًا على بطونهم، كلهم ما عدا
السجين
الذي يتأوه، والذي يلهث الآن بشدة إثرَ كل ضربة.
١٦
في مشهد مأساوي ينتهي الجنود من الجَلْد، ويتوقَّف الحشد عن المشاهدة. إنه عقاب
قاسٍ للبرابرة الذين يخطِّطون لتدمير الإمبراطورية كما تدَّعِي البراهين المقدَّمة من
طرفهم، ويغدو
المشهد قاتمًا بالسَّرد الذي يتوقف الراوي في إتقانه؛ سرد للوضعية الذاتية داخل المكان،
وسرد
بالتفاصيل للمشاهد التي يراها في المعامَلة القاسية للسجناء، فزع البرابرة لا ينتهي،
والحقيقة التي تظهر لذاتها. إن هؤلاء الناس المسالمين انسحبوا إلى أمكنة أخرى، وليس في
المكان أشباح أو كائنات أخرى. إنها أمور مصطنعة وملفَّقة، إمبراطورية حدَّدت وجودَها
ليس في زمن
ناعم يلتفُّ مع دورة المواسم، ولكن في زمن مُرْتجٍّ من صعود وانهيار، من بداية ونهاية،
من كوارث
إمبراطورية تحكُم على نفسها أن تعيش في التاريخ وتتآمر ضد التاريخ. فكرة واحدة فقط تشغل
العقل الخفي للإمبراطورية: كيف لا تنتهي؟ كيف لا تموت؟ كيف تطيل عمرها؟ إنها في النهار
تلاحق أعداءها، إنها مراوِغة وقاسية، ترسل كلابَ صيدها إلى كل مكان، وهي في الليل تغذي
نفسها
على تخيُّلات لكوارث: نهب المدن، اغتصاب السكان، أهرامات من عظام، فدادين من خراب.
١٧
لا أمل يزرعه الإنسان في هذا العالم إلا طلب العدالة، وتطبيق القانون والخضوع له
من قبل الكل. قوانين وضعية يصوغها الإنسان للعيش المشترك، عندما يعاني الناس من الجور
وغياب
الإنصاف. من المطلوب أن تكون القوانين عادلة ومنصفة، ومَن يطبِّقها ينبغي أن يكون عادلًا.
هكذا
يسرد الراوي منطق القضاء الذي لا يخلو من متاعب وصعوبات جمَّة، قبل أن تعصف الأحداث بالمدينة.
أصبح المكان مستباحًا من قِبَل الجنود، والخوف يسيطر على المشهد العام للمدينة. أُغلقت
المنافذ
والحدود والمدارس، وأصبحت المحلَّات التجارية تعجُّ بالمشترين، ولكن عندما يتذوَّق البرابرة
طعم
الخبز، خبز طازج ومربى التوت، خبز ومربى المشمش؛ فإن أساليبنا هي التي ستستهويهم.
١٨ تتشكل في عالم السلطة والسياسة في دولٍ معينة: الهوسُ بالشعب، والخوف المستمر من
انتفاضة الشعوب، أو الهيمنة على خيرات الآخر بدعوى المدنية والحضارة، مقابل البربرية
والتوحُّش.
لعل كوتزي منح القارئ فسحة التأمل في المرامي البعيدة للرواية، انتظار وترقب أن
يحل البرابرة في المدينة للقضاء ونسف حدود الإمبراطورية الشاسعة، والحل في خلق العدو
الوهمي، وشن الحرب الاستباقية، في عالم غير متكافئ بين القوى المتصارعة. ليس البرابرة
في
تفكيرِ مخطِّطي الحروب والصراعات إلا أشرارًا، ينبغي استئصالهم وإزالتهم من الوجود أو
إدخالهم
في كيان الإمبراطورية الشاسعة. إن المدينة تعيش على قِيَمها وثقافة أهلها، ليسوا أعداء
أو
برابرة، حياتهم تجري كالمعتاد من البساطة وتتناغم مع الطبيعة. حقيقة أدركها القاضي ونال
عليها العقاب؛ بمجرد أن اعتبر الأمر لا يحتمل وجود هذا النوع من الناس. اقرأ الرواية
في
خطوطها العريضة، بين السطور حواراتٌ ذاتية بين القاضي السَّجين. في مكان قاسٍ كالسجن،
لا ينطوي
على جمالية، يصفه الروائي بنوع من القتامة والعذاب، والمشاهد المؤلمة لأشخاص يعتقد أنهم
برابرة، يهدِّدون الإمبراطورية في حدودها ووجودها. يبدو الصراع قيميًّا وحضاريًّا مبنيًّا
على
الاستباق وبث الرعب والخوف في نفوس الناس. فالقارئ للرواية يخرج بانطباعات عن العالم
الآني
أو بالذات عن القرن العشرين، قرن الاستعمار والحروب الشَّرِسة، وصراع الرأسمالية والشيوعية،
والمد العنصري في بلدان أفريقية، والانتقاص من حضارة الآخر في تجريب نماذج في السياسة
والاقتصاد. ولو استطاع الآخر استيعاب الحضارات عن طريق التعايش والاعتراف المتبادل، لَكان
الأمر جيدًا في قيام تنوع حضاري، يغني أواصر العلاقات الإنسانية بين الشعوب. الأمر يتعلق
بجنوب أفريقيا وباقي الدول في هيمنةِ الرجُل الأبيض على ثروات البلد، في الهيمنة الأحادية
للحضارة الغربية على شعوب أخرى. فمن الواضح أن الروائي كوتزي يمتلك خيالًا سرديًّا، ووصفًا
دقيقًا للأمكنة دون أن يحدد المكان بذاته؛ ليترك هامشًا كبيرًا للقارئ المتمرس في تفكيك
رموز
الرواية، وتتبع مسار الحكاية وما وراء سطورها.
أما في رواية «خزي»، أو «العار» كما في ترجمة
أخرى، يبدو الأمر في غاية الأهمية للموضوع الذي تعالجه، مدرس لمادة الشعر الغزلي في جامعة
كيب تاون بجنوب أفريقيا، مطلِّق مرتَيْن. يرصد الكاتب شخصية هذا المدرس ورغباته الجنسية،
ليس
لديه أبناء. لقد أمضى فترة طفولته وسط عائلة من النساء، وبعدما رحلت الأم والخالات
والأخوات، استعاض عنهن مع مرور الوقت بالخليلات والزوجات وابنته. وقد جعلت صحبة النساء
منه
عاشقًا للنساء أيضًا، إلى حدٍّ ما زير نساء. كان بطول قامته، وعظامه القوية، وبشرته الزيتونية،
وشعره المرسل يستطيع دائمًا على قدرٍ من الجاذبية. فإذا نظَر إلى امرأة بطريقة معينة
بقصد
معين؛ فسوف تبادله النظر.
١٩
يوميات مدرس في الجامعة، يقضي الوقت موزَّعًا بين المكتبة والمنزل ومع العاهرات،
شغوف بالجنس والمتابعة. وفي مساء ذات يوم جمعة، وفي طريق عودته إلى المنزل سالكًا الطريق
الطويلة التي تخترق حدائق الكلية القديمة، لاحَظ أنَّ طالبة لديه تسير أمامه على الدرب،
اسمها
ميلاني إيزاكس، من دورة الشعراء الرومانسيين، ليست من أفضل الطلاب، لكنَّها أيضًا ليست
أسوأهم،
على قدر من الحذق، ولكنها لا تشارك.
٢٠ كانت البداية بالتحية، والانتهاء بالذهاب إلى المنزل. وافَقت الطالبة بحذر، لكنها
أذعنت لطلبه. يعيش هذا المدرس وحده ويطبخ، تنتهي المغامرة باستدراج الفتاة إلى غرفة
نومه، استمرت الحكاية والمغامرات الجنسية مع طالبة صغيرة السن. كان المدرس دافيد أشدَّ
حرصًا
على سمعته في الجامعة، والأمور لن تبقى على سرِّيتها؛ إذ سرعان ما انتشر الخبر، ورُفِعت
شعارات
عن الاغتصاب ومحاوَلة وضع حد لمغتصِب ومعذِّب النساء كازانوفا؛ في إشارة إلى المدرس.
فالمكان
والمقام والقِيَم لا تسمح بهذا النوع من الابتزاز والاستغلال للقاصرات من الطالبات. مكان
للعلم من الطبيعي أن يكون مجالًا للوعي، وتنمية الذات بالمعارف من قِبَل المربين والمدرسين.
هوس بالجنس، واحتيال على قاصرة كانت تسطِّر مسارًا خاصًّا لمستقبلها. تقرَّر أن يمثُل
المدرس أمام
هيئة تأديبية، عقوبات رَدْعية، ومناقشات حادَّة في اللجنة المنبثقة لمحاسبة المدرس يتخلَّلها
شدٌّ
وجذب في مرامي العمل وأهدافه النبيلة. ترك الأمور هكذا ورحل إلى الريف، لقضاء أسبوع يُنسِي
كل
الأحداث. يعتقد أن قول الحقيقة والاعتراف بالذنب، والحاجة للتأهيل والاستشارة ينهي العملية.
التقريع أمر غير مستساغ، الأمر يستلزم استئنافًا إذا كان الحكم نهائيًّا وقاسيًا في حق
المدرس
ديفيد. يوميات المدرس في الريف عند ابنته مستمرَّة بالشكل الرتيب مع ابنته لوسي. إنه
يخوض
تجربة جديدة، وابنته التي كان في يوم من الأيام يوصلها بالسيارة إلى درس الباليه، وإلى
السيرك، وإلى حلبة التزلج، تأخذه هي في نزهةٍ وتريه الحياة؛ تريه ذلك العالم الآخر
المألوف.
٢١
عالم الريف الغني بدلالته وعلاقات الناس الاجتماعية، والعمل المتواصل والعناية
بالحيوان، الاعتياد على العالم الجديد يُنسِي ديفيد عالم الجامعة والمدينة، والتحرش الجنسي
بالطالبات. جمالية المكان بالنسبة للروائي هي الطبيعة في ريف جنوبِ أفريقيا، التفاني
والأعمال المشتركة في الحقول، وتربية الحيوان وما شابه ذلك من أعمال تبدو يومية وروتينية،
لن يُكتب لهذه الأعمال النجاح. في الريف لا زالت اللُّحْمة الجماعية بين الناس سائدة،
وعنصرية
البيض بدأت تتلاشى نوعًا ما في مجتمعٍ جديد؛ في حاجة إلى سواعد الأفارقة دون تمييز على
أساس
الجنس والعِرق واللغة. عالم الريف مُغايِر عن مغامرات المدينة والجامعة في التحرش الجنسي،
والاستغلال للطالبات. حصلت أشياء كثيرة في البادية، بدَّلت من علاقات لوسي بأبيها، أحسَّ
الأب
بالتغيُّر الذي طرأ عليها واستمرَّ في الصبر. محاوَلة الاعتداء على منزلها زادت من هذا
الشعور،
وبعد مرور فترة معينة لم يستطع أن يصبح قرويًّا بفعل صعوبة التأقلم مع عالم الريف، وما
يحمله
من صعوبات وتناقضات، ناهيك عن الصراع الفكري والأخلاقي بين أجيال مختلفة. الجيل الذي
يمثِّله
ديفيد وحمولة القيم التي أدَّت إلى انتكاسته واعترافه بكل ما نُسِب إليه من تهم التحرش
والاستغلال الجنسي، والقِيَم في الريف، حيث العمل والمشاعر المغايِرة والحياة الرتيبة،
تربية
الكلاب، وتوزيع المنتجات في السوق، بالطبع لم يكنْ من الأعمال التي تستهويه، هو الذي
رفض
الاعتراف بأخطائه أمام اللجنة، وفضَّل الاستقالة والعيش في الريف. الحياة في هذا الوسط
زادت
من تساؤلاته عن كل تفاصيل العمل والحياة الشخصية لابنته، وعندما تعرَّضت ابنته لاعتداء
مخزٍ،
زادت العلاقة عمقًا رغم التباين في العقليات والمزاج.
يمتلك الروائي كوتزي خيالًا واسعًا وأفقًا
خصبًا في السرد عن أدق التفاصيل، وتتخلل الروايةَ حوارات وتساؤلات وقيم غير مقبولة من
مدرس
جامعي يمارس نفوذَه في الابتزاز والتحرش الجنسي. والجدير أنه لا يعترف بالخطأ والذنب
أمام
اللجنة. إنها ظواهر موجودة في المجتمعات المعاصرة منحَها الروائي لمسة فنية خاصة في اختيار
الأمكنة والعقدة، دون أن تكون هناك حلول واضحة في القصة. ترك الروائي مسارًا غير محدد
للقصة،
وتدرَّج من العالم الذاتي للمدرس في ممارسات مع النساء طلبًا للنزوة والرغبة الجامحة،
وانتقل
بالسرد إلى عالم الريف وصراعات الإنسان مع الطبيعة والحياة. العمل هناك مستمر، يروي منه
الروائي تفاصيل أخرى عن حياة مليئة بالتناقضات، والجزئيات التي عمل الروائي على سردها.
الروائي تفنَّن في وصف مشاهد متعددة في روايات تحكي عن أزمنة وأمكنة، عن قضايا الإنسان
وأزمته
في العصر الراهن أمام جبروت السلطة والعنف الذي يَستشري في المجتمعات الحالية. لا يحكي
الروائي عبثًا، بل المكان المعاش عبارة عن فضاء للتجارب والممارسات الفردية والجماعية؛
فالبحث
عن الذات وتشكيل الهوية الجماعية نقطةٌ أساسية في الأعمال الروائية للكاتب خصوصًا عندما
يعرِّي
تداعي السلطة، والتسلط في البلدان ذات السلطة القهرية، القائمة على العنصرية والمخاوف
الاستباقية لما يسمى بالبرابرة.
نال الروائي جائزة نوبل للآداب في ٢٠٠٣م، وعدةَ جوائز تقديرية
في الإبداع، ولا زالت الكلمة سهمًا ناريًّا يخترق قلوب الطغاة وأصحاب الامتيازات من ذوي
السلطة
الموجهة نحو احتقار الشعوب، والفصل بينهم على أساس العِرق واللون.
ومن جنوب أفريقيا ونماذج
الكتابة الروائية للروائي الأبيض المناصِرة للقضايا الأفريقية العادلة، إلى رواية النيجيرية
شيماندا نغوزي أديشي. في أعمالها الروائية، منها «نصف شمس صفراء» ورواية «أمريكانا»،
كان
العمل تتويجًا للإبداع الذي عالَج موضوع الحرب الأهلية في نيجيريا. فالرواية الأولى التي
تدور
عن قصص من فصول الحرب الأهلية، ومطالبة قومية «الإيبو» بالاستقلال. الحرب التي خلفت أكثر
من
مليون روح بشرية عند إعلان منطقة بيافرا الاستقلال عن نيجيريا، وتكوين دولة مستقلة خاصة
بعِرقية الإيبو، حرب الهويات المتصارعة، في رحاها نشب صراعٌ مرير انتهى بآثار كارثية
على
الإنسان الأفريقي؛ ضحية الحروب التي لا تنتهي. الكاتبة منحتِ الرواية لمسة أخرى، خمسة
أشخاص
وطفلة صغيرة هم شخوص الرواية، تقصُّ الروائية وقائعَ درامية مثل التهجير والقتل والاغتصاب
والتجنيد الإجباري والمرض والفقر والجوع، كما لا تخلو الرواية من أشياء إيجابية عن الإنسان
في قبيلة الإيبو. أيْ إن الكاتبة قابلت الحرب بالسلم، والحُسْن بالقبح، والمعاناة بالفرح،
والحياة بالموت، ورسمت صورةً أخرى عن الحرب في لوحة فنية ومَشاهِد إنسانية تعيد النظر
في مرامي
الحروب، والهويات القاتلة في نيجيريا بصفة خاصة، وأفريقيا بصفة عامة.
بناء الرواية نسيج من
عناصر مختلفة يطبعها الخيال في وضع الشخصيات والأحداث، دون التفصيل في الأمكنة، أو على
الأقل
ترك الحرية للقارئ أن يلامس المكان الذي التمس منه الروائيُّ الحكاية. تعدُّد الأصوات
في
الرواية الجديدة وأساليب الرواية الحوارية والمونولوجية، غالبًا ما يوحي للنقاد بقوة
اللغة
والبيان في إيقاع الرواية ودينامية الأحداث الروائية، وتطويع عناصر المادة الجاهزة المستقاة
من الواقع؛ ليعيد الروائي في أسلوب شعري هادف صياغتها من جديد، عندما يجيد الإلمام بالحبكة،
وينسج على منوال الوقائع عوالمَ سرديةً مغايِرة، تمنح القارئ فرصةَ العودة للماضي، وتوقُّع
المستقبل. وفي الحالة التي يستطيع فيها الروائي أن يمتلكَ وعيًا بمجموع تلك التصورات
مدركًا
عناصر قوتها وضَعْفها، فإنه لا بدَّ أن يكون قد تنازَلَ عن تعصُّب كبير لرؤية العالم
التي ينتمي إليها
في وسطه الاجتماعي الخاص، وأخضع حتى هذه نفسها للنقد على ضوء التصورات الأخرى النقيضة،
أو
المتعارضة مع رؤيته. ومثل هذا الوضع غالبًا ما يُؤدِّي إلى خلق نظرة حوارية داخل عالمه
الفني،
تعرَّض بشكل متكافئ لشتَّى التصورات الممكنة، أيْ لشتى الأساليب.
٢٢
فالكتابة الإبداعية ثمرة تلاقُح أفكارٍ وتصوُّراتٍ مختلفة، لإنتاج لوحة فنية غنية
بالمعنى والقِيَم، لوحة تزيل اللبس عن عالم قاتم بالتسلط والتفرد، وتمكين القارئ من بناء
فكرة
عن عالم اليوم والأمس. نظرة الروائي الأفريقي إلى عالمه مَبْنيَّة من سياق المعطيات التاريخية
والآنية، من هموم هذا الإنسان والتزامه بالقضايا الجوهرية التي يمكن اختزالُ أهمها في
الحرية
والعدالة الاجتماعية، واستنبات الديمقراطية، ونبذ أشكال التمييز والعنصرية. والخطاب الروائي
مُفعم بالكلمة ودراسة هذا الخطاب، سنجد أشكالًا من المواضيع والمستجدات في الشكل والموضوع،
في
الأسلوب والانفتاح على النظَريات المعاصرة في بناء الرواية الجديدة. واللغة أداة أساسية
في
الوصف واستمالة القارئ للقراءة الموسعة، والاستئناس بالكلمة الشعرية الرنَّانة. وهي عنصر
أساسي في عملية الحكي، إلا أن بنية العمل الروائي في تكامُل وتناغم بين كل العناصر. إن
اللغة
إذن في الحَكْي وفي الرواية بشكل خاص، غالبًا ما تشكِّل مادة أولية فقط، لا ترتبط بها
مباشَرةً
دلالةُ العمل القصصي؛ فهذه الدلالة تتأسَّس على الأصح من خلال العلاقات القائمة بين الوقائع
أو
الأحداث. ويمكن القول بصُورة أكثر وضوحًا بأن الروائي لا يتحدث باللغة، ولكن يتحدث
بالوقائع والأعمال والأفكار. وقد يستغني الروائي استغناءً شبهَ تام حتى عن المظهر اللفظي
للغة التي تشكِّل في الواقع مادةً أولية فقط في عمله.
٢٣
كتب الروائي الأفريقي بلغةٍ سلسلة، وكان موضوعه واضحًا في اختراق عوالم معينة،
كمثال كويتزي أو غورديمير، من الريف والمدينة، تناقُضات واقع الحال في شرخ صارخ للطبقية،
ومن
حضارة الرجل الأبيض والاستعمار لأفريقيا. وكانت الكتابة غديرًا فيَّاضًا من مشاعر الحنق
على ثقافة
وتركة الرجل الأبيض في جنوب أفريقيا، وشكَّلت الفكرة صوت العدالة في مجتمع غير متكافئ
الحقوق،
يعاني ويلات العنصرية والطبقية ويكرس للتفوق والدونية، كما يميل الخطاب الروائي إلى التشويق
والمفاجأة من حكايات ممزوجة بالتخيل، والحبكة بالغرائب والعجائب، عالية الدقة في وصف
أشياء
من المكان، سردية في معاني الإنسان الأفريقي الذي يقاوم من أجل الحرية واستعادة المكان،
بفضل
الذاكرة والتذكُّر، ورسم الممكن في المستقبل البعيد للتعايُش والتثاقُف، والمصالحة مع
الذات في
عودة فعليَّة للتاريخ والتراث، تحويل المآسي والحروب إلى لوحات فنية وجمالية ترسم بسمة
أمل
للأجيال الحالية، ولمستقبل القارة الأفريقية. هي رسالة موجَّهة للكل: إن نهضة أفريقيا
بيد
أبنائها، وفي انفتاح على ثقافة الآخر. إذا كان الأمر هنا اقتصر على نماذج روائية فإن
القصد
يجزم على ضمير الكاتب الأفريقي الذي سكنَتْه أفريقيا، ومكث فيها، ودافَع عن حق أهلها
في العيش
واستلام زمام الأمور في تدبير شئُونها، ولا يستطيع المرء محاكمةَ كل البيض على سياسات
خاطئة،
وتقدير مواقف في قرن يتجه نحو نزعِ التسلط والحكم المطلق في وجهة حتمية لإرساء التعددية
السياسية والثقافية في البلد الواحد؛ فمن المعلوم أن جنوب أفريقيا قطعتْ أشواطًا في العدالة
الانتقالية، وتكريس التعددية، وتحكيم القانون، وتكريس ثقافة الصفح والتسامح من خلال أدبيات
العدالة الانتقالية.