تمهيد
ينبغي أن تكون العقلانية هي النجم الذي نهتدي به في كلِّ ما نفكِّر فيه ونفعله. (إن كنت لا تتفق معي، فهل اعتراضك عقلاني؟) ورغم أننا في عصرٍ ننعم فيه بموارد غير مسبوقة للتفكير العقلاني، نرى الدوائر العامة وقد تفشَّت فيها الأخبار الزائفة، والعلاج بالدجل، ونظريات المؤامرة، وخطابات «ما بعد الحقيقة».
كيف يمكننا أن ندرك المنطقَ السليم وندرك نقيضه؟ ذلك سؤال مُلحٌّ. ففي هذا العَقد الثالث من الألفية الثالثة، نواجه تهديداتٍ فتاكة لصحتنا ونُظمنا الديمقراطية وصلاحية كوكبنا للعيش عليه. وصحيح أنَّ ذلك كلَّه من المشكلات الشاقة، لكنَّ الحلول موجودة، ويتمتَّع جنسنا البشَري بالإمكانيات الذهنية التي تؤهِّله للعثور عليها. غير أنَّ واحدةً من أصعبِ المشكلات التي تواجهنا اليوم هي إقناعُ الناس بقبول الحلول حين نجدُها بالفعل.
توجد آلافُ التعليقات التي تأسَف لعجزنا عن التفكير المنطقي، وقد صار من المسلَّم به أن البشَر يفتقرون إلى العقلانية. فنجد العلوم الاجتماعية ووسائل الإعلام تصوِّر الإنسان على أنه رجلُ كهفٍ لا ينتمي إلى هذا الزمن، على أهبةِ الاستعداد للهجوم على أسدٍ متوارٍ في الحشائش بمجموعة من التحيُّزات ومَواطن الجهلِ والمغالطات والأوهام. (يرِد في صفحة ويكيبيديا عن التحيُّزات المعرفية مائتان منها تقريبًا.)
بالرغم من ذلك، فأنا لا أستطيع، بصفتي متخصصًا في العلوم الإدراكية، قبولَ الرأي المتشائم القائل بأن المخَّ البشَري سلةٌ من الأوهام. ليس الصيادون وجامعو الثمار، من أسلافنا والمعاصرين، بأرانبَ قلقةٍ بل يتمتَّعون بالقدرات العقلية لحل المشكلات. ولا يمكن لقائمةٍ بالأشياء التي تحامقنا فيها أن تفسِّر السببَ في أننا أذكياء للغاية: أذكياء لدرجةٍ سمحت لنا باكتشاف قوانين الطبيعة، وتغييرِ وجهِ الكوكب، وإطالة أعمارنا وإثرائها، والأهمُّ أنها سمحت لنا بوضعِ قواعد العقلانية التي نخالفها في كثيرٍ من الأحيان.
لا شكَّ في أنني من أوائل الأشخاص الذين يؤكدون أنه لا يمكن فهمُ الطبيعة البشَرية إلا بإدراك التباين بين البيئة التي نشأنا فيها والبيئة التي نجد أنفسنا فيها الآن. لكن العالَم الذي تأقلمت عليه عقولُنا ليس عالَم السافانا البليستوسيني وحدَه. وإنما هو أيُّ وسط غير أكاديمي وغير تكنوقراطي، حيث الأدوات الحديثة للعقلانية على غرار الصيغ الإحصائية ومجموعات البيانات غير متوافرة أو لا يمكن تطبيقها، وهو ما ينطبق على الخبرة البشَرية في أغلبها. فمثلما سنرى، عندما يعالج الناس مشكلاتٍ أقربَ للواقع الذي يعيشونه وبالصيغة التي يلقونها في العالَم بطبيعة الحال، فإنهم لا يكونون بالحماقة التي يبدون عليها. لكن هذا لا يُسقِط عنَّا المسئولية. فلدينا الآن وسائلُ متطورة للتفكير المنطقي، وسنكون أفضلَ حالًا، أفرادًا ومجتمعًا، حين نفهمها ونطبِّقها.
تطوَّر هذا الكتابُ من دورةٍ درَّستُها في جامعة هارفارد كانت تبحث في طبيعة العقلانية واللغز فيما يبدو من ندرتها الشديدة. على غرار العديد من علماء النفس، أهوى تدريسَ الاكتشافات المثيرة بشأن نقائص التفكير البشَري، تلك الاكتشافات التي قد تُمنَح عليها جوائز نوبل، وأرى أنها من أهم ما قدَّمه العلم للمعرفة. وعلى غرار الكثيرين أيضًا، أومن أن معايير العقلانية التي كثيرًا ما يعجز الناس عن الارتقاء إليها لا بد أن تكون من أهداف التعليم والعلوم المبسَّطة. فمثلما ينبغي أن يُلِمَّ المواطنون بأساسيات التاريخ والعلوم والكلمة المكتوبة، يجب أيضًا أن يمتلكوا الأدوات الذهنية للتفكير المنطقي السليم. تشمل هذه الأدوات المنطق، والتفكير النقدي، والاحتمالية، والارتباط والسببية، والطُّرق المثلى لتعديل معتقداتنا واتخاذ قرارات بِناءً على أدلةٍ غير مؤكَّدة، إضافةً إلى المعايير اللازمة لاتخاذ قرارات عقلانية بمفردنا ومع آخرين. إنَّ هذه الأدوات ضرورية لتفادي الحماقة في حياتنا الشخصية وفي السياسات العامة. ذلك أنها تساعدنا على تقييم الخيارات المحفوفة بالمخاطر، وتقييم المزاعم المريبة، وفهمِ المفارقات المحيِّرة، وسبْر أغوار تقلُّبات الحياة ومآسيها. غير أنني لا أعرف كتابًا حاول شرْحَها كلَّها.
الشيء الآخر الذي ألهمني هذا الكتابَ هو إدراكي أنه رغم روعة منهج علم النفس المعرفي، فقد تركني غير مؤهل للإجابة عن الأسئلة التي كان الناس يطرحونها عليَّ باستمرار حين أخبرهم بأنني أدرِّس دورةً عن العقلانية. من هذه الأسئلة مثلًا: لماذا يصدِّق الناس أن هيلاري كلينتون كانت تدير شبكةَ دعارة للأطفال من مطعم بيتزا، أو لماذا يصدِّقون أنَّ دخان الطائرات هو في الحقيقة عقاقيرُ هلوسة ينشرها برنامج سري للحكومة؟ وكانت النقاط الرئيسية في محاضراتي العادية من قبيل «مغالطة المقامر» و«تجاهل معدَّل الأساس» لا تنفُذ إلى الألغاز التي تجعل من لا عقلانية البشَر مسألةً ملحَّة للغاية في الوقت الحاضر. وقد جرَّتني تلك الألغاز لمناطق جديدة، منها طبيعة الإشاعة، والحكمة الشعبية، والتفكير التآمري، والتناقض بين العقلانية داخل الفرد وداخل المجتمع، والفرق بين نمطين للاعتقاد: عقلية الواقع وعقلية الخرافة.
وأخيرًا، رغم أنه قد يبدو من قبيل المفارقة أن أُفرِد حُججًا عقلانية للعقلانية نفسها، فقد حان الوقت لتلك المهمة. يتبع بعض الناس المفارقةَ المقابلة، مستشهدين بأسباب تفيد بأنَّ العقلانية أمرٌ يُغالى في تقديره — وهي أسباب يُفترض أنها عقلانية، وإلَّا فلماذا عسانا نستمع إليها؟ — من هذه الأسباب مثلًا أنَّ الشخصيات المنطقية كئيبةٌ ومكبوتة، وأنَّ التفكير التحليلي لا بد أن يأتي بعد العدالة الاجتماعية، وأنَّ القلب الطيب والحَدْس القوي أقدرُ من المنطق المدعَم بالأدلة والحُجة على تحقيق الرفاه. يتصرف الكثيرون وكأن العقلانية أمرٌ قد عفا عليه الزمن، وكأن غاية الجدال أن يطعن المرء في خصومه لا أن نتبع جميعًا سبيلَ المنطق في صياغة معتقدات تتسم بأكبرِ درجة ممكنة من التبرير. في عصرٍ تبدو فيه العقلانية مهدَّدة أكثرَ من أي وقت مضى وضرورية بالقدر نفسه أيضًا، فإنَّ كتاب «العقلانية»، هو قبل كل شيء، تأكيد للعقلانية.
•••
من الأفكار الرئيسية في هذا الكتاب أنَّ أحدًا منَّا، لا يستطيع وهو يفكِّر وحدَه، أن يكون عقلانيًّا بما يكفي لإنتاج أي شيء قادر على الصمود: فالعقلانية تنبثق من مجتمعٍ من أصحاب التفكير المنطقي يرصد بعضهم مغالطات البعض الآخر. وبتلك الروح أشكر أصحابَ التفكير المنطقي الذين جعلوا هذا الكتاب أكثرَ عقلانية. أشكر كين بينمور، وريبيكا نيوبيرجر جولدستين، وجاري كينج، وجيسون نيميرو، وروزلين بينكر، وكيث ستانوفيش ومارتينا ويز، الذين علَّقوا على المسوَّدة الأولى تعليقاتٍ ثاقبة البصيرة. أشكر أيضًا تشارلين آدمز، وروبرت أومان، وجوشوا هارتسهورن، ولوي ليبنبيرج، وكولين ماكجين، وباربرا ميلرز، وهوجو مرسييه، وجوديا بيل، وديفيد روبيك، ومايكل شيرمر، وسوزانا سيجل، وباربرا سبيلمان، ولورانس سامرز، وفيليب تيتلوك، وجولياني فيدال، الذين راجعوا الفصول كلٌّ حسب مجال تخصُّصه. وأتقدَّم بالشكر لمن أجابوا عن الأسئلة التي طرأت على ذهني وأنا أخطِّط لهذا الكتاب وأكتبه، وهم: دانيال دينيت، وإميلي روز إيستوب، وباروخ فيشهوف، وريد هيستي، وناثان كانسل، وإلين لانجر، وجينفر ليرنر، وبو لوتو، ودانيل لوكستن، وجاري ماركوس، وفيليب مايمين، ودون مور، وديفيد مايرز، وروبرت بروكتور، وفريد شابيرو، وماتي توما، وجيفري واتامول، وجيرمي ولف، وستيفن زيبرستاين. وقد اعتمدت في النَّسخ الاحترافي والتوكُّد من الحقائق والبحث عن المراجع على ميلا بيرتولو، ومارتينا ويز، وكاي ساندبرينك، واعتمدت في تحليل البيانات الأصلية على بيرتولو، وتوما، وجوليان ديفريتاس. أود أيضًا أن أعرِب عن تقديري للأسئلة والاقتراحات التي أتتني من طلاب دورة «التعليم العام ١٠٦٦: العقلانية»، وأعضاء هيئة التدريس فيها، ولا سيما ماتي توما وجيسون نيميرو.
أتقدَّم أيضًا بجزيل الشكر لمحررتي الحكيمة والداعمة، ويندي وولف، لعملها معي في هذا الكتاب، وهو كتابنا السادس معًا؛ ولكاتيا رايس، لمراجعتها هذا الكتاب، وهو كتابنا التاسع معًا؛ وللوكيل القائم على نشرِ أعمالي، جون بروكمان، لتشجيعه ونصحه في عملنا التاسع. وأعرِب عن امتناني للدعم الذي قدَّمه لي توماس بِن، وبِن فولجر، وستيفان ماجرا، في دار نشر «بنجوين يو كيه» على مدى سنوات عديدة. ومرةً أخرى، صمَّمت إلافينيل سوبايا الأشكالَ الواردة في الكتاب؛ ولذلك أشكرها على عملها وتشجيعها.
لريبيكا نيوبيرجر جولدستين دورٌ خاص في إنجاز هذا الكتاب؛ فهي التي ألهمتني أن الواقعية والعقل من المُثل العليا التي يلزم التركيزُ عليها والدفاع عنها. وأعبِّر عن حبي وامتناني لباقي أفراد أسرتي: يائيل وسولي؛ ودانييل؛ وروب وجاك وديفيد؛ وسوزان ومارتين وإيفا وكارل وإريك؛ وأمي، روزلين، التي أهدي إليها هذا الكتاب.