الاعتقادات والأدلة
«الادعاءات الاستثنائية تستدعي أدلةً استثنائية.»
قاعدة بايز أو مبرهنة بايز هي قانون الاحتمالية الذي يحكم «قوة الدليل»، فهي القاعدة التي تحدِّد «الدرجة» التي ينبغي أن نراجع بها احتمالاتنا (نغيِّر آراءنا) حين نعلم بحقيقة جديدة أو نلاحظ دليلًا جديدًا.
قد تحتاج إلى الإلمام بقاعدة بايز إذا كنت:
-
تعمل بمهنةٍ تستخدم الإحصائيات، مثل أن تكون عالِمًا أو طبيبًا.
-
مبرمج كمبيوتر تعمل في التعلم الآلي.
-
بشَرًا.
نعم، بشَر. يعتقد الكثير من العقلانيين أن قاعدة بايز من بين النماذج المعيارية التي يكثر الإخلال بها في عمليات الاستدلال اليومية والتي قد يكون لها أبلغ الأثر على العقلانية العامة إذا استوعبناها على نحوٍ أفضل. لقد بلغ التفكير البايزي درجةً عالية من الأهمية في كل المجالات العلمية خلال العقود الأخيرة. ورغم أن القليل من غير المتخصصين يستطيعون ذِكرها أو شرحها، فقد شعروا بتأثيرها في المصطلح الرائج «سوابق»، الذي يشير إلى أحد المتغيرات في المبرهنة.
من الحالات النموذجية للاستدلال البايزي، التشخيص الطبي. لنفترض أن انتشار سرطان الثدي في عموم النساء يُقدَّر بواحد في المائة. ولنفترض أن حساسية اختبار سرطان الثدي (المعدَّل الإيجابي الحقيقي) ٩٠ في المائة. ولنفترض أن معدَّله الإيجابي الكاذب ٩ في المائة. ثم كانت نتيجة إحدى النساء إيجابية. فما احتمال أن تكون مصابة بالمرض؟
إنَّ اتخاذ قرار خَطِر يستلزم كلًّا من تقييم الاحتمالات (هل أنا مصاب بالسرطان؟) وموازنة عواقب كل اختيار (إذا لم أفعل أيَّ شيء وأنا مصاب بالسرطان، فقد أموت؛ إذا خضعت لجراحة دون أن أكون مصابًا بالسرطان، فسوف أعاني ألمًا وتشوهًا بلا داعٍ). سنستكشف في الفصل السادس والسابع السبيلَ الأفضل لاتخاذ القرارات المهمة حين نكون على علم بالاحتمالات، لكن نقطة البداية لا بد أن تكون الاحتمالات نفسها: إذا توفَّر الدليل، فما احتمال أن تكون حالةٌ ما صحيحة؟
بالرغم من الإيحاءات المرعبة التي تثيرها فينا كلمة «مبرهنة»، فإن قاعدة بايز بسيطة بالفعل، بل من الممكن أيضًا أن تُبسط لمستوى البديهيات، كما سنرى في نهاية الفصل. كانت الرؤية العظيمة الثاقبة التي توصَّل إليها القس توماس بايز (١٧٠١–١٧٦١) أن درجة تصديق فرضيةٍ ما يمكن تحديدها كميًّا كاحتمالية. (هذا هو المعنى الذاتي ﻟ «الاحتمالية» الذي قابلناه في الفصل السابق.) لنسمه ل (الفرضية) أو احتمال الفرضية؛ أي درجة تصديقنا لصحَّتها. (في حالة التشخيص الطبي، الفرضية هي أن المريض مصاب بالمرض.) لا شك أنَّ تصديقنا لأي فكرة ينبغي أن يقوم على الدليل. بلغة الاحتمالات، يمكننا القول إنَّ تصديقنا لا بد أن يكون مشروطًا بالدليل. ما نسعى إليه هو احتمالية فرضيةٍ ما بِناءً على البيانات، أو ل (فرضية | بيانات). تُسمى تلك بالاحتمالية البَعْدية؛ أي تصديقنا لفكرةِ ما بعد تحرينا الدليل.
إذا كنت قد اتخذت تلك الخطوة المتعلِّقة بالمفهوم، فأنت مستعد لقاعدة بايز؛ ذلك أنها ليست سوى صيغة الاحتمال الشرطي التي تناولناها في الفصل السابق، مطبَّقة على التصديق والدليل. لتتذكر أن احتمالية أ بالنظر إلى ب هو احتمال أ وب مقسومًا على احتمال ب. وبِناءً على هذا، فإن احتمال فرضيةٍ ما بالنظر إلى البيانات (ما نسعى إليه) هو احتمال الفرضية والبيانات (لنقل مثلًا إن المريض مصاب بالمرض، وإن نتائج الاختبار جاءت إيجابية) مقسومًا على احتمال البيانات (النسبة الإجمالية للمرضى الذين تأتي نتائج اختباراتهم إيجابية، الأصحاء منهم والمرضى). يمكن صياغةُ قاعدة بايز في معادلة على النحو التالي: ل (الفرضية | البيانات) = ل (الفرضية والبيانات)/ل (البيانات). دعني أذكِّرك بمعلومةٍ أخرى من الفصل الرابع: احتمال أ وب هي احتمال أ مضروبًا في احتمال ب بشرط أ. أجرِ ذلك التبديل البسيط وستحصل على قاعدة بايز:
ما معنى هذا؟ تذكَّر أن «ل (فرضية | بيانات)»، التعبير الواقع يمينًا، هو الاحتمال البَعْدي؛ أي ما جد على تصديقنا للفرضية بعد الاطلاع على الدليل. ربما يكون هذا اعتدادنا بالتشخيص بالمرض بعد رؤيتنا نتائجَ الاختبار.
بالنسبة لجزء «ل (الفرضية)» الواقع على اليسار، فهو يعني الاحتمال القَبْلي أو «السوابق»؛ أي تصديقنا للفرضية قبل أن نطلع على البيانات: مدى وجاهتها أو رسوخها، أي ما كنا سنُحمل على تخمينه إن لم يكن لنا علمٌ بالبيانات المتاحة. في حالة المرض مثلًا، قد يكون انتشاره في عموم الناس، أي معدَّل الأساس.
نأتي الآن إلى التعبير «ل (بيانات)»، وهو احتمال ظهور البيانات في العموم، سواء أكانت الفرضية صحيحة أم خاطئة. ويُسمى أحيانًا الاحتمال «الهامشي»، ليس بمعنى أنه «ثانوي»، لكن بمعنى جمع إجمالي كل صف (أو كل عمود) على امتداد هامش الجدول؛ أي احتمال الحصول على تلك البيانات عندما تكون الفرضية صحيحة زائد احتمال الحصول على تلك البيانات حين تكون الفرضية خاطئة. ثمة مصطلح آخر لذلك وهو أسهل في تذكُّر شيوع أو عمومية البيانات». في حالة التشخيص الطبي، يشير هذا المصطلح إلى نسبة كل المرضى الذين يعانون عَرَضًا أو حصلوا على نتيجة إيجابية، أصحَّاء أو مرضى.
عند استبدال المصطلحات السهلة التذكُّر برموز الجبر، تصبح قاعدة بايز:
وعند ترجمتها إلى اللغة العادية، تصير: «تصديقنا لفرضيةٍ ما بعد الاطلاع على الدليل لا بد أن يساوي تصديقنا القَبْلي للفرضية، مضروبًا في مدى أرجحية الدليل «إذا» كانت الفرضية صحيحة، قياسًا على مدى شيوع ذلك الدليل في العموم.»
وعند ترجمتها للمعنى البديهي، يصبح الأمر كما يلي. أما وقد رأيت الدليل، فلأي درجة ينبغي أن تصدِّق الفكرة؟ أولًا، صدِّقها أكثرَ إذا كانت الفكرة راسخة، أو مقنعة أو وجيهة مبدئيًّا؛ أي إذا كانت سابقتها مرتفعة، وهو الحد الأول في البسط. فمثلما يقولون لطلاب الطب، إذا سمعتم دبيب حوافر خارج النافذة، فالأرجح أن يكون لحصان، وليس لحمار وحشي. وإذا رأيت مريضًا بآلام في العضلات، فأرجحية أن يكون مصابًا بالإنفلونزا أكبر من أرجحية أن يكون مصابًا بالكورو (مرض نادر يظهر لدى أفراد قبيلة فور في غينيا الجديدة)، حتى إذا كانت الأعراض متطابقة في المرضين.
ثانيًا، لكي تصدق الفكرة أكثرَ إذا كان الدليل مرجَّح الحدوث بدرجةٍ أكثر تحديدًا إذا كانت الفكرة صحيحة، أي إذا كانت أرجحيته مرتفعة، وهي الحد الثاني في المقام. من المنطقي أن تعتد بإمكانية الإصابة بالميتهيموجلوبينية، المعروفة أيضًا باضطراب الجلد الأزرق، إذا جاء المريض بجلد أزرق، أو أن تعتد بالإصابة بحمى جبال روكي المبقعة إذا جاء مريض من جبال روكي ببقع وحمى.
ثالثًا، ليقِلَّ تصديقك لها إذا كان الدليل مألوفًا؛ أي إذا كان احتمالها الهامشي مرتفعًا، وهو مقام الكسر. لهذا السبب نضحك من إروين المصاب بوسواس المرض، لاقتناعه بأنه مصاب بداء الكبد بسبب عدم شعوره بالألم، وهو مما يميز المرض. صحيح أنَّ عدم وجود أعراض له أرجحية مرتفعة في حالة المرض، مما يؤدي إلى ارتفاع قيمة البسط، لكن احتماله الهامشي هائل أيضًا (بما أن أغلب الناس لا تشعر بألمٍ أغلب الوقت)، مما يضخِّم المقام ويقلِّص الاحتمال البَعْدي؛ أي تصديقنا لتشخيص إروين لذاته.
كيف تُطبَّق القاعدة إذن مع الأرقام؟ بنا نَعُدْ إلى مثال السرطان. شيوع المرض في السكان، ١ في المائة، هو السبيل لتحديد سوابقنا: ل (الفرضية) = ٠٫٠١. حساسية الاختبار هي أرجحية الحصول على نتيجة إيجابية إذا كان المريض مصابًا بالمرض: ل (البيانات | الفرضية) = ٠٫٩. والاحتمال الهامشي لنتيجة اختبار إيجابية في العموم هو مجموع احتمالات الصواب للمرضى المصابين (٩٠ في المائة من اﻟ ١ في المائة، أو ٠٫٠٠٩) والإنذار الكاذب في حالة الأصحاء (٩ في المائة من اﻟ ٩٩ في المائة، أو ٠٫٠٨٩١)، أو ٠٫٠٩٨١)، الذي يمكن تقريبه إلى ١٫٠. ضع الأرقام الثلاثة في قاعدة بايز، وستحصل على ٠٫٠١ في ٠٫٩ على ٠٫١ أو ٠٫٠٩.
أين إذن يخطئ الأطباء (وأغلبنا أيضًا، حتى نكون منصفين)؟ لماذا نعتقد أن المريضة مصابة بالمرض قطعًا، بينما يكاد يكون من المؤكد أنها ليست كذلك؟
تجاهُل معدَّل الأساس والاسترشاد التمثيلي
من أعراض تجاهُل معدَّل الأساس في العالم توهُّم المرض. مَن منَّا لم يخشَ أن يكون مريضًا بمرض ألزهايمر بعد سهو، أو بنوعٍ نادر من السرطان بعد شعوره بوجعٍ أو ألم؟ ثمة عَرَض آخر أيضًا هو إثارة الذعر في مجال الصحة. عانت صديقةٌ لي فترةً من الذعر حين رأى طبيب ابنتها التي دون سن الدراسة وهي تختلج، وأفاد بأن الطفلة مصابة بمتلازمة توريت. لكنها فور أنْ ثابت إلى نفسها، وأمعنت التفكير مثل شخصٍ يفكِّر بالمذهب البايزي، أدركت أن الاختلاجات شائعة وأن توريت نادر، فاستعادت هدوءها (وهي تؤنِّب الطبيب على جهله بعلم الإحصاء).
يؤدي إغفال معدَّلات الأساس أيضًا إلى مطالباتٍ عامة بأشياء مستحيلة. لماذا لا نستطيع التنبؤ بمن سيقدِم على الانتحار؟ لماذا ليس لدينا نظامُ إنذار مبكِّر ضد مرتكبي حوادث إطلاق النار في المدارس؟ لماذا لا نستطيع تحديدَ صفات الإرهابيين أو مرتكبي وقائع إطلاق النار العشوائية واحتجازهم وقائيًّا؟ تأتي الإجابة من قاعدة بايز: الاختبار المعيوب لسمةٍ نادرة سيعطي نتائجَ إيجابية كاذبة في الغالب. جوهر المشكلة أن اللصوص والانتحاريين والإرهابيين ومرتكبي حوادث إطلاق النار العشوائية نسبة ضئيلة فقط من الجمهور (معدَّل الأساس). وحتى يحين اليوم الذي يستطيع فيه علماء الاجتماع التنبؤ بالسلوك السيئ بدقة تنبؤ علماء الفلك بالكسوف والخسوف، ستظل أفضل اختباراتهم تشير إلى الأبرياء وغير المؤذين في أغلب الأحيان.
من الممكن أن يكون الوعي بمعدَّلات الأساس هديةً تمنحنا الرزانة حين نتفكَّر في حياتنا. فنحن نتطلع بين الحين والآخر إلى نتيجة عزيزة المنال، مثل وظيفة أو جائزة أو قبول في كلية مميزة أو الفوز بقلب شخصية غاية في الجاذبية. حينئذٍ نتأمَّل أبرز كفاءاتنا وربما يصيبنا الإحباط والسخط حين لا نكافأ بما كنا نستحقه. لكن من المؤكَّد أنَّ هناك آخرين في المنافسة أيضًا، ومهما ظننا أننا متفوِّقون، فالمنافسون أكثرُ منَّا. ولا يمكن أن نضمن أنَّ الحكام، القاصرين عن الدراية بكل شيء، سيقدِّرون مميزاتنا. ولهذا؛ ربما يخفِّف تذكُّر معدَّلات الأساس — العدد الهائل للمنافسين — من بعض الألم الناجم عن الرفض. مهما ظننا أننا جديرون، فلا بد من تسويغ توقعاتنا بمعدَّل الأساس، أهو واحد في خمسة؟ أم واحد في عشرة؟ أم واحد في مائة، وحينئذٍ يمكننا ضبط آمالنا وفقًا للدرجة التي يُتوقع أن ترتفع بها بالاحتمالية على نحوٍ منطقي، بِناءً على صفتنا المميزة.
السوابق في العلم وثأر الكتب الدراسية
بعبارة أخرى، لا بد أن نعطي للمعجزات مثل معجزة البعث احتماليةً قَبْلية منخفضة. تأمَّلوا معي هذه الملحوظة الذكية:
يمكن شرْح هذا على طريقة بايز كما يلي: إننا مهتمُّون بالاحتمال البَعْدي المتمثل في وجود المعجزات، بالنظر إلى الشهادة. فلنقارن هذا بالاحتمال البَعْدي المتمثِّل في «عدم» وجود المعجزات بِناءً على الشهادة. (في الاستدلال البايزي، كثيرًا ما يكون من المفيد أن نطالع «الاحتمالات»؛ أي النسبة بين مصداقية الفرضية ومصداقية البديل؛ لأنه يوفِّر علينا ما نجده من ضجر في حساب الاحتمال الهامشي للبيانات في المقام، وهو نفسه في كلا الاحتمالين البَعْديين ويسهل اختزاله.) «الحقيقة التي تحاول إثباتها» هي المعجزة، بسوابقها المنخفضة، التي تنخفض بالاحتمال البَعْدي. «ذلك النوع من الشهادات» هو أرجحيةُ البيانات في حال وجود معجزة، و«زيفها» هو أرجحيةُ البيانات إن لم توجد معجزة: احتمال أن يكون الشاهد كذب أو أخطأ فيما أدركه، أو أخطأ فيما تذكَّره، أو بالغ فيه، أو نقل قصةً غيرَ معقولة سمِعها من شخصٍ آخر. وحين نضع في الحسبان كلَّ ما نعرفه عن السلوك البشري، فهذا أبعدُ ما يكون عن الشيء الخارق للمألوف! بعبارة أخرى، فإنَّ أرجحيته أعلى من الاحتمال القَبْلي لحدوث معجزة. تلك الأرجحية المرتفعة إلى حدٍّ ما ترفع الاحتمال البَعْدي لعدم وقوع معجزة، ويقلِّل من احتمالات وقوع معجزة بوجه عام مقارنةً بعدم وقوعها. للتعبير عن الأمر بطريقةٍ أخرى سنقول: أيهما أرجح، أن تكون قوانين الكون التي ندركها خطأً، أم أن شخصًا من الناس قد أخطأ في إدراك شيءٍ ما؟
وثمة تعبير أشدُّ بلاغة عن الحُجة البايزية ضد الادعاءات بالظواهر الخارقة للطبيعة ساقه عالِم الفلك وكاتب العلوم المبسطة كارل ساجان (١٩٣٤–١٩٩٦) في الشعار الذي جاء افتتاحيةً لهذا الفصل: «الادعاءات الاستثنائية تستدعي أدلة استثنائية.» فالادعاء غير المألوف سوابقه البايزية منخفضة. ولكي تكون مصداقيته البَعْدية أعلى من المصداقية البَعْدية لنقيضه، لا بد أن تكون أرجحية البيانات في حالِ صحة الفرضية أعلى بكثير من أرجحية البيانات في حال خطأ الفرضية. بعبارة أخرى، لا بد أن يكون الدليل خارقًا للمألوف.
أثارت معضلةُ بيم سؤالًا مزعجًا. إذا كان من الممكن أن يُنشر ادعاء منافٍ للمنطق في جريدة رفيعة المستوى لعالِم نفس نابغ يستخدم أحدثَ الأساليب ويخضع لتقييم دقيق من الأقران، فبمَ يشي هذا عن معاييرنا للرفعة والنبوغ والدقة والتقدُّم؟ لقد رأينا إحدى الإجابات بالفعل، وهي خطر الاحتمالية اللاحقة: لقد استهان العلماء بالضرر الذي قد يتراكم من تصيُّد البيانات وغيره من الممارسات البحثية محلَّ الشك. لكن ثمة إجابة أخرى، هي تحدي الاستدلال البايزي.
هل كان داروين مخطئًا؟
هل كان أينشتاين مخطئًا؟
عالِم مبتدئ يعكر الأجواء العلمية
ثورة علمية في س
كلُّ ما تعرفه عن ص خطأ
المشكلة أنَّ «مدهش» هو مرادف ﻟ «احتمال قَبْلي منخفض»، مع افتراض أن معارفنا العلمية التراكمية ليست عديمة القيمة. هذا معناه أنه حتى إن كانت جودة الدليل ثابتة، فلا بد أن نحمل درجة «أدنى» من التصديق للادعاءات المفاجئة. لكن المشكلة لا تكمُن في الصحافيين وحدَهم. فقد فضح الطبيب جون إيوانيدس زملاءه وتوقَّع أزمةَ قابلية التكرار في مقاله المنشور عام ٢٠٠٥ بعنوان «لماذا أغلب اكتشافات الأبحاث المنشورة خاطئة». من المشكلات الكبرى أن العديد من الظواهر التي يتقصَّى عنها الباحثون في مجال الطب الحيوي مثيرةٌ للاهتمام ومن غير المرجَّح أساسًا أن تكون صحيحة، مما يستدعي استخدام أساليب بالغة الدقة لتفادي النتائج الإيجابية الكاذبة، في حين أن العديد من الاكتشافات الصحيحة، بما في ذلك محاولات التكرار الناجحة والنتائج المنافية للفرضية، تُعد باعثة على الضجر وغير ملائمة للنشر.
معدَّلات الأساس المحظورة والتابو البايزي
إن ما يتيح المجال لمعدَّلات الأساس المحظورة هو أحد قوانين العلوم الاجتماعية. قِس أيَّ متغير ذا حيثية اجتماعية: درجات الاختبارات، الميول المهنية، الثقة الاجتماعية، الدخل، معدَّلات الزواج، عادات المعيشة، معدَّلات أشكال العنف المختلفة (جرائم الشارع، جرائم العصابات، العنف الأسري، الجرائم المنظمة، الإرهاب). وبعد ذلك، قسِّم النتائج إلى فئات ديموغرافية معيارية: السن، الجنس، العِرق، الديانة، الهوية العِرقية. لن يحدث أبدًا أن تجد المتوسطات نفسها لدى المجموعات الفرعية المختلفة، بل إنَّك ستجد الفروق كبيرة في بعض الأحيان. وسواء أكانت الاختلافات ناشئة عن الطبيعة أو الثقافة أو التفرقة أو التاريخ، أو مزيج من هذا كله، فتلك مسألة هامشية؛ إذ إن الاختلافات موجودة.
ليست هذه مفاجئة بالمرة، لكن تَبِعاتها مروعة. لنقل إنك أردت التوصُّل إلى أدق تكهُّن ممكن لمستقبل شخصٍ ما: مدى نجاحه في الجامعة أو العمل، أو احتمال سداده الدَّين، أو احتمال أن يكون قد ارتكب جريمة، أو هرب من كفالةٍ ما، أو أنه سينتكس للإجرام، أو يقوم بهجوم إرهابي. إذا كنت ملمًّا بالقاعدة البايزية جيدًا، فستبدأ بمعدَّل الأساس لسن ذلك الشخص وجنسه ومستواه وعِرقه وهويته العِرقية وديانته، ثم تتبع التفاصيل المتعلقة بذلك الشخص لإجراء ما يلزم من تعديلات. بعبارةٍ أخرى ستقوم بالتنميط. ستتورط في التحامل لكن ذلك ليس بدافع الجهل أو الكراهية أو التسلُّط، أو أيٍّ من النزعات أو أنواع الرُّهاب، بل بدافعٍ من سعي موضوعي للتوصُّل إلى أدق تنبؤ.
يشعر غالبيةُ الناس بالطبع بالذعر من الفكرة. طلب تيتلوك من المشتركين التفكير في المديرين التنفيذيين لشركات التأمين الذين كان عليهم تحديد الأقساط التأمينية للأحياء المختلفة بِناءً على الحرائق التي اندلعت فيها قبل ذلك. لم يكن لدى المشتركين أيُّ مشكلة في ذلك. غير أنهم حين علموا أن الأحياء تباينت كذلك في تكوينها العِرقي، غيَّروا رأيهم وأدانوا المدير التنفيذي على جدارته في عمله. وإذا كانوا هم أنفسهم يؤدون دوره، وعلموا بالحقيقة الكريهة المتعلقة بإحصائيات الأحياء، كانوا يحاولون تطهيرَ أنفسهم أخلاقيًّا بالتطوُّع لهدف مناهض العنصرية.
أهذا مثالٌ آخرُ على لا عقلانية البشر؟ هل العنصرية والتمييز على أساس الجنس ورُهاب الإسلام ومعاداة السامية وأشكال التعصب الأخرى «عقلانية»؟ بالطبع لا! تذكِّرنا الإجابةُ عن هذا السؤال بتعريف العقلانية الوارد في الفصل الثاني: استخدام المعلومات لبلوغ هدف. إذا كان هدفنا «الوحيد» هو التوصُّل إلى تكهُّن خاص بحسابات التأمين، فربما ينبغي علينا استخدم أي معلومة يمكن أن تعطينا أدقَّ سوابق. غير أنه ليس بهدفنا الوحيد بالطبع.
الهدف الأسمى هو العدالة. من الشر أن تعامِل شخصًا حسب عِرقه أو جنسه أو هويته العِرقية، من الشر أن تحكم على الأفراد بِناءً على لونِ بشَرتهم أو تكوين كروموسوماتهم بدلًا من مضمون شخصيتهم. لا أحدَ منَّا يحب أن يُحكم عليه مسبقًا على هذا النحو، ووفقًا لمنطق الحيادية (الفصل الثاني) يجب علينا أن نتيح ذلك الحق لكل شخص آخر.
عِلاوة على ذلك، فإنَّ النظام لا يكسب ثقةَ مواطنيه إلا حين «يرون» أنه عادل؛ حين يعلمون أنهم سيُعاملون معاملةً عادلة ولن يُحكم عليهم مسبقًا على أساس سِمات تكوينهم البيولوجي أو تاريخ خارج عن إرادتهم. وإلَّا فلماذا عساك أن تحترم القوانين ما دام النظام سيؤذيك بسبب عنصرك أو جنسك أو دينك؟
ثمة هدفٌ آخر أيضًا، ألا وهو تجنُّب النبؤات المحقَّقة لذاتها. إذا كانت إحدى الجماعات العِرقية أو الجنسية قد تضرَّرت من الظلم في الماضي، فربما يكون أفرادها مقيدين في الحاضر بعددٍ من الصفات المختلفة في المتوسط. إذا أُدخلت معدَّلات الأساس هذه في صيغٍ تنبؤية تحدِّد مصيرهم من تلك اللحظة فصاعدًا، فستلازمهم تلك المساوئ إلى الأبد. والحق أنَّ هذه المشكلة تزداد حدةً لأن مثل هذه الصيغ كامنة في شبكات التعلُّم العميق بطبقاتها الخفية التي يستعصي علينا فكُّ شفرتها (الفصل الثالث). وقد يكون من العقلانية أن يرغب المجتمع في وقفِ هذه الدائرة من الظلم حتى إن أضرَّ ذلك قليلًا بدقة التنبؤ في الوقت الراهن.
أخيرًا، السياسات علامات استرشادية. أما حظرُ استخدام معدَّلات الأساس العِرقية أو الجنسية أو العنصرية أو الدينية، فهو التزام عام بالمساوة والعدل ينعكس فيما هو أبعد من الخوارزميات التي يسمح بها النظام البيروقراطي. ذلك أنه يعلن أن أي تحامُل لأي سببٍ هو أمرٌ غير مقبول، مما يضفي خزيًا أكبر على سلوكيات الحكم المسبق النابع من العداء والجهل.
بِناءً على هذا، فإنَّ حظْرَ استخدام معدَّلات الأساس مترسِّخ في العقلانية. لكن المبرهنة تظل مبرهنة، ومن الوارد أن يكون ما نقدِم عليه برضًا من تضحية بدقة الحسابات الإحصائية، عند تعامُل المؤسسات العامة مع الأفراد، ليس له ما يسوِّغه في مجالات أخرى. يُعَد التأمين أحدَ هذه المجالات. فما لم تَعُد الشركة تقييمًا دقيقًا لإجمالي المخاطر التي تتعرَّض لها الجماعات المختلفة، فستتجاوز المدفوعات أقساطَ التأمين وستنهار الشركة. فنحن نجد مثلًا أنَّ شركة «ليبرتي ميوتشوال» تمارس شيئًا من التمييز ضد الفِتيان المراهقين عند تحديدِ أقساطهم التأمينية؛ إذ تضع في حسبانها ارتفاعَ معدَّلات الأساس لديهم في حوادث السيارات؛ لأنها إن لم تفعل ذلك، فستتكفَّل النساء البالغات بنفقات تهوُّرهم. بالرغم من ذلك، فحتى في هذا المجال، تُمنَع شركات التأمين قانونيًّا من استخدام معاييرَ معينةٍ في حساب المعدَّلات، خاصة العِرق وأحيانًا الجنس.
من المجالات الأخرى التي لا يمكن فيها حظْر معدَّلات الأساس بمسوغ عقلاني، فهمُ الظواهر الاجتماعية. إذا وجدنا مثلًا أنَّ نسبة الذكور للإناث في مجالٍ مهنيٍّ ما ليست متساوية، فهل يثبِت ذلك أن المسئولين فيه يحاولون إبعادَ النساء، أم ربما ثمة اختلاف في معدَّل أساس النساء اللواتي يحاولن دخوله؟ إذا كان مقدِّمو خدمات الرهان العقاري يرفضون المتقدمين من إحدى الأقليات بمعدَّلات أكبر، فهل هم عنصريون، أم يُحتمَل أنهم يستخدمون معدَّلات أساس التخلف عن السداد في أحياءٍ مختلفة تصادَف أنها مرتبطة بالعِرق، مثلهم في ذلك مثل الموظف التنفيذي الخيالي في دراسة تيتلوك؟ غالبًا ما يُجازى علماء الاجتماع الذين يتقصون هذه الأسئلة على تعبِهم باتهامات بالعنصرية والتحيُّز على أساس الجنس. غير أنَّ منْع علماء الاجتماع والصحافيين من الاطلاع على معدَّلات الأساس سيعيق محاولةَ رصد التفرقة القائمة، والتمييز بينها وبين الموروث التاريخي لما يوجد بين المجموعات من اختلافاتٍ اقتصادية أو ثقافية أو حقوقية.
بايزي رغم كل شيء
فأولًا، ليس الاحتمال القَبْلي هو نفسه معدَّل الأساس، وإن كانت معدَّلات الأساس غالبًا ما تُعد هي السابقة «الصحيحة» في الاختبارات التقليدية. غير أنَّ المشكلة هي: «أي» معدَّل أساس؟ لنفترض أنني حصلت على نتيجةٍ إيجابية لاختبار مستضد البروستاتا النوعي وأردت تقديرَ الاحتمال البَعْدي لإصابتي بسرطان البروستاتا. فما معدَّل الأساس الذي يجب الاعتداد به لمعرفة الاحتمال القَبْلي؛ معدَّل الأساس لسرطان البروستاتا بين السكان؟ بين الأمريكيين البيض؟ اليهود الأشكناز؟ اليهود الأشكناز فوق سن ٦٥؟ اليهود الأشكناز فوق سن ٦٥ الذين يمارسون الرياضةَ وليس لديهم تاريخ عائلي للإصابة بالمرض؟ من الممكن أن تكون هذه المعدَّلات مختلفة جدًّا. كلما كانت الفئة المرجعية أكثرَ تحديدًا كان ذلك أفضلَ بالطبع، لكنها أيضًا كلما كانت أكثرَ تحديدًا، صارت العينة التي سيتحدَّد التقدير بِناءً عليها أصغر، وصار التقدير أكثرَ لغطًا. ولهذا، فإنَّ الفئة المرجعية الأمثل هي المكوَّنة من أشخاصٍ مثلي تمامًا، بعبارة أخرى، أنا: فئة مكوَّنة من فرد واحد، وهي فئة دقيقة تمامًا وبلا جدوى على الإطلاق. ما من خيار لدينا إذن سوى الاستعانة بالحكم البشَري عند التنازل عن الدقة مقابل الموثوقية لاختيار سابقة مناسبة، بدلًا من قبول معدَّل أساس لجماعة كاملة؛ لأنه هو المنصوص عليه في صيغة اختبارٍ ما.
وأخيرًا، الناس حسَّاسة تجاه الاختلاف بين الاحتمالية بمعنى مصداقية حدث فردي والاحتمالية بمعنى التكرار على المدى الطويل. تطرح العديدُ من المسائل البايزية السؤالَ الغامض المبهم المتعلق باحتمالية حدثٍ واحد، مثل ما إن كان إروين مصابًا بالكورو أم لا، أو كانت بينيلوبي متخصصة في تاريخ الفن أم لا، أو كانت سيارة الأجرة في الحادثة زرقاء أم لا. وعندما يواجه الأشخاص مسائلَ من هذا القبيل، فإنهم لا يقومون على الفور بحساب المصداقية الذاتية، مستخدمين الأرقام التي قُدِّمت لهم. بالرغم من ذلك، فبما أن علماء الإحصاء أنفسهم منقسمون بشأن مدى منطقية ذلك، فربما يمكننا أن نلتمس العذر للأشخاص العاديين. ويحاجج جيجرينزر، ومعه كوزميدس وتوبي، بأن الأشخاص لا يربطون بين الكسور العشرية والأحداث الفردية؛ لأن العقل البشري لا يتعرَّض للمعلومات الإحصائية في العالم بهذه الطريقة. فنحن نتعرض لأحداث، وليس أعداد بين صفر وواحد. ونحن قادرون تمامًا على الاستدلال البايزي في ظل هذه «التكرارات الطبيعية»، وعند إعادة صياغة مسألةٍ ما بتلك المصطلحات، يمكننا الاستعانة بحسنا البديهي لحلها.
كيف يعمل هذا السِّحر؟ يذكر جيجرينزر أن مفهوم الاحتمال الشرطي يبتعد بنا عن الأشياء القابلة للعد في العالم. فتلك الكسور العشرية — ٩٠ في المائة إيجابي صحيح، و٩ في المائة إيجابي كاذب، و٩١ في المائة سلبي صحيح، و١٠ في المائة سلبي كاذب — لا تعطي ١٠٠ في المائة عند جمعها؛ ولهذا سيتعين علينا لحساب نسبة الحالات الإيجابية الصحيحة بين كل الحالات الإيجابية — وهو التحدي الراهن — أن نجري ثلاثًا من عمليات الضرب. أما التكرارات الطبيعية، فهي على النقيض من ذلك؛ إذ تتيح لنا التركيز على الحالات الإيجابية وجمعها: ٩ حالات إيجابية صحيحة زائد ٨٩ حالة إيجابية كاذبة يساوي ٩٨ حالة إيجابية إجمالًا، حيث تشكِّل الحالات التسع الصحيحة ٩ في المائة. (ما ينبغي علينا عمله بناءً على هذه المعلومة، بالنظر إلى تكلفة الأخذ بها أو التخلف عن العمل بها، سيكون موضوع الفصلين التاليين.)
ولمزيد من التيسير، يمكننا استخدام أدمغتنا البشرية بما لها من قدرات هائلة على التخيُّل، ونحوِّل الأرقام إلى أشكال. من شأن هذا أن يجعل الاستدلال البايزي بديهيًّا لدرجةٍ مدهشة حتى مع أحاجي الكتب الدراسية البعيدة عن تجاربنا اليومية، مثل مسألة سيارة الأجرة الكلاسيكية. فلتتخيَّل أسطول سيارات الأجرة في المدينة جدولًا من مائة مربع، مربع لكل سيارة أجرة (الشكل الوارد على اليسار). ولتصوير معدَّل الأساس البالغ ١٥ في المائة من سيارات الأجرة الزرقاء، نلوِّن ١٥ مربعًا في الركن الأيسر العلوي. لتوضيح أرجحية الاحتمالات الأربعة التي حدَّدها شاهدنا العِيان، الذي كان يُعتمد عليه بنسبة ٨٠ في المائة (الشكل الأوسط)، فتَّحنا لون ٣ من مربعات التاكسي الأزرق (٢٠ في المائة من السيارات الزرقاء الخمس عشرة، وهي النسبة التي سيعرِّفها خطأً على أنها «خضراء»)، وغمَّقنا ١٧ من المربعات الخضراء (٢٠ في المائة من مربَّعات السيارات الخضراء البالغ عددها ٨٥، التي سيعرفها خطأً على أنها «زرقاء»). نعلم أن الشاهد قال «زرقاء،» من ثَم نستطيع حذف كل المربعات التي تمثِّل احتمالات أن تكون السيارة «خضراء»، الصحيحة منها والخطأ، مما يترك لنا الشكل الوارد على اليمين، الذي لم يَعُد يتبقى فيه سوى احتمالات أن تكون السيارة «زرقاء» فقط. الآن من السهل أن نعاين الشكل ونلحظ أن الجزء الأغمق، السيارات الزرقاء بحق، تشغل حيزًا أصغر قليلًا من نصف المساحة الإجمالية. إذا أردنا أن نتحرَّى الدقة، يمكننا العدُّ: ١٢ مربعًا من ٢٩، أو ٤١ في المائة. السرُّ البديهي في كلٍّ من التكرارات الطبيعية والأشكال المرئية أنها تتيح لك الاقترابَ من البيانات المتاحة لديك (النتائج الإيجابية للاختبار؛ احتمالات أن تكون السيارة «زرقاء»)، ثم فرْز هذه البيانات لتحديد الصحيحة منها والخطأ.