الفصل العاشر
الفاطميون والكنيسة
٩٦٩–١٠٥٤
الشيعة
وكانت شيعةُ علي لا تزال تتطلَّب الخلافة له ولنسله، وترى أنهم أحق بها، وكان
الخلفاء العباسيون يحذرونهم ويراقبونهم وينكلون بهم فلا يرجع الشيعة عن مطلبهم ولا
يُغَيِّر الخلفاء سياستَهم. وكان العباسيون أَقْدَرَ على تَتَبُّع الشيعة من
الأُمويين؛ لأنهم كانوا أَعْرَفَ بالعلويين وأساليبهم؛ فقد خالطوهم وحالفوهم للعمل
ضد الأُمويين، وكان كلما قام خليفةٌ عباسي قام داعٍ علوي يدعو إلى نفسه ثم يقاتل
فيُقتل، وقد يكشف أمره قبل الخُرُوج فيُحبس أن يُسم. ولم يُجْدِ عطف المأمون على
الشيعة ولم يدُم نفعه؛ فالمتوكل تحامل عليهم فأعاد الاضطهاد سنة ٨٥٠، وهدم قبر علي
في النجف وحرث قبر الحسين في كربلاء.
وأدى هذا الاضطهادُ المستمر إلى التكتُّم فاتخذت الشيعة مبدأ التقية بحيث أخفتْ
ميولَها اتقاء للضرر، وحصرت الشيعةُ الخلافة في علي وابنه الحسن ثم الحسين (٦٨٠) ثم
علي زين العابدين (٧١٢) فمحمد الباقر (٧٣١) فجعفر الصادق (٧٦٥)، فموسى الكاظم (٧٩٩)
فعلي الرضا (٨١٨) فمحمد الجواد (٨٣٥) فعلي الهادي (٨٦٨) فالحسن العسكري (٨٧٤) فمحمد
المنتظَر. وهو في حالة غيبة موقتة حي لا يموت، وقد تغيَّب في كهف في جامع سامرا سنة
٨٧٨، هو المهدي الذي سيظهر فيحكم العالم قاطبة، ويكون ظهورُهُ فاتحة عصر يسبق نهاية
العالم، وهو الإمام المدبر «قائم الزمان».
١
الإسماعيلية
وكان جعفر الصادق قد عين ابنه إسماعيل خلفًا له، ولكنه عاد فعيَّن ابنه الثاني
موسى الكاظم، ووافقت أكثريةُ الشيعة على هذا التغيير، ولكن بعضهم ظلوا تابعين
لإسماعيل، فلما مات في السنة ٧٦٠ أصبح عندهم الإمام المهدي المستور، ولما كان
إسماعيل هو الإمام السابع عُرِفَ هؤلاء بالسبعية أيضًا.
ثم راجت النظرياتُ الفلسفيةُ اليونانيةُ، واشتد الاحتكاك بالمانوية والمجوسية،
فأخذ الإسماعيليون عن فيثاغوروس وأفلوطين وغيرهما، واعتبروا العدد سبعة مقدسًا
وجعلوا التجليات سبعة: الله والعقل والنفس، والمادة الأصلية والفضاء والزمن، وعالم
الأرضين والبشر. وقالوا بسبعة أنبياء مشترعين «ناطقين»: آدم ونوح وإبراهيم وموسى
وعيسى ومحمد ثم محمد التام ابن إسماعيل. وقالوا أيضًا بسبعة أبناء صامتين بين كل
نبيين ناطقين، وأول هؤلاء الأساس ومنهم إسماعيل وهارون وبطرس وعلي، وجاء بعد هؤلاء
زعماء الدعاية وأحدهم «حجة» فالمبشرون «الدعاة»، وقالوا أيضًا بتأويل القرآن فرأوا
المعنى الحقيقي مستورًا بالمعنى الظاهري، ومِن تعاليمهم تناسُخ الأرواح وحلول
الإلهية في إسماعيل وانتظار «رجعته» مهديًّا. وجعلوا المريدين المتدرجين سبعة طبقات
أيضًا؛ ناسجين على منوال اليونان والمانويين.
وأشهر رجالهم في القرن التاسع عبد الله بن ميمون القداح، وهو الذي أكمل نظامهم
الديني السياسي، جعل البصرة أولًا مقره ثم انتقل إلى سلمية في شرق حماة، ومنها أنفذ
الدعاة إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي ليبثوا روح الشك في العقائد الرائجة ويوجهوا
الانتباه إلى المهدي المنتظر.
القرامطة والألفة
وقبل وفاة عبد الله بن ميمون في السنة ٨٧٤
للميلاد لمع بين أتباعه حمدان قَرْمَط، وكان من غُلاة الدُّعاة، فابتنى لنفسه
مقرًّا «دار الهجرة» في جوار الكوفة في السنة ٨٩٠، واستغل العداوة المزمنة بين
الفلاحين وأبناء البادية، وجعل لمنظمته أرزاقًا جارية «مشتركة» مستمدة من تبرعات
المريدين. وأباح حمدان الاشتراكية «الألفة» في الأموال، وشدد على المساواة وجعل
للعمال والصناع مراسيم تقربهم من نقابات العصر الحديث. وفي الرسالة الثامنة من
رسائل إخوان الصفا وصفٌ لهذه النقابات الإسلامية القديمة فليراجعْ في محله. ويرى
العلامة المستشرق الإفرنسي ماسينيون صلةً بين حركة حمدان قرمط وبين الماسونية
وغيرها من الجمعيات السرية التي بدأت تظهر في الغرب بعد ذلك بقليل.
وساهم القرامطةُ في ثورة الزنج في البصرة (٨٦٨–٨٨٣)، وأسسوا دولةً لهم في الأحساء
(٨٩٩)، واحتلوا مكة (٩٣٠) وحملوا الحجر الأسود منها إلى هجر، ولجأ بعضُهُم إلى
سلمية مقر إخوانهم الإسماعيليين في شمال سورية، وشَنُّوا منها الغارات على مَن
جاورهم من أهل هذه البلاد، وبلغوا بفتنهم وقلاقلهم خراسان واليمن.
٢
الفاطميون
ولمع بين دُعاة الإسماعيليين في أواخر القرن التاسع رجلٌ من أهل صنعاء اليمن،
اسمه أبو عبد الله الحسين، فرحل إلى شمال إفريقية وبث دعوته في صفوف البربر ولا
سيما في مرابض بني كتامة، وكانت آنئذٍ خاضعة لدولة الأغالبة، ولاقى أبو عبد الله
نجاحًا، فغادر سعيد بن حسين زعيم الإسماعيليين سلمية متخفيًا إلى شمال إفريقية،
وقال سعيد: إنه من ذرية فاطمة من نسل الحسين وإسماعيل،
٣ وسجن سعيد في سجلماسة بأمر زيادة الأغلبي (٩٠٣–٩٠٩) فأنقذه أبو عبد
الله الحسين بثورة قضت على دولة الأغالبة، ونُودي بسعيد أميرًا فعُرف بالإمام عبيد
الله المهدي حفيد فاطمة من نسل الحسين وإسماعيل.
وحكم المهدي (٩٠٩–٩٣٤) من الرقادة وقتل أبا عبد الله الحسين وبسط سلطانه حتى حدود
مصر، ثم احتل الإسكندرية في السنة ٩١٤، وأنشأ لنفسه عاصمة جديدة على الساحل التونسي
إلى الجنوب الشرقي من القيروان وأطلق عليها اسمه فعرُفت بالمهدية. ثم خلفه القائم
(٩٣٤–٩٤٥) فالمنصور (٩٤٥–٩٥٢) فالمعز (٩٥٢–٩٧٥)، وفي عهد هذا الأخير عَظُمَ شأنُ
الأُسطول الفاطمي، فغزا سواحلَ إسبانيا في السنة ٩٥٥، وبعد ذلك بثلاث سنوات تقدم
الجيش غربًا حتى بلغ المحيط الأطلسي. وفي السنة ٩٦٩ استولى الفاطميون على مصر وقضوا
على سلطة الإخشيديين، وكان بطل هذه الفتوحات جوهرًا الصقلي الرومي، وكان هذا
نصرانيًّا وُلد في صقلية وجاء منها إلى القيروان رقيقًا.
ولم يكتف جوهر بفتح مصر، بل عمل على مَدِّ نفوذ الفاطميين إلى بلاد الشام فأنفذ
قائده جعفر بن فلاح لمقاتلة الإخشيديين في فلسطين وسورية، فالتقى الخصمان في الرملة
في أيلول السنة ٩٦٩، وكان الحسنُ الإخشيدي على رأس جيوش المقاومة فوقع أسيرًا،
وتتابعت انتصارات الفاطميين ففتحوا طبرية، وضرب جعفر عقيل وفزارة ومرة وغيرها من
قبائل البدو بعضها ببعض وقصد دمشق فثار أهلها على الإخشيديين فانهزموا عنها، وذلك
بعد شهرٍ واحد من معركة الرملة، فاتخذ الفاطميون دمشق قاعدة لهم، وانطلقوا شمالًا
وغربًا فاستولَوا على الساحل حتى طرابلس، ولكنهم انهزموا أمام الروم في أنطاكية.
وأُقيمت الخطبة للمعز لدين الله الفاطمي في دمشق، في أول جمعة من شهر محرم سنة ٣٥٩
للهجرة؛ أي في التاسع عشر من تشرين الثاني سنة ٩٦٩، وحذف اسم الخليفة العباسي
المطيع.
وتولى القرامطةُ بعد خروج عبيد الله المهدي
من سلمية زعامةَ جميع طوائف الإسماعيلية فيها وحواليها، فلما أصبح عبيد الله أمام
الفاطميين تدخل في شئون سلمية فأيده بعضُ القرامطة فيها وقاومه غيرهم، ورأى
الموالون — وعلى رأسهم أبناء أبي طاهر — أن تنضوي طائفتُهُم تحت لواء الفاطميين،
ورأى المعسكر الثاني — وفي طليعتهم أحمد بن أبي سعيد وإخوته — أن يوجهوا السياسة
توجيهًا يعود بالنفع على القرامطة أنفسهم، وتُوفي صديق الفاطميين في السنة ٩٤٤، ولم
يترك من الأبناء من يصلح للحكم والزعامة، فتولى الاستقلاليون دفة السياسة وما فتئوا
حتى وصول الفاطميين إلى سورية.
وتُوُفِّيَ المعزُّ في أواخر السنة ٩٧٥، وخلفه ابنُهُ «العزيز بالله» أبو منصور
نزار، ولبث في الخلافة إحدى وعشرين سنةً، ومال إلى اصطناع المَوَالِي، ولم يعتمدْ
على المغاربة إلا قليلًا، وانتقى مواليه من الأتراك والصقالبة، فولى بنجوتكين
التركي القيادة وولاية دمشق، وولى وفيًّا الصقلي على عكة، «وبشارة» الإخشيدي على
طبرية وجهاتها. ومن هنا القول «بلاد بشارة» حتى يومنا هذا، فأدى هذا الانتقاء إلى
كثير من الحسد والنزاع بين الأتراك والمغاربة.
العزيز والنصارى (٩٧٥–٩٩٦)
ولم يحصر العزيز الحكم بالمسلمين دون سواهم، فولى عيسى بن نسطوريوس النصراني
الوزارة، وجعل أبا الفتح منصور النصراني طبيبه وأنزله منزلة سامية في الدولة،
٤ وكثر عدد الذميين — من النصارى واليهود — في الدواوين ومناصب الحكم
واستأثروا بشيءٍ كثيرٍ من السلطة والنفوذ، وجاء لأبي صالح الأرمني أن الخلفاء
الفاطميين كانوا يشجعون إقامة الكنائس والأديار، بل ربما تولوا إقامتها بأنفسهم.
٥
وكانت زوجة العزيز وأم ست الملك جاريةً رومية أرثوذكسية، وكان لها في أيام زوجها
نفوذٌ عظيمٌ في الدولة، كانت ابنتها ست الملك حازمة عاقلة بصيرة في الأُمُور،
فأحبها العزيز وأصغى إليها واستمع إلى نُصحها، فكان لها أثرٌ ظاهرٌ في توجيه سياسته
نحو النصارى. وكان لست الملك خالان رفعهما العزيزُ بتدخله في شئون الكنيسة إلى
الذروة، فجعل أحدهما أورسطيوس بطريركًا على أوروشليم (٩٨٤–١٠٠٥) والآخر أرسانيوس
متروبوليتًا على القاهرة ثم بطريركًا على الإسكندرية.
٦
السياسة الفاطمية الدينية
وقامت دولةُ الفاطميين على الدعوة الشيعية، فكان خلفاؤُها أئمةً أحفادًا لعلي
وفاطمة، وتحدرت إمامتُهُم من إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وحرصوا كل الحرص على
هذه الصفة. ولما استقروا بمصر والشام اعتمدوا الدعاية السرية لتأييد دعوتهم؛ لأنهم
لم يجدوا في هذين القطرين ما وجدوه في المغرب مهدًا خصبًا لدعوتهم.
واتخذت دعوتُهُم المذهبية صبغة رسمية، فانتظمت في القصر نفسه وفي الجامع الأزهر،
وتولى بثها بنو النعمان بقراءة علوم آل البيت والتفقُّه فيها، وكان عظماء الدولة
يشاركونهم في بعض الأحيان فيقرءون هذه العلوم ويشرحونها. وكانت هنالك دعايةٌ أُخرى
تُحاط بالتحفظ والتكتم ويُشرف عليها زعيمٌ كبيرٌ يُدعى داعي الدعاة. وكانت هذه
الدعوة تجري في تسع مراتبَ، يعرضُها الدعاة بالتعاقُب وفقًا لاستعداد المريد
وأهليته، فلا يصل إلى درجتها العُليا إلا مَن كان موضع الثقة، فالدين في المرتبة
الأُولى أمرٌ مكتوم وانصراف الناس عن الأئمة هو أصلُ الشر والخلاف في الإسلام. وليس
دين محمد ما تعرفه الكافةُ، وإنما هو سر الله المكتوم لا يطيق حمله إلا ملك مُقرَّب
أو نبي مرسل أو عبد مؤمن اصطفاه الله.
وإذا آنس الداعي قبولًا انتقل بالمُريد إلى المرتبة الثانية، فأكد أن الله لم يرض
في إقامة حقه إلا أن يؤخذ عن أئمة معينين، ويقول الداعي في المرتبة الثالثة: إن
هؤلاء الأئمة سبعة؛ علي والحسن والحسين وزين العابدين ومحمد وجعفر وإسماعيل، وهو
القائم صاحب الزمان، وابنه محمد صاحب العلم المستور ودعاته هم الوارثون لعلمه. وكان
يُقال في المرتبة الرابعة إن الأنبياء الناطقين بالأُمُور الناسخين للشرائع سبعةٌ
أيضًا، وإنه لا بد لكل منهم من صاحب يأخذ عنه دعوته ويحفظها على أُمته، ويكون لهذا
ظهير في حياته يخلفه بعد وفاته، ويسير كل مستخلف على هذا المنوال إلى أن يأتي منهم
سبعة، ويُقال لهؤلاء: «السبعة الصامتون»، فإذا انقضى هؤلاء السبعة يبدأ دور ثانٍ من
الأئمة يفتتحه بني ناطق ينسخ شريعة من مضى، وأول النطقاء آدم وظهيره أو سوسه شيت،
وثاني النطقاء نوح وظهيره سام، وثالثهم إبراهيم الخليل وظهيره ابنه إسماعيل،
ورابعهم موسى وظهيره هارون، وخامسهم عيسى وظهيره شمعون الصفا، وسادسهم محمد وظهيره
علي وهو أول السبعة الصمت، وجاء بعده ستة صمتوا على الشريعة الإسلامية.
وسابع النطقاء هو قائم الزمان محمد بن إسماعيل بن جعفر، وكان يلقي على المُريد في
المرتبة الخامسة أنه لا بدَّ مع كل إمام قائم من حجج اثني عشر متفرقين في الأرض،
ويدعو الداعي في المرتبة السادسة إلى أَنَّ الشرائع رموزٌ لها معانٍ مستترة، تختلف
عن نصوصها الظاهرة، وأن منطق العقل هو المعول عليه في هذه الأمور، فيتعرف المريد
إلى أفلاطون وأرسطو وفيثاغوروس وغيرهم.
وجاء في المرتبة السابعة أن صاحب الشريعة لا يستغني من نفسه، ولا بدَّ له من صاحب
يعبر عنه؛ ليكون أحدهما الأصل والآخر يصدر عنه.
وجاء في الثامنة أن مدبر الوجود والصادر عنه إنما هو تقدم السابق على اللاحق تقدم
العلة على المعلول، وأن الأعيان كلها ناشئة وكائنة عن الصدر الثاني، فالسابقُ لا
اسم له ولا صفة ولا يعبر عنه ولا يحدد، فلا يُقال هو موجودٌ ولا معدومٌ، ولا عالم
ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز. والتالي يلحق بمنزلة السابق، ومعجزات الأنبياء تكون
تارة رموزًا يعقلها العالمون، وتارة تكون بإفصاحٍ يعرفه كل الناس، والقرآنُ
والقيامةُ والثوابُ والعقابُ معناها غير ما يفهمه الكافة، وهي حدوث أدوار تقع عند
انقضاء أدوار من أدوار الكواكب وعوالم اجتماعاتها، وفي الدعوة التاسعة الأخيرة كان
المدعو ينتقل إلى الفلسفة وما رواء الطبيعة فيعلم أن ما ذُكر من الحُدُوث والأُصول
إنما هي رموزٌ إلى معاني المبادئ وتقلب الجواهر، وأن الوحي إنما هو صفاءُ النفس
ويعبر عنه بكلام الله، وأنه ليس على العارف المستنير أن يعمل به، وأن الأنبياء
أصحابُ الشرائع إنما وُجدوا لسياسة العامة، وأن الفلاسفة أنبياء الخاصة.
٧
الحاكم بأمره (٩٩٦–١٠٢١)
«وُجِدَ» في الرابعَ عشرَ من آب سنة ٩٨٥، وتولى الخلافة بعد العزيز وهو لا يزال
في الحادية عشرة من عمره، وطوى مرحلة الحداثة في الخامسة عشرة، وما أن بلغ أشُدَّه
حتى أصبح «مبسوطَ الجسم مهيب الطلعة، له عينان كبيرتان سوداوان تمازجهما زرقة،
ونظرات حادة مروعة كنظرات الأسد لا يستطيع الإنسان صبرًا عليها، وله صوتٌ قويٌّ
مرعبٌ يحمل الروع إلى سامعيه»،
٨ وكان منذ حداثته يؤثر العمل المضني على مجال اللهو واللعب، وظل طوال
حياته عفيفًا زاهدًا «لم يمد يده قط إلى الأخذ من مال أحد، بل كان له وجودٌ عظيم
وعطايا جزيلة».
٩ وكان إذا أمر بأحد من الوجهاء الأغنياء وهب تركته، أو ضمها إلى صندوق
الدولة، وكان زاهدًا متقشفًا يحتقر الرسوم والألقاب الفخمة، يرتدي ثيابًا بسيطة من
الصوف الأبيض، ويتعمم بفوطة، ويحتذي حذاء ساذجًا ويركب فرسًا بلا زينة أو حمارًا،
ولا يصحبه من الحشم سوى بضعةٌ من الركابية، ولم ينقطعْ عن الاتصال بالشعب وقضاء ما
استطاع من حوائجهم، وربما حمل إليهم بنفسه السجلات والمراسيم المطلوبة.
١٠
وجاء في كتاب عمدة العارفين للشيخ محمد شرف الدين الأشرفاني «أن سيرة الحاكم كانت
من أعجب السير وأغربها يأمر بشيء ثم ينهى عنه، وكانت أُمُوره متضادة؛ لأن كان عنده
شجاعةٌ وإقدامٌ وجبنٌ وإحجامٌ، يبخل بالقليل ويعطي الجزيل، وذلك لحكمةٍ في ذاته».
وعُنِيَ بالدعاية للمذهب، فحارب الفسق والدعارة والخمر والخمارين، وحرَّم دخول
الحمام بلا مئزر، وحرَّم على النساء التزيُّن والتبرُّج وكشف الوجه في الطريق وعاقب كثيرين،
١١ ولم يرَ الحاكمُ في النصارى مادة للمذهب الذي دعا إليه، فشَجَّعَهم على
النزوح إلى أراضي الروم في أنطاكية وشمال سورية، وهدمت كنيسة القيامة في عهده في
أيلول السنة ١٠٠٩، وهدمت الكنيسة المريمية في دمشق.
١٢
حمزة بن علي
وظهر في القاهرة — في الثلاثين من أيار سنة ١٠١٧ — حمزةُ بن علي بن أحمد الزوزني،
وكان فارسيًّا أبصر النور في زوزن، ثم هاجر إلى مصر وانضاف إلى المقامات الربانية،
«واشتهر بخدمةِ الحاكم قبل التجريد وبعد التجريد، فأضيفت النذر ودعاتهم إليه،
واستمرَّ في مصر حتى حَلَّت الثامنة وأربعمائة فكشف التوحيد في أول يوم من المحرم
(٣٠ أيار سنة ١٠١٧)، ودعا الخلائقَ إلى التوحيد، وكانت دعوته تخييرًا لا تكليفًا.»
١٣
فصدر سجلٌّ بإبطال السجلات التي صدرت من قبل في حق النصارى واليهود ورفع الفروض
التي ضُربت عليهم، وأطلق الحرية لهم في إعادة الكنائس وعودة من أسلم منهم إلى
النصرانية، وقد حفظ لنا يحيى بن سعيد الأنطاكي نص سجلين بهذا المعنى أحدهما موجهٌ
إلى رئيس دير طور سينا الأنبا سليمان، والآخر إلى نيقيفوروس بطريرك أوروشليم وخلف
ثيوفيلوس، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
أمر أمير المؤمنين بكتابة هذا المنشور لينقيفور بطريرك بيت المقدس، بما
رآه من إجابة رغبته وإطلاق بغيته من صيانته وحياطته، والذي عنه وعن أهل
الذمة من نحلته وتمكينهم من صلواتهم على رسومهم في افتراقهم واجتماعهم،
وترك الاعتراض لمن يصلي منهم في عرصة الكنيسة المعروفة بالقيامة وخربتها
على اختلاف رأيه ومذهبه ومفارقته في دينه وعقيدته، وإقامة ما يلزمه في حدود
ديانته وحفظ المواضع الباقية في قبضته داخل البلد وخارجه، والديارات وبيت
لحم ولد وما يرسم هذه المواضع من الدور المنضوية إليها، والمنع من نقض
المصلبات بها والاعتراض لأحباسها المطلقة لها ومن هدم جداراتها وسائر
أبنيتها، إحسانًا من أمير المؤمنين إليهم ودفع الأذى عنهم وعن كافتهم
وحفظًا لذمة الإسلام فيهم، فمن قرأه أو قرئ من الأولياء والولاة ومتولي هذه
النواحي وكافة الجهات وسائر المتصرفين في الأعمال والمستخدمين على سائر
منازلهم وتفاوت درجاتهم، واستمرار خدمتهم أو تعاقب نظرهم في هذا الوقت وما
يليه؛ فليعلمْ ذلك من أمير المؤمنين ورسمه ويعمل عليه وبحسبه، وليحذرْ مِن
تعدِّي حده ومخالفته حكمه ويتجنب مباينة نصه ومجانبة شرحه، وليقر هذا
المنشور في يده حجة لمودعه يستعين بها على نيل طلبته وإدراك بغيته — إن شاء
الله تعالى.
١٤
الدروز في أبرشيات أنطاكية
وانتشرتْ هذه الدعوةُ في الأوساط الإسلامية في أبرشيات أنطاكية، ولا سيما في
رُبُوع لبنان الشرقي فالغربي، ثم اضطهد أتباعها في كل مكان فنزحوا إلى سورية ولبنان
وآثروا السُّكْنَى مع المسيحيين، وتعاونوا معهم في المحافظة على الراحة والأمن
والطمأنينة، وعلى حرية المعتقد والعبادة.
اسم الكنيسة ولقبها
وعاب اليعاقبة المصريون تيموثاوس البطريرك الإسكندري (٤٦٠–٤٨٢) بقوله قول الملك
في المجمع الخلقيدوني (٤٥١)، فأطلقوا عليه لقب البطريرك الملكي، وسموا أتباعه
ملكيين تعييرًا وتقبيحًا، ويقول المؤرخ إيفاغريوس — وهو من أعيان القرن السادس: إن
هذا التعيير جاء أولًا باليونانية مشتقًّا من اللفظ فسيلفس؛ أي الملك،
١٥ وظلت اللغةُ اليونانيةُ حتى القرن السادس لغةَ جميع النصارى الشرقيين،
ثم أَحَلَّ الأقباطُ القبطيةَ محلها في مصر، واليعاقبةُ السريانيةَ في سورية
والجزيرة، فنقل هؤلاء التعيير اليوناني «فاسيليكوس» إلى السريانية باللفظ «ملكايا»
نسبة إلى ملكا، وعُرِّبت هذه التسمية فأصبحتْ ملكائية.
١٦
وتناصر الناسُ وتكتلوا حول العقيدة الدينية، وانتظمت الحكومات على هذا الأساس
نفسه، فظنَّ الخلفاءُ الأُمويون والعباسيون بأبناء الكنيسة الجامعة، فاتهموهم
بالتجسُّس للروم والتعاوُن معهم. وقرَّبوا الأقباط في مصر واليعاقبة والنساطرة في
سورية والجزيرة وما بين النهرين، فعيروا أبناء الكنيسة الجامعة باللفظ نفسه الذي
أطلقه عليهم هؤلاء المونوفيسيون، وأصبح التعيير لقبًا رسميًّا في جميع الأوساط
الحكومية الرسمية
١٧ فحمله المؤمنون وتناقلوه.
ولكن أبناء الكنيسة الجامعة لم يتناسوا ولم يتنازلوا عن اللفظين أرثوذكسي
وكاثوليكي للتعبير عن صحة العقيدة وجامعية الكنيسة، فالإيمانُ الذي أَقَرَّهُ
المجمع المسكوني السادس هو في نظر البطريرك أفتيخيوس المؤرخ «الأمانة المستقيمة
الأرثوذكسية النقية التي بلا عيب»،
١٨ وكنيسة أبي جبلة في مصر هي «كنيسة أهل الملة الجامعة»،
١٩ والمريمية التي أمر الحاكم بهدمها في دمشق هي «كنيسة السيدة الكاثوليكي»،
٢٠ وهذه المصادرُ التي نعتمد أَوْلَى بثقتنا من حيث العدالة والضبط في
الموضوع الذي نبحث من أقوال الأقباط واليعاقبة والمسلمين التي استشفع بها حبيب
الزيات في كتابه «الروم الملكيون»، وكنيستُنا كانت وظلت ولا تزال وستبقى الكنيسة
الجامعة المقدسة الرسولية، وهي كانت وظلت ولا تزال وستبقى أرثوذكسية في عقيدتها
كاثوليكية في جامعيتها، وليس من العلم بشيء أن نقول مع الزيات إننا اخترنا اللقب
«أرثوذكس» عند انفصال إخواننا الروم الكاثوليك عنا سنة ١٧٢٤.
أنطاكية والقسطنطينية ورومة
وكان نزاع حول احترام الأيقونات المقدسة — كما سبق وأشرنا — وناضلتْ كنيسة
أنطاكية في سبيل إكرام الأيقونات واحترامها، فخالفتْ بذلك الموقفَ الرسمي في
القسطنطينية، فشفع موقفها عند هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي، وضعفت ريبته فيها
فرخص لها بالرجوع إلى حقوقها، وسمح بإقامة بطاركتها في أنطاكية مدينة الله، ولكنه
لم يسمح — فيما يظهر — بذكرِ بطاركة القسطنطينية في الذبتيخة الأنطاكية، وبقي الحال
على هذا المنوال حتى قلَّت هيبةُ الخلافة وعظُم شأنُ الإمبراطورية الشرقية، ففي
السنة ٩٣٧-٩٣٨ تهادن الرومُ والمسلمون فوجه ثيوفيلاكتوس بطريرك القسطنطينية رسولًا
إلى أفتيخيوس بطريرك الإسكندرية وإلى ثيودوسيوس بطريرك أنطاكية وخريستوذوللس بطريرك
أوروشليم؛ يسألهم أن يذكروا اسمه في صلواتهم وقُدَّاستهم، فأجابوه إلى ما سأل «وهذا
كان قد انقطع من وقت خلافة بني أمية».
٢١
ولم يمنع الخلفاء الأُمويون والعباسيون ذكر بطريرك رومة في الذبتيخات الأنطاكية
والأوروشليمية والإسكندرية، ولكن صلة هذه الكنائس بكنيسة رومة تضاءلتْ ثم انقطعت،
فقد جاء ليحيى بن سعيد الأنطاكي أن البطريرك الإسكندري أفتيخيوس ذكر في تاريخه
أسماء بطاركة رومة، «من بطرس رأس الحواريين إلى أغابيوس البطريرك الذي عاصر المجمع
السادس في القسطنطينية.» ولعله يشير إلى أغاتون الذي تولى السدة الرومانية من السنة
٦٧٨ إلى السنة ٦٨٢، وقال أفتيخيوس: إنه «لم يقع له» بعد هذا التاريخ أسماء بطاركة
رومة «ولا شيء من أخبارهم». ثم يفيد يحيى بن سعيد أنه «لم يزل أغائون هذا يذكر في
الذبتيخات الشرقية منذ اجتمع المجمع السادس (٦٨١) إلى بعد وفاة سعيد بن بطريق
بطريرك الإسكندرية (٩٣٣–٩٤٠) بمدة طويلة لا يعرف مقدارها، وأنه ذكر بعده اسم بطريرك
على رومة يدعى بنديكتوس»، ولعله بنديكتوس الثالث (٨٥٥–٨٥٨)، ويضيف يحيى بن سعيد:
«ولم يزل اسم بنديكتوس مذكورًا في الذبتيخية إلى سنة نيف وتسعين وثلاثمائة للهجرة
(٩٩٩-١٠٠٠)، وقد كان صير بعد بناديكطس هذا بطاركة عدة إلا لم يرفع لأحد منهم في
بلاد مصر والشام اسم ولا ذكر، واقتصروا على اسم بناذكطس المتوفى، وفي زماننا هذا
صيروا عليها بطريركًا يسمى يوحنا (يوحنا العشرون ١٠٢٤–١٠٣٣) ورفعوا اسمه وأسقطوا
اسم بناذكطس، فهذا هو السبب المانع من تدوين أسمائهم والعذر في الاضطراب عن ذكرهم.»
٢٢
وفي هذا كله ما يكفي للقول بتضاؤل الصلة وانقطاعها — في الأرجح — بين كنيسة رومة
وشقيقاتها كنائس الإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم، منذ أواخر القرن السابع حتى أوائل
القرن الحادي عشر، فإذا جهل بطاركة هذه الكنائس طوال قرون ثلاثة أسماء بطاركة رومة،
ولم يذكروا في ذيبتيخاتهم سوى أغاثون الثاني وبنذيكتوس الثالث؛ فأي شيء علموه عن
رومة وكنيستها!
لغة كنيسة أنطاكية
وكانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية في
جميع الكنائس شرقًا وغربًا حتى القرن الثالث بعد الميلاد، ثم انفردتْ رومة
باللاتينية، وخرج النساطرة واليعاقبة والأقباط في القرن الخامس فبدأت القبطيةُ تحل
محل اليونانية في مصر والسريانية في سورية والجزيرة في الكنائس التي انفصلت عن
الكنيسة الجامعة، وظلت اليونانيةُ تحتل مرتبة مرموقة في الكنيسة القبطية في مصر حتى
القرن الثاني عشر للميلاد، فقد جاء في سير البطاركة أنه «لما أُقيم البطريرك أبا
مقارة في السنة ١١٠٣ وقدس في الكنيسة المعلقة بالسيدة في مصر قرى تقليده على الأنبل
يونانيًّا وقبطيًّا وعربيًّا».
٢٣ وجاء لابن العَسَّال في مقدمة كتابه تصحيح الإنجيل «أن القبط لما زال
ملكهم وملكت عليهم الروم تكلموا بالرومي أيضًا». ودليله أن قداساتهم إلى اليوم
(١٢٥٣) يوجد فيها الكثيرُ من الألفاظ الرومية، فلما غلبت اللغة العربية على القبط
لم يَبْقَ منهم من يعرف القبطية أو الرومية إلا القليل.
٢٤
وكانت كنيسةُ أنطاكية قد نشأتْ يونانية في
لُغَتِها هلينية في ثقافتها، أُممية في اتجاهها ورسالتها، وكان كبار آبائها قد
كتبوا باليونانية فجعلوا تراث كنيستهم يونانيًّا أيضًا، وكانت سلطةُ هذه الكنيسة قد
اتسعت فشملت بلدانًا يونانية اللغة — كما سبق وأشرنا — فظَلَّت اللغةُ اليونانية
لغة هذه الكنيسة الرسمية، وظل أساقفتُها وبطاركتُها يُجيدون هذه اللغة طوال القرون
الإسلامية العربية وحتى هذا العصر الذي نحن بصدده، وقد مرَّ بنا كيف استعان الخليفة
المعتصم (٨٣٣–٨٤٢) بالبطريرك أيوب بطريرك أنطاكية فحمله معه إلى حصار أنقرة، وكيف
أن هذا البطريرك «كان يخاطب الروم بالرومية».
٢٥
الطقس البيزنطي
وكتبت معظم الأناجيل وجميع الرسائل
باليونانية ودوَّن أقدس الآباء وأعلمهم بهذه اللغة عينها، فأصبحت اليونانية لغة
المسيحيين المقدسة — ولا تزال — وصلَّى الأنطاكيون بها منذ تأسيس كنيستهم، ولكنهم
لم يمنعوا استعمال اللغات المحلية في القُرى والمزارع
التي لم تَفهم اليونانية، وسمحوا بقراءة الأسفار
مترجمة في أثناء الاحتفالات الدينية من اليونانية إلى اللغات المحلية، فكانت هذه
الترجمة من جملة الأعمال التي قام بها الأناغنوسطوس،
٢٦ وتبلورت — مع مرور الزمن — خدمةٌ روحيةٌ دينيةٌ، نُسبت إلى يعقوبَ أخي
الرب، وتُرجمت إلى السريانية؛
٢٧ لتسهيل العبادة على من كان يجهل اللغة اليونانية، ولا مجال للقول مع
غبطة البطريرك أغناطيوس يعقوب السرياني: إن الليتورجية المنسوبة إلى القديس يعقوب
دونت أولًا بالسريانية، ثم تناقلتهما كنائس اليونان والرومان؛
٢٨ لأننا لا نعلم «بالضبط» الطقس الذي اتبعه يعقوب وسائر الرسل والتلاميذ،
ولعله كان آنئذٍ أَقْرَبَ بكثيرٍ إلى طُقُوس اليهود من هذا الذي ننسبه إلى أخي الرب.
٢٩
انفصل اليعاقبةُ في منتصف القرن الخامس، ونشط آباؤُهُم وعلماؤُهُم لنقل الأدب
الكنسي من اليونانية إلى السريانية، واستمر آباؤنا وعلماؤنا في كنيستنا الأنطاكية
الجامعة يصلون باليونانية والسريانية بموجب ما نسميه خدمة يعقوب أخي الرب، ولا نعلم
بالضبط مدى انتشار هاتين اللغتين في كنائسنا المحلية، ولا يجوزُ القول مع مَن يُريد
التفرقةَ بيننا وبين شقيقاتنا الكنائس اليونانية أن لغة كنيستنا في طقوسها كانت
سريانية لمجرد العثور على عدد من كتب الخدمة باللغة السريانية، فهؤلاء الذين يريدون
التفرقةَ أحصَوُا الباقيَ من هذه الكتب المخطوطة بالسريانية «وأهملوا» إحصاء ما
تبقى منها باليونانية، وهو أمرٌ لا يُجيزه العلمُ ولا تُقِرُّهُ «المحبة
المسيحية».
وقال آباؤنا بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية، فلم يفرقوا في تنظيم الطقوس بين
سريانيٍّ ويوناني أو بين أنطاكي وإسكندري وقسطنطيني، بل إنهم استحسنوا الأحسنَ
واستظرفوا الأظرفَ، فلعب أبناء الكنائس الشرقية الثلاث دورًا هامًّا في تطور الطقس
القسطنطيني، أولم يكن رومانوس المرتل حمصيًّا بيروتيًّا قبل أن يغرِّد في كنائس
القسطنطينية؟ وقانون الفصح المجيد الذي يعد من أجمل صلوات الخدمة القسطنطينية هو
مِنْ نَظْم يوحنا الدمشقي وتلحينه، والأوكتيوخوس بكامله — كما تبنته كنيسة
القسطنطينية — يحمل هو أيضًا طابعَ هذا القديس الأنطاكي الدمشقي «دفاق الذهب»،
والقديس أندراوس الذي نلمس أثره في عددٍ لا يُستهانُ به من قوانين الخدمة البيزنطية
هو فلسطيني، وصفرونيوس العظيم واضع خدمة الأبيفانية كان دمشقي المولد أنطاكي
الكنيسة قبل أن يتبوأ السدة البطريركية الأوروشليمية،
٣٠ والقديس كيرللس الذي خلد اسمه بصلوات جمعة الآلام كان مصريًّا قبل أن
يُصبح بطريرك الإسكندرية، وهكذا، فإن الطقس البيزنطي الذي وصفنا تطوُّرَه في فصل
سابق كان نتيجة عملٍ تعاونيٍّ لم تنفردْ به كنيسة القسطنطينية دون سواها.
ويرى العلماء الباحثون أن هذا التعاوُن في «الإخراج» بين أنطاكية والقسطنطينية؛
أَدَّى إلى تَسَرُّب الطقس البيزنطي في أبرشيات أنطاكية منذ أن تم تَبَلْوُرُه في
القرن السابع، وأنه شاع واكتسح الموقف فيها مع عودة الروم إلى الحُكم في شمال سورية
في القرنين العاشر والحادي عشر، وأنه لم يصبح إجباريًّا قبل القرن الثالث عشر — كما
سيجيء في حينه.
٣١
البطاركة
وهنالك تفاوتٌ كبيرٌ في عدد البطاركة الذين تَوَلَّوْا رئاسة كنيستنا في هذا
العصر بين لائحة البطريرك قسطنديوس القسطنطيني وبين نصوص يحيى بن سعيد الأنطاكي
المؤرخ المعاصر، وهنالك أيضًا فرقٌ ظاهرٌ في عدد سني الرئاسة في ترقيم البطاركة،
ولعله من الضروري أن نُثبت هذه الفروقات وفي الجدولين التاليين:
لائحة قسطنديوس |
لائحة يحيى بن سعيد |
يوحنا الخامس |
٩٩٥–١٠٠٠ |
يوحنا |
٩٩٣–١٠٢٢ |
نقولاووس الثالث |
١٠٠٠–١٠٠٢ |
نقولاووس |
١٠٢٥–١٠٣١ |
إلياس الثاني |
١٠٠٣–١٠١٠ |
إيليا |
١٠٣٢-١٠٣٣ |
ثيودوروس الثاني |
١٠١٠–١٠١٥ |
ثيودوروس الثاني (جرجس) |
|
مكاريوس الفاضل |
١٠١٥–١٠٢٢ |
سينوذيكون |
١٠٣٤–١٠٤٢ |
الفثيريوس التقي |
١٠٢٣–١٠٢٨ |
باسيليوس الثاني |
|
بطرس الثالث |
١٠٢٨–١٠٥١ |
بطرس الثالث |
١٠٥٢–١٠٥٦؟ |
ولا بدَّ من تَقْدِيم رواية يحيى بن سعيد الأنطاكي على رواية البطريرك قسطنديوس؛
لأن الأول راوٍ معاصر انتقل من الإسكندرية إلى أنطاكية وأقام فيها، والثاني مؤرخٌ
متأخر من أعيان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولكن ليس هذا كل ما في الأمر؛
فالبطريرك قسطنديوس اعتمد وثائق بطريركية القسطنطينية ونقل عنها، فلا بدَّ —
والحالةُ هذه — من إثباتِ روايته إلى أن يقوم من أبناء كنيستنا مَنْ يُدقق هذا
الأمر ويثبت الحقيقة. ويوحنا الخامس — عندنا — هو يوحنا الثالث؛ بموجب ترتيب لوكيان
والمؤرخين الغربيين، ونقولاووس الثالث هو الثاني عندهم، أما ثيودوروس فإنه كان
يُعرف بجرجس لاسكارس قبل وصوله إلى السدة البطريركية، ومن هنا ورود اسمه أحيانًا
البطريرك جرجس، وجاء في سينوذيكون «أحد الإيمان القويم»، بعد ثيودورس الثاني
باسيليوس الثاني فبطرس الثالث.
يوحنا الخامس (٩٩٣–١٠٢٢)
وتدخل أغابيوس في السياسة — كما سبق وأشرنا — فأغضب الفسيلفس، واضطرَّ أن يتنازل
عن السدة الأنطاكية، فخلفه في السنة ٩٩٣ خرتوفيلاكس الكنيسة الكُبرى كنيسة الحكمة
الإلهية يوحنا الخامس. ويفيد يحيى بن سعيد الأنطاكي أن باسيليوس الفسيلفس حَضَّ
البطريرك الجديد على إصلاح كنيسة القسيان في أنطاكية على طراز كنيسة الحكمة الإلهية
في القسطنطينية، ثم يضيف أن أغابيوس تُوفي في أيلول السنة ٩٩٤، ولا يذكر شيئًا عن
عودته عن التنازُل قبل وفاته وعن تنازل خلفه عن أي امتياز تمتعت به كنيسة أنطاكية
لقاء بقائه على السدة البطريركية،
٣٢ والإشارة هنا إلى ما أورده نيقون الراهب من أن يوحنا تنازل عن استقلال
مطارنة الكرسي الأنطاكي في انتخاب بطريركهم، وأنه وضع أمر انتقاء البطريرك الأنطاكي
في يد البطريرك المسكوني، والراهب نيقون تنسك مدة من الزمن في النصف الثاني من
القرن الحادي عشر في دير القديس سمعان العمودي.
٣٣
وقُدِّرَ ليوحنا الخامس أن يُعاصر الحاكم بأمره الفاطمي، وأن يتلقى ضرباته
المؤلمة في الأبرشيات الأنطاكية الجنوبية، وقد سبقت الإشارة إليها في القسم الأول
من هذا الفصل، ولكن قُدِّرَ له أيضًا أن يرى تراجُع الحاكم عن تضييقه بعد ظهور حمزة
بن علي وقيامه بالدعوة الدرزية.
وماشى يوحنا الخامس ملوك الروم في عصرهم الذهبي، فسعى معهم لإعادة المجد التالد،
ففاوض أورستيوس البطريرك الأوروشليمي في أثناء مروره في أنطاكية في السنة ١٠٠٠ في
ما كان قد تنازل عنه ثيوفيلاكتوس بن قنبرة البطريرك الأنطاكي إلى زميله الأوروشليمي
في القرن الثامن من حقوق الأنطاكية على كنيسة الكرج، فاتفق الطرفان على إعادة ذكر
البطريرك الأنطاكي في الذبتيخة الكرجية، وعلى حق هذا البطريرك في إرسال إكسرخوس إلى
الكرج يتفقد شئونهم الروحية، ويتولى جباية الأموال من الأوقاف الأنطاكية في بلاد الكرج.
٣٤
وفي السنة ١٠٠٤ اختلف النصارى في مصر في حساب عيد الفصح لاختلاف اليهود في
حسابهم، فجعل البعض فصح اليهود يوم السبت في الخامس من نيسان، وقال آخرون: إنه
يوافق يوم الأحد في السادس من الشهر نفسه، فكتب أرسانيوس بطريرك الإسكندرية إلى أهل
أوروشليم بما صَحَّ عنده جاعلًا فِصْحَ النصارى يوم الأحد في السادس من نيسان،
«فكتب أهل الشام إلى مصر يتعارفون منهم ما اتفقوا عليه، فلما وصلت كُتُبُ أرسانيوس
عيَّد جميع النصارى في يوم الأحد في السادس من نيسان إلا قومًا من اليعاقبة من أهل
صعيد مصر؛ فإنهم فصحوا يوم الأحد الذي يليه.»
٣٥
الحاكم وسر الأفخارستية
وجدد الحاكم في رمضان السنة ٤٠١؛ أي في أيار السنة ١٠١١ منع الناس عن صنع النبيذ
وشربه سرًّا وجهرًا، وكسَّر ما عند الناس منه من الجِرار والدنان، وحذَّر على
النصارى تقديمَه «في سائر مملكته» ومنعه في قرابينهم، فقرَّبوا عوضًا عنه ماء نقع
فيه زبيب أو عود الكرم!
٣٦
الاعتراف ببطريركية نيقيفوروس
وفي السنة ١٠٢١ انتهى حُكم الحاكم، ونودي بابنه الظاهر، فعادت السيدة ست الملك
إلى سابق عِزِّها، فأوفدت نيقيفوروس بطريرك أوروشليم إلى القسطنطينية ليعلم
باسيليوس «بعودة الكنائس وتجديد كنيسة القيامة المُقَدَّسة وسائر البيع في جميع
بلاد مصر والشام، ورجوع أوقافها إليها واستقامة أُمُور النصارى»، ويرجوه السماح
بالاتجار بين البلدين، والشروع في «المسالمة والموادَعة»، فاستكشف أفستاثيوس
البطريرك المسكوني من نيقيفوروس «أمانته»، فأوضحها فألفاها البطريرك المسكوني
أرثوذكسية، فأطلع الفسيلفس برفع اسم نيقيفوروس في القسطنطينية وأنطاكية على ما كان
عليه قبل وصوله، وتُوُفِّيَت ست الملك فعاد نيقيفوروس إلى أنطاكية ومنها إلى طرابلس
في أيار السنة ١٠٢٤.
٣٧
نقولاووس الثالث (١٠٢٥–١٠٣١)
وتُوفي يوحنا الخامس البطريرك الأنطاكي في السنة ١٠٢٢ فخلا كرسيه ثلاث سنين ونصف
السنة، ثم انتُخب نقولاووس رئيس دير الأستوديون بطريركًا على أنطاكية وصُلي عليه في
القسطنطينية يوم الأحد سابع عشر كانون الآخر سنة ١٠٢٥، فأقام في الرئاسة خمس سنين
وثمانية أشهر وواحدًا وعشرين يومًا.
٣٨
ورقي إلى رومانوس أرعيروس الثالث (١٠٢٨–١٠٣٤) أن لليعقوبيين بطريكًا يُسمى يوحنا
يقيم في بلد مرعش يُسمى ببطريرك أنطاكية ويسيم مطارنة وأساقفة للمُدُن، فأنفذ أشخصه
وأشخص معه ستة من مطارنته وأساقفته، وتقدم إلى ألكسيوس بطريرك القسطنطينية في أن
يحضرهم بمشهد ممن اتفق عنده من المطارنة والأساقفة الأرثوذكسيين، ويخاطبه في الرجوع
عن اعتقاده والاعتراف بالسبعة المجامع المقدسة وقبول من قبلتْه ودفع من دفعتْه،
واستدعى نقولاووس بطريرك أنطاكية للحضور معه ومشاركته في الخطاب له؛ لأنه كان
يومئذٍ بالقسطنطينية، فأبى ذلك الأرطوقي وجرى بين ألكسيوس البطريرك وبين من اجتمع
معه من أصحابه خطابٌ في هذه المعاني. ولم يذعن يوحنا بطريرك اليعاقبة للانثناء عن
رأيه، واجتمع خلقٌ من العوامِّ وهَمُّوا بالإيقاع به فدفعوا عنه، ولما أيس الملك من
عودته عن اعتقاده نفاه إلى كفربا بالمغرب، واعترف من الستة الأساقفة والمطارنة
المشخصين معه ثلاثة، وثبت ثلاثة على ما هم عليه فحبسوا في الحبس، ومات يوحنا هذا
بعد ثلاث سنين من نفيه وأقام اليعاقبة لهم بعد موته بطريركًا غيره، فلما عرف
رومانوس الملك حاله أنفذ من يحضره، فهرب إلى ديار بكر من بلاد الإسلام.
٣٩
أبجر والمسيح
وفي تشرين الأول من السنة ١٠٣١ استولى الروم على الرها، فسار صاحبها سليمان بن
الكرجي إلى حضرة رومانوس في القسطنطينية، وحمل معه كتاب أبجر إلى السيد المسيح
وجواب السيد له، «وكان كل واحد منهما في ورقة طومار مكتوبين بالسرياني»، وخرج الملك
وألكسيوس البطريرك وجميع أهل المملكة لاستقبالهما، وتسلمهما الملك بخشوع وخضوع
تعظيمًا لكتاب السيد المسيح، وأضافهما إلى الآثار المقدسة التي في بلاط الملك،
وعُني رومانوس الملك بترجمتهما إلى اليوناني، وترجمهما إلى العربي الناقل الذي تولى
نقلهما إلى اليوناني على هيئتهما ونصهما.
وهذه هي نسخة رسالة أبجر ملك مدينة الرها إلى ربنا وإلهنا يسوع المسيح:
من أَبْجَر الأسود إلى يسوع المسيح الطبيب الصالح الظاهر في أرض
أوروشليم، سيدي سلام عليك، سمعت عنك وعن الأشفية التي تصنع أنك تبرئ بغير
أدوية ولا عقاقير، بل بالقول فقط تبصر العميان وتَشفي الزَّمْنَى وتسمع
الخرس والصم وتطهر البرص وتخرج الشياطين والأرواح النجسة بكلمتك وتقيم
الموتى. فلما سمعت عنك يا سيدي ذلك تعجبت بالمعجزات الباهرة التي تصنع
وقررت في نفسي، وحملت أمرك على إحدى الحالتين أنك إما تكون الله الذي ينزل
من السموات فتفعل هذه أو ابن الله؛ ولذلك أكاتبك لتصير إليَّ لأسجد لقدسك،
ولكي تشفي لي مرضًا ما كما آمنت، وبلغني أيضًا أن اليهود يتبرمون بك
ويضطهدونك ويطلبون هلاكك والهزؤ بك، ولي مدينة واحدة صغيرة حسنة جدًّا، وهي
تكفينا لنسكنها بهدوء وسلامة معًا، فالأمر أمر منك يا سيدي، والسلام
عليك.
نسخة رسالة السيد المسيح إلى أبجر ملك الرها:
امض فقل لصاحبك الذي أنفذك: طوباك يا أبجر إذ آمنت بي ولم ترني؛ لأنه
مكتوبٌ من جهتي أن الذين يروني لا يؤمنون بي والذين لم يروني سوف يؤمنون
بي، وكتبت إليَّ أن أصير إليك فالأمر الذي بسببه أرسلت من لدن الآب إلى
ههنا من الآن قد حضر وأصعد إلى الآب الذي أرسلني، فإذا صعدت أنفذت إليك
واحدًا من تلاميذي والمرض الذي بك هو يشفي ولسائر من لك يرد إلى الحياة
الأبدية، وبلدك فليكن مباركًا أبدًا، والعدو أيضًا فلا يتسلط عليك ولا عليه
إلى الدهر، والسلام عليك.
٤٠
إلياس الثاني (١٠٣٢-١٠٣٣)
وفي يوم السبت الكبير، في أول نيسان سنة ١٠٣٢ «صلى على إلياس الراهب النيقوميذي
بطريركًا على أنطاكية»، فأقام سنة وخمسة أشهر وثمانية أيام وتَنَيَّحَ.
٤١
وصدرت أوامر الظاهر الفاطمي بترك الفساد وحفظ مجاورة الروم، ووافق الروم على
المهادنة، واتفق الطرفان على أن ينفذ الظاهر رسولًا يجتمع برسول رومانوس في ناحية
أنطرطوس «آخر حد الروم وأول بلد المسلمين»، واشترط رومانوس على الظاهر ثلاث شرائط:
- إحداها: «أن يعمر الملك كنيسة القيامة ببيت المقدس ويجددها من ماله ويصير
بطريركًا على بيت المقدس، وأن تعمر النصارى جميع الكنائس الخراب
التي في بلاد الظاهر.»
- والشريطة الثانية: ألا يتعرض الظاهر لحلب.
- والشريطة الثالثة: ألا يساعد صاحب صقلية.
وأرسل نصر بن صالح بن مرداش صاحب حلب مال الهدنة إلى رومانوس وشعر القديس يوحنا
المعمدان، وكان هذا الشعر في سالف الزمان في كنيسة حمص فنُقل منها إلى كنيسة القلعة
في حلب «إشفاقًا عليه من أخذ الروم له عند تردُّدهم إلى حمص»، وبقي هناك إلى أن خرج
منصور بن لؤلؤ من حلب، فاستعاده نصر بن صالح وتَقَرَّبَ به إلى رومانوس، فأضافه إلى
الأثارات المقدسة التي في بلاط الملك.
٤٢
ثيودوروس الثاني (١٠٣٤–١٠٤٢)
وفي يوم الأحد الأول من الصيام الكبير صَيَّرَ جرجس لاسكارس بطريركًا على
أنطاكية، وصُلي عليه في القسطنطينية، وسُمي ثيودوروس، فأقام في الرئاسة ثماني سنين
وستة أشهر وواحدًا وعشرين يومًا وتَنَيَّحَ،
٤٣ ونفذ ثيودوروس الاتفاق الذي تم في عهد يوحنا الخامس حول كنيسة الكرج،
فأرسل بموجب شهادة نيقون الراهب إكسرخوسًا إلى بلاد الكرج ليعاقب ويصلح.
٤٤
باسيليوس الثاني
ولا نعلم شيئًا عن باسيليوس الثاني، ونجهل أخبار مكاريوس الفاضل والفثيريوس
الصالح.
بطرس الثالث (١٠٥٢–١٠٥٦)
أبصر النور في أنطاكية ونشأ وترعرع فيها، ثم طلب العلم في القسطنطينية فأحاط به
«كله»، والتحق بالبلاط الملكي فأصبح سكرتير رومانوس الثالث، ثم قدم النذر والتحق
بكنيسة الحكمة الإلهية فأُسندت إليه وظائفُ أَهَمُّها وظيفة سكيفوفيلاكس الكنيسة،
فكان من الطبيعي أن يُقدَّم على غيره وأن يُرَقَّى إلى رتبة البطريركية.
وكان بطرس الثالث ورعًا تقيًّا واثقًا
بالله معتمدًا عليه، وكانت أُمُّهُ قد نَقلت إليه خبر النور البهي الذي أحاط بها
يوم ولادته، وما طَنَّ في أذنها من أصوات سماوية تنبئ بالمستقبل الباهر، فنشأ بطرس
متوكلًا على الله مستلهمًا رُوحه عاملًا بمشيئته على الأرض كما في السماء، ومما
زاده حماسًا وغيرة أن السيدة العذراء والدة الإله تراءت لقسطنطين التاسع
(١٠٤٢–١٠٥٤) وأومأت له بترقية بطرس إلى السدة البطريركية ففعل.
وتسلم بطرس عكاز الرعاية وانطلق يعمل في حقل الرب، فوجه رسالة الجلوس إلى كل من
زميليه بطريرك الإسكندرية وبطريرك أوروشليم، معلنًا تبوأه العرش البطريركي، مبينًا
إيمانه القويم راجيًا ذكره في الذبتيخة،
٤٥ وأسف على انقطاع الصلة بين كنيسته وكنيسة رومة مدة طويلة — كما سبق
وأشرنا — فكتب إلى لاوون التاسع متلهفًا على هذا الانقطاع متسائلًا عن سبب ابتعادِ
خليفة بطرس العظيم عن جسم الكنائس وانقطاع صوته من مجامعها، وامتناعه عن المساهَمة
في حل مشاكلها الإكليريكية، مبينًا الفائدة التي تنجم عن مثل هذا التعاون من حيث
التوجيه الأخوي الرسولي. ورجا بطرس زميله الروماني أن يصرح بإيمانه؛ ليتمكن مِن
ذِكر اسمه في الذبتيخة؛ إذ لا يجوزُ الاعتمادُ على ماضي رومة القويم والافتراض قبل
إعمال النظر بأن إيمانه خالٍ من الخطأ. ثم ذكر البطريرك الأنطاكي إيمانه بوضوح،
ولكنه تحاشى البحث في قضية الانبثاق، وعاقت الأقدار هذه الرسالة فلم تصل إلى رومة
إلا بعد مرور سنتين على صدورها، فكتب بطرس رسالة ثانية أقصر من الأولى، فحذف معظم
ما جاء في مقدمة رسالته الأولى، وأكد تعلُّقه بدستور نيقية وقرارات المجامع
المسكونية السبعة، ولعن من لعن من الهراطقة.
٤٦
وأجاب كل من بطريركي الإسكندرية وأوروشليم برسالة سلام، ورَدَّ لاوون التاسع على
رسالة بطرس الأول برسالة سلام أيضًا، ولكنه أكد بوضوح تقدُّم رومة وعصمة السدة
البطرسية، وأوضح أن كنيسة رومة أم الكنائس وأن محكمتها أعلى المحاكم، ثم نبَّه
زميله الأنطاكي على تَلَبُّد غيوم الهم والشقاق في الشرق، وحثه على الدفاع عن حقوق
الكرسي الأنطاكي،
٤٧ وتسلم بطرس هذا الرد، ولكنه لم
يتمكنْ من قراءته؛ لأنه كُتب باللاتينية فطلب إلى الرسول الإفرنجي الذي حمله إليه
أن يستنسخه له، ففعل فأرسل بطرس النسخة إلى ميخائيل كيرولاريوس بطريرك القسطنطينية
ليأمر بترجمتها إلى اليونانية،
٤٨ وذكر بطرس زميله الروماني في ذبتيخة أنطاكية وحذا حذوه بطريرك أوروشليم
وبطريرك الإسكندرية.
الشماس عبد الله بن الفضل الأنطاكي
ولمع في أُفق الكنيسة في القرن الحادي عشر الشماسُ عبد الله بن الفضل الأنطاكي،
فخدم بالتأليف والتعريب، واشتهر بصورة خصوصية بحسن تعبيره في تفسير الكتب الدينية،
وبسلامة ذوقه في اختيار المؤلفات اليونانية وتعريبها، وتنافس أبناء الكنيسة
باستنساخ مؤلفاته ومعرباته، وكان بارعًا بالعربية واليونانية والسريانية وعرب عن
الاثنتين وألف بالعربية واليونانية.
٤٩
وأهم مصنفاته كتابُ المصابيح، وهو يشتمل على كلام الحكماء والأنبياء والرسل
القديسين بوبه تبويبًا لطيفًا، وأكثر من الأمثلة الكتابية وأقوال الفلاسفة، وله
أيضًا كتابُ المنفعة وهو مختصرٌ ومطولٌ، ويبحث في العقائد في الخالق وجوهره ووحدة
طبيعته وتثليث أقانيمه في المنطق والفلسفة والجدل والفقه، وله كذلك كتاب الروضة في
الفضائل، وهو منتخباتٌ مِن أقوال الكتب المقدسة والقديسين ورجال اللاهوت. وكتاب
تفسير ستة أيام الخليقة للذهبي الفم عربه عن اليونانية، وتفسير إنجيل مَتَّى ويوحنا
للذهبي الفم أيضًا. وعرب عن السريانية كتابًا للآباء الأبرار أنطونيوس وأرسينيوس
ويوحنا أقليمس وإسحاق وفيلوكسينس، وعرب عن اليونانية كتاب البرهان في تثبيت الإيمان
للقديس صفرونيوس الأوروشليمي، وعرب له أيضًا أحاديث الآباء القديسين والرهبان، ومن
آثار هذا العلامة كتاب مجموع الأمان في إبانة غلط اليعاقبة والنساطرة وميامر
غريغوريوس النزيانزي، وميديح القديسين نقولاووس وأندراوس الأقريطشي.
٥٠
أنطاكية والبندقية
وفي أواخر السنة ١٠٥٣ تلقى بطرس الثالث رسالة من دومينكوس رئيس أساقفة أكويلية
جاء فيها أن القساوسة البنادقة في الشرق يشكون الصعوبات التي يَلقونها عند ممارستهم
سر الأفخارستية بالفطير، وأن هؤلاء القساوسة خاضعون لرئيس أساقفة يستمد البركة من
القديس مرقس ويتمتع بقلب بطريرك،
٥١ فأجابه بطرس الثالث جوابًا لطيفًا، ولكنه لم يسكت عن اللقب الذي ادعى
به دومينيكوس فقال: «لقد نشأت بين الكتب ودرست العلوم المقدسة منذ الطفولية وإلى سن
الشيخوخة، ولا أزال مواظبًا على مطالعتها، ومع ذلك ما تعلمت ولا سمعت أن رئيس
أكويلية يُسمى بطريركًا؛ لأن النعمة الإلهية دبرت أن يكون في كل العالم خمسةُ
بطاركة وهم الروماني والقسطنطيني والإسكندري والأنطاكي والأوروشليمي، ومن هؤلاء
الخمسة البطريرك الذي يسمى بطريركًا على وجه الحقيقة هو البطريرك الأنطاكي،
فالروماني والإسكندري يتمتعان بلقب بابا والقسطنطيني والأوروشليمي رئيسا أساقفة،
وكيف نستطيع أن نقيم بطريركًا سادسًا ما دام الجسد ليست فيه حاسةٌ سادسة، وما دامت
هنالك أبرشيات أعظم من أينوريتك يديرها مطارنة ورؤساء أساقفة كبلاد البلغار وخراسان
وسائر الشرق، ولم يُدْعَ أحد منهم بلقب بطريرك؟»
ثم يشير بطرس الثالث إلى رسالة الجلوس التي وجهها إلى البابا الروماني مع الحجاج،
ويقول: إنه لم يَتَلَقَّ جوابًا عنها، وإنه مرسل صورة عنها ليقدمها دومينيكوس إلى
البابا، حتى إذا رضي البابا بفحواها «اتحد الجميع بنفس واحدة ليقدموا لله جميعًا
ضحية واحدة»، ويعرض بطرس بعد هذا إلى مسألة الفطير فيقول: إن شكوى الغربيين من أن
بطريرك القسطنطينية يُشيع عنهم إشاعات رديئة ويقطعهم من شركة الكنيسة؛ هي باطلة؛
لأنه يعرف — حق المعرفة — أنكم أرثوذكسيون، تؤمنون مثلنا بالثالوث القدوس وبِسِرِّ
التَّجَسُّد، ولكنه يأسف أنكم تخالفون البطاركة الأربعة في تقديم الذبيحة الغير الدموية.
٥٢
أنطاكية والقسطنطينية
ولم يرض بطرس الثالث مِن تدخُّل بطريرك القسطنطينية في شئون بطريركية أنطاكية،
فاحتج بشدة على ترقية شماس أنطاكي في القسطنطينية بدون موافقة رئيسه الأنطاكي،
٥٣ وعلى توسيع النفوذ القسطنطيني في الولايات الأرمنية، مبينًا أن هذه
الولايات كانت لسلطة أنطاكية الروحية لا القسطنطينية، ورأى في إلحاح البطريرك
ميخائيل القسطنطيني على توحيد الطقوس سياسةً غير مجدية لانتشار السريانية والعربية
في بعض أبرشيات أنطاكية، ولخضوع هذه الأبرشيات عينها للسلطات الإسلامية.
٥٤