الفصل الحادي عشر
بدء الانشقاق العظيم
١٠٥٤
نفوذ الألمان في رومة
وعُني أوثون الأول الملك الألماني (٩٣٦–٩٧٣) بشئون دولته فأدار دفة الحكم بحذق
ومهارة، وأخضع رجال الإقطاع فيها، وكبح جماح الصقالبة، وصد هجمات المجر، وقام في
السنة ٩٦٢ على رأس جيش ألماني إلى إيطالية، فدخل رومة وأكره أسقفها يوحنا الثاني
عشر على تتويجه إمبراطورًا، فأسس الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي دامت حتى
السنة ١٨٠٦.
وأدى تدخُّل أوثون في شئون رومة إلى تطاحُن في داخلها دام أربعين سنة بين عمال
الألمان وبين أسرة كرسنتيوس صديقة الروم ومَنْ شَدَّ أَزْرَهَا من الأشراف الرومان،
١ وشغل الشرق الروم عن إيطالية وشئونها فتوطد نُفُوذُ الألمان في رومة،
وتسربت إليها آراؤُهُم في الإصلاح والعقيدة.
تدعيم سلطة البابا
وطالب المؤمنون في الغرب بإصلاح الكنيسة، وعلا صوتهم في مقاطعة لورين، فأوجبوا
انضباط الإكليروس وترفُّعهم عن السيمونية وعن الزواج، واستعانوا بالسلطات المدنية
الألمانية، فرحبتْ بطلبهم ورأتْ في إصلاح الإكليروس أداةً فَعَّالَةً لتوسيع
سلطانها وفرض احترامها، فصممت هذه السلطات على الاحتفاظ برومة وتدعيم سُلطة أسقفها
للوصول إلى الانضباط المنشود، وطالب رهبان كلوني في فرنسة برفع مستوى الرهبان
والرهبانية فلم يلقوا من السلطات المحلية إلا التثبيط والإحباط، فلجئوا إلى أسقف
رومة ووضعوا مقدرات رهبانيتهم بين يديه، فأجمع المصلحون على تدعيم سلطة البابا
والمطالبة بحقوقه وصلاحياته التاريخية.
٢
مشكلة الانبثاق
وكانت كنيسةُ رومة قد قالت بانبثاق الروح القدس من الآب كما علم الآباء الأطهار
في نيقية والقسطنطينية، فلما سيطر الألمان على رومة نقلوا إليها القول بالانبثاق من
الآب والابن، فأثاروا بذلك مشكلة الفيليوكوي
Filioque، وهو لفظ لاتيني معناه: «ومن الابن»، وتفصيل ذلك أن
النزاع بين الإسبانيين الكاثوليكيين والقوط الغربيين الآريوسيين جعل الكاثوليكيين
في إسبانيا يصرون على القول بالانبثاق من الآب والابن، وعلى إدخال ذلك في دستور
الإيمان الأثناسيوسي الذي أقر في إسبانيا في السنة ٦٣٣، فلما تقبلوا الدستور
النيقاوي بعد ذلك بقليل استمسكوا بالعبارة «ومن الابن» وأضافوها إلى هذا الدستور.
ويقول بعض العلماء: إنهم أدخلوا هذه العبارة في مجمع طوليدو الأول سنة ٤٠٠، ولكنه
قولٌ ضعيف،
٣ ثم تَسَرَّبَ هذا القول من إسبانيا إلى بلاط كارلوس الكبير، فلقي في
شخص هذا الزعيم مُدافعًا مخلصًا عنه، ومن هنا — في الأرجح — قبولُهُ في مجمع
فرانكفورت سنة ٧٩٤ وانتقاد البطريرك تراسيوس القسطنطيني لقوله «بواسطة الابن»
Per Filium،
٤ وحاول كارلوس إقناع رومة بالقول «ومن الابن» ولكنه لم يفلح، وفي السنة
٨٠٨ كتب توما الأول بطريرك أوروشليم إلى لاوون الثالث بابا رومة يَلفت نظره إلى
المشادة التي نشأتْ بين رهبان القديس سابا والرهبان الإفرنج على جبل الزيتون حول
القول بالانبثاق من الآب والابن، فكتب لاوون بدوره إلى كارلوس الكبير ممول رهبان
الإفرنج على جبل الزيتون؛ يقترح نبذ العبارة «ومن الابن»؛ لأن القول بها يشكِّل —
في حد ذاته — خروجًا على الدستور الذي يقول به جمهور المؤمنين،
٥ وأمر لاوون الثالث بنقش دستور الإيمان على لوحات الفضة؛ لتعليقها في
كنيسة القديس بطرس، فإذا به يتفق — كل الاتفاق — ودستور نيقية، ويخلو من العبارة:
«ومن الابن»،
٦ ثم شاع القول بالفيليوكوي في القرن التاسع في جميع كنائس ألمانية
ولورين ومعظم كنائس فرنسة، أما كنيسة باريز فإنها ثابرت على القول النيقاوي قرنين آخرين،
٧ ونقل بعض الإكليريكيين الألمان القول بالفيليوكوي إلى رومة، فقبله
البابا فورموسوس (٨٩١–٨٩٦)، وأمر به في بلغارية فلفت بذلك نظر فوطيوس العظيم وأدى
إلى احتجاجه — كما سبق وأوضحنا — وجاء التدخُّلُ الألمانيُّ في رومة في النصف
الثاني من القرن العاشر، فجَرَّ وراءه قولًا جريئًا واضحًا بالفيليوكوي.
والكلام في الانبثاق عقيدةٌ تنطوي عليها النصوصُ المسيحيةُ المقدسةُ؛ فقد جاء في
بشارة يوحنا الحبيب في الفصل الخامس عشر والآية السادسة والعشرين: «ومتى جاء المعزي
الذي أرسله إليكم من لدن الآب روح الحق الذي من الآب ينبثق.» وجاء أيضًا في الفصل
السادس عشر من هذه البشارة نفسها وفي الآية الرابعة عشرة عن روح الحق: «إنه
سيمجدني؛ لأنه يأخذ مما لي.» وجاء لبولس في رسالته إلى أهل غلاطية في الفصل الرابع
والعدد السادس: «والدليل على أنكم أبناء كون الله أرسل في قلوبنا روح ابنه.»
وظهرتْ بدعة آريوس فَأَكَّدَ الآباء المجتمعون في نيقية في المجمع المسكوني الأول
(٣٢٥) أن المسيح ابن الله الوحيد مولودٌ مِن الآب قبل كل الدهور، نورٌ من نور إله
حق من إله حق مولود غير مخلوق مساوٍ للآب في الجوهر الذي به كان كُلُّ شيء، وقال
مقدونيوس بخلق الروح القدس فاجتمع الآباء في القسطنطينية في السنة ٣٨١ وقالوا:
«وبالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب الذي هو مع الآب والابن مسجود له
وممجد.» ليؤكدوا لاهوت الروح القدس ومساواته بالابن ووحدة المصدر، وانتشرت
الآريوسية في أوروبة الشمالية الغربية بانتشار البرابرة، فقال الآباء في إسبانيا
بانبثاق الروح القدس من الآب والابن ليؤكدوا مساواة الابن بالآب.
وبحث دفاق الذهب الدمشقي الأنطاكي هذا الموضوع في النصف الأول من القرن الثامن،
فأَكَّدَ أن الروح القدس هو روحُ الآب وروح الابن أيضًا،
٨ وكرر آباؤُنا المجتمعون في نيقية في المجمع المسكوني السابع (٧٨٧)
القولَ بالدستور النيقاوي القسطنطيني، وأثبتوه في أعمال المجمع، معترفين بالانبثاق
من الآب، ووَجَّهُوا الرسائل إلى البطاركة الشرقيين، وبحثوا هذا الموضوع، وفسروا
فقالوا بالانبثاق من الآب
«بالابن»
Per Filium, dia Iyoun.
٩
وعلى الرغم من هذا كله فإننا لا نزال — شرقيين وغربيين — متفقين على إثبات
وحدانية الثالوث الأقدس إثباتًا تامًّا كاملًا صريحًا، وعلى تأكيد شخصية كُلٍّ من
الأقانيم وعلى التساوي بينهم وعلى وحدة الجوهر.
اتصالٌ واحتكاكٌ
واختلف المؤمنون في أمر الانبثاق وتعارضتْ آراؤُهُم، ولكنهم ظلوا أبناء كنيسة
واحدة جامعة مقدسة، ولم تتفرقْ وحدتُهُم ولم تنتقضْ عقدتُهُم، ثم استولى الروم على
جزيرة كريت في السنة ٩٦١ وعلى قُبرص في السنة ٩٦٥، وعادوا إلى أنطاكية في السنة
٩٦٩، ودخلتْ فلسطين في حوزة العزيز المتساهل المتسامح، ولم يطل عهد الحاكم فخلت
مياه المتوسط الشرقي من قرصنة المسلمين وتسهلتْ سُبُلُ الاتصال بالشرق، فتوافد
التجارُ الإيطاليون إلى الجزر والسواحل وأقاموا فيها، وبسط الفسالسة نفوذهم على
البلقان، وعظم أمرُهُم فهابهمُ الصقالبةُ والبلغاريون، وتَفَتَّحَت أمام الحجاج
طرقٌ بريةٌ قليلةُ النفقةِ، خاليةٌ من عراقيل الحدود، فتدفقوا زرافات زرافات،
وزاروا القسطنطينية؛ للتبرُّك بذخائرها والاستراحة فيها قبل متابعة السفر إلى
الأراضي المقدسة،
١٠ وأنشأ الفسالسةُ في هذا العصر حَرَسَهم الإفرنجي، فازداد عدد الغربيين
المقيمين في القسطنطينية ومرافئ الإمبراطورية وجزرها، وكَثُرَ عددُ المتجولين في
أراضيها من الدانوب في أقصى الشمال حتى مداخل طرابلس وحمص ودمشق، ولم تَخْلُ
إيطالية نفسها من تجار الروم ورهبانهم وعمالهم، ولا سيما جنوبها. وأشهر رهبان الروم
فيها في هذا العصر القديس نيولوس ويوحنا فيلاغاثوس.
١١
البطريرك أفستاثيوس والبابا يوحنا التاسع عشر
ورافق هذا التطور في العلاقات بين فرعَي الكنيسةِ الجامعة اهتمامٌ شديدٌ في الحج
والحجاج في الأوساط الرهبانية في الغرب، ولا سيما رهبانية كلوني، وكان الاهتمامُ في
تَوْطِيدِ سلطة أسقف رومة مِن أَبْرَزِ النقاط في برنامج هذه الرهبانية، وهَبَّ
أفرادُها للتبشير به والدعاية له في كُلِّ مكان وزمان، فأَقَضُّوا بذلك مضجعَ
البطريرك المسكوني، ولا سيما في الأبرشيات الخمس الإيطالية الخاضعة له.
فبحث البطريرك المسكوني هذه القضية مع
الفسيلفس باسيليوس الثاني، واتفق الكبيران على الكتابة إلى يوحنا التاسع عشر في هذا
الموضوع، فعرض أفستاثيوس في السنة ١٠٢٤ حلًّا على زميله الروماني قضى بالاعتراف
بتقدُّم رومة في الكرامة والاحترام وبعدم تدخلها في شئون القسطنطينية الداخلية
وسائر الأبرشيات الشرقية الداخلة في حوزة الإمبراطورية، والمقصود هنا — بنوعٍ خصوصي
— شئونُ الأبرشيات الإيطالية الخمس. ولا يجوز القول في هذا العرض أكثر مما تقدم؛
لأن النص اليوناني مفقودٌ، ولأنه لم يبق عنه سوى الترجمة اللاتينية كما رواها
رادولف غلابير،
١٢ فوافق يوحنا التاسع عشر،
١٣ ولكن رئيس دير القديس بنينوس في ديجون اعترض باسم رهبانيته على تمزيق
سلطة هامة الرسل، وكتب بذلك كتابًا شديد اللهجة إلى يوحنا التاسع عشر، فتراجع هذا
البابا عما اعترف به، فلم يُذكر اسمه في ذبتيخة القسطنطينية ولم يرد في سينوذيكون
السنة ١٠٢٥،
١٤ ومن هنا قول المؤرخ الألماني المعاصر: «إنه في السنة ١٠٢٨ خرجت الكنيسة
الشرقية عن طاعة البابا.»
١٥ وهو كلامٌ مضللٌ، ينقصه شيءٌ كثيرٌ من الضبط والتدقيق، ويكذبه سيرُ
الحوادث بعد السنة ١٠٢٤، وجُلُّ ما حدث أن الإكليريكيَين الكبيرَين عادا إلى ما
كانا عليه من المقاطعة في الذبتيخة، أما كنائس اللاتين فإنها ظلت مفتوحةً في
القسطنطينية وسواها من مُدُن الشرق، وظَلَّ اللاتينيون أيضًا يتعبدون في كنائس
الروم وكذلك تابع الديرُ اللاتينيُّ أعماله في جبل آثوس،
١٦ بيدَ أَنَّ ظروفَ الحال أصبحتْ قابلةَ الاشتعالِ سهلة الالتهاب،
فجاءتها شرارةٌ قويةٌ من عالم السياسة.
أزمة سياسية في إيطالية
وكان جنوبُ إيطالية لا يَزالُ في قبضة الروم، وكان هذا الجنوبُ يَشمل إمارتين
لومبارديتين: إمارة ساليرنون وإمارة كابوة وبنيفنتوم، وكان يدخل في هذا الجنوب
أيضًا ثلاثُ مُدُن حرة هي غايتة وأمالفي ونابولي وولاية كالابرية اليونانية وولاية
أبولية أو لانغوباردية، وكانت هذه يونانيةً في مدنها لومبارديةً لاتينيةً في ريفها،
ولم تحاول كنيسة القسطنطينية التدخُّل في شئون الكنائس الرومانية القائمة في
الإمارتين وفي المدن الحرة، ولكنها لم تَرْضَ عن تطلُّع اللاتين في أبولية إلى ما
وراء الحدود إلى رومة القريبة.
١٧
وفي السنة ١٠٢٠ ثار ميلو Melo على الروم في
أبولية، واستعان بعددٍ من الفُرسان النورمنديين المرتزقة، وقضى الرومُ على هذه
الثورة المحلية، ولكنهم تركوا النورمنديين يستقرون في أبولية ويستدعون إليها عددًا
كبيرًا مِن أصدقائهم وذويهم من شمال فرنسة، وفي السنة ١٠٤٠ طمع النورمنديون في
الحكم فأخذوا يدوخون جنوب إيطالية بزعامة أسرة هوتفيل Hautevilles الشهيرة، وتدخلت ألمانية في شئون رومة مرة أُخرى في شخص
إمبراطورها هنريكوس الثالث، فزار هذا الإمبراطور رومة في السنة ١٠٤٦ وخلع باباواتها
الثلاثة دفعةً واحدةً، وأجلس على سدتها إقليمس الثاني ثم دماسوس، وفي السنة ١٠٤٨ —
وبعد وفاة هذين الحبرين — جاء بأسقف تول برونو اللوريني، فأجلسه على العرش البطرسي
باسم لاوون التاسع (١٠٤٩–١٠٥٤)، وشغلت هنريكوس مشاغلُ في ألمانية، فعاد إليها
تاركًا أُمُور إيطالية إلى لاوون، يُديرها ويدبرها بحكمته.
رومة تتحدى القسطنطينية
وزار الإمبراطور الألماني في أثناء وجوده
في رومة جنوبَ إيطالية، فقوى النورمنديين؛ بأن اعترف بحقهم الشرعي في الأماكن التي
كانوا قد سَطَوْا عليها، وارتاح لاوون — بادئ ذي بدء — إلى نشاط النورمنديين في
جنوب إيطالية؛ لأن نشاطهم عَزَّزَ سُلطته الروحية، وأفسح له المجال للصمود في وجه
التوسُّع اليوناني، ولا سيما في أبرشية أوترانتو التي كان قد أنشأها نيقيفوروس
فوقاس في النصف الثاني من القرن العاشر، ولكنه لم يُقدم على إلغاء الطقس البيزنطي،
١٨ ثم اضطرب لاوون عندما بدأ النورمنديون يدوخون المقاطعات اللومباردية
ويَقتربون من حدود رومة، وكان هنريكوس لا يزال منهمكًا في أُمُور ألمانية فتقرب
لاوون من الرومِ للقضاء على نفوذ النورمنديين، ولكنه أراد أن يَظَلَّ محتفظًا بما
جَنَاهُ مِن توسُّع النفوذ النورمندي، فحاول الجمعَ بين نقيضَين وأمسى تقرُّبُه من
الروم استفزازًا لسلطاتهم الروحية، فأخفق في ميدان السياسة، ووقع في يد النورمنديين
أسيرًا (١٠٥٣) ونفر زميله القسطنطيني فجَرَّ الكنيسة الجامعة إلى شقاق أليم.
موقف القسطنطينية
وكان قسطنطين التاسع مونوماخوس (١٠٤٢–١٠٥٥) فسيلفسًا طائشًا خاملًا مستهترًا
مسرفًا مبددًا، إلى أَنْ حَلَّ به فالج أقعده عن كل حركة، ولكنه كان صافيَ القلب
بشوشًا بعيدًا عن الحقد والتكبُّر يجذب القلوب بلُطفه وخِفَّة رُوحه،
١٩ وكان رومانوس إسكليروس أخو خليلة هذا الفسيلفس يكره القائد الكبير جورج
منياكيس، فاستدعَى قسطنطين هذا القائد من إيطالية وأبعده، فثار القائد ونادى به
جنودُهُ فسيلفسًا. وشملت حركتُهُ جنوبَ إيطالية فقاومه فيها أرجيروس بن ميلو
اللومباردي الكبير، وعند انتهاء أَمْرِ منياكيس استدعى الفسيلفس هذا اللومباردي
الصديق، وشمله بعطفه وأَوْلَاه ثِقَتَه، وفي السنة ١٠٥١ عينه مجيستروسًا ودوقًا على
إيطالية الجنوبية، فأثار بذلك سخط الأوساط المحافظة في القسطنطينية؛ لأن أرجيروس
كان لومبارديَّ العنصرِ لاتينيَّ المذهب، وكان كيرولاريوس البطريرك في طليعة هؤلاء
المُحافظين الساخطين،
٢٠ ووافق أرجيروس المجيستروس لاوون التاسع على سياستِهِ في جنوب إيطالية،
ودخل معه في حِلْفٍ نجهلُ شروطَهُ، فزاد في وجس المحافظين في العاصمة وأَقَضَّ
مضجعَهم.
البطريرك ميخائيل الأول (١٠٤٣–١٠٥٨)
وتَحَدَّرَ هذا البطريرك المسكوني كيرولاريوس مِنْ أُسرة شريفة مثلت مرارًا في
مجلس الشيوخ، والتحق بسلك الإدارة المدنية وتدخل في السياسة، ولعله تزعم حركة
الانقلاب في السنة ١٠٤٠ التي استهدفت إنزال ميخائيل الرابع عن عرشه، ولعله طمع في
هذا العرش آنئذٍ — كما جاء في بعض المراجع الأولية —
٢١ ويُروى أيضًا أنه لَدَى إخفاقه في هذه الحركة؛ طلب العزلة ثم قدم النذر
عن إخلاصٍ وتقوى ولبس الإسكيم،
٢٢ ولدى وصول قسطنطين التاسع إلى العرش عاد كيرولاريوس إلى الاهتمام
بالبلاط وشئونه، فاستمال الفسيلفس وكسب ثقته، وأصبح أَشَدَّ الناس أثرًا في نفسه،
ثم عينه البطريرك أليكسيوس الأستودي بروتوسينكيلوسًا فأصبح هو البطريرك المنتظر،
وتُوُفِّيَ البطريرك أليكسيوس في العشرين مِنْ شَهْرِ شباط سنة ١٠٤٣، فخلفه في
السدة بعد شهر من الزمن كيرولاريوس باسم ميخائيل الأول.
وكان ميخائيل الأول إداريًّا قديرًا صارمًا قاسيًا ينقصه دهاء فوطيوس وتوقد ذهنه،
وكان عزيز الجانب لا يناله طالب ولا يطمع فيه طامع، ولم يكن ذاك العالم اللاهوتي
المؤرخ الذي وجدته القسطنطينية في شخص فوطيوس، ولكنه شابه فوطيوس في اعتزازه
باليونان وتعلقه بطقوسهم، وكان رفيع الأهواء بعيد الهمة، فتبنى برنامج سلفه
أفستاثيوس وحاول — قدر المستطاع — تحقيقه، فكان هو المقدم على بطاركة الشرق وزعيم
الكنيسة الشرقية، فأوجب توحيد الطقوس والقوانين وتدخل في شئون الكنائس الشرقية غير
الأرثوذكسية؛ محاولًا إنقاذها من الضلال وإرجاعها إلى حظيرة الكنيسة الجامعة. وخص
الكنيسة الأرمنية بعنايته، وكانت هذه الكنيسة قد انفصلت عن الكنيسة الجامعة بعد
المجمع الخلقيدوني فقالت مع اليعاقبة بطبيعة
واحدة وخالفت الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية، فأكلت الدم وصامت السبت وبدأت الصوم
في الأحد السبعيني الثالث قبل الصوم الكبير، واستعملت الفطير في سر الأفخارستية،
فبحث ميخائيل هذا الأمر مع الفسيلفس واستدعى كبيرَ الكنيسة الأرمنية آنئذٍ
الكاثوليكوس بطرس إلى القسطنطينية للتفاهُم والاتحاد، فجاء بطرس في السنة ١٠٤٩،
ولقي حفاوةً كبيرة وإكرامًا من السلطات الزمنية والروحية.
٢٣
الكنائس اللاتينية في القسطنطينية (١٠٥٢)
وبينما كان البطريرك المسكوني وحاشيته
وأصدقاؤه وأعوانه يضطرمون بهذا الروح الوثاب، وهذه الخلال الأرثوذكسية النقية؛ كان
بريد إيطالية يحمِل إلى العاصمة الشرقية بين آونة وأخرى أنباءَ التوسُّع اللاتيني
في الأبرشيات الإيطالية الأرثوذكسية، وضغط النورمنديين على الكنائس الأرثوذكسية
التي كانت قد دخلتْ في حوزتهم. ومما زَادَ في الطين بلة أن أرجيروس ممثل الروم في
إيطالية كان يُجادل البطريرك المسكوني في أمر الفطير، ويدافع عن وجهة نظر اللاتين،
فلما قاربت السنة ١٠٥٢ نهايتها أوجب البطريرك المسكوني على جميع الكنائس اللاتينية
في القسطنطينية ممارسةَ الأسرار والطقوس بموجب التقليد اليوناني الأرثوذكسي،
فامتنعتْ هذه الكنائسُ، فأمر البطريرك بإغلاقها،
٢٤ وليس من العلم أن نقول مع بعض المؤرخين إن نيقيفوروس أحد رهبان
البطريركية المسكونية أخذ القربانَ المحفوظَ في كنيسة لاتينية ورمى به إلى الأرض
ودَاسَهُ؛ زاعمًا أنه غيرُ مُقَدَّس، فهو قولٌ ينفردُ به هومبرتو وينقصُهُ الشيءُ
الكثيرُ من العدالة والضبط.
رسالة لاوون أخريدة
وفي ربيع السنة التالية ١٠٥٣ كتب لاوون متروبوليت أخريدة ورئيس أساقفة بلغارية
إلى السينكلوس يوحنا أسقف تراني في جنوب إيطالية، ونائب البطريرك المسكوني فيها،
يوجبُ تَجَنُّبَ البدع الغربية؛ كاستعمال الفطير وصوم السبت وأكل الدم، والمخنوق،
وغير ذلك، ويوضح وُجُوهَ الخطأ فيها، ثم يرجو إطلاع أساقفة الإفرنج
على مضمون رسالته، ويَوَدُّ لو أن البابا الجزيل
الاحترام يحيط علمًا بها أيضًا،
٢٥ وجاءت لهجة لاوون قاسية عنيفة كقوله: «من يصوم السبت ويقدس على الفطير
ليس يهوديًّا ولا وثنيًّا ولا مسيحيًّا، وإنما هو شبيهٌ بجلد النمر المرقط.» فأثارت
الكره والحقد والشقاق.
ووصلت رسالة لاوون في أتعس الأوقات؛ فالنورمنديون كانوا قد قَضَوا على مقاومة
أرجيروس في شباط السنة ١٠٥٣، وكانوا قد أسروا البابا لاوون التاسع في حزيران السنة
نفسها وأجبروه على الإقامة في بنيفنتوم، وشاء سكرتير هذا الباب هومبرتو مورموتييه
Humbert de Mourmoutiers كاردينال سيلفة كانديدة
Silva Candida أن يتصل بسيده، فأذن
له النورمنديون بذلك، فرأى أَنْ يذهب أولًا إلى أبولية؛ ليتصل بأرجيروس فمَرَّ
بمدينة تراني، واتصل بأسقفها، فَأَطْلَعَهُ هذا على الرسالة التي وَجَّهَها إليه
لاوون أخريدة، فقرأها ونقلها إلى اللاتينية، وتوجه إلى بنيفنتوم فأطلع سيده عليها،
ويرى رجالُ الاختصاص أن هومبرتو أساء الترجمة، وأنه كان يكره اليونانيين وكنيستهم،
فأهمل ودَسَّ فجاءتْ ترجمتُهُ أَشَدَّ عنفًا وأسوأَ أثرًا من الأصل اليوناني. ومن
دسائسه أنه أضاف اسم البطريرك المسكوني إلى الرسالة، فجعلها تصدر عنه وعن رئيس
أساقفة بلغاريا، ومن هنا قول البطريرك المسكوني إلى بطريرك أنطاكية إنه لم يخاطب
البابا، ولم يكتب إلى أي أسقف في الغرب في موضوع الفطير، وأن اللاتينيين «فضوليون
قليلو التَّبَصُّر يحبون الكذب».
٢٦ وكان لاوون التاسع لا يزال يجهل اليونانية، فاعتمد ترجمة هومبرتو
واستشاط غيظًا، وأمر بالرد عليها.
رد لاوون التاسع
وأمر البابا بالرد على رسالة لاوون أخريدة برسالتين تُوَجَّهُ إحداهُما إلى
«الأسقفين» ميخائيل القسطنطينية ولاوون أخريدة، وتُترك الثانية بدون عنوان وترد
التهم الموجهة إلى الكنيسة اللاتينية.
٢٧
وأعد هومبرتو هاتين الرسالتين
٢٨ فاستهل الأولى بالرغبة في السلام، ولكنه ملأها بعبارات الصلف والترفُّع
والاستمساك بالرئاسة، وهدد بامتيازاتِ رومة، واعتبر «الأسقفين ميخائيل ولاوون»
أحمقين؛ لأنهما تَجَاسَرَا فحَكَمَا على السدة الرسولية التي لا يستطيعُ أحدٌ من
المائتين أن يحاكمها. ولكي يؤيد هذه السلطة ذكر منحة قسطنطين إلى سيليفستروس، ورأى
فيها أمرًا إلهيًّا مصدقًا من المجمع المسكوني الأول، ونصح إلى هذين «الأسقفين» أن
يندم كلٌّ منهما على ما فعل، وأن يرجع عن الطريق التي مشى فيها؛ لئلا يصبح في
الآخرة من جملة المسحوبين بذَنَب التنين الذي جر ثلث كواكب السماء. وضم هومبرتو إلى
هذه الرسالة نسخةً عن منحة قسطنطين «لكي لا يرتاب أحدٌ في أن سيادة رومة على الأرض
لم تؤسَّسْ على الخُرافات والخزعبلات، وإنما صدرتْ عن قسطنطين نفسه الذي رأى أَنَّ
خُضُوعَ صاحب السلطات السماوية للسلطات الأرضية غير لائق»!
والواقع الذي لا مفرَّ من الاعتراف به هو أن منحة قسطنطين هذه التي احتج هومبرتو
ولاوون بها هي وثيقة مزورة صنفت في القرن الثامن لتدعيم سلطة رومة، وهو أمر يُجمع
عليه رجال الاختصاص من كاثوليكيين غربيين وبروتستانتيين وأرثوذكسيين.
٢٩
توسط السنكلوس
ولمس الستراتيجوس أرجيروس درجة الإساءة التي شعر بها البابا لاوون لدى اطلاعه على
رسالة لاوون أخريدة، فاتصل بالسنكلوس يوحنا أسقف تراني وبحث تطورات الموقف معه،
فرأى الاثنان معًا أن المصلحتين السياسية والدينية تقضيان بتلافي الأمر وتدارُك
الخطر قبل وقوعه، فقام يوحنا إلى القسطنطينية وأكد للبطريرك المسكوني أن البابا
رجلٌ نجيبٌ فاضلٌ عاقلٌ، وأن التعاون معه ضروري لمصلحة الروم في إيطالية. وكان
البطريرك شديد الثقة بالسنكلوس، لا يشك في ولائه، فكتب إلى زميله الروماني كتابًا
رقيقًا أوضح فيه رَغْبَتَه في الوئام والاتفاق، ورجاه أن يذكر اسمَه في ذبتيخة رومة
مقابل ذكر البابا في ذبتيخة القسطنطينية، ولكنه حيا زميله الروماني أخًا لا أبًا
ووقع بصفته بطريركًا مسكونيًّا.
وكتب الفسيلفس أيضًا كلامًا لطيفًا دعا به الحبر الروماني إلى التعاوُن المخلص في
الحقل السياسي، وقد ضاع نَصُّ هاتين الرسالتين، ولم يَبْقَ منهما سوى ما جاء عنهما
في رَدِّ البابا، وما أشار إليه البطريرك المسكوني في رسائله إلى بطرس الثالث
بطريرك أنطاكية. وعاد هومبرتو — فيما يظهر — إلى الدَّسِّ والإفساد؛ فإنه جعل
البطريرك المسكوني يقول بأنه يقابل ذِكْر اسمه في ذبتيخة رومة بذكر اسم البابا في
جميع كنائس العالم in toto orbe terrarum. ولعل
البطريرك استعمل اللفظ اليوناني «المسكوني» بمعناه البيزنطي؛ أي في جميع كنائس
الإمبراطورية، فهال البابا هذا الكلام بلفظه اللاتيني وأضرم غيظه، وكان قد أضعفه
المرضُ فوكل أمر الرد إلى هومبرتو، وليته لم يفعل!
الكردينال هومبرتو
وكان الكاردينال هومبرتو يمين البابا ورئيس أركانه على شيءٍ من العِلْم والثقافة،
وبعض الشيء من التقوى، ولكنه كان ضَيِّقَ الخُلُق جافي الطبع، شديد التصلب صفيق
الوجه، لا يندى له جبين. وكان يكره اليونانيين، فجاء وفي رأسه خطة وعزم على الذهاب
بنفسه إلى القسطنطينية حاملًا رد البابا، فأعد باسم سيده رسالة إلى الفسيلفس شكا
فيها البطريرك وأخبر بسوء فِعْلِهِ وأنذر بالمقابلة بالمثل وخوَّف مِنَ العواقب،
وأعلم بقيام وَفْدٍ باباويٍّ إلى القسطنطينية وطلب تسهيل مهمته، وكتب رسالة أخرى
إلى البطريرك المسكوني أكد فيها أولوية رومة وسيادتها، ولام البطريرك على
التَّلَقُّب بالمسكوني، وشَكَّ في قانونيةِ انتخابِهِ، وأنكر عليه تطاوُله على حقوق
كنائس الإسكندرية وأنطاكية، وأَنَّبَه على تطفُّله وانتقاده الطقس اللاتيني، ولا
سيما التقديس على الفطير، ورجا الله أن يجده ممثلو البابا الذاهبون إلى القسطنطينية
في التوبة والندامة!
٣٠
الوفد البابوي المفاوض
وتألف الوفدُ المفاوضُ من الكردينال الأسقف
هومبرتو والشماس فريدريكوس اللوريني حافظ الختم وبطرس رئيس أساقفة أمالفيس، وسهل
النورمنديون المفاوضة، فدعا لاوون التاسع إلى مجمع محلي في باري في صيف السنة ١٠٥٣،
فتشاور الآباءُ اللاتينيون في أمر الانبثاق من الآب والابن، وزَوَّدُوا الوفد بما
يجادلون به،
٣١ وفي مطلع السنة ١٠٥٤ قام الوفدُ إلى أبولية للاتصال بأرجيروس
المجيستروس والإصغاء إلى إرشاداته، فنصح إليهم أرجيروس أن يتصلوا بأخصام البطريرك
المسكوني في القسطنطينية، وأَنْ يتعاونوا معهم في السعيِ لدى الفسيلفس لإحباط
مشاريع البطريرك المسكوني وإبطالها، فجاء رأيه سخيفًا فاسدًا؛ لأن البطريرك ميخائيل
الأول كان قد غبَّر في وجوه أخصامه في القسطنطينية وأصبح لا يباري ولا يمادي في
سياسة العاصمة، والتبس على هومبرتو وجهُ الصواب، فأخذ بهذا الرأي الطائش، وقاطع
مَنْ رغب في مفاوضته قبل الاتصال به.
٣٢
هومبرتو في القسطنطينية (١٠٥٤)
ووصل الوفدُ المفاوضُ إلى عاصمة الرُّوم في أواخر آذار، أو أوائل نيسان سنة ١٠٥٤،
وعملًا برأي أرجيروس العاثر أهمل الوفد البطريرك، واتصل بالفسيلفس أولًا، فخالف
العرف الكنسي، ثم عرَّج على البطريركية، فاستقبله البطريرك في قاعة التسجيل يُحيط
به رهطٌ من المطارنة وكبار الموظفين الإكليريكيين، وقَضَى العرفُ المسيحيُّ بِأَنْ
يدخل الكردينال الأسقف على البطريرك المسكوني متواضعَ النفس خافضَ الجناح متنحيًا
عن مقاعد الكبر، ولكن هومبرتو أقبل شامخ الأنف رافع الرأس سمودًا. وقضى البروتوكول
البطريركي بأن يجلس الأسقف بعد المطارنة، فجاوز هومبرتو قدره وتَعَدَّى حَدَّهُ
وامتنعَ عن الجلوس، ثم نصب صدره ومَطَّ حاجبيه ودفع برسالة لاوون التاسع دفعًا
وسَمَا بنفسه، ثم خرج أَزْهَى من الغراب، فاعتبر البطريرك هذا العملَ وقاحةً وخرقًا
لحجاب الحشمة.
٣٣
ثم قرأ البطريرك رسالة البابا ودَقَّقَ في ختمها، فرَابَهُ أَمْرُها واعتبرها
مِنْ وَحْيِ أرجيروس خصمه، فامتنع عن الاعترافِ بصلاحيةِ الوفدِ المفاوضِ، وأبى أن
يشترك مع أعضائه، وتُوُفِّيَ لاوون التاسع في الثالث عشر من نيسان سنة ١٠٥٤، وشغر
الكرسي الروماني سنة كاملة ولم يرق فيكتوريوس الثاني السدة قبل الثالث من نيسان سنة
١٠٥٥، وعلم البطريرك هذا كله
٣٤ فنام عن أمر هومبرتو وتركه رهن الطوارق.
ولكنَّ هومبرتو أسهر قلبه واستوقد غضبه وراح يتحرَّق ويتلهَّب، فعكف على ملفه
وقلَّب أوراقه فوجد فيه الردين الأولين على رسالة لاوون أخريدة، وعثر أيضًا على
رسالة كانت قد وردت على رومة من أوروشليم وفيها ما يؤيد رومة في بعض طقوسها، فأعاد
النظر في نصوص هذه الرسائل «وهذبها» ونقلها إلى اليونانية وأتحف الروم برد على
لاوون أخريدة أفرغ فيه ذنوبًا وذنوبًا،
٣٥ فهبَّ الراهب نيكيتا ستيثاتوس الأستودي فصنف رسالة في حق اللاتين،
٣٦ وطعن في حالة العزوبة المفروضة على الكهنة عندهم، وفي ممارسة القداس
العادي في أثناء الصوم على الرغم من تحريمه في القانون الثاني والخمسين من قوانين
مجمع تروللي، ولكنه لم يرَ في هذا كله هرطقة، بل انحرافًا عن التعليم الرسولي، وسمى
كنيسة رومة «عين المسكونة كلها».
٣٧
فعاد الكردينال إلى طيشه وخلع جلباب الحياء، فأوسع نيكيتا شتمًا وسبابًا وجعله
سافلًا وحمارًا وزانيًا ورئيس الهراتقة،
٣٨ واحتج لدى الفسيلفس، وأَصَرَّ على الاعتذار متخذًا لنفسه صفةَ القاضي
الروماني الذي جاء ليُصدر حكمًا مبرمًا لا المفاوض بالسلام والمحبة، «فاعتبر الكرسي
القسطنطيني العظيم أسقفية متمردة خاضعة لبطريركية رومة، وعامل صاحبها معاملة مرءوس
مذنب، يجب عليه التماس الصفح من رئيسه الكريم، وظن أن ميل الفسيلفس نحوه لأسباب
سياسية يكفي لقهر البطريرك والشعب.»
٣٩ وسال لعابه من فمه فأثار مشكلة الانبثاق، وادعى أن اليونانيين حذفوا من
دستور الإيمان النيقاوي القسطنطيني العبارة «ومن الابن»! فأساء التصرف وكشف جهله،
واضطر الفسيلفس أن يطلب إليه أن شرح ذلك كتابةً، ففعل وقدم مذكرة خَطِّيَّةً بهذا
المعنى قبل الرابع والعشرين من حزيران سنة ١٠٥٤، وقد عثر على نُسخة قديمة عنها
العلامة الألماني ميشال، ونشرها في مؤلفه عن هومبرتو وكيرولاريوس،
٤٠ وحاول الفسيلفس جهده للتقريب بين الطرفين، ولكن البطريرك أصر على
مجانبة هومبرتو، وأوجب دعوة مجمع مسكوني للبت في أمر الانبثاق، فازورَّ الكردينال
وانقبض ولجأ إلى الحرمان والتحريم.
حرم هومبرتو
وفي السادس عشر من تموز سنة ١٠٥٤ دخل الوفد البابوي إلى كنيسة الحكمة الإلهية
والقداس قائم فيها، واتجهوا نحو الهيكل، فالمائدة، ورفعوا الإنجيل الطاهر ووضعوا
حرمًا تحته بحضور الإكليروس والبطريرك، ثم نفضوا غبار أرجلهم وخرجوا قائلين: «الرب
يحكم في ما بيننا وبينكم.»
٤١ ومكثوا يومين في القسطنطينية ثم غادروها حاملين الهدايا — حسب العادة!
«فجاء عملهم أقرب إلى التمثيل المسرحي منه إلى عمل كنسي.»
٤٢
والأمر الذي يؤسف له هو نص الحرم ولهجتُهُ؛ فقد نسب الكردينال إلى البطريرك
المسكوني سلسلةً من التهم والهرطقات الخيالية؛ فقد جاء في هذا الحرم عن البطريرك
ميخائيل الأول أنه ذاك الذي يَزْعُمُ أنه بطريرك. وجاء عن المؤمنين أنهم تَبِعُوا
جُنُونَ هذا الذي يزعم أنه بطريرك، وأنهم كالغيلاسيين يُرَقُّون الخصيان إلى درجة
الكهنوت الأسقفية وكالآريوسيين يُجددون عماد اللاتين، وكالدوناطيين ينكرون وجود
كنيسة المسيح خارجًا عنهم، وكالنيقولاويين يزوجون الكهنة بعد رسامتهم، وكالسافاريين
يلعنون شريعة موسى، وكأعداء الروح القدس حذفوا مِنْ قانون الإيمان العبارة والابن،
وكالمانيين يقولون بأن الخمير حيٌّ ذو نفس، كالناصريين لا يعمدون ولو في خطر الموت
من كان في حالة من الأحوال التي تسمى نجاسة في شريعة موسى، وأنهم يرفضون تقديم
القربان لمن يحلق لحيته، إلى ما هنالك من الافتراءات التي لا أساس لها.
وجاء في الحرم أخيرًا أن ميخائيل الأول أَغْلَقَ كنائسَ اللاتين واضطهدهم، ومنع
المندوبين من إقامة القُدَّاس، وأنه بإنزاله الحرم ببعض اللاتين تَجَرَّأَ على حرم
الكرسي الرسولي نفسه، وانتهى الحرم هكذا: «ميخائيل الحديث في الإكليروس الذي يحمل —
بلا حَقٍّ — لقب بطريرك الذي اتخذ اللباس الرهباني بعامل الخوف البشري فقط، ومعه
لاوون الذي يَزْعُمُ أنه أسقف أخريدة ونيقيفوروس كاتب ميخائيل الذي انتهك حرمة
القدسيات، فداس برجليه ذبيحة اللاتين، وكل الذين يتبعونهم في ضلالاتهم المذكورة
وتجاسراتهم المتغطرسة، كل هؤلاء فليسقطوا تحت اللعنة «ما ران أنا» مع السيمونيين
والفالاسيين والآريوسيين والدوناطيين، والنيقولاويين والسافاريين وأعداء الروح
القدس والمانيين والناصريين، وجميع الهراطقة، لا بل مع الشيطان وملائكته ما لم
يتوبوا، آمين آمين آمين!»
٤٣
وخرج هومبرتو من كنيسة الحكمة الإلهية، وخرج شريكاه أيضًا، فلَحِقَ بهم شماس
أرثوذكسي حاملًا الحرم بيده راجيًا استرجاعه، فأَبَوا فرمى بالحرم إلى أرض الشارع،
ثم التقط الحرم ورفع إلى البطريرك فأمر بترجمته، فنقله إلى اليونانية كل من
البروتوسبثاريوس كوزما وبيروس الروماني والراهب يوحنا الإسباني.
البطريرك والفسيلفس
ووقف البطريرك على الترجمة اليونانية، فاتصل بالفسيلفس وأَطْلَعَهُ عليها، وكان
قسطنطين قد وَدَّعَ ضيوفَه بقبلة السلام والمحبة، فلما اطلع على مضمون الحرم اشتعل
غضبًا وكاد يخرج من ثيابه، ثم رجعت أَنَّاتُهُ وخشي أن يكون البطريرك قد بالغ في
الأمر فأرسل من لحق بالوفد الروماني، وطلب نسخة عن الأصل اللاتيني، ولدى اطلاعه على
هذا الأصل وضح الأمر وبان الذنب؛ فأرسل الفسيلفس يأمر الوفدَ بالعودة إلى
القسطنطينية والمثول أمام السنودوس المقدس، فأَبَوا وتابعوا السير.
ولم يلبث خبرُ الحرم أَنْ ظهر وشاع في العاصمة، فاضطربت به الألسنة وسار على
الأفواه، ففار فائر الشعب وثار ثائره وبات يرعد من الغضب، فخشي قسطنطين سوء
العاقبة، فأمر بمعاقبة الوسطاء بين الوفد وبين الأوساط الرسمية، وألقى القبض على
أقرباء أرجيروس وزجهم في السجن، ثم أمر بإحراق الحرم علنًا، وكتب بهذا كله إلى
البطريرك المسكوني، هكذا:
أيها السيد الجزيل القداسة
إن دولتي قد دققت في الأمر الذي حصل، فوجدت أصل الشر ناشئًا عن المترجم
وعن أرجيروس، أما غرباء الجنس فإنهم مرسلون من آخرين، ولا نستطيع أن نعمل
معهم شيئًا، وأما المسببون فقد ضُربوا، ثم إنَّا أرسلناهم إلى قداستك ليؤدب
بهم آخرون، أما «الورقة» فمن بعد حرمها وحرم الذين أشاروا بها والذين
أصدروها والذين كتبوها والذين لهم أَقَلُّ علم بها، فلتحرقْ أمام الجميع.
وقد أمرت دولتي بسجن الفيستارشيس صهر أرجيروس وابنه الفيستياريوس؛ ليقيما
فيه تحت الشدة بحسب استحقاقهما.
٤٤
السيميومة
ودعا البطريرك المجمع المقدس إلى النظر في قضية هومبرتو، فالتأم المجمع في
العشرين من تموز بحضور رُسُل الفسيلفس الثلاثة الذين حملوا رسالته إلى البطريرك،
فلعن المجمع الحرم وواضعيه وكل من عاون في إعداده، وأبى البطريرك إحراق الحرم؛ لأنه
رغب في «أن يبقى شهادةً على العار الأبدي والذنب الدائم اللذَين لحقا بأولئك الذين
جدفوا على إلهنا مثل هذا التجديف».
٤٥
وفي الرابع والعشرين من الشهر نفسه عاد المجمع إلى الانعقاد، فجلس في كنيسة
الحكمة الإلهية في المكان المعين للموعوظين، واتخذ قرارًا رسميًّا في قضية هومبرتو
عُرف بالسيميومة Semeiouma أي الحاشية وقرئ على
المؤمنين في الوقت نفسه الذي أفسح لتلاوة قرارات المجمع المسكوني الخامس، وكانت
العادة قد جرت بقراءة هذه القرارات في مثل ذلك اليوم (٢٤ تموز) من كل عام.
لقد جاء الآن رجال أردياء الإيمان وكرهون، رجال نبغوا من الظلام؛ لأنهم
أولاد المغرب ودخلوا هذه المدينة الحسنة الإيمان المحفوظة من الله، التي
تتدفق منها ينابيعُ الرأي القويم، فتجري إلى أقاصي المسكونة لتسقيَ النفوس
بالعقيدة الحسنة، وقفز هؤلاء الرجال وشرعوا يُفسدون التعليم الصحيح،
وتمادَوا فوضعوا صكًّا على المائدة السرية مائدة كنيسة الله العظمى، وبه
وضعونا وكنيسة الله الأرثوذكسية وسائر الأرثوذكسية تحت الحرم؛ لأننا نُريد
أن نواظب على الإيمان الحسن ونعيش على استقامة الرأي، وقد طعنوا فينا ببعض
المطاعن، وبأننا لا نطيق أن نحلق لحانا فنحول صورة الإنسان الطبيعية إلى
صورة غير طبيعية مثلهم، وبأننا لا نرتاب في أمر تناوُل الأسرار من قساوسة
متزوجين، وبأننا لم نرغب في الدس في الدستور الشريف المقدس وفي تزويره
بآراء نغيلة وأقوال دخيلة، فلم نقل مثلهم: إن الروح القدس ينبثق من الآب
والابن بل من الآب.
وقد تظاهروا بأنهم جاءوا من رومة وأوفدوا من البابا، والصحيح أنهم جاءوا
من تلقاء أنفسهم وبإرشادات أرجيروس الغشاشة، ولفقوا تحارير وادعوا أنها
صادرة عن البابا، وقد كشفنا هذا التزوير بتدقيق الأختام وأمور أخرى، وجاء
الصك بأحرف إيطالية ووضعه هؤلاء الأردياء أولًا على مائدة كنيسة الله
العُظمى بحضور سبعة أيبوذياكونة القسم الثاني، فرفضه الأيبوذياكونة ورموه
عن المائدة الإلهية وقالوا لواضعيه أن يأخذوه فامتنعوا، ثم تناقلته الأيادي
فأخذتْه حشمتنا وحفظته؛ كي لا تنشر التجاديف التي فيه، ثم إننا دعونا مَن
يُجيد الترجمة وسمحنا بنقل الصك إلى اليونانية، فتبين منه أن كل من يُقاوم
إيمان السدة الرومانية وذبيحتها فليكن أناثيمًا وليدع خميريًّا وضدًّا
جديدًا للمسيح، فأعلنت حشمتنا هذا الأمر لملكنا صاحب القدرة والقداسة،
فأرسل يستدعيهم إلى المدينة العُظمى؛ لأنهم كانوا قد سافروا قبل ذلك بيوم
واحد، فعادوا ولكنهم لم يُريدوا أن يحضروا أمامنا، ولا أن يواجهوا المجمع
العظيم المقدس ويجيبوا عما فاضت به بطونهم من الكفر، ولم يرض ملكنا العظيم
أن يُجبرهم على ذلك؛ لأنهم يتقلَّدون رُتبة السفارة — بحسب الظاهر — ولكن
بما أنه لا يليق أيضًا ولا يحق أن تبقى هذه السفاهةُ بلا قِصاصٍ فقد
دَبَّرَ الملك علاجًا ناجعًا، وأرسل إلى حقارتنا كتابًا شريفًا محترمًا،
وهذه صورتُهُ بالحرف الواحد.
٤٦
البطريرك المسكوني وسائر البطاركة
وسارع ميخائيل إلى الاتصال بزملائه البطاركة الشرقيين لإطلاعهم على واقع الحال،
وحَثِّهِمْ على اتخاذ موقف مماثل لموقفه، فحرر رسالتين إلى بطرس الثالث بطريرك
أنطاكية، وكتب الأولى فور انتهائه من إصدار السيميومة فذكر أعمال هومبرتو باختصار
وبيَّن موقفه منها، ولا سيما من قضية الفيليوكوي ووعد بإرسال نسخة عن حرم هومبرتو،
ورجا زميله الأنطاكي أن يتصل بزميله الأوروشليمي والإسكندري، ويحضهما على الدفاع عن الأرثوذكسية،
٤٧ ثم عاد إلى الكتابة فأسهب وتكلم في موقف الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية
من الكنيسة اللاتينية الكاثوليكية، ومما قاله ما معناه:
«ولما علمت ما كان يَتَحَلَّى به البابا الذي تُوفي من فضائل؛ كتبتُ إليه كتابة
مسهبة بوجوب الاتفاق على نقاط الاختلاف في الإيمان، وكنتُ أرجو أن أستميل البابا
للتعاون مع الإفرنج ضد النورمنديين في إيطالية.
ودفعتُ بهذه الرسالة ورسالة من القيصر إلى البستياريوس ليسلمها أمينة وينقل
الجواب عنها. فلما وصل هذا الرسول إلى إيطالية اتصل بأرجيروس فخدعه وأخذ الرسائل
منه؛ مدعيًا أنه بإمكانه أن يُقَدِّمَها للبابا بسرعة أكثر منه، وأخذ أرجيروس
الدراهم الملوكية المرسَلة إلى البابا وتَصَرَّفَ بها لمنفعته الشخصية، ودعا إليه
تابعيه وبينهم واحدٌ كان أسقفًا على مدينة أملفينا فطرد من كنيستها لأسباب شرعية،
وبينهم أيضًا الكردينال هومبرت له اسم رئيس أساقفة فقط ولم تكن أبرشيتُهُ معروفة،
أما الثالث فإن أرجيروس لقبه كانكيلاريوس الكنيسة الرومانية ليجعله برجًا حصينًا
لمقاصده.
ثم فتح أرجيروس رسالتي وكتب إليَّ جوابًا متسترًا تحت اسم البابا، ثم جعل هؤلاء
الثلاثة يحملون هذا الجواب إلى القسطنطينية، ولَمَّا وصلوا إلى هنا حضروا أولًا
أمام القيصر بعنفوان غريب، ثم زاد هذا العنفوانُ حين جاءوا إليَّ، فإنهم لم يقولوا
لي كلمة واحدة، ولم يحنوا رأسهم، ولم يسلموا السلام العادي، ولم يرضوا بالجلوس بعد
المطارنة، وما لي وللقول عن نفسي فإنهم دخلوا على القيصر حاملين بأيديهم الصلبان
والعكاكيز، واكتفوا بِأَنْ سلموني الرسالة المختومة وابتعدوا.
ولاحظت الرسالة قبل فضها فرأيت ختمها مزورًا، أما فحواها فإنه كان مملوءًا ممالقة
وخبثًا؛ لأنه شمل جميع المواضيع التي كان أرجيروس قد ذاكرني بها يوم كان في
القسطنطينية ولا سيما موضوع الفطير، وكنت قد اضطررت إلى حرمه أربع مرات، وإني مرسل
إليك نسخة عن رسالتي إلى البابا، وترجمة يونانية لجوابه الذي حمله إليَّ أولئك
الكفرة لكي تعلم الحقيقة حق علمها.
ثم إن خبثهم ظهر بجلاء بعد حضور رئيس أساقفة تراني فإنه كشف لنا كل شيء، فإذا به
يتفق وما كنت قد سردته للقيصر.»
ولام ميخائيل زميله الأنطاكي فراجعه بذكر اسم لاوون التاسع في الذيبتيخة مؤكدًا
أن أسماء الباباوات حذفت من ذيبتيخات الكنائس بعد البابا فيجيليوس، وطعن في استعمال
الفطير في كنائس اللاتين وفي أُمور أُخرى انحرفوا بها عن التسليم الأبوي القديم،
وخالفوا القوانين المسنونة، ولا سيما أكل المخنوق والدم وحفظ صوم السبت بدلًا من
الأربعاء. ومنع زواج الكهنة، والسماح بالزيجة بين الأقرباء، والتعميد بغطسة واحدة،
والزيادة على دستور الإيمان، والقول بالانبثاق من الآب والابن والخاتم الذي يلبسه
أساقفتهم وخروجهم في الحروب كالعسكر وهرق الدم لهلاك النفوس، وأضاف ميخائيل أن
الذين يرسلون من الغرب يسعون لبث تعاليمهم المنحرفة ويكرهون الناس على قبولها.
٤٨
أنطاكية تذكر بالمحبة
وقال بطرس الثالث بطريرك أنطاكية قول سلفائه بطاركة أنطاكية بالبنتارخية؛ أي
برئاسة البطريركيات الخمس على الكنيسة، وصارح رومة بذلك في رسالة الجلوس التي وجهها
إلى لاوون التاسع حين تسلم عكاز الرعاية، وكرر هذا القول في رده على دومينيكوس رئيس
أساقفة أكويلية. وقد سبقت الإشارة إلى هاتين الرسالتين في بحث سابق، واعتبر بطرس
زميله الروماني مقدمًا على البطاركة عملًا بقرارات المجامع المسكونية، وأوضح
لميخائيل البطريرك المسكوني أن موقفه من ذكر البابا في الذبتيخة لا يتفق والواقع،
فأكد أنه يذكر أن اسم البابا كان مكتوبًا في ذيبتيخة أنطاكية في عهد بطريركها
يوحنا، وأنه عندما زار القسطنطينية قبل أربعين سنة سمع اسم البابا يوحنا يُذكر مع
أسماء سائر البطاركة.
ورأى بطرس الثالث أن أضاليل رومة التي ذكرها ميخائيل ثلاثة: منها ما يجب تجنبه،
ومنها ما يجب إصلاحه، ومنها ما يجب السكوت عنه؛ «لأنه ماذا يهمنا إذا كان الأساقفة
اللاتينيون يحلقون لحاهم ويلبسون الخواتم، ألا نقص نحن شيئًا من شعر قمة الرأس
إكرامًا لبطرس ونلبس ألبسة مذهبة، ولا حرج فيما يتعلق بالأطعمة واللحوم غير
الطاهرة؛ لأن رهباننا يفعلون ذلك، ولا يجب أن يكره الإنسان شيئًا مما خلقه الله، بل
يجب أن يقبل كل شيء بالشكر.»
أما «الشر العظيم الذي استحق الأناثيما» في نظر البطريرك الأنطاكي فإنه كان تلك
الإضافة إلى نص الدستور المقدس؛ أي القول بالفيليوكوي، ولكنه رأى أنه من الواجب «أن
ننظر بانتباه إلى الطوية الصالحة، فإن لم يكن الإيمان على خطر فعلينا — حينئذٍ — أن
نُرجع السلام والمحبة على غيرهما؛ لأن الغربيين إخوتنا وإن كانوا يخطئون أحيانًا
كثيرة بسبب توحُّشهم وجهالتهم. ولا يجوز أن نطلب من البربر الكمالَ الذي عندنا نحن
الذين منذ نعومة الأظفار ننشأ في مطالعة الكتب المقدسة، ويكفي أن يحفظ الغربيون
التعليم القديم في الثالوث القدوس وسر التجسد».
ولم يستحسن بطرس الثالث منع القسوس المتزوجين عن مسك القدسات، ولم يرض أيضًا عن
عدم حفظ الأصوام كما حفظها هو، وأسهب في الكلام عن الفطير، ومما قاله في هذا
الموضوع ما يلي: «إن من يقدم الفطير يقدم جسدًا ميتًا لا حيًّا، وإن من يأكل الفطير
لا يستفيد من المسيح.»
وأنهى بطرس رَدَّهُ على ميخائيل قائلًا: «فإن كنت تكتفي بالتشبُّث في موضوعَي
دستور الإيمان وزواج الكهنة فقط فحسنًا تفعل، وأما ما بقي فيمكنك غض النظر عنه،
وعلينا أن لا نكون سريعين في تصديق الوشايات، وأنت ستكتب حسب الواجب إلى البابا
الجديد بعد انتخابه، وربما يجيبك بأن المطاعن كاذبة، ومن يستطيع أن يصدق أنهم لا
يكرمون الذخائر وهم يفتخرون بأَنَّ عندهم جسدَي بطرس وبولس، وكيف لا يحترمون
الأيقونات ما دام البابا وقَّع على قرارات المجمع السابع المسكوني ولعن محاربي
الأيقونات.»
«وبناء عليه أترامى على أقدامك وأَتَضَرَّعُ إليك أن تتساهل أكثر مما فعلت؛ لكي
لا تكون وأنت راغب في إقامة الساقط قد جعلتَ سقوطه أكثر ثقلًا، وأنا أظن أن هؤلاء
إذا أصلحوا زيادتهم في دستور الإيمان فلا يبقى لنا شيءٌ نطلبه، بل يُمكننا أن نغض
النظر عن مسألة الفطير، فأتضرع إليك ألا نطلب كل شيء لكي لا نخسر كل شيء.»
٤٩
أهمية الحرم والسيميومة
ولم يشتمل الحرم الكنيسة الأرثوذكسية بأسرها، وإنما أُطلق ضد بطريرك واحد من
بطاركتها، وعدد معين من رجال إكليروسها، وأعلن بعد وفاة لاوون التاسع وقبل وُصُول
خلفه فيكتوريوس الثاني إلى السدة الرومانية، ولا يجوز القول إن لاوون وافق مسبقًا
على القرارات الخطيرة التي تتضمنها هذا الحرم، ولم يصدق أحدٌ من الباباوات التابعين محتوياته،
٥٠ ولم تشمل السميومة الكنيسة اللاتينية ولم تذكر أحدًا من رؤسائها، وإنما
نظمت في حق هومبرتو ورفيقيه «لتسجل خجلًا أبديًّا للذين تجرءوا فجدفوا على
الله».
ولا أساس — فيما يظهر — لِما جاء في تاريخ العقيدة لجاورجيوس الميتوخيتي، مِن أن
ميخائيل الأول أذاع — بعد أن تسلم جواب بطرس الثالث — منشورًا بطريركيًّا عامًا،
أعلن فيه اضمحلالَ تفوُّق رومة ووصوله المقام الأول بين البطاركة،
٥١ ولا يخفى أن جاورجيوس هذا مِنْ أَعْيَانِ القرن الرابع عشر، وأنه
بالتالي بعيدٌ جدًّا عن الحادث الذي يروى، وقُلِ الأمرَ نفسه عما جاء في مصنفات
ميخائيل بلاستارس وجاورجيوس فرانجيس اللذَين ادَّعَيَا بأن ميخائيل الأول تَرَأَّس
مجمعًا عامًّا في السنة ١٠٥٧، وأن هذا المجمع «حرم اللاتين وبطريركهم.» فالتفتيش
الذي جرى بأمر الفسيلفس أليكسيوس في السنة ١٠٨٩ في سجلات البطريركية المسكونية
وأوراقها لم يُظهر للوجود أي قرار اتخذته كنيسة القسطنطينية لإقصاء عن كنيسة رومة.
٥٢
والحرم والسيميومة في نظرنا عرض من أعراض علة مزمنة كانت ولا تزال تنتاب الكنيسة
الجامعة بفرعيها اليوناني واللاتيني حتى يومنا هذا؛ فكنيسة رومة ما فتئتْ منذ
القرون الأُولى تُطالب بالسلطة العُليا على جميع الكنائس في الغرب وفي الشرق،
وكنائس الشرق ما فتئتْ منذ القُرونُ الأُولى أيضًا ترد هذا الطلب مؤكدة تَسَاوي
الرسل والأساقفة والبطاركة مبينة أن السلطات العُليا في الكنيسة الجامعة هي في يد
المجمع المسكوني، وأن المجامع المسكونية أجمعتْ على هذا الأمر، وأن شرائعَ
الإمبراطورية الرومانية، ولا سيما قوانين يوستنيانوس أثبتتْ هذا التساوي بشكل لا
يحتمل الشك.
وليس من العلم أو الإنصاف بشيء أن نقول مع إخواننا الغربيين إن ميخائيل الأول
أراد الانشقاقَ ومَهَّدَ له السبيلَ ودَبَّرَ التدابيرَ للوصول إليه، ودفع لاوون
البلغاري وغيره إلى العمل والظهور واختبأ هو وراء هؤلاء؛ ليوجِد منفذًا عند اللزوم
يستطيع الخروج منه عند تَأَزُّم الحال. نقول: ليس من العلم أو الإنصاف أن نقول هذا
القول وننسى مطلب رومة التاريخي وإقدامها على تزوير منحة قسطنطين واستعمال هذا
المزور في السنة ١٠٥٤، واندفاع لورين وكلوني في سبيل تدعيم سلطة أسقف رومة، وانتشار
الرهبان اللاتين في أبرشيات إيطالية الجنوبية الأرثوذكسية الخمس؛ للدعاية لكنيسة
رومة وطقوسها. فالمبادرةُ في سير الحوادثِ التي أَدَّتْ إلى أزمة السنة ١٠٥٤ جاءتْ
من الغرب لا من الشرق، وموقف ميخائيل الأول — على مآخذه — كان موقفًا دفاعيًّا لا
هجوميًّا.
وليس من المسيح بشيء أن نفتش مع الأب مرتينوس جوجي الصعودي والأب إيف كونغار
الدومينيكاني وغيرهما من الآباء الغربيين العلماء
٥٣ عن الأسباب الحقيقية التي أدتْ إلى الانفصال في الكنيسة الجامعة،
فنجدها عرقية وثقافية وحكومية وسياسية، وننسى أن جميع هذه الأسباب توفرتْ في القرون
الأُولى ولم ينتج عنها مثلُ هذا الانشقاق. ونحن نرى أن الذين مَهَّدُوا لهذا
الانشقاق في الشرق وفي الغرب معًا لم يُفسحوا المجال لعمل الروح القدس، فخلتْ
قلوبُهُم من المحبة المسيحية التي تتأنى وترفق، ولا تحسد ولا تتباهى ولا تنتفخ ولا
تأتي قباحة ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتدُّ ولا تظن السوء ولا تفرح بالظلم، بل تفرح
بالحق وتتغاضى عن كل شيء وتصدق كل شيء وتصبر على كل شيء، وإنهم لم يصلوا بحرارة
وانكسار قلب وانسحاق نفس «من أجل ثبات كنائس الله المقدسة واتحاد الكل»!
أنر بصيرتي وافتح فمي لأهذَّ بأقوالك وأفهم وصاياك وأعمل بمشيئتك، وأرنم
لك باعتراف القلب وأشيد لاسمك القدوس، أي الآب والابن والروح القدس، الآن
وكل أوان وإلى دهر الداهرين، آمين.