الفصل السادس عشر
عهد المماليك
المماليك
وأدى توسُّع المغول واتجاههم نحو الغرب إلى فرار عدد من القبائل التركية من
وجههم، والتجأ بعضُ هؤلاء إلى آسية الصغرى واستقروا فيها ودخل البعض الآخر الشرق
العربي وأهم هؤلاء الخوارزميون، ولما جلس الملك الصالح أيوب سابع الملوك الأيوبيين
على عرش السلطنة في مصر رأى أن يختار لنفسه جنودًا خاصة يثق بهم، فابتاع من هؤلاء
المتشردين ومن غيرهم عددًا كبيرًا جعلهم جيشه الخصوصي، وبنى لهم ثكنة في جزيرة
الروضة في مياه النيل فعُرفوا بالمماليك البحرية نسبة إلى «بحر النيل»، وكانوا
يسمون الحلقة أيضًا؛ لأنهم أحاطوا بسلطانهم وحموه من كل اعتداء، ورتب الصالح لبعض
هؤلاء دروسًا في الإدارة والحرب؛ فتحققتْ آمالُهُ وظهر مِنْ بينهم رجالٌ فاقوا
ساداتهم، وفي السنة ١٢٥٠ قام أيبك أحد هؤلاء وقضى على سيده الأيوبي واتخذ لنفسه لقب
الملك المعز أيبك وأَسَّسَ دولة المماليك البحرية (١٢٥٠–١٣٨١).
المماليك البحريون.
شجرة الدر أرملة الصالح أيوب |
١٢٥٠ |
الناصر محمد |
١٣٠٩–١٣٤٠ |
المعز أيبك |
١٢٥٠–١٢٥٧ |
المنصور أبو بكر |
١٣٤٠-١٣٤١ |
المنصور علي |
١٢٥٧–١٢٥٩ |
الأشرف كجك |
١٣٤١-١٣٤٢ |
الظاهر قطز |
١٢٥٩-١٢٦٠ |
الناصر أحمد |
١٣٤٢ |
الظاهر بيبرس |
١٢٦٠–١٢٧٧ |
الصالح إسماعيل |
١٣٤٢–١٣٤٥ |
السعيد بركة خان |
١٢٧٧–١٢٧٩ |
الكامل شعبان |
١٣٤٥-١٣٤٦ |
العادل سلامش |
١٢٧٩ |
المظفر حاجي |
١٣٤٦-١٣٤٧ |
المنصور قلاوون |
١٢٧٩–١٢٩٠ |
الناصر حسن |
١٣٤٧–١٣٥١ |
الأشرف خليل |
١٢٩٠–١٢٩٣ |
الصالح صلاح الدين |
١٣٥١–١٣٥٦ |
الناصر محمد |
١٢٩٣-١٢٩٤ |
الناصر حسن |
١٣٥٦–١٣٦١ |
العادل كتبغا |
١٢٩٤–١٢٩٦ |
المنصور محمد |
١٣٦١–١٣٦٣ |
المنصور لاجين |
١٢٩٦–١٢٩٨ |
الأشرف شعبان |
١٣٦٣–١٣٧٦ |
الناصر محمد |
١٢٩٨–١٣٠٨ |
المنصور علي |
١٣٧٦–١٣٨١ |
المظفر بيبرس |
١٣٠٨-١٣٠٩ |
الصالح حاجي |
١٣٨١ |
الملك الظاهر بيبرس (١٢٦٠–١٢٧٧)
وانقسم الصليبيون بعضهم على بعض، وتحارب البنادقة مع أهل جنوا (١٢٥٧)، وقضى آل
باليولوغوس على الإمبراطورية الصليبية في القسطنطينية (١٢٦١).
وعاد الظاهر قطز بعد عين جالوت إلى مصر، وفيما هو في طريقه إليها اتفق بيبرس
البندقداري مع فريق من المماليك على اغتياله، وقامت أرنب بين يديه فساق عليها فتبعه
المماليك المتآمرون، فلما بعدوا تقدم منه مملوك اسمه أنص وشفع في شخص فأجابه قطز
فأهوى لتقبيل يده، فحمل بيبرس على قطز وضربه بالسيف، ثم أعلن نفسه سلطانًا باسم
الملك الظاهر بيبرس، ودخل القاهرة (١٢٦٠) فخضع له الأمراء والشعب.
وكان بيبرس طويل القامة مفتول العضل أسمر اللون أزرق العينين قوي الإدارة شديد
الجرأة عالي الهمة، وكان تركي الأصل ينتمي إلى قبيلة القبجاق
Kiptchak، وقد عُرض للبيع في سوق حماة فهالت خشونته أميرها فلم
يرغب فيه، فابتاعه الأمير بندقدار لسلطان مصر، فعُرف بيبرس بالبندقداري.
١
ولم ترض دمشق عن عمل بيبرس واعترفت بسنجر الحلبي أميرًا عليها، فقام بيبرس في
السنة ١٢٦١ إلى دمشق وقضى على سنجر وأعوانه فاستتبَّ له الملكُ في جميع الأراضي
السورية خارج الإمارات اللاتينية، وفي السنة ١٢٦٢ شهد جماعةٌ من البدو أن شخصًا
أسود اللون اسمه أحمد هو ابن الظاهر بالله محمد ابن الإمام الناصر العباسي عم
المستعصم آخر الخلفاء العباسيين في بغداد، فعقد بيبرس مجلسًا حضره العلماء وأثبت
فيه القاضي نسب أحمد هذا، فبايعه الملك وسائر الأمراء بالخلافة وسمي المستنصر
بالله، فأضحت القاهرة مقر الخلافة العباسية وأكسب بيبرس حكمه صبغة شرعية.
بيبرس والروم
وحالف بيبرس بركة خان أمير مغول القبجاق ضد هولاغو صاحب فارس، وتودد إلى ميخائيل
الثامن فسيلفس الروم وقاهر اللاتين في القسطنطينية، ورجاه أن يبقي مضيقين مفتوحين
له وللقباجقة بني جنسه؛ لتتم الصلة بين مصر وجنوب روسية عن طريق البحر، وكان خان
القباجقة في روسية قد سبق له أَنْ تدخل في شئون البلقان، فوافق ميخائيل على اقتراح
بيبرس وأزوج خان القباقجة من بنتٍ له غير شرعية، وفتح المضايق للمماليك مقابل إقامة
بطريرك أرثوذكسي في الإسكندرية (١٢٦٢)، ثم حالف الفسيلفس السلطان المصري للصمود في
وجه كارلوس أنجو.
٢
بيبرس والصليبيون
وتهيأ الجو لمحاربة الصليبيين، فقام بيبرس في السنة ١٢٦٣ على رأس جيش قوي وهاجم
الناصرة، فاستولى عليها وخرَّب كنيستَها «وشاهد خرابها وقد سُوي بها إلى الأرض».
وأغار على عكة فغنم في ضواحيها وركب عنها.
٣
وفي السنة ١٢٦٤ دعا هولاغو جميع أمرائه إلى اجتماع عام عقده في معسكره بالقرب من
تبريز، واشترك في هذا الاجتماع كُلٌّ مِن داود ملك الكرج وهاتون ملك أرمينية
وبوهيموند أمير أنطاكية، فأشاد هولاغو بالصداقة المغولية البيزنطية ولام هاتون
وبوهيموند على موقفهما من أفتيميوس البطريرك الأنطاكي وأغلظ وشدد؛ لأنهما أكرها هذا
البطريرك على الخروج من أنطاكية.
٤
ومات هولاغو في الثامن من شباط سنة ١٢٦٥ وتوفيت زوجتُهُ المسيحية في صيف السنة
نفسها، فجال بيبرس جولة ثانية واستولى على قيصرية فلسطين في السابع والعشرين من
شباط سنة ١٢٦٥، فَدَكَّ أبراجَها وخَرَّبَ حُصُونَها وأبنيتها. وفي السادس والعشرين
من نيسان سقطت أرسوف في يده، ودخل حيفا منتصرًا فبطش فيها بطشًا.
٥
وأنفذ بيبرس في صيف السنة ١٢٦٦ جيشين كاملين أحدهما إلى عكة وصفد والثاني إلى
قيليقية وأرمينية الصُّغرى، ولم يَقْوَ على عكة، فحاصر صفدودس بين صفوف المحاربين
الوطنيين وبوق أن عفوه يشمل الجميعَ عند الاستسلام، فاستسلم المحاربون ولكن بيبرس
حَنَثَ بوعده. وترامى إليه أَنَّ سُكَّانَ قارة بين دمشق وحمص يسرقون المسلمين
ويبيعونهم بالخفية من الإفرنج، فأمر ببعض كبارهم ورهبانهم وأخذ صغارَهم مماليكَ
وحول كنيستهم إلى جامع. ونزع إليه وفدٌ مِن نصارى عكة يرجون السماح بدفن من سقط
منهم خارج أسوارهم فأجابهم: «إذا كنتم تطلبون جثث شهداء فإنكم ستجدونهم بين
ظهرانيكم.» ثم اندفع إلى ساحل البحر وخرَّب وقتل وسبى،
٦ وقاد الجيش الثاني قلاوون الشهير، وارتكز — بادئ ذي بدء — إلى حمص، وشن
منها هجومًا خاطفًا على القليعات وحلب وعرقة، فاستولى عليها وعاد إلى حمص، ثم انتقل
إلى حماة حيث انضم إليها ملكها المنصور، وقاما منها إلى حلب فقيليقية، وكان هاتون
قد تَوَقَّعَ هذا الهجوم فأسرع إلى تبريز يطلب معونة ابن هولاغو، وصمد ابنا هاتون
لاوون وطوروس في مضايق الأمانوس، فتحاشى قلاوون هذه المضايق وانحدر إلى قيليقية
بطريق سروندكار، وسقط طوروس في ميدان القتال ووقع لاوون في يد قلاوون
أسيرًا.
سقوط أنطاكية (١٢٦٨)
وبعد أن شل بيبرس نشاط أرمينية الصغرى أنفذ جيشًا إلى أنطاكية، وذلك في خريف
السنة ١٢٦٦، ولكن الأنطاكيين رشوا القادة، فعاد الجيش عن أنطاكية بدون قتال، فثار
ثائر بيبرس وأنزل العقاب بالمسئولين، فأمر بإعدامهم.
٧
وعاد بيبرس إلى عكة في أيار السنة ١٢٦٧ ولجأ إلى الخدعة، فأمر جنوده برفع الأعلام
الصليبية التي أُخذت من الهيكليين والاسبتارية، فتمكنوا من ملاصقة الأسوار، ولكنهم
اضطروا إلى التراجع، واكتفوا بتخريب الضواحي،
٨ وفي أوائل السنة ١٢٦٨ عاد ببيرس إلى القتال فاستولى على يافة وخرب
أبنيتها ونقل رخام قلعتها وأخشابها إلى مصر لبناء جامعه فيها،
٩ ثم حاصر قلعة الشقيف، وقصفها بالمجانيق، فاستسلمتْ في منتصف نيسان،
فسمح للنساء والأطفال بالنزوح إلى صور واسترق الرجال،
١٠ ووصل إلى طرابلس في أول أيار، فقاتل صاحبها بوهيموند السادس، وعاث في
ضواحيها مخربًا، ثم انتقل منها إلى وادي العاصي.
واستغل بيبرس بقاء بوهيموند في طرابلس فَأَنْفَذَ جيشه إلى أنطاكية، وكانت
حاميتُها بضعةَ آلاف مقاتل، فلم تَقْوَ على حماية جميع أبراجها وأسوارها، وحاول
محافظها سمعان مانسل
Simon Mansel الإغارة على جيش
بيبرس فأُسر. وكان بيبرس قد احتل السويدية ومضائق بيلان، فعزل خصمه عن البحر وعن
أرمينية الصغرى، وفي الثامن عشر من أيار ثغر المماليك السور بالقرب من القلعة
وتَدَفَّقُوا منه إلى داخل المدينة، وأمر بيبرس بحراسة الأبواب وبالقتل والنهب فلم
يسلم سوى بضعة آلاف التجئوا إلى القلعة، ولدى استسلام هؤلاء جرى بيعهم بأبخس
الأثمان نظرًا لكثرتهم، فبلغ ثمن الصبي اثني عشر درهمًا وثمن البنت خمسة فقط، وكومت
الحلي الفضية والذهبية أكوامًا، ووزعت الدراهم على الفاتحين بالكيل لكثرتها.
١١
ودمرت أنطاكية تدميرًا والتهمت النيران بعضَ أحيائها، وخربت كنيسة القديس بولس
وكنيسة القديسين قوزمة ودميانوس، وكان العراقُ وتوابعُهُ قد أصبح مغوليًّا، فتحولتْ
بضائع الشرق عن أنطاكية إلى إياس في قيليقية، فتضاءلت تجارة أنطاكية، وقَلَّ
الاعتناءُ بها والاهتمام بأمرها، وأمست قرية قائمة في وسط خراب كبير، فهجرها رؤساء
الدين واتجهوا نحو دمشق مركز السلطة في البلاد.
ثيودوسيوس الرابع (١٢٦٨–١٢٧٦)
وتُوفي أفتيميوس الثاني البطريرك الأنطاكي في السنة ١٢٦٨ فانتخب الإكليروس
الأنطاكي ثيودوسيوس الرابع بطريركًا على أنطاكية، وفاوض الفسيلفس ميخائيل الرابع
بيبرس سلطان المماليك في أمر بطاركة الكرسي الأنطاكي، فاعترف السلطانُ برئاستهم
وسمح بانتقالهم من أنطاكية إلى دمشق،
١٢ ولم يشترك ثيودوسيوس الرابع في أعمال مجمع ليون، ولم يعترفْ بقراراته.
١٣
ثيودوسيوس الخامس (١٢٧٦–١٢٨٥)
ثم تولى السدة الأنطاكية ثيودوسيوس الخامس أحد أفراد أسرة فيلهاردوان اللاتينية
الحاكمة في آخية، وكان قد تقبل الأرثوذكسية وانتمى إلى دير الأوذيغس الأنطاكي في
القسطنطينية، ثم زاحم فقس في الوصول إلى الكرسي البطريركي القسطنطيني، وكان قد تم
الاتحاد بين الكنيستين اليونانية واللاتينية في ليون فأيده ثيودوسيوس وجاء إلى
كرسيه يبشر به، ولدى وصول أندرونيكوس الثاني إلى عرش الفسالسة في السنة ١٢٨٢ وعودة
الأرثوذكسية إلى البلاط الإمبراطوري فرَّ ثيودوسيوس والتجأ إلى صيدا، وكانت هذه لا
تزال بيد اللاتين.
١٤
أرسانيوس الأول (١٢٨٢-١٢٨٣)
وأقام الإكليروس الأنطاكي أرسانيوس متروبوليت طرابلس بطريركًا على أنطاكية،
فتمادى في التقرُّب من الأرمن، فأسقط اسمه من ذيبتيخة القسطنطينية، واعتبر خارجًا
على الكنيسة الجامعة.
ديونيسيوس الأول (١٢٨٣–١٣٠٨)
واجتمع الأساقفةُ الأنطاكيون لانتخاب بطريرك جديد، فأيد بعضهم ديونيسيوس أسقف
بومبيوبوليس القيليقي، واعترف آخرون برئاسة كيرلس متروبوليت صور.
١٥
عودة المغول (١٢٩٩–١٣٠٣)
وحقد خلفاء هولاغو على المماليك والمسلمين وجاشت صدورُهُم بالغل بعد عين جالوت
وحمص، فعاهد قازان بن أرغون الكرج والأرمن وعاقد الصليبيين في قبرص، وعبر الفرات
بجموعٍ عظيمة ثلثهم من النصارى، ووصل إلى حلب، فحماة، ونزل على وادي مجمع المروج.
وسارت العساكرُ الإسلاميةُ بقيادة الملك الناصر إلى حمص، ثم إلى مجمع المروج،
والتقوا في عصر الثالث والعشرين من كانون الأول بجيش قازان، فولت ميمنة المسلمين ثم
الميسرة، وثبت القلب، وأحاطت به التترُ، وتأخر السلطان إلى جهة حمص، «فولت العساكر
الإسلامية تبتدر الطريقَ وتمت بهم الهزيمة إلى ديار مصر.» واستولى قازان على دمشق
وساق في أثر المماليك إلى غزة والقدس وبلاد الكرك، وعصت قلعة دمشق، فأحرق المغولُ
الدورَ والمدارس وغيرها من الأماكن الجليلة حولها،
١٦ ثم نشبت ثورة في فارس فعاد قازان لإخمادها وأبقى في سورية قوة صغيرة،
وتخلَّى قبجق والي دمشق عن قازان والمغول فسهل عودة المماليك إلى البلاد، وفي السنة
١٣٠٣ أطل المغول بقيادة قطلو شاه نائب قازان والتقوا بالمماليك في مرج الصفر في
العشرين من نيسان، واشتد القتال فهُزم المغول وقُتل منهم خلق كثير.
١٧
الشيعة والدروز والنصارى (١٢٨٣–١٣٠٥)
وبات الصليبيون تعابى وظهرتْ عليهم دلائلُ الجهد، فخشي سُكَّان التلال اللبنانية
بين بيروت وطرابلس مِنَ الدروز في المتن وأهل الشيعة في كسروان والنصارى والنصيرية
في جرود طرابلس؛ استئثارَ المماليك بالقوة والسلطة، فهَبُّوا لمعونة الصليبيين بشتى
الوسائل؛ فأبو الفداء يقول: إنهم كانوا «يقطعون الطرق ويخطفون المسلمين ويبيعونهم للكفار».
١٨ وجاء للبطريرك الدويهي عن حاشية في كتاب صلاة قديم تعود إلى السنة ١٢٨٣
أن العساكر الإسلاميةَ سارتْ في شهر أيار من هذه السنة في وادي حيرونا، فحاصرت أهدن
ومَلَكَتْها بعد أربعين يومًا، وخَرَّبَت القلعة في وسطها والحصن الذي على رأس
الجبل، ثم افتتحت بفوقا وقبضت على أكابرها وأحرقتهم في بيوتهم، وأعملت السيوف بأهل
حصرون وكفرسارون، وزحفت في الثاني والعشرين من آب إلى الحدث فهرب أهلها إلى العاصي
وهي مغارةٌ منيعةٌ، فقتلت العساكر مَنْ أدركتْه منهم، وخربت الحدث تخريبًا.
١٩
وروى الأهدني تحت تاريخ السنة ١٢٨٧ أن الكسروانيين (الشيعة) والجرديين (الدروز)
نزلوا من الجبال لنجدة الإفرنج في أثناء حصار طرابلس، فقتلوا من عسكر السلطان
خَلْقًا كثيرًا، فأمر نائب دمشق بجمع العساكر لاستئصال هؤلاء، وكتب إلى أمراء غرب
بيروت أَنْ يتوجهوا بعساكرهم إلى كسروان والجرد: «وأن من نهب امرأة كانت له جارية،
أو صبيًّا كان له مملوكًا، ومن أحضر منهم رأسًا فله دينار.» وفي السنة ١٢٩٢ قصد
الأمير بيدرا قائد السلطنة في مصر جبال كسروان، وبعد أن وصل إليها «انثنى عزمه
وانكسر حزمه فتمكن الكسروانيون في بعض العسكر في الأوعار ومضايق الجبال فنالوا
منهم». فاضطر الأمير بيدرا أن يطيب القلوب ويخلع الخلع، فاشتط الكسروانيون في
الطلب، فأجابهم إلى ما التمسوه وأفرج عن جماعة منهم كانوا قد اعتُقلوا في دمشق
لذنوبٍ وجرائمَ صدرت منهم.
٢٠
وفي السنة ١٣٠٢ نزل الإفرنج عند نهر الدامور، فقُتل الأمير فخر الدين التنوخي
وأُسر أخوه شمس الدين فافتداه ناصر الدين الحسين بثلاثة آلاف دينار، فرُفعت الشكاوى
إلى نائب دمشق الأفرم من الجرديين وأهل كسروان، فحشد النواب الجيوش لمقاتلة
الجرديين والكسروانيين، فنزل ثلاثون مقدمًا من كسروان بثلاثين ألفًا وكنوا عند نهر
الفيدار ونهر المدفون، فهزموا الجيش السلطاني وأهلكوا أكثره وغنموا أمتعة وأسلحة
واستولوا على أربعة آلاف رأس من الخيل، وغزا الجرديون التنوخيين فأحرقوا عين صوفر
وغيرها من بلاد العرب.
٢١
ونقل صالحُ بنُ يحيى عن الحريري والصلاح الكتبي أن أهل كسروان كثروا وطغوا واشتدت
شوكتُهُم، وتطاولوا إلى أذى العسكر، وأغضى السلطان عنهم فزاد طغيانُهُم وأظهروا
الخروجَ من الطاعة، ففاوضهم نائب دمشق جمال الدين الأفرم في الرجوع إلى الطاعة
فأبَوا، فأفتى العلماء بنهب بلادهم، فجرد النواب خمسين ألفًا، فجمع الدروز رجال
الجرد وكانوا عشرة أمراء بعشرة آلاف مقاتل، والتقت الجموع عند عين صوفر، فجرى قتالٌ
شديدٌ، ودارت الدائرةُ على الدروز، فهرب الأمراءُ والتجئوا إلى كهف نابيه ودافعوا
عن أنفسهم، فبذل لهم الأمان فلم يخرجوا، فأمر نائب دمشق بسد الكهف! وصعد اسندمر
نائب طرابلس إلى كسروان فقطع وخرب وقتل، وتفرق الباقون من الشيعة في البلاد.
٢٢
الغيوريون والمعتدلون
وكان قد قام في الكنيسة منذ عهد ثيودوروس الاستوديتي في القرن التاسع مَنْ
قَاوَمَ تَدَخُّلَ الفسيلفس والحكومة في شئون الكنيسة، بل مَنْ قال بوجوب تقيد
الفسيلفس بالأنظمة الإكليريكية، وكانت غيرةُ هؤلاء على الكنيسة قد اشتدت إلى درجةٍ
أَدَّتْ بهم إلى اللجوء إلى العنف في سبيل الدفاع عن حرية الكنيسة واستقلالها، ولم
يتطلب هؤلاء الغيورون
Zelotai من الإكليروس علمًا
وافرًا أو ذكاء مفرطًا، ولكنهم أوجبوا عليهم سيرة طاهرة وتقشفًا صارمًا، فنالوا
إعجاب الرهبان وتأييدهم في غالب الأحيان، وكان من الطبيعي جدًّا أن يقول غيرُهُم من
أبناء الكنيسة بالتعاون بين الدولة والكنيسة، وهؤلاء هم المعتدلون
Politikoi وأَصَرَّ هؤلاء على وُجُوب تضلُّع
الإكليروس العالي من العلوم الدينية والزمنية؛ ليحسنوا الدفاع عن الكنيسة جمعاء
ويحفظوا حريتها.
٢٣
ووقف الغيورون إلى جانب البطريرك أرسانيوس في نِزَاعِهِ مع الفسيلفس ميخائيل
الثامن، فعرفوا بالأرسانيوسيين، وقضت ظروفُ ميخائيل السياسية باتحاد الكنيستين —
كما مَرَّ بنا — فضجَّ الغيورون وأعلنوا سخطهم ومقاومتهم، وجاء أندرنونيكوس الثاني
الفسيلفس فألغى الاتحاد، وسيطر الغيوريون على الإكليروس وهيمنوا على البطريركية
المسكونية.
الصامتون
وشاع في القرن الرابع عشر في بعض الأديار انعزالٌ عن عالم المادة وانعكافٌ على
التأمُّل واتصالٌ بالخالق عن طريق الصلاة عُرف بالزهد الصامت
Hesychia، وأشهر من قال بالصمت التام والتأمل
الكامل غريغوريوس بالاماس
Palamas متروبوليت
ثسالونيكية، وكان قد اشتهر بتقشُّفه عندما قدَّم النذر في آثوس، وكاد ينسحب من
ثسالونيكية لينفذ ما قال به عندما فوجئ بشغب أحدثه الراهب برلام في جبل آثوس،
٢٤ وبرلام هذا راهب يوناني إيطالي أمَّ ثسالونيكية وأقام فيها، فاستمع
لأقوال بالاماس رئيس أساقفتها وجادله فيها وملأ المدينة ضجيجًا (١٣٣٣–١٣٣٩)، ثم قام
إلى أفينيون ليفاوض بنديكتوس الثاني عشر باسم أندرونيكوس الثالث الفسيلفس في أمر
حملة صليبية ضد الأتراك، ولدى عودته من أفينيون اطلع على رسالة النور الإلهي التي
كان بالاماس قد أعدها في غيابه فكتب في دحضها،
٢٥ ثم قام إلى القسطنطينية يَشكو بالاماس إلى البطريرك المسكوني يوحنا
كاليكاس
Calecas، وأثار ضجة في العاصمة، فاضطر
البطريرك أن يدعو بالاماس إلى المُثُول أمام المجمع، وترأس أندرونيكوس الثالث
المجمع القسطنطيني في العاشر من حزيران سنة ١٣٤١، وما إن افتُتحت الجلسة حتى أعلن
الفسيلفس أن أمر البَتِّ في العقيدة منوطٌ بالأساقفة وحدهم وأنه ليس على برلام إلا
أن يعتذر للرهبان عما صدر عنه،
٢٦ فعاد بلام إلى الغرب فأذكى نار الشقاق فاستمرت طويلًا.
٢٧
وظلت المشادة قائمة حول موقف بالاماس من النور الإلهي فدعا البطريرك يوحنا الرابع
عشر (كاليكاس) إلى مجمع جديد في السنة ١٣٤٥، فقضى بالحكم على بالاماس وحبسه،
٢٨ ولما استولى يوحنا السادس على عرش القسطنطينية (١٣٤٧–١٣٥٥) أنزل
البطريرك يوحنا الرابع عشر عن عرشه لتآمره وأحل محله أيسيدوروس مرشح الصامتين، فدعا
البطريرك الجديد إلى مجمع ثالث في السابع والعشرين من أيار سنة ١٣٥١ فخرج بالاماس
ظافرًا وانتصر الصامتون.
٢٩
أغناطيوس الثاني (١٣٤٢–١٣٥٣)
وتولى السدة الأنطاكية بعد ديونيسيوس البطريرك مرقس، وطالت رئاستُهُ أربعًا
وثلاثين سنة (١٣٠٨–١٣٤٢) وجاء بعده أغناطيوس الثاني، ولم يرض عن بالاماس وقوله في
النور الإلهي فاشترك في أعمال مجمع القسطنطينية في السنة ١٣٤٤، ووافق على شجب
بالاماس وسَجْنِهِ، وأصدر طوموسًا بطريركيًّا ضده، لكن باخوميوس متروبوليت دمشق
خاصمه فاضطر أن يَلْجَأَ إلى قبرص فترة من الزمن وتُوفي فيها سنة ١٣٦٦، وأوفد في
السنة ١٣٥١ أرسانيوس متروبوليت صور ليمثله في مجمع القسطنطينية، فكان أرسانيوس من
المعارضين لبلاماس واحتج على تدخل الفسيلفس في شئون الكنيسة وأحدث ضجة في المجمع.
٣٠
باخوميوس الأول
وأيد باخوميوس الصامتين، فانتصر بانتصار
بالاماس، وتولى الرئاسة مدة نجهلها، ولعله ظل جالسًا حتى السنة ١٣٦٨ أو ١٣٧٠ — كما
جاء في مصنف لوكيان،
٣١ وفي السنة ١٣٧٠ أَيَّدَ بعضُ المطارنة الأنطاكيين أرسانيوس متروبوليت
صور في موقفه من بلاماس وانتخبوه بطريركًا على أنطاكية وأجلسوه على السدة، ولكنه
خلع بعد فترة قصيرة، وإذا ما قدمنا باخوميوس الأول على ميخائيل الثاني وخالفنا بذلك
ترتيبَ البطريرك قسطنديوس؛ سَهُلَ علينا التوفيقُ بين ترتيبه وبين ترتيب لوكيان،
وتقاربت تواريخ الرئاسة.
ميخائيل الثاني (١٣٧٠–١٣٨٦)
ويرى البطريرك قسطنديوس أن ميخائيل الثاني تولى الرئاسة ست عشرة سنة، وأن
باخوميوس عاد إلى الكرسي بعد وفاة ميخائيل في السنة ١٣٨٦، وبقي فيه حتى السنة ١٣٩٣،
ثم يذكر قسطنديوس البطريرك نيلوس ويحدد سنوات رئاسته، فيجعلها تبتدي في السنة ١٣٩٣
وتنتهي حوالي السنة ١٤٠٠، وجاء للبطريرك ميخائيل الثالث أن باخوميوس تولى الرئاسة
ثلاث مرات (١٣٥٩ و١٣٧٥ و١٣٧٨)، وأن نيلوس أو نيقون ابتدأ في السنة ١٣٨٧ وانتهى في
السنة ١٣٩٥.
٣٢
المماليك البرجيون.
الظاهر برقوق |
١٣٨٢–١٣٩٢ |
الأشرف أينال |
١٤٥٣–١٤٦٠ |
الناصر فرج |
١٣٩٢–١٤٠٥ |
المؤيد أحمد |
١٤٦٠ |
المنصور عبد العزيز |
١٤٠٥-١٤٠٦ |
الظاهر خشقدم |
١٤٦١–١٤٦٧ |
الناصر فرج |
١٤٠٦–١٤١٢ |
الظاهر يلباي |
١٤٦٧ |
العادل المستعين |
١٤١٢ |
الظاهر تمريغا |
١٤٦٨ |
المؤيد شيخ المحمودي |
١٤١٢–١٤٢١ |
الأشرف قايتباي |
١٤٦٨–١٤٩٦ |
المظفر أحمد |
١٤٢١ |
الناصر محمد |
١٤٩٦–١٤٩٨ |
الظاهر ططر |
١٤٢١ |
الظاهر قانصوه |
١٤٩٨–١٥٠٠ |
الصالح محمد |
١٤٢١-١٤٢٢ |
الأشرف جنبلاط |
١٥٠٠ |
الأشرف برسباي |
١٤٢٢–١٤٣٨ |
العادل طومان |
١٥٠١ |
العزيز يوسف |
١٤٣٨ |
الأشرف قانصوه |
١٥٠١–١٥١٦ |
الظاهر جقمق |
١٤٣٨–١٤٥٣ |
الأشرف طومان باي |
١٥١٦ |
المنصور عثمان |
١٤٥٣ |
|
|
تيمورلنك (١٤٠٠-١٤٠١)
وأعلن تيمورلنك نفسه خانًا في السنة ١٣٧٠ وأخضع لسلطته خراسان وأصفهان واجتاح
بلاد فارس والعراقين والجزيرة، وقصد الهند سنة ١٣٩٧ وأنزل بها الوبال، واتجه في
السنة ١٤٠٠ نحو سورية، فأمر الملك الناصر فرج النواب والحكام أن يتوجهوا إلى حلب
ويجتهدوا في دفع تيمورلنك، واستولى تيمورلنك على عين تاب وأرسل مرسومًا إلى النواب
في حلب أن يطيعوا أوامره ويخطبوا باسمه، فقتل سودون نائب الشام هذا الرسول، واستولى
تيمورلنك على حلب وقطع عنق سودون وقتل جمًّا غفيرًا ونهب وأحرق، ثم بلغ المعرة
«فجفل أهل دمشق وتشتتوا». وقصد بعضهم قلعة أرصون وقلعة الشقيف، ورحب أهل حماة
بتيمور ثم وثبوا على نائبه فرجع إليها وقتل ونهب وأحرق، ولما بلغ إلى حمص استجلب
خاطره عمر بن الرواس فعف عن أهلها، ونزل على بعلبك فأرسل فيهم جوارح النهب
والاستئصال.
وبلغت عساكر الملك الناصر إلى دمشق وبلغ تيمور إليها، ففَرَّ الملك الناصر،
والتجأ إلى لبنان، واختبأ في قلعة نيحا، فأحاط تيمور بدمشق وقتل أعيانها وسبى
نساءها، وأحرق الجامع الأُموي وكان فيه جَمٌّ غفيرٌ من النساء والأطفال، وأخرب
المساجد والمدارس ودَكَّ القلعة، وأَسَرَ كثيرين من أصحاب الحِرَف والصناعات
وأَبْعَدَهُمْ إلى سمرقند.
٣٣
الجراد والبدو
ولم يخرجْ تيمور من دمشق حتى جاءها الجرادُ فغَطَّى وجه السماء وارتعى الأخضرَ
وباض في أرضها وفقس، فاشتد الغلاءُ وخفُت الناس من الجوع وانكسر طرفهم، وشره البدو
إلى المكاسب الدنيئة وأقبلوا ناشرين الأذن ومادين الأعناق، فأنزلوا بالناس «ما لا
يستحله عباد النار والأوثان».
٣٤ وجاء الوباء ثالثة الأثافي، وثقلت وطأتُهُ حتى بقي الموتى بدون دفن.
ميخائيل الثالث (١٣٩٥–١٤١٢)
وفي السادس من شباط سنة ١٣٩٥ تَسَلَّمَ ميخائيل الثالث عكاز الرعاية، وأرسل رسالة
الجلوس إلى زملائه، فإذا به يوافق بالاماس والصامتين، وجاء تيمورلنك في السنة ١٤٠٠،
فاضطر ميخائيل أن يُغادر دمشق إلى قبرص، ونهبت «بدلاته وعدته الكنسية وماله». ودون
في قبرص صفحات قليلة في تاريخ بطاركة أنطاكية في النصف الثاني من القرن الرابع عشر،
وقد حفظها للتاريخ بولس ابن الزعيم.
٣٥
وروى قسطنديوس القسطنطيني أن باخوميوس الثاني خلف ميخائيل الثالث، وأَنَّ مدة
رئاسته كانت سنة واحدة وأن يواكيم الثاني جاء بعده، فرَعَى المؤمنين خمس عشرة سنة؛
أي حتى السنة ١٤٢٦، ويذكر البطريرك القسطنطيني مرقس الثالث بعد يواكيم فيجعل مدة
رئاسته عشر سنوات (١٤٢٦–١٤٣٦).
٣٦
دوروثيوس الثاني (١٤٣٦–١٤٥١)
وهو أسقف ذينه (صيدنايا) رقي العرش
الأنطاكي في السنة ١٤٣٦، وجاهد في سبيل الأرثوذكسية، فراقب مجمع فراري بممثليه مرقس
متروبوليت أفسس وأسيدوروس متروبوليت كيف، واشترك في أعمال مجمع أوروشليم في السنة
١٤٤٤ ومجمع القسطنطينية في السنة ١٤٥٠؟ وسنذكر ذلك بالتفصيل عند الكلام عن مجمع
فراري.
وخلف دوروثيوس الثاني بموجب رواية قسطنديوس القسطنطيني ميخائيل الرابع
(١٤٥٤–١٤٦٢)، فمرقس الرابع (١٤٦٢–١٤٧٦)، فيواكيم الثالث (١٤٧٦–١٤٩٣)، فغريغوريوس
الثالث (١٤٩٣–١٥١١).
ميخائيل الرابع (١٤٥١–١٤٩٧)
ولا نعلم المراجع التي أخذ عنها البطريرك قسطنديوس، ولكنه جاء لمكاريوس ابن
الزعيم وبولس ابن الزعيم؛ أنه لدى وفاة دوروثيوس اجتمع أعيان دمشق ونادوا بمرقس
أسقف صيدنايا بطريركًا، وأن يواكيم متروبوليت بصرى وكيرلس متروبوليت بيروت ومرقص
متروبوليت الحصن ويوحنا متروبوليت أفخيتة وأفرايم متروبوليت حماة، وميخائيل أسقف
الزبداني ويواكيم أسقف يبرود ومكاريوس أسقف قارة وأرسانيوس أسقف عكة؛ اشتركوا في
تنصيبه وأن بطريركيته دامت ستًّا وأربعين سنة، وأنه تُوُفِّيَ في السنة ٧٠٠٦
للخليقة (١٤٩٧)، وأن دوروثيوس الصابوني خَلَفَه، وأن رئاسة هذا دامت ستًّا وعشرين سنة.
٣٧
الشماس موسى الجبيلي
ويغفل بعض الآباء الغربيين في الشرق البحثَ والتنقيبَ، ويهملون مراقبته فيتغنون
بخدمات الشماس موسى الجبيلي، ويقولون: «إنه عمل على اتحاد الكنائس، فصادفت أقواله
قبولًا لدى مرقس البطريرك الإسكندري والبطاركة الأنطاكيين ميخائيل الرابع ومرقس
الرابع ويواكيم الثالث، وأن مرقس الرابع أعاد اسم البابا إلى الذيبتيخة الأنطاكية،
وأن يواكيم الثالث ذهب إلى القدس وعمل مع مرقس الإسكندري على إقناع زميلهما
البطريرك الأوروشليمي بالرجوع إلى الاتحاد سنة ١٤٥٧، وأن هؤلاء البطاركة الثلاثة
فَوَّضُوا موسى الجبيلي إيصالَ وثائق اتحادهم إلى الحبر الأعظم، وأَنَّ موسى
وَقَّعَ صَكَّ الاتحاد بالنيابة عنهم في ٢١ نيسان سنة ١٤٦٠، وأن بيوس الثاني أمر
بتدوين ذلك في كتابٍ أحمر الجلدة، لا يزال محفوظًا في المكتبة الفاتيكانية.»
ويضيفون أن هذا الاتحاد استمر حتى السنة ١٥١٦ سنة الفتح العثماني، وأن العلاقات مع
الغرب أصبحت ممتنعة عمليًّا، فأخذ نفوذ القسطنطينية يتزايد والاتحاد يتناقص.
٣٨
ويُعنَى علماء الكنيسة اللاتينية بتاريخ الكنيسة، ويصدرون بين السنة ١٩٤٧ والسنة
١٨٥٦ سبعة عشر مجلدًا بإشراف فليش ومارتان، ويتولَّى روجه أوبيناس
Aobenas الأستاذ في كلية الحقوق في إيكس بروفانس
كتابة الفصل عن بيوس الثاني، فيهمل ذكر موسى
الجبيلي وعمله العظيم، ويكتفي بالقول إنه لمناسبة سقوط القسطنطينية واهتمام بيوس
الثاني بصليبية جديدة أمَّ رومة من الشرق عددٌ من السفراء الكاذبين، الذين
ادَّعَوْا أنهم يمثلون بُلدانهم، فأضاعوا المصلحة العامة بعجرفتهم وغموضهم،
٣٩ ولعله يرى موسى أحد هؤلاء.
وكان الأبُ موسه قد طرق الموضوع نفسه في السنة ١٩٤٨ في كتابه تاريخ النصرانية،
فدَوَّنَ أخبار موسى الجُبيلي، ولكنه احتاط فَأَشَارَ إلى موقف العالم الألماني فون
باستور من هذه الرواية،
٤٠ أما فون باستور فإنه يرى أن بيوس الثاني نفسه شَكَّ في صدق موسى وفي
صحة الوثائق التي قَدَّمَها، فامتنع عن أي إشارة إلى هذا الحادث الذي لو صح لكان جليلًا.
٤١
المماليك والكنيسة
وعمل المماليكُ ببعض النصوص الشرعية
القديمة وباجتهادات بعض الفقهاء، فضيقوا على النصارى وأوجبوا الحَدَّ من نُفُوذهم،
ففي السنة ١٢٧٧ «هدم شيخ الملك الظاهر كنيسة النصارى بالقدس وقَتَلَ قسيسها بيده
وعملها زاويةً، وهدم كنيسة الروم بالإسكندرية، وهي كرسي كنائسهم، يعقدون بها
البتركة ويزعمون أن رأس يحيى بن زكريا — عليهما السلام — فيها، وجعلها مسجدًا
وسماها المدرسة الخضراء.»
٤٢ وفي السنة ١٣٦٤ «ورد الخبر بمنازلة الفرنج مدينة الإسكندرية، فتتبعت
النصارى وأحضر البطريق والنصارى وألزموا بحمل أموالهم لفكاك أسرى المسلمين، وكتب
بذلك إلى البلاد الشامية.»
٤٣ وفي السنة ١٤٤٢ «ختم على كنائس النصارى الملكيين في مصر؛ لأنه وجد
داخلها أعمدة كدان من الحجارة المنحوتة وأكتاف جدد، وحصل على جميع أهل الطوائف من
أهل الذمة من الإهانة والتغريم ما لا مزيد عليه.»
٤٤ وفي السنة ١٤٤٧ «أمر السلطان بهدم كنيسة النصارى الملكيين التي بقصر
الشمع في مصر، وأمر ببيع أنقاضها وأن يعمر بثمنها المسجد القديم الذي كان بجانبها،
وجعل كرسي البطريرك منبرًا، وأخذت جميع عددها من زجاج ونحاس وجعلت في الجامع.»
٤٥ وفي السنة ١٤٤٨ «توفي السيد أحمد بن حسن بن علي الشافعي الشهير
بالنعماني، وكان نقمة على أهل الذمة في ما يجددونه في كنائسهم، وقال لي صاحبنا
الشيخ برهان الدين النعماني إنه أسلم على يده ثمانون كافرًا، وإنه لم يبق في قصر
الشمع ولا في الجيزة ولا في المدينة كنيسة لليهود ولا للنصارى إلا وقد شملها من
السيد إما هدم وإما بعض هدم وإما إزالة منبر أو قونوة وهي الأخشاب التي تصنع فيها
التماثيل، أو إزالة حجاب وهي المقاصير التي تجعل على الهياكل.»
٤٦
وفي أيام السلطان الملك الظاهر جقمق «جهز خاصكيًّا اسمه أينال باي، فحضر إلى
القدس الشريف بمرسوم من الملك الظاهر بالكشف على الديارات، وبهدم ما استجد بدير
صهيون وغيره وانتزاع قبر داود — عليه السلام — من النصارى، فهدم البناء المستجد
بصهيون وأخرج قبر داود من أيدي النصارى ونبشتْ عظام الرهبان المدفونين بالقبو الذي
به قبر داود، وأخرج المسجد من دير السريان وسلم للشيخ محمد المثمر وصار زاوية، وهدم
البناء المستجد ببيت لحم وبالقمامة (القيامة) وقلع الدرابزين الخشب المستجد
بالقمامة وأخذ إلى المسجد الأقصى بالتكبير والتهليل، وكشفت جميع الديارات وهدم ما
استجد بها، وكان ذلك في أواخر عمر السلطان، فختم الله أعماله بالصالحات وإزالة
الديارات المنكرات.»
٤٧
أيمان النصارى
والأيمان جمع اليمين؛ أي القسم، وكانت تُطلب مِنَ النصارى في أوقات الهدى
والمصالحات ويخلف بها بعض قواد البحر والرسل الواردين للموادعة والموافقة،
٤٨ ونقل القلقشنديُّ في كتابه صبح الأعشى، عن محمد بن عمر المدائني أن أصل
ترتيب أيمان النصارى كان في زمان الفضل بن الربيع وزير الخليفة هارون الرشيد، وحكي
عن بعض كُتاب العراق فقال:
أراد الفضل بن الربيع أن يستحلف عونًا كاتبه النصراني فلم يدرِ كيف
يستحلفه، فقلت: ولني استحلافه، قال: دونك، فقلت له: احلف بإلهك الذي لا
تعبد غيره ولا تدين إلا له، وإلا فخلعت النصرانية وبرئت من المعمودية،
وطرحت على المذبح خرقة حيضة يهودية وقلت في المسيح ما يقوله المسلمون: «إن
عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب.» وإلا فلعنك البطريرك الأكبر
والمطارنة والشمامسة والقمامسة والديرانيون وأصحاب المجامع عند مجتمع
الجنائز وتقريب القربان وبما استغاثت به النصارى ليسوع، وإلا فعليك حرم
الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًا الذين خرجوا من نيقية حتى أقاموا عمود
النصرانية، وإلا فشققت الناقوس وطبخت به لحم جمل وأكلته يوم الاثنين مدخل
الصوم ورميت الشاهد بعشرين حجرًا جاحدًا بها، وهدمت كنيسة لد وبنيت بها
كنيسة اليهود وخرقت غفارة مريم وكهنونة داود، وأنت حنيف مسلم، وهذه اليمين
لازمة لك ولعقبك من بعدك.
٤٩
تواقيع البطاركة
والتوقيع في عهد المماليك هو البراءة، وأقدم البراءات براءة البطريرك داود الخوري
الأنطاكي، وقد سبقت الإشارةُ إليه وإلى تَقَرُّبِهِ من رومة وخضوعه لحبرها، وإليك
نصها — كما حفظه القلقشندي:
الطرة
توقيع كريم بأن يستقر البطريرك المحتشم المبجل داود الخوري، المشكور
بعقله لدى الملوك والسلاطين — وفقه الله تعالى — بطريرك الملكية بالمملكة
الشريفة الشامية المحروسة، حسبما اختاره أهل ملته المقيمون بالشام المحروس،
ورغبوا فيه، وكتبوا خطوطهم به، وسألونا تقريره دون غيره، حسبما رسم به على
ما شرح فيه، رسم بالأمر لا زال يعز بالالتجاء إلى حرمة من يأوي إليه ويقصد
عدله من أهل الملل ويعتمد عليه أن يستقر فلانٌ — وفقه الله — بطريرك
الملكية بالمملكة الشامية المحروسة، حسبما اختاره أهل ملته المقيمون بالشام
المحروس ورغبوا فيه وكتبوا خطوطهم به وسألوا تقريره في ذلك دون غيره؛ أنه
هو كبير ملته والحاكم عليهم ما امتد في مدته، وإليه مرجعهم في التحريم
والتحليل وفي الحكم بينهم بما أنزل الله تعالى في التوراة ولم ينسخ في
الإنجيل، وشريعته مبنيةٌ على المسامحة والاحتمال والصبر على الأذى وعدم
الاكتراث به والاحتفال، فخذ نفسك بالأول بهذه الآداب، واعلمْ بأنك في
المدخل إلى شريعتك طريقٌ إلى الباب فتَخَلَّقْ من الأخلاق بكل جميل ولا
تَستكثر من متاع الدنيا؛ فإنه قليل، وقدِّم المصالحة بين المتحاكمين إليك
قبل الفصل البت؛ فإن الصلح — كما قيل — سيد الأحكام، وهو قاعدةُ دينك
المسيحي ولم تخالف فيه المحمدية الغراء دين الإسلام، ونظفْ صدورَ إخوانك من
الغل، ولا تقتنعْ بما ينظفه ماء المعمودية من الأجسام.
وإليك الأمرُ في البيع، وأنت رأس جماعتك، والكل لك تبع، فإياك أَنْ
تتخذها لك تجارةً مربحةً أو تقتطع بها مال نصراني يقربه، فإنه ما يكون قد
قربه إلى المذبح وإنما ذبحه، وكذلك الديارات والقلالي يتعين عليه أن يتفقد
فيها كل أمر في الأيام والليالي، وليجتهد في إجراء أُمُورها على ما فيه
دَفْعُ الشبهات، ويعلم أنهم إنما اعتزلوا فيها للتَّعَبُّد فلا يدعها تتخذ
منتزهات، فهم إنما أحدثوا هذه الرهبانية للتقلُّل في هذه الدنيا والتعفف عن
الفروج، وحبسوا فيها أنفسهم حتى إن أكثرهم إذا دخل إليها ما يعود يبقى له
خروج، فليحذرهم من عملها مصيدة للمال أو خلوة له، ولكن بالنساء حرامًا
ويكون إنما تنزه عن الحلال، وإياه ثم إياه أن يؤوي إليه من الغرباء
القادمين عليه من يريب، أو يكتم عن الإنهاء إلينا مشكل أمر ورد عليه من
بعيد أو قريب، ثم الحذر الحذر من إخفاء كتاب يرد إليه من أحد من الملوك، ثم
الحذر الحذر من الكتابة إليهم أو المشي على هذا السلوك، وليتجنب البحر
وإياه من اقتحامه؛ فإنه يغرق أو تلقي ما يلقيه إليه جناح غراب منه فإنه
بالبين ينعق.
والتَّقْوى مأمور بها أهل كل ملة وكل موافق ومخالف في القبلة فليكنْ عمله
بها، وفي الكتابة ما يغني عن التصريح، وفيها رضى الله تعالى وبها أمر المسيح.
٥٠
ونقل القلقشندي
٥١ توقيعًا سلطانيًّا ثانيًا وجهه السلطان إلى البطريرك الأنطاكي ميخائيل
إما الثاني أو الثالث؛ لأنه بين وفاة العمري ناسخ وصية البطاركة التي تضمنها
التوقيعُ السابقُ (١٣٤٨)، وسنة فراغ القلقشندي من كتابة صبح الأعشى (١٤١٢) قام على
الكرسي الأنطاكي بطريركان تَسَمَّى كُلٌّ منهما باسم ميخائيل،
٥٢ وأَهَمُّ ما يلفت النظر في هذا التوقيعِ السلطاني خلوُّهُ من الإشارة
إلى الباب؛ أي البابا، ولا غرو فداود انفرد بخضوعه لرومة ولم يرد اسمُهُ في لوائح
البطاركة الأرثوذكسيين، وهذا هو نص التوقيع الثاني:
أما بعد حمد الله الذي جعلنا نشمل كل طائفة بمزيد الإحسان ونفيض من
دولتنا الشريفة على كل بلد اطمئنانًا لكل بلد وإيمان، ونقر عليهم من
اختاروه ونراعيهم بمزيد الفضل والامتناع، والشهادة بأن الله الذي لا إله
إلا هو الواحد الذي ليس في وحدانيته قولان، والفرد المنزه عن الجوهر
والأقنوم والوالد والولد والحلول والحدثان، شهادة أظهر إقرارها اللسان
وعَمَّتْ بها الجوارحُ والأركان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده
ورسوله المبعوث إلى كافة الملل والإنس والجان، الذي بشر به عيسى وآمن به
موسى وأنزل عموم رسالته في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فصح النقل
بنبوته وآدم في الماء والطين وأوضح بذلك البرهان، وعلى آله وصحبه الذين
ساروا بإخلاص الوحدانية وشادوا أركان الملكة المحمدية وأَعَزُّوا الإيمان
وأزالوا الطغيان، صلاةً ينفح طيبها ويفصح خطيبها ويفرح بها الرحمن.
فإن أولى من أقمناه بطريركًا على طائفة النصارى الملكية على ما يقتضيه
دين النصرانية والملة العيسوية حاكمًا في أُمُورهم مفصحًا عما كمن في
صدورهم؛ مَنْ هو أهلٌ لهذه البطريركية وعارف بالملة المسيحية، اختاره لها
أهلُ طائفته؛ لما يعلمون من خبرته ومعرفته وكفايته ودربته، وندب إلى ولاية
يستحقها على أبناء جنسه ورغب في سلوكها له مع إطابة نفسه، مع ما له من
معرفة سرت أخبارها وظهرت بين النصارى آثارها، وكان البطريرك ميخائيل أدام
الله بهجته هو من النصارى الملكية بالمعرفة مذكور وسيره بينهم مشهور،
القائم فيها بالسيرة الحسنة، والسالك في مذهبهم سيرًا تشكره عليها
الألسنة.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال إحسانه العميم لكل طائفة شاملة وبره
الجسيم لسائر الملل بالفضل متواصلًا أن يستقر بطركًا على النصارى الملكية
بالشام وأعماله على عادة من تقدمه بذلك، وتقوية يده على أهل ملته من تقادُم
السنين بحُكم رضاهم، ومنع من يعارضه في ذلك حملًا على ما بيده من التوقيعِ
الكريم المستمر حكمه إلى آخر وقت.
فليباشرْ هذه البطريركية مباشرة محمودة العواقب مشكورة؛ لما تجلت به من
جميل المناقب، وليحكم بينهم بمقتضى مذهبه، وليسرْ فيهم سيرًا جميلًا ليحصل
لهم غايةُ قصده ومأربه، ولينظرْ في أحوالهم بالرحمة، وليعملْ بتعلقاتهم
بصدق القصد والهمة، وليسلك الطرق الواضحة الجلية، وليتخلقْ بالأخلاق
المرضية، وليفصل بينهم بحكم مذهبه في مواريثهم وأنكحتهم. وليعتمد الزهد في
أموالهم وأمتعتهم؛ حتى يكون كُلُّ كبير منهم وصغير ممتثلًا لأمره واقفًا
عندما يتقدم به إليه في سره وجهره، منتصبين لإقامة حرمته وتنفيذ أمره
وكلمته، وليحسن النظر في من عنده من الرهبان، وليرفق بذوي الحاجات والضعفاء
من النساء والصبيان، والأساقفة والمطارنة والقسيسين زيادة للإحسان إحسانًا
جاريًا في المساء والصباح والغدو والرواح.
فليمتثلوا أمره بالطاعة والإذعان وليجيبوا نهيه من غير خلاف ولا توان،
ولا يمكن النصارى في الكنائس من دق الناقوس،
٥٣ ورفع أصواتهم بالضجيج ولا سيما عند أوقات الأذان لإقامة
الناموس، وليتقدم إلى جميع النصارى بأن
كلا منهم يلزم زيه وما جاءت به الشروطُ العمرية عمر بن الخطاب — رضي الله
عنه — لتكون أحوالُهُم في جميع البلاد مرعية، وليخش عالم الخفيات، ويستعمل
الأناة والصبر في جميع الحالات، والوصايا كثيرةٌ وهو بها عارفٌ، والله
يلهمه الرشد والمعارف.
ومما تَجْدُرُ الإشارةُ إليه لهذه المناسبة التنبيهُ السلطاني بوجوب التقيد بشروط
عهدة عمر بن الخطاب واعتبارها واجبة شرعًا.
قضية الباب
والباب في «المصطلح الشريف» عند المماليك هو البابا، وقد ورد هذا اللفظ غير مرة
في كتابات الديوان السلطاني وفي بعض التواريخ؛ ففي التوقيع السلطاني الذي وجه إلى
البطريرك داود الخوري العبارة: «واعلمْ أنك في المدخل إلى شريعتك طريق إلى الباب.»
وقد جاء في مخطوط باريس رقم ٤٤٣٩، وهو من نوع كتابي التعريف للعمري وصبح الأعشى
للقلقشندي، كلامٌ عن بطاركة النصارى ووصف لبعض تقاليدهم، وجاء أيضًا أن أول
البطاركة هو الباب بتفخيم البائين وأنه بترك الملكية، وأن الثاني بطرك الملكانية
بكرسي أنطاكية، وأن ولاية هذا من الأبواب الشريفة، وأنه «بعد كتابة محضر من النصارى
الملكانية باستحقاقه يكتب محضر ثاني ويجهزونه النصارى إلى الباب برومية، فيقف عليه
ويجهز لهم استمرار الولاية إلى أنطاكية.»
وكان في أمل صديقنا المرحوم حبيب الزيات أَنْ يكون أَمْرُ رومة في العصور الغابرة
مُطاعًا في جميع فُرُوع الكنيسة الجامعة، وأن يكون لها القولُ الفصلُ في الأُمُور
الهامة، فما إن اطلع على هذه العبارات في القلقشندي وفي مخطوط باريز حتى ظن أنه بلغ
ما في نفسه، فصنف رسالة أسماها «الملكانيون يدينون بطاعة الباب» خلص فيها إلى القول
إن الملكيين الأنطاكيين أصبحوا بعد قدوم الصليبين فرعين مستقلين؛ الأول منهما كان
باقيًا على حالته السابقة خارج الإمارات الصليبية، له أساقفةٌ ورؤساء متفردون، وهم
الذين أشار إليهم كاتب مخطوط باريس؛ أي أولئك الذين «يجهز البابا لبطاركتهم استمرار
الولاية»، والفرع الثاني في نظر الزيات كان داخل حدود الإمارات الصليبية، وكانت
تتجاذبه أطماع فئتين فئة الروم البيزنطيين حينما كان يشتد نفوذهم في أنطاكية وفئة
الصليبيين الذين كانوا يترصدون الفرص للتغلب على
الكنائس والأديار، ثم يخلص صديقنا الزيات إلى القول: «وكان يتفق أحيانًا أن يختار
بطريرك أنطاكية من بين صنائع القسطنطينية، فيلبث في مكانه لتعذُّر السفر عليه إلى
أنطاكية أو لمانع آخر، فيلبس لكل حالة لبوسها وينحاز بالطبع — أو بالضرورة — إلى
أهواء بطاركة القسطنطينية ويحاربهم في سياستهم ونفورهم من اللاتين، فيظن مَن لا
معرفة له بالحقيقة أن الكرسي الأنطاكي بأسره الذي يمثله بشخصه كان مشايعًا لشقاق
كيرولاريوس، في حين أن البطريرك إنما كان يتكلم باسمه الخاص دون موافقة أساقفته
وشعبه في ديار الإسلام، وإذا صح قط أن أحد أحبار الكرسي المقيمين في الديار الرومية
أو أنطاكية جاهر بشيء في ذلك فيكون قد نطق بلسانه وعبر عن جنانه، وهو بعيد عن كرسيه
غريب عن شعبه المستقر في الديار الإسلامية، وشتان بين قوم من البيزنطيين كان الحقد
السياسي أو الجنسي المتأثل في صدورهم، ولا سيما بعد انتزاع الصليبيين القسطنطينية،
يملي عليهم عبارات الخصام والخلاف لكرسي رومة وبين أقوام من العائشين في ذمة
الإسلام تنزهوا عن هذه الأغراض وبرئوا من هذه الأمراض، وجاروا الصليبيين وانقادوا
للأساقفة اللاتين منذ القرن الحادي عشر.»
٥٤
وكلنا يقول بدستور واحد وبكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية، وكلنا أيضًا يصلي «من
أجل ثبات كنائس الله المقدسة واتحاد الكل». ولكن القضية قضيةٌ تاريخيةٌ علميةٌ، يجب
أن تُعَالَج معالجة علمية للتوصل إلى الحقيقة وتشخيص الداء الذي منه نشكو منذ
تسعمائة سنة لنوفق — بعون الله — إلى وصف الدواء، ونحن لا ننكر خضوع البطريرك داود
لرومة، وقد أبنا ذلك في محله، ولكننا لا نرى في العبارة التي وردت في مخطوط باريس
رقم ٤٤٣٩، التي تفيد أن النصارى كانوا يكتبون محضرًا باستحقاق بطريركهم، ويجهزونه
إلى الباب في رومة، فيقف عليه ويجهز لهم استمرار الولاية إلى أنطاكية، نقول لا نرى
في هذا القول دليلًا علميًّا كافيًا يخول الزيات استنتاجه الذي ورد أعلاه، فالزيات
يعترف في رسالته هذه نفسها أن المخطوط الباريسي «غفل من اسم المؤلف ومن تاريخ
التأليف والنسخ».
٥٥ وبالتالي فنحن أمام روايةٍ مجهولٌ راويها، وقواعد المصطلح تقضي بالتثبت
من هوية الراوي والتعرف إلى شخصيته وسبر غوره، ودرس المحيط الذي عاش فيه لضبط
أمياله ونزعاته ودرجة علمه وذكائه واتصاله
بالحوادث التي يروي أخبارها، والروايات التاريخية هي صلتُنا الوحيدة بحوادث الماضي،
فإن أخبرتنا الخبر على حقه توصلنا إلى الحقيقة، وإن أرجفت أوقعتْنا في مهاوي الضلال
والتضليل، فمن قال إن نصارى أنطاكية كانوا يجهزون المحاضر إلى بابا رومة فيجهز
لبطاركتهم استمرار الولاية؟ وأين عاش هذا الراوي ومتى، وماذا كانت مكانته؟ وجواب
الزيات عن هذه الأسئلة الأساسية هو لا أدري! وردنا نحن أن رواية الراوي المجهول
تبقى ضعيفة واهية ما دام راويها مجهولًا.
وقال الزيات — رحمه الله — في الصفحة ٦٩ من رسالته إن حب التحقيق دعاهُ إلى السفر
إلى رومة للبحث في خزائن الفاتيكان عن أحد هذه المحاضر التي كان الملكيون «يجهزونها
ويلتمسون بها من البابا إقرار انتخاب بطاركتهم». فغُم حين علم أن كل ما كان محفوظًا
في حاضرة الكثلكة من هذه المحاضر ضاع وتلف لما دخل رومة شارل الثامن ملك فرنسة سنة
١٤٩٣ وأطلق أيدي جنوده في السلب والنهب والحريق. وأضاف الزيات: إن كل ما هو في
خزائن مجمع نشر الإيمان من الكتابات والأخبار الملكية لا يتجاوز اليوم أوائل القرن
السابع عشر، فيترتب علينا — والحالة هذه — أن نقول: إن مخطوط باريس غفل من اسم
المؤلف ومن تاريخ التأليف والنسخ، وإنه ليس هناك في رومة ما يثبت قول هذا المؤلف:
إن نصارى أنطاكية كانوا يجهزون رومة بالمحاضر لتجهز بطاركتهم باستمرار الولاية، ولا
يجوز لنا «افتراض» وجود هذه المحاضر في رومة قبل السنة ١٤٩٣ سنة السلب والنهب
والحريق؛ لأنه ليس لدينا ما يُخولنا هذا «الافتراض». وبالتالي فقولُ الزيات: «إن ما
كان محفوظًا من هذه المحاضر ضاع وتلف.» هو قولٌ خطيرٌ صادرٌ عن غير روية.
ولم يجد الزيات في براءة البطريرك ميخائيل التي نقلها القلقشندي العبارة: «واعلم
بأنك في المدخل إلى شريعتك طريق إلى الباب.» تلك التي وردت في براءة البطريرك داود
فضلَّ وجهة أمره ونعت كاتب براءة البطريرك ميخائيل «بجعجعة الألفاظ دون غناء غلب
عليها التكرار لغير طائل!» ونحن نخشى أن يكون صديقنا قد تغاضى وتغابى، ونرى في
إسقاط الإشارة إلى «الباب» في براءة البطريرك ميخائيل وإثباتها في براءة البطريرك
داود؛ مجالًا للقول إن السلطان علم بخضوع الواحد إلى البابا وامتناع الآخر، ودليلًا
على تيقظ الديوان السلطاني لا على جعجعة كتَّابه.
وقد يكون كلام مؤلفنا المجهول صاحب مخطوط باريس وصفًا لتقاليد الجاليات اللاتينية
في الإمارات الصليبية؛ فاللاتينُ ملكيون في عرفه والأرثوذكسيون المقيمون في هذه
الإمارات أُكرهوا على الخضوع لأساقفة اللاتين، وهذه الجاليات كانت تجهز المحاضر
باستحقاق بطاركتها فترسلها إلى رومة، والبابا كان يجهز — بدوره — استمرار الولاية
لهؤلاء البطاركة.
٥٦