تعاليم الإسلام
هو الله لا إله إلا هو رب العالمين، خلق السماوات والأرض وما بينهما، وقد اختار
أفرادًا من خلقه واتصل بهم بالوحي، ومن هؤلاء إبراهيم وموسى وعيسى، ومحمد رسوله
أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وعلى المسلم أن يقيم الصلاة ويؤتي
الزكاة، وعليه أن يبتعد عن الفحشاء والمنكر، وعليه أن يَعدِل ويعفو عند المقدرة،
وأن يفي بالوعد، ويصبر عند الشدائد، كما عليه أن يردَّ التحية بأحسنَ منها وأن
يستأنس قبل الدخول إلى بيوت الغير وأن يسلِّم على أهلها. والمؤمنون إخوة، أكرمُهم
عند الله أتقاهم، وعليهم طاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر منهم، ولا طاعة
لمخلوقٍ في معصية الخالق.
توجيه الجيوش إلى الشام (٦٣٣-٦٣٤)
وجاء الإسلام يدعو إلى محو التعصب للقبيلة ومنع الثأر وفرض الدية وأوجب دفع
الزكاة في أوانها، فتأثر به البعض وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار،
واستثقله آخرون وهم الأعراب، وعدَّ هؤلاء دفع الزكاة ضريبة ومذلة واعتبروها إتاوة
تدفع من قبيلة إلى أُخرى تتسلط عليها، ومن هنا قول قرة بن هبيرة لعمرو بن العاص:
«يا هذا، إن العرب لا تطيب لكم نفسًا بالإتاوة، فإن أعفيتموها من أخذ أموالها فتسمع
لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا تجتمع عليكم.»
٤ والواقعُ أن عددًا من القبائل رفض دفع الزكاة بعد محمد، وكانت قريشٌ لا
تزال تتأفف من تكسير الأصنام وتخشى أن تخسر مغانم الحج، وكان المهاجرون من اليهود
اليثربيين لا يزالون على حُدُود الروم يدسون ويفسدون، وكان الروم أنفسهم قد دخلوا
في حرب مع النبي لم تأتِ نتائجها في صالح المسلمين.
٥
فلما فرغ أبو بكر من أمر أهل الردة رأى توجيهَ الجيوش إلى الشام، فكتب إلى أهل
مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز يدعوهم للجهاد ويرغبهم فيه، «فسارع
الناس إليه بين محتسب وطامع»، وأتوا المدينة من كل أوب، فعقد ثلاثة ألوية لثلاثة
رجال؛ خالد بن العاص بن سعيد بن أمية، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص بن وائل
السهمي، واعترض عمر بن الخطاب على تعيين خالد بن سعيد؛ لأنه كان رجلًا فخورًا
متعصبًا، فعزله أبو بكر ودفع لواءه إلى يزيدَ بنِ أبي سفيان، فسار به ومعاوية أخوه
يحمله بين يديه، وكان العقد لكل من هؤلاء في بادئ الأمر على ثلاثة آلاف مقاتل، فما
زال أبو بكر يمدهم بالرجال حتى صار مع كل أمير سبعة آلاف وخمسمائة، وأمر الأمراء أن
يعقدوا لكل قبيلة لواء، وأن يسلك عمرو بن العاص طريق أيلة (العقبة) عامدًا لفلسطين،
وأمر يزيد وشرحبيل أن يسلُكا طريقَ تبوك.
٦
أجنادين وفحل
ونشط هرقل وجيَّش «فسرَّب بعضًا من جماعتِهِ وتجمع الباقي من النواحي»، وعقد
اللواء لأخيه ثيودوروس القبقلار،
١٠ وصعب على ثيودوروس أن يستجلي خطة خصمه في الحرب، ولعل سبب ذلك أن هذه
القبائل المغيرة لم تكن لها خطةٌ عسكريةٌ واضحة، وتقدم ثيودوروس ببطء فرابط في جلَّق
١١ أولًا ليحمي دمشق ويهدد القبائل الغازية، ثم اتجه جنوبًا للدفاع عن
المدينة المقدسة، فصمد في أجنادين بين القدس وغزة، فترفع خالد ولم يحفل بإمكانات
السلب والنهب، بل أسرع إلى الجنوب عبر شرق الأردن وجمع الجموع في وادي عربة، ثم دفع
بها إلى أجنادين، فنشبت معركة حامية في الثلاثين من تموز سنة ٦٣٤ كُتب النصر فيها
للعرب، فجلا الروم عن الأرياف في جنوب فلسطين وهمدوا وراء مستنقعات بيسان
Scythopolis فغلبوا فيها، فقاموا إلى فحل
Pella، فقوتلوا أشد قتال وأبرحه، وقتل بطريقهم
وتفرق الباقون في مدن الشام، وذلك في الخامس والعشرين من كانون الثاني سنة ٦٣٥،
وتحصَّن أهل فحل فحصرهم المسلمون حتى سألوا الأمان على أداء الجزية عن رءوسهم
والخروج عن أرضهم، فأُمِّنوا على أنفسهم وأموالهم ولم تهدم أسوارهم، ولم يبق للروم
في فلسطين سوى مدنها المحصنة المنيعة.
١٢
تطور في الهدف والخطة
وحدَّث أبو حفص الدمشقي عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي عن «عدةٍ»، منهم أبو بشر
مؤذن مسجد دمشق، أن «المسلمين» لما قدموا الشام كان كل أمير منهم يقصد إلى ناحية
ليغزوها ويبث غاراته فيها، فكان عمرو بن العاص يقصد لفلسطين وكان شرحبيل يقصد
للأردن وكان يزيدُ بن أبي سفيان يقصد «لأرض» دمشق،
١٣ وتُوُفي أبو بكر في الثالث والعشرين من آب سنة ٦٣٤، وتولى الخلافة بعده
عمر بن الخطاب، وبان عيب الروم وضعفهم وعيب
الفرس وانتهاء أمرهم، فتحول الغزو والسلب والسبي إلى فتح، وأصبح رائد المسلمين
السيطرة على الشام والبقاء فيها،
١٤ واتخذوا من السامريين واليهود «عيونًا وأدلاء لهم»،
١٥ وكان أمير الغزاة في عهد أبي بكر عمرو بن العاص، يقودهم عند الاقتضاء،
ثم تزعَّم غاراتهم خالدُ بن الوليد، فلما تطور الهدف وجاء عمر «ولَّى أبا عبيدة بن
الجرَّاح أمر الشام كله، وأمَّره الأمراء في الحرب والسلم، ففتح شرحبيل بن حسنة
طبرية صلحًا على أن يؤمن أهلها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ومنازلهم، إلا ما
جلَوا عنه وخلوه. وفتح جميع مدن الأردن على هذا الصلح فتحًا يسيرًا، ففتح بيسان
وسوسية وأفيق وجرش وبيت راسن وقدس والجولان وعكة وصورة وصفورية».
١٦
دمشق (٦٣٥)
وتوجه المسلمون إلى دمشق، فالتقَوا بالروم في مرج الصفر، فاقتتل الطرفان قتالًا
شديدًا «جَرَتْ في أثنائه الدماء في الماء وطحنت بها الطاحونة»، وجرح من المسلمين
أربعة آلاف، ثم ولَّى الكفرةُ منهزمين مغلولين لا يلوون على شيء حتى أتوا دمشق وبيت
المقدس، وأقام المسلمون خمس عشرة ليلة، ثم زحفوا على دمشق فأخذوا الغوطة وكنائسها
عنوة، وتحصن أهل المدينة وأغلقوا أبوابها في أوائل آذار السنة ٦٣٥،
١٧ وحاصر المسلمون دمشق ستة أشهر، وأهمل أمرها هرقل ولم يرسل النجدات،
فوقف أسقفها على السور في أيلول، فدعي له خالد، فإذا أتى سلم عليه وحادثه فقال له:
يا أبا سليمان إن أمركم مقبل، ولِي عليك عدة فصالحني عن هذه المدينة، فدعا خالد
بدواة وقرطاس فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى خالدُ بنُ الوليد أهلَ دمشق إذا دخلها، أعطاهم أمانًا على
أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم،
لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله
ﷺ والخلفاء والمؤمنين، لا يعرض لهم
إلا بخير إذا أعطوا الجزية.
ولما رأى الأسقف أن أبا عبيدة قد قارب دخول المدينة من باب الجابية؛ بدر إلى خالد
فصالحه وفتح له الباب الشرقي، فدخل والأسقف معه ناشرًا كتابه الذي كتبه له، فقال
بعض المسلمين: والله ما خالد بأمير، فكيف يجوز صلحُه؟ قال أبو عبيدة: إنه يجيز على
المسلمين أدناهم، وأجاز صلحَه وأمضاه، ولم يلتفت إلى ما فُتح عنوة، فصارت دمشق
صلحًا كلها.
١٨
«وزعم الهيثم بن عدي أن أهل دمشق صُولِحوا على أنصاف منازلهم وكنائسهم، وقال محمد
بن سعد: قال عبد الله الواقدي: قرأت كتاب خالد بن الوليد لأهل دمشق فلم أرَ فيه
أنصاف المنازل والكنائس، ولا أدري من أين جاء به مَن رواه، ولكن دمشق لَمَّا فُتحت
لحق بشرٌ كثيرٌ من أهلها بهرقل، وهو في أنطاكية، فكثرت فضول منازلها فنزلها المسلمون.»
١٩
ورُوِيَ عن الأوزاعي أنه قال: كانت الجزية في الشام في بدء الأمر جريبًا ودينارًا
على كل جمجمة، ثم وضعها عمر بن الخطاب على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الوَرِق
أربعين درهمًا وجعلهم طبقات، ورُوي أن اليهود كانوا كالذمة للنصارى؛ يؤدون إليهم
الخراج فدخلوا معهم في الصلح.
٢٠
يوم اليرموك (٦٣٦)
وكان هرقل في أثناء هذا كله يسعى بنشاط بين أنطاكية والرها؛ لتجييش قوة كبيرة
يتمكن بها من صد المسلمين وإنقاذ سورية الجنوبية وفلسطين والساحل، وبرغم خسارته
الكبيرة في الرجال إبان الحرب الفارسية، وبرغم قلة المال في الخزينة؛ فإنه حشد في
خريف السنة ٦٣٥ من الروم والأرمن والعرب بين الثلاثين والخمسين ألفًا، وأمَّر عليهم
ثيودوروس تريثوريوس، وأنفذهم في ربيع السنة ٦٣٦ إلى الجنوب، وكان خالد آنئذٍ في
حمص، فلما علم بقُدُوم هذا الجيش الكبير جلا عن حمص ودمشق وسائر المدن المجاورة،
وجمع ما لديه من الرجال خمسة وعشرين ألفًا، وانتقى الجابية فصمد فيها فأدركه الروم
وضربوه فدافع وانسحب إلى اليرموك، أحد روافد الأردن الشرقية.
ووصل الروم إلى اليرموك في تموز السنة ٦٣٦، وتناوش الفريقان وتناول بعضهم بعضًا
في معارك صغيرة ردحًا من الزمن، وفيما خالد ينتظر وصول المدد كان الروم يتخاصمون
فيما بينهم بدافع الحسد وقلة الانضباط، فانهزم ثيودوروس في عدد من تلك المناوشات،
فنادى الجند ببانس فسيلفسا، فأدى هذا الفساد إلى انسحاب القبائل العربية المسيحية
من معسكر الروم وامتناعهم عن القتال، فجاءت هذه الفوضى وجاء هذا الانسحاب في صالح
المسلمين، واغتنم خالد هذه الفرصة السانحة فقام بحركة التفاف حول الروم من الشرق،
ثم احتل الجسر فوق وادي الرقاد فحرم خصمه إمكان التراجع غربًا، وفي الثاني والعشرين
من آب سنة ٦٣٦ انقضَّ عليهم بفرسانه المجربين فقتل من قتل وشرَّد من شرَّد.
٢٥
يوم الجابية
وغزا المسلمون وغنموا، ثم غلبوا الروم في الميادين الطلقة، فحاصروا المدن المحصنة
فصالحت، واتسعت رقعة الدولة ودخل فيها ألوف مؤلفة من النصارى والمشركين واليهود،
وتدفقت الأموالُ على بيت المال وكَثُرَ طُلَّابُها واختلفوا في ما أصابهم منها،
وكان لا بدَّ من الدفاع عن هذه الدولة والنظر في أُمُور أهلها وسكانها، فقام عمر
إلى الجابية عاصمة الغساسنة في الجولان يصحبُهُ عددٌ من الصحابة، فاستدعى كبار
القادة والوجهاء وشاور؛ فقرر اتخاذ بعض الإجراءات الحربية والمالية والإدارية، وكان
ذلك في أثناء السنة ٦٣٨.
قضية الجزية
وذكر المسلمون الآية: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ
يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَاتِلُوا
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، ففرضوا جزية على رءوس
النصارى وخراجًا على أملاكهم.
وقُدِّر للمسلمين النصر على الروم في اليرموك، فأتى جبلةُ بن الأيهم ملك غسان
عمرَ بن الخطاب — وهو على نصرانيته — فعرض عمرُ عليه الإسلام وأداء الصدقة، فأبى
ذلك وقال: أُقيم على ديني وأؤدي الصدقة، فقال عمر: إن أقمت على دينك فأدِّ الجزية،
فأنف منها، فقال عمر: ما عندنا لك إلا واحدة من ثلاث؛ إما الإسلام وإما أداء الجزية
وإما الذهاب إلى حيث شئت، فدخل جبلة بلاد الروم في ثلاثين ألفًا، فلما بلغ ذلك عمر
ندم، وعاتبه عبادةُ بن الصامت فقال: لو قبلت منه الصدقة ثم تألفته لأسلم، فوجَّه
عمر عمير بن سعد الأنصاري إلى بلاد الروم وأمره أن يتلطف لجبلة ويدعوه إلى الرجوع
إلى بلاد الإسلام على أن يؤدي ما كان بذل من الصدقة ويقيم على دينه، فسار عمير حتى
دخل بلاد الروم وعرض على جبلة ما أمره عمر بعرضه فأبى إلا المقام في بلاد الروم.
٣٣
وكتب عمير بن سعد إلى عمر أنه أتى شق الفرات الشامي، وأرادَ مَن هناك مِن
بني تغلب على الإسلام، فأبوا وهموا باللحاق بأرض الروم، فكتب إليه عمر يأمره أن
يضعف عليهم «الصدقة» التي تؤخذ من المسلمين في كل سائمة وأرض.
٣٤
وتَقَدَّمَ أبو عبيدة في شمال سورية ووصل
إلى جبال اللكام، وغزا حبيب بن مسلمة الجرجومة فبدر أهلها في طلب الأمان «على أن لا
يؤخذوا بالجزية، وأن ينفَّلوا أسلاب مَن يقتلون مِن عدو المسلمين»، فوافق حبيب ودخل
الجراجمة في دولة الإسلام ولم يدفعوا الجزية.
٣٥
وصالحت حلبُ على جزية تؤديها كسائرِ مدن الشام، ولكنها احتفظتْ بحصنها، وقد مَرَّ
بنا كيف تنص روايةٌ من الروايات على أَنَّ المسلمين صالحوا سُكَّانَ بيت المقدس على
«شيء» يؤدونه وأعطوهم ما أحاط به حصنُهُم على أن يكون للمسلمين ما كان خارجًا،
وقوطع أهل اللاذقية على «خراج» يؤدونه، قَلُّوا أو كثروا!
ولما فتح عياض بن غنم الرها أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم «على أن لا
يُحدثوا كنيسة ولا بيعة ولا يُظهروا ناقوسًا ولا باعوثًا ولا صليبًا».
٣٦
عهدة عمر
ونظر عمر بن الخطاب نظرة فاتح مؤسسٍ فأمَّن وعدل وأنصف، واعتبر الدولة الفتية
دولة إسلامية تحمي الإسلام والمسلمين أولًا كما كانت دولة الروم دولة مسيحية تحمي
المسيحية والمسيحيين أولًا، ومن هنا قوله إلى عمرو بن العاص عندما حَلَّ القحط في
المدينة: «أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها.»
٣٧
وروى عبد الرحمن بن غنم الأشعري، الذي تُوفي سنة ٧٨ للهجرة: كتبنا لعمر بن الخطاب
— رضي الله عنه — حين صالح نصارى أهل الشام:
هذا كتاب عبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا، أنكم لَمَّا
قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا،
وشَرَطْنَا لكم على أنفسنا أن لا نُحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديرًا
ولا كنيسة ولا قلية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها ولا ما كان
مختطًّا منها في خُطط المسلمين في ليل ولا نهار، وأَنْ نوسع أبوابها للمارة
وابن السبيل، وأن نُنزل مَنْ مَرَّ بنا من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم، ولا
نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوسًا، ولا نكتم غشًّا للمسلمين، ولا
نعلِّم أولادنا القرآن ولا نُظهر شرعنا ولا ندعو إليه أحدًا، ولا نمنع
أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أراد، وأن نوقر المسلمين ونقوم
لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم من
قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني
بكناهم، ولا نركب بالسروج ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئًا من السلاح ولا
نحمله معنا، ولا ننقش على خواتمنا بالعربية ولا نَبيع الخمور، وأن نجزَّ
مقادم رءوسنا ونلزم زيَّنا حيثما كُنَّا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا،
ولا نُظهر صلبانَنا ولا كتبنا في شيء من طُرُق المسلمين ولا أسواقهم، ولا
نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربًا خفيفًا، ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في
كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانيننا ولا باعوثنا، ولا نرفع
أصواتنا مع موتانا، ولا نُظهر النيران في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم،
ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ولا
نتطلع إلى منازلهم.
وأتى الأشعري خليفة الخليفة وأطلعه على هذا النص، فزاد فيه:
ولا نضرب أحدًا من المسلمين، شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل مِلَّتِنا،
وقَبِلْنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيءٍ مما شرطناه لكم وضمنا على
أنفسنا فلا ذِمَّةَ لنا، وقد حل منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
٣٨
البطريرك مقدونيوس (٦٢٨–٦٤٠)
وكاد اليهود لأنسطاسيوس الثاني خليفة الرسولين وأمسكوه وعذَّبوه وجروه في شوارع
أنطاكية جرًّا، فقضى نحبه شهيدًا في السنة ٦٠٩، ثم كان ما كان من أمر الفرس وزحفهم،
فتولى السدة الرسولية الأنطاكية غريغوريوس الثاني، وكان آنئذٍ في القسطنطينية، فبات
ينتظر نهاية الحرب الفارسية؛ لينهض إلى أنطاكية ويُدير دَفَّةَ الرئاسة بنفسه،
وطالت الحربُ فطال انتظارُهُ، وتوفي في القسطنطينية بعيدًا عن أنطاكية في السنة
٦٢٠، وخلفه في الرئاسة أنسطاسيوس الثالث، وبقي في القسطنطينية حتى وفاته في السنة ٦٢٨.
٤٥
وكان سرجيوس البطريرك المسكوني قد بدأ يقول بالمشيئة الواحدة، ورغب في تعميم رأيه
وتدعيمه، فسعى لمقدونيوس أحد أصدقائه برئاسة كنيسة أنطاكية، وتسلَّم مقدونيوس عكاز
الرعاية في القسطنطينية، وبقي فيها،
٤٦ وقضت ظروفُ التقارب وتوحيد الصفوف بالاعتراف ببطريرك اليعاقبة أثناسيوس
الجمال بطريركًا على أنطاكية؛ مقابل اعترافه بالطبيعتين والمشيئة الواحدة، فأصبح هو
رئيسَ كنيسة أنطاكية المسئول، ثم تُوُفي أثناسيوس بعد هذا بقليل (٦٣١) فعادت السلطة
إلى يدِ مقدونيوس، ووافق مقدونيوس صديقَه سرجيوس، فأعلن قوله بالمشيئة الواحدة،
وسعى لتعميمه في أبرشيات أنطاكية، فقال هذا القول عددٌ كبيرٌ من الأساقفة والرهبان،
وبين هؤلاء رهبانُ القديس مارون — كما سبق وأشرنا
٤٧ — وظهر الإكثيسيس وقد سبق الكلام عنه، فأيده مقدونيوس وحث المؤمنين على
قبوله.
البطريرك جاورجيوس الأول (٦٤٠–٦٥٥)
واستمر العداء بين الروم والمسلمين، وأنفذ الرومُ حملة على مصر وحملة غيرها على
أنطاكية (٦٤٦)، وركب المسلمون البحرَ وهجموا على قبرص (٦٤٩) واحتلوا جزيرة أرواد
(٦٥٠) وانتصروا على أسطول الروم في «ذات الصواري» (٦٥٥)، فلم يتمكن جاورجيوس الأول
خلف مقدونيوس من الوصول إلى أنطاكية والإقامة فيها، فبقي في القسطنطينية حتى وفاته
في السنة ٦٥٥.
مجمع اللاتران (٦٤٩)
وتُوفي هرقل في السنة ٦٤١ وتولى العرش بعده في آنٍ واحدٍ كل مِن ولدَيه قسطنطين
الثاني وهرقلون على أن يحكما بإشراف الفسيلسة مرتينة زوجة هرقل الثانية ووالدة
هرقلون، وتُوفي قسطنطين الثاني في السنة ٦٤١ مسمومًا، فاتُّهمت مرتينة بقتل ابن
ضرتها، وتمرد الجند وأكرهوا مرتينة على إشراك قسطنطين الثالث ابن قسطنطين الثاني في
الحكم، ثم قطع لسان مرتينة وجدع أنف ابنها ونُفيا إلى رودوس، وتولى الحكم قسطنطين
الثالث (٦٤١–٦٦٨).
وكان هرقل قد أصدر في سنة ٦٣٨ الإكثيسيس الذي أوجب به القول بالمشيئة الواحدة،
وكان بيروس قد خلف سرجيوس على السدة المسكونية (٦٣٨) واضطرَّ أَنْ يتنازل على أثر
هياج الشعب في العاصمة ضد مرتينة ربيبته، فهاجر إلى إفريقية، وكان قد قام بينه وبين
مكسيموس المعترف جدالٌ علني (٦٤٥) انتهى باقتناع بيروس ورجوعه عن بدعة القول
بالمشيئة الواحدة.
فكتب بيروس إلى بولس الثاني خليفته على عرش كنيسة القسطنطينية يهدده بالقطع إن لم
يرجع عن الهرطقة ويرفع الإكثيسيس عن أبواب الكنائس، ورحل بيروس ومكسيموس معًا إلى
رومة فأَيَّدَهُما البابا ثيودوروس الأول (٦٤٢–٦٤٩)، فألغى قسطنطين الثالث
الإكثيسيس وأصدر التيبوس
Typos القانون (٦٤٨)
محظرًا به كل تعليم بالمشيئة الواحدة أو المشيئتين.
٤٨
وتُوفي غريغوريوس برايفيكتوس إفريقية وصديق بيروس وحاميه، فخشي بيروس ألا يتمكن
من العودة إلى عرش القسطنطينية، فالتجأ إلى أفلاطون إكسرخوس رابينه وعاد إلى القول
بالمشيئة الواحدة، فغضب البابا ثيودوروس ودعا مجمعًا محليًّا ثم زار قبر الرسول
مستجيرًا، وغمس «قلامسه
Calamus» قلمه في الدم
المقدس ووقع حارمًا بيروس.
٤٩
وانقضى أجلُ ثيودوروس الأول في الثالث عشر من أيار سنة ٦٤٩ فخلفه على السدة
الرومانية مرتينوس الأول (٦٤٩–٦٥٣)، وكان مرتينوس قد مثَّل
السدة الرومانية في القسطنطينية مدةً مِنَ الزمن
وخَبَرَ رجالَها، فلم يرَ فائدة في المفاوضة. فلما تسلَّم عكاز الرعاية دعا إلى
اللاتران عددًا كبيرًا من الأساقفة للنظر في أمر البدعة الجديدة، ولبَّى هذه الدعوة
مائة وخمسة أساقفة معظمهم من إيطالية وبعضهم من إفريقية، ووصل اسطفانوس أسقف دورة
في فلسطين، فاشترك في أعمال هذا المجمع، وحضر الجلسات عددٌ من القساوسة والرهبان
اليونانيين المقيمين في رومة آنئذٍ، وكان بين هؤلاء يوحنا رئيس دير القديس سابا
الفلسطيني وجاورجيوس رئيس دير قيليقي في رومة.
وأجمع الأعضاء على شجب التعاليم الجديدة واعتبارها خروجًا وهرطقة، فكانت جلسات
خمس، استمع فيها الآباءُ إلى قراءة جميع ما صُنف في المشيئة الواحدة، وإلى الأوامر
الإمبراطورية الصادرة في صددها، فاعتبروها جميعها من صنع سرجيوس وبيروس وبولس
بطاركة القسطنطينية وكيروس بطريرك الإسكندرية وثيودوروس أسقف فارانة، ثم نبذوها
وقطعوا هؤلاء البطاركة، وكرروا الاعتراف بالإيمان النيقاوي واقترحوا إضافة بند ينص
على القول بالمشيئتين.
٥٠
مرتينوس وأنطاكية وأوروشليم
وساء الآباءَ المجتمعين انتشارُ القول بالمشيئة الواحدة في أبرشيات أنطاكية
وأوروشليم، وعلموا بشغور الكرسي الأوروشليمي وبابتعاد بطاركة أنطاكية عن حقل عملهم
وقولهم بالمشيئة الواحدة، فأقام مرتينوس أسقف فيلادلفية (عمان) وكيلًا بطريركيًّا
على أبرشيات الكنيستين الأنطاكية والأوروشليمية، وحَضَّه على خلع كل أسقف يصر على
القول بالمشيئة الواحدة،
٥١ ووجه مرتينوس رسالة رعائية إلى المؤمنين في أنطاكية وأوروشليم، كما كتب
إلى بعض الشخصيات الكبيرة من الشعب والإكليروس، ومما جاء في هذه الرسائل أن
مقدونيوس انتحل الأسقفية لنفسه، وأن الكنيسة الجامعة لا تعرفه أسقفًا؛ لأنه يُوافق الهراطقة.
٥٢
ويلاحظ هنا أن هذه الرسائل التي صدرتْ في السنة ٦٤٩ اعتبَرت مقدونيوس مستمرًّا في
رئاسة الكنيسة الأنطاكية، وهو أمرٌ ذو بال يوجب بحثًا دقيقًا في تعيين السنوات التي
ترأس فيها كل من مقدونيوس وجاورجيوس ومكاريوس كنيسة أنطاكية.