لاوون الخامس والأيقونات
وسيطر نقفور وزير المال على بلاط إيرينية، وقبض عليها، وحبسها في أحد الأديرة،
فانتهى عهدُ هذه الفسيلسة في السنة ٨٠٢. وكان نقفور ساميَّ الأصل ولم يقل قول
إيرينة فلم ينفذ مقررات المجمع المسكوني السابع، ولكنه لم يضطهد من قال بإكرام
الأيقونات ولا هو شجعهم، وسقط نقفور في حرب البلغار في السنة ٨١١، وقطع البلغاريون
رأسه واتخذوا جمجمتَه كأسًا، وجُرح ابنه وولي عهده وتُوفي فتولى العرش ميخائيل
الأول صهره (٨١١–٨١٣).
وكان ميخائيل لطيف المعشر معجبًا بالرهبان فأبعد عن الوظائف جميع أعداد
الأيقونات، فأثار غضبهم ودفع بهم إلى التآمر، ومما زاد في الطين بلة أن البطريرك
نيقوفوروس تقسى في معاملة المهاجرين الذين نقلوا إلى العاصمة وتراقية من الولايات
النائية الجنوبية الشرقية؛ لتمسكهم بمذاهب لم تقرها المجامع المسكونية، فعادت
المشادة الدينية إلى ما كانت عليه مِن قبل، وكانت الحربُ البلغارية لا تزال ناشبة،
فأعد ميخائيل جيشًا وزحف إلى الجبهة في ربيع السنة ٨١٣، فدارت الدائرة عليه، فنادى
الجند بلاوون الأرمني أحد كبار القادة فسيلفسًا، فتنازل ميخائيل وترهب.
وأول ما فعله هذا الفسيلفس الأرمني لاوون الخامس (٨١٣–٨٢٠) أنه أقسم يمين الولاء
للكنيسة، وقطع وعدًا بأن يحافظ على عقائدها ومصالحها، ولكنه كان وصوليًّا، وكان
يعتمد على جنود آسيويين لا يحترمون الأيقونات ولا يرغبون في تكريمها، فما أن استتب
له الأمر وتخلص من خطر البلغار حتى نكث يمينه ونبذ عهد الولاء للكنيسة.
وكان مراوغًا مداورًا فبث بادئ ذي بدء في الأوساط الرسمية وغير الرسمية أن ما
حلَّ بالدولة من ضعف وما أَحدق بها من خطر إنما نشأ عن العودة إلى تكريم الأيقونات
وتقديسها، وبعد أن تمكن من جمع قرارات مجمع هييرية (٧٥٤) عقد مجلسًا في القصر ضمَّ
بعض وجهاء الطرفين المتخاصمين ممن قال بالأيقونات وممن حرمها، ودعا البطريرك
نيقوفوروس إلى هذا المجلس في خريف السنة ٨١٤ وثيودوروس رئيس دير الاستوديون، وطلب
إلى المجمعين أن يبحثوا في أمر الأيقونات، فأجابه ثيودوروس بصراحة وشدة أَنَّ البحث
في الأُمُور الدينية منوطٌ برجال الدين، وأن الواجب على الفسيلفس أن يطيع هؤلاء في
أُمُور الدين لا أن يغتصب دورهم اغتصابًا، وأن للفسيلفس أن يُعنَى بما سوى ذلك،
١ فأجاب لاوون بأنه لا يرغب في حمل الناس على الاستشهاد، وفي عيد الميلاد
من هذه السنة استمع القداس الإلهي في كنيسة الحكمة الإلهية مظهرًا الخشوع مكرمًا
الأيقونات، ولكنه في ربيع السنة ٨١٥ قبض على البطريرك نيقيفوروس ونفاه إلى
خريسوبوليس وأقام في موضعه علمانيًّا يُدعى ثيودوتوس، ثم عقد مجمعًا محليًّا في
نيسان سنة ٨١٥ في كنيسة الحكمة الإلهية ثبت فيه مقررات مجمع السنة ٧٥٤ وحرم تكريم الأيقونات،
٢ على أن لاوون الخامس كان أقل إسراعًا ممن سبقه إلى محاربة الأيقونات مع
أن مقاومة من كرَّم الأيقونات كانت أشد وأقوى من ذي قبل، فاكتفى لاوون بنفي
الأساقفة والرهبان وبحبسهم، وأشهر المنفيين بعد نيقوفوروس البطريرك ثيودوروس
الاستودي الذي كتب من منفاه في أزمير في السنة ٨١٩ يشدد عزائم الرهبان، كما أنه
استغاث ببابا رومة وبطاركة الشرق الثلاثة،
٣ وكان بين المنفيين ثيوفانس المؤرخ، فإنه أبعد إلى سموتراقية فتوفي في
السنة ٨١٧.
٤
الأحزاب والكنيسة
وكانت رومة الجديدة قد ورثت عن رومة القديمة أحزابها الأربعة؛ الزرق والخضر
والبيض والحمر، ثم انضم البيض إلى الخضر والحمر إلى الزرق، فانقسم سكان عاصمة الروم
وأمهات مدنهم إلى حزبين رئيسين إلى زرق وخضر، وكانت الكنيسة الأرثوذكسية (ولا تزال)
يونانية في فكرها ونظمها، فقالت بالديموقراطية وأشركت الشعب في جميع نواحي حياتها،
فلعبت الحزبية الشعبية دورًا هامًّا في أعمال هذه الكنيسة وأقوالها.
وشمل الزرق في ميدان السياسة الدينية الطبقتين الغنية والمتوسطة والرهبان
المتطرفين، ولا سيما الاستوديين، وانضوى إلى الخضر جمهور الشعب والرعاة والكهنة
ورهبان آخرون، وحارب الزرق العلوم الكلاسيكية القديمة فماشى العلماءُ الخضرَ في
غالب الأحيان، فانقسمت الكنيسة إلى زرق محافظين متطرفين Acribeia وإلى خضر طلقاء معتدلين Oeconomia.
واصطبغ الانقلاب الذي دبره الإمبراطور نيقيفوروس وأعوانه في السنة ٨٠٢ باللون
الأخضر، فأيده جمهور الشعب والأساقفة والكهنة، وقاومه الأغنياء والأشراف والرهبان،
وتُوفي طراسيوس البطريرك في السنة ٨٠٦، فرشح الزرق المتطرفون ثيودوروس الاستودي،
ولكن نيقيفوروس الإمبراطور آثر الاتزان والاعتدال، فأيَّد نيقيفوروس وزير المال
وجعل منه بطريركًا مسكونيًّا (٨٠٦–٨١٥)، فاعترض الزرق المتطرفون على شرطونية
البطريرك الجديد وقاوموه مقاومة عنيفة،
١٣ وتآمروا على حياة الإمبراطور،
١٤ وكان ما كان من أمر نيقيفوروس في حرب البلغار وسقوطه في ميدان القتال،
فتألب الزرق المتطرفون على ابنه وولي عهده، وأقاموا ميخائيل الأول إمبراطورًا محله،
وعلا شأن الاستوديين في عهد هذا الفسيلفس، ولكن قلة خبرتهم وتطرفهم في الرأي والعمل
أديا إلى الاندحار في الحرب، وإلى وصول لاوون الخامس إلى الحكم، وإلى تأجيل تكريم
الأيقونات ثلاثين سنة أخرى.
وخلف نيقيفوروس على السدة المسكونية ثيودوروس كسيتراس (٨١٥–٨٢١) وأنطونيوس
كاسيماتاس (٨٢١–٨٤٧) فيوحنا الكاتب (٨٣٧–٨٤٣)، وقالوا جميعهم برفع الأيقونات من
الكنائس وعدم تكريمها، وجاءت الفسيلسفة ثيودورة تكرم الأيقونات في السنة ٨٤٣،
فأنزلت يوحنا الكاتب عن الكرسي وراحت تفتش عن خلف له، وكانت متطرفة في عاطفتها
الدينية وقالت قول الاستوديين، ولكنها آثرت وصول بطريرك معتدل إلى الكرسي المسكوني تحوطًا،
١٥ وأوعزت بانتخاب مثوذيوس الصقلي العالم الكبير والتقي الورع وصديق زوجها المتوفى،
١٦ ورغب مثوذيوس رغبة أكيدة في المحافظة على السلم والوئام في الكنيسة،
فابتعد في انتقاء الأساقفة الجدد عن الأوساط المتطرفة، فأثار بذلك غضب الاستوديين
وأعوانهم، فهاجوا وماجوا وعابوا الأموات قبل الأحياء، فعادوا إلى الطعن في طراسيوس
ونيقيفوروس، واضطر مثوذيوس أن يقطعهم من الشركة.
١٧
وتوفي مثوذيوس في حزيران السنة ٨٤٧، ولحظ ثيوكتيستوس مستشار ثيودورة وعزيزها
تكتلًّا في الأوساط العلمية العالية حول برداس مناظره، ففتش هذه المرة عن خلف
لمثوذيوس في الأوساط المتطرفة، وقدم أغناطيوس ابن الفسيلفس ميخائيل الأول، ولم
يكترث لِما أبداه المعتدلون من تعلُّق بغريغوريوس اسبستوس صديق مثوذيوس ورئيس
أساقفة سرقوسة، وكان أغناطيوس قد اشتهر بورعه وغيرته على الدين والكنيسة، ولكنه كان
سريع الغضب معجبًا بنفسه مستبدًّا برأيه.
١٨
أغناطيوس وبرداس (٨٤٧–٨٥٧)
وظلت ثيودورة تدير دفة الحكم أربع عشرة سنة (٨٤٢–٨٥٦)، وفي خلال هذه المدة نشبت
مشادة بين ثيوكتيستوس وبرداس أخي ثيودورة، أهم أسبابها حب السلطة وشهوة الحكم، فنشأ
انقسام داخلي في مجلس الوصاية أدى إلى استقالة عمانوئيل عم الفسيلفس وإلى سجن
ثيوكتيستوس وقتله سنة ٨٥٤، وكان السبب المباشر وشاية رفعها برداس إلى الفسيلفس
الشاب أن ثيوكتيستوس عقد النية على التزوج من ثيودورة أو إحدى بناتها للوصول إلى
العرش، فنشأت مشادة عنيفة بين ثيودورة وأخيها برداس حول السلطة أدت في السنة ٨٥٦
إلى خروج ثيودورة وبناتها من القصر، وأصبح برداس صاحب الصول والطول.
وتُوفي أحد أبناء برداس فأقامت امرأته أفذوكية في بيت عمها برداس، ولم تكن الحماة
والكنة على مشرب واحد فاندلعت الشرور في البيت، وأظهر برداس عطفًا على كنته فاتهمته
زوجته بكنته، فطرد امرأته من البيت فالتجأت إلى أخته ثيودورة، فوبخ أغناطيوس برداس
ونهاه عن المحرم، ونصح له أن يقبل امرأته في بيته فأبى برداس، وفي عيد الظهور
الإلهي سنة ٨٥٧ تقدم برداس مع ميخائيل الثالث ليتناول الأسرار الإلهية، فأبى
البطريرك مناولته وطرده خارج الكنيسة، وحنق برداس على البطريرك أغناطيوس وطفق يسعى
للانتقام منه.
واتفق أن راهبًا ادعى أنه ابن ثيودورة من رجل كان لها في السابق، فأخذ الشعب ينظر
إليه كأنه هو الملك المزمَع بعد تَنَحِّيها، فقبض عليه برداس وزَجَّه في السجن
واستنطقه فلم يعترف، فأمر بقلع عينيه وقطع أوصاله، وكان البطريرك أغناطيوس يعطف على
هذا الراهب ويُدافع عنه ناسبًا عمله إلى الجنون، فاغتنم برداس الفرصة واتهم
البطريرك بالتآمر على الفسيلفس؛ ليرجع ثيودورة وبناتها إلى إدارة المملكة، فصدَّق
الفسيلفس كلام برداس وأمر أغناطيوس أن يجعل ثيودورة وبناتها راهبات في إحدى
الأديرة، فسألهن أغناطيوس هل يُردن الدخول في سلك الرهبنة فأنكرن، فامتنع عن إجابة
طلب الفسيلفس، فصدَّق ميخائيل أن البطريرك عدو له، فأكره والدته وأخواته على
الترهُّب، كما أوعز إلى أغناطيوس أن ينزل عن كرسيه، فلمس أغناطيوس تَعَقُّدَ الأمور
لَمْسَ اليد، وأدرك أنْ لا فائدة للكنيسة من بقائه في منصب الرئاسة، فاستعفى عن
رضًى واختيار، وأشار على الأساقفة أن ينتخبوا غيره «من أبناء الكنيسة»،
١٩ وليس من العلم بشيء أن نُصِرَّ على الغَي فنقول مع مرتينوس جوجي وإميل
أمان: إن أغناطيوس خُلع خلعًا.
٢٠
فوطيوس رئيس الكنيسة (٨٥٨)
وشاورت الحكومة وفاوضت الأساقفة فاتضح لها أن الأساقفة — أصدقاء أغناطيوس — رغبوا
في تطبيق القانون؛ أي في دعوة المجمع القسطنطيني إلى الانعقاد ليبحث القضية ويرفع
إلى الفسيلفس أسماء ثلاثة أساقفة يرى فيهم اللياقة والكفاءة لينتقي الفسيلفس
أفضلهم، فوافقت الحكومة على دعوة المجمع، وتوافد الآباء الأعضاء، ولكنهم كانوا قد
تخالفوا فيما بينهم وتشاقوا في عهد أغناطيوس، فانقسموا إلى متطرفين يؤيدون أغناطيوس
ومعتدلين يعارضونه كل المعارضة، ولدى اجتماعهم للبحث عن راعٍ صالح يخلف أغناطيوس
تفرقت كلمتهم واضطرب حبلهم، ثم توافقوا على أن يكون الخلف من كبار رجال الدولة
أصحاب الرأي والورع والتقوى، ولم يروا في عملهم هذا خروجًا كبيرًا على القوانين
والتقاليد، فطراسيوس ونيقيفوروس لم يكونا إكليريكيين قبل إجماع الكلمة على
انتخابهما، وهكذا فإن المجمع رفع إلى الفسيلفس أسماء ثلاثة، أحدهم أغناطيوسي متطرف،
والآخر معتدل معارض، والثالث حيادي — وهو فوطيوس — رئيس مجلس الوزراء
protoaskretis.
وأيد معظم الأساقفة من أتباع أغناطيوس المرشح الجديد؛ لأسباب، أهمها أنه كان
أرثوذكسيًّا لا غش فيه، وأنه تحمل العذاب في سبيل الدفاع عن الدين القويم في أثناء
حرب الأيقونات، وأنه كان أَعْلَمَ أهلِ عصره، وأنه لم يتظاهرْ بالعداوة لأغناطيوس،
وأنه كان يَمُتُّ بصلة النسب إلى ثيودورة الفسيلسة وإلى برداس في آنٍ واحدٍ.
٢١
وكان فوطيوس كريم الأصل، يرجع في نسبه إلى أسرة يونانية قديمة تتصل بالأسرة
المقدونية، وكان أبوه سرجيوس ابن أخي البطريرك طراسيوس، وكان سيافًا في القصر،
وكانت أم فوطيوس إيرينة شقيقة لعديل الفسيلفس ثيوفيلوس، واشتهر والداه بمناصرة
الرأي الأرثوذكسي واستشهدا لهذه الغاية، ونشأ فوطيوس في القسطنطينية وتلقى علومه
فيها، ثم تبحر واستبحر فأصبح واسع الاطلاع غزير المواد متقنًا لعلوم اللسان
اليوناني مطلعًا على آدابه بصيرًا بمذاهبه الفلسفية، وأحاط بسائر علوم زمانه كالفقه
والطب والفلك. وكان جزيل الورع فاضلًا لطيفًا وديعًا محبًّا للسلام، ولدى وصوله إلى
السدة البطريركية تضلع من علم اللاهوت وخاض عباب علم التفسير واستجلى
غوامضه.
وأشهر آثاره الفكرية مجموعة الميريوبيبلون
Myriobiblon «ألوف الكتب»، وفيها منتخبات من مئات المؤلفات
القديمة وتعليقات هامة عليها، وكتاب الليكسيكون
Lexicon في علوم اللغة وكتاب الأمفيلوخية
Amphilochia وفيه الأسئلة والأجوبة في مواضيع مختلفة، وله مقالات
ورسائل تحفظ رأيه في بعض المشاكل التي أثيرت في عهده،
٢٢ ولا يختلف اثنان — فيما نعلم — في عبقرية فوطيوس وعظمته وسمو مطلبه
وطهارة سيرته واستقامة عقيدته،
٢٣ واستوظف فوطيوس فتَسَنَّمَ أعلى المراتب فأصبح بروتوسباتاريوس «السياف
الأول؛ أي رئيس رجال المعية»، وبروتوسيكيرتيس؛ أي السكرتير الأول، ومستشارًا، وأول
عضو في المجلس الأعلى، وانتدب سفيرًا إلى شرقنا. وعلم فوطيوس في جامعة القسطنطينية،
وأصبح بيته دارًا للعلم والأدب والحكمة يؤمه الأدباء والعلماء في كل يوم.
وعلا فوطيوس درجات الكهنوت بسرعة، فسيم في اليوم الأول متوحدًا وفي اليوم الثاني
أناغنوسطسًا، وفي الثالث أيبوذياكونًا وفي الرابع شماسًا وفي الخامس قسًّا، وفي
السادس أسقفًا فبطريركًا، ولم يرَ الروم آنئذ في هذه الترقية الشذوذ الذي نراه
اليوم، فبولس الثالث سيم بطريركًا على القسطنطينية في السنة ٦٨٧ بهذه الطريقة
نفسها، وكذلك طراسيوس في السنة ٧٨٤، ونيقيفوروس في السنة ٨٠٦. ومما يَجدر قولُهُ
هنا أن رومة لم تمتنع عن الاعتراف بهؤلاء كما امتنعت عن الاعتراف بفوطيوس، وكان
المتقدم في شرطونية فوطيوس رئيس أساقفة سرقوسة غريغوريوس خصم أغناطيوس، ولكنه لم
ينفرد بالشرطنة — كما يزعم الأب جوجي،
٢٤ بل عاونه فيها أسقفان أغناطيوسيان آخران.
٢٥
وأدى «تقدم» غريغوريوس في شرطونية البطريرك الجديد إلى نفور أغناطيوس وخمسة
أساقفة معه، ورغبت الحكومة في السلم والوئام، فأشارت على فوطيوس بالتسوية، فاشترط
الأساقفة الخمسة على فوطيوس أن يجل زعيمهم أغناطيوس فيحسبه بطريركًا بريئًا من
التهم الموجهة إليه، وأن يمتنع من التفوُّه بشيء ضده، وأن يمنع غيره عن ذلك أيضًا،
٢٦ ويرى الأب جوجي أن فوطيوس وعد ألا يقبل في الشركة من يطعن بأغناطيوس،
٢٧ وهذا توسُّعٌ في تفسير النصوص لا تُجيزه قواعدُ المصطلح.
٢٨
وهكذا فإن روح التضحية الشخصية وإنكار الذات، التي تجلت بتنازل أغناطيوس عن
الكرسي، وبقبول فوطيوس بالشروط المفروضة؛ أنقذت الكنيسة القسطنطينية من الشقاق،
فكتب فوطيوس إلى زميله بطريرك أنطاكية يبشره بحلول السلام والوئام،
٢٩ ودوَّن نيقيناس خبر انتهاء المشادة والمشاحنة.
٣٠
ولكن الأحقاد ظلت توغر الصدور في الأوساط السياسية وتستوقد الغيظ، فثيودورة
وأعوانها كانوا لا يزالون يبطنون العداوة لمخائيل وبرداس وينصبون لهما الحبائل
الخفية، وكان أغناطيوس لا يزال يعطف على ثيودورة وكذلك بعض الاستوديين فإنهم ظلوا
حاقدين متنمرين مضمرين الحزازة والضغينة، ورأى فوطيوس أن يمنع الإكليروس عن مكاشفة
الحكومة بالعداوة، فاتهمه الأغناطيوسيون بالخيانة ونكث العهود، واجتمعوا في كنيسة
القديسة إيرينة ونادوا بأغناطيوس بطريركًا شرعيًّا وحرموا فوطيوس، فدعا فوطيوس
المجمع القسطنطيني إلى كنيسة الرسل لبحث المشكلة الجديدة، فاعتبر الآباء عمل
أغناطيوس وأعوانه غير قانوني، وأكدوا اللجوء إلى خلعه إن هو قبل الرئاسة مرة ثانية،
أو عاد إلى التجاوُز والتطرُّف الذي كان قد أدى إلى الشغب والفوضى في الكنيسة،
٣١ واشترك الأغناطيوسيون في أعمال هذا المجمع، ولكنهم لجئوا إلى التشويش،
فقمعت الحكومة هذه المقاومة بالقوة، ونفت أغناطيوس ونقولاوس رئيس دير الاستوديون
وغيرهما (٨٥٩).
٣٢
رسائل الجلوس (٨٦٠)
وقضى العرف بتوجيه رسائل الجلوس إلى سائر البطاركة لتنبئ بالانتخاب الجديد وتتضمن
اعترافًا بالإيمان المقدس،
٣٣ وكان الإمبراطور نيقيفوروس قد منع البطريرك نيقيفوروس عن توجيه رسالة
بالجلوس إلى بابا رومة؛ نظرًا لإقدام حبر رومة على شق الإمبراطورية والاعتراف
بإمبراطور غربي، ولم يرض الأباطرة محاربو الأيقونات عن إرسال هذه الرسائل إلى رومة؛
نظرًا للاختلاف في موقف الكنيستين الرومانية والقسطنطينية من الأيقونات، وذهبت
ثيودورة التقية وبطريركها مثوذيوس إلى أبعد من هذا، فامتنعا عن تبادل الرأي مع رومة
قبل العودة إلى إكرام الأيقونات المقدسة،
٣٤ واصطدم فوطيوس بامتناع الأغناطيوسيين عن الاعتراف بسلطته، فرأى من
الحكمة أن يوجه رسائل الجلوس إلى كل من بابا رومة وبابا الإسكندرية وبطريرك أنطاكية
وبطريرك أوروشليم؛ راجيًا أن يعينه اعتراف زملائه برسائلهم السلامية في تخفيف
الأزمة في القسطنطينية، فكتب في ربيع السنة ٨٦٠ إلى حبر رومة نقولاووس الأول وإلى
حبر الإسكندرية ميخائيل الأول وإلى حبر أوروشليم ثيودوسيوس وإلى أيكونوموس كنيسة
أنطاكية، وكان يتنازع الكرسي البطريركي في كنيستنا نقولاووس الأول البطريرك الشرعي
وأفستاثيوس متروبوليت صور، ولعل هذا هو السبب الذي حدا بفوطيوس أن يرسل كتاب الجلوس
باسم إيكونوموس الكنيسة الأنطاكية لا باسم البطريرك.
وجاء في رسالة الجلوس التي أرسلها فوطيوس إلى بطاركة الشرق — بعد الشكر لله على
إحساناته وعلى نعمة الكهنوت ما معناه: «إني عندما أتأمل في سمو الرتبة الأسقفية
وأنظر إلى الضعف البشري، ولا سيما حقارتي؛ يأخذني العجب وأحار في أمر أولئك الذي
يقدمون على إثقال كاهلهم بهذا الحمل المرهق، أما أنا فيعجز لساني عن وصف الحزن الذي
شملني لدى قبولي ذلك العبء الثقيل، إني لم أرتق السدة البطريركية إلا بعدما تنحى
عنها سلفي، ولأني لم أجد سبيلًا للتخلُّص من تلك المسئولية الكبرى التي اضطرني إلى
تحملها الكهنة والأساقفة، ولا سيما الفسيلفس.»
٣٥
فأبطأ الآباء البطاركة ريثما ينجلي الموقف، ثم تلقوا رسالة من زميلهم الأكبر بابا
رومة (٨٦١) أعلمهم فيها أنه لم يشترك في رسامة فوطيوس أو تنزيل أغناطيوس،
٣٦ فازدادوا تريثًا وباتوا ينتظرون تطور الموقف، ثم عاد فوطيوس فكتب إلى
توما متروبوليت صور يسأله ما إذا كانت الكنيسة الأنطاكية تعترف به فأجابه بالنفي،
٣٧ بيد أن أفستاثيوس منافس نقولاووس الأول عمد بعد حين إلى الاعتراف
بفوطيوس؛ لعله يستعين بهذا الاعتراف على خصمه نقولاووس، فشكر فوطيوس وطلب إليه أن
يقوم إلى القسطنطينية.
٣٨
المجمع الأول الثاني (٨٦١)
وفي أثناء هذا كله استؤنفت محاربة
الأيقونات وذر قرن الشقاق بين الأرثوذكسيين وأصحاب الطبيعة الواحدة، وهب البولسيون
والمانويون يشاغبون، فرأى الفسيلفس ومجلسه الأعلى والبطريرك الجديد أن يجمعوا
مجمعًا مسكونيًّا، وكانت الدعوة إلى هذه المجامع من حق الأباطرة، وقد مارسوها منذ
عهد قسطنطين الكبير،
٤٢ فضمن الفسيلفس رسالته إلى نقولاووس دعوة إلى مجمع مسكوني يعقد في
القسطنطينية للنظر في مشاكل كثيرة،
٤٣ فقبل نقولاووس الدعوة واعترض على أعمال مجمع كنيسة الرسل، ثم اقترح
إعادة النظر في قضية أغناطيوس أمام المجمع المسكوني، وبحضور ممثليه الأسقفين
رادولدو وزخريا؛ ليتسنى له الاطلاع على الحقيقة والعمل بموجب القوانين المرعية
الإجراء، وأشار — بعد هذا — إلى تعدي لاوون الأسوري على حقوق البطريركية الرومانية
وطلب إعادة ما سلخ عنها، وشمل هذا الطلب أبرشيات كلابرية وصقلية وأليرية ومقدونية
وتسالية وآخية وداقية وميسية وبريفاليتانية،
٤٤ ويرى الأب إميل أمان أن اللوم في هذا التوسع في الطلب يجب أن يقع على
أنسطاسيوس سكرتير البابا لا على نقولاووس نفسه.
٤٥
والتأم المجمع في ربيع السنة ٨٦١ فأعلن
بولس متروبوليت قيصرية قبدوقية في الجلسة الأولى أنه لا حاجة لإعادة النظر في قضية
أغناطيوس؛ لأنه خلع لذنوب اقترفها، وأن كنيسة القسطنطينية تعتبر مشكلة أغناطيوس
قضية مفروغًا منها، ولكن إكرامًا للقديس بطرس وللأب المسكوني الأقدس نقولاووس لا
مانع من النظر في هذه ثانية،
٤٦ ومثل أغناطيوس أمام المجمع وحُقق معه في كيفية ارتقائه إلى الكرسي، وما
إذا كان قد انتخب انتخابًا أو عُيِّن تعيينًا، فأجاب أن امرأة رفعت طراسيوس قبله
إلى الكرسي نفسه، فاعترض الفسيلفس وقال: «بل قل إنه عيِّن في عهد امرأة.» ثم امتنع
أغناطيوس عن الحضور في الجلسة الثانية، وفي الجلسة الثالثة أكره على الحضور بأمر
الفسيلفس، ولما مثل أمام الآباء اعترض على صلاحية ممثلي البابا وسأل: «من هم القضاة
الذين ينظرون في قضيتي؟» فأجابه الأسقفان الرومانيان: «هم نحن والمجمع المقدس.»
فأجاب: إنه لا يرضى، وأنه سيطلب تدخُّل البابا، وفي الجلسة الرابعة استجوب المجمع —
بناء على طلب ممثلي رومة — اثنين وسبعين شاهدًا عن كيفية وصول أغناطيوس إلى الكرسي
البطريركي، ثم اتخذ الآباء قرارًا بخلع أغناطيوس والاعتراف بفوطيوس ووافقهم على ذلك
ممثلا رومة.
٤٧
وبحث المجمع مسألة الأيقونات فأوجب
تكريمها، وقاوم فرق الهراطقة بأقوال الروح فاجتذب أكثرها إلى حظيرة المخلص، ووضع
قوانين تتعلق بالأديرة والرهبان فحرَّم تحويل المساكن إلى أديرة بدون موافقة
الأساقفة، وأوجب على الملاكين أن يتنازلوا عن حقوقهم في ملكية هذه المساكن، ومنع
المجمع شرطنة الرهبان الذين لا يرغبون في الخضوع إلى رئيس معين، وأوجب الإقامة في
الأديرة والابتعاد عن السكنى في المنازل الخصوصية، وفرض على كل راغب في الزهد
والتقوى أن يتخلص من ممتلكاته قبل دخوله في الرهبنة، ومن أعمال هذا المجمع أن
الآباء أقروا ألا يقوم بعد ذلك بطريرك من طبقة العوام أو الرهبان ما لم يتمرس في
درجات الكهنوت درجة درجة ويتمم المدة القانونية فيها.
٤٨
وقد سُمي هذا المجمع الأول الثاني؛ لأنه عندما بحث أمر الأيقونات هجم محاربوها من
الخارج وعطلوا جلساته بالقوة، ثم عاد إلى الانعقاد ثانية فسمي المجمع الأول
الثاني.
نقولاووس وفوطيوس (٨٦١–٨٦٧)
وأرسل ميخائيل الثالث أعمال هذا المجمع الأول والثاني إلى البابا نقولاووس مع أحد
كُتَّابه لاوون ومع ممثلي البابا، وزودهم بهدايا كنسية ورسالة منه إلى البابا، وكتب
فوطيوس أيضًا رسالة مملوءة محبة ولطفًا، وبشر الممثلان سيدَهما بما أحرزاه من نجاح
في إعادة النظر في قضية أغناطيوس، وبما سَجَّلَاه من نصر لرومة في التدخُّل في شئون
كنيسة القسطنطينية، فارتاح نقولاووس لذلك ووافق على الدور الذي لعبه ممثلاه في
المجمع الأول الثاني، ووكل إلى الأسقف رانولدو القيام بمهمة جديدة في بلاط الإفرنج
في خريف السنة ٨٦٢، واستمر الأسقف زخريا في متابعة أعماله في رومة.
٤٩
ولكنه ساء نقولاووس أن ممثليه في المجمع الأول الثاني لم يسجلا أي تقدم في أمر
الأبرشيات المسلوخة التي طالب بإعادتها إلى البطريركية الرومانية. وكان فوطيوس قد
أشار في رسالته إلى نقولاووس إلى استعداده للاعتراف بحق رومة في هذه الأبرشيات،
ولكنه أوضح أن الفسيلفس عارض في ذلك، فاستأنس البابا بهذه الإشارات، ورأى أن يؤجل
الاعتراف ببطريركية فوطيوس إلى أن ينال ما تمنى من السلطة على هذه الأبرشيات، وكتب
إلى كل من ميخائيل وفوطيوس (٨ آذار سنة ٨٦٢) معلقًا اعترافه وموافقته إلى أن يتثبت
من بعض الأمور، وكتب بالمعنى نفسه إلى زملائه بطاركة الإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم،
٥٠ ويشك الأب دفورنك ما إذا كانت هذه الرسائل وصلت إلى هؤلاء البطاركة في
حينها؛ لأن البابا أرسلها بطريق القسطنطينية.
٥١
ورأى ميخائيل وفوطيوس أن الثمن الذي حدده نقولاووس كان عاليًا، فصمتا صمتًا
طويلًا، وباتا ينتظران تطور الظروف، واضطرب البابا وضاق صدره، وفيما هو ينتظر ورود
الجواب أطل عليه وفد الأغناطيوسيين المتطرفين برئاسة ثيوغنوستوس
Theognostos، وادعى هذا الوفد أنه يمثل
أغناطيوس ويطالب بحقوقه وأغناطيوس براء من هذا كله،
٥٢ فأصغى البابا إلى أقوال الوفد وظل ينتظر رد فوطيوس وميخائيل، ثم يئس
فدعا أساقفته إلى مجمع في رومة في صيف السنة ٨٦٣، فاستمع الآباء إلى تقرير الأسقف
زخريا عن أعمال المجمع الأول الثاني، وعن الدور الذي قام به في أثناء انعقاد هذا
المجمع، فاعترف زخريا بأنه تجاوز صلاحياته فقطعه المجمع وامتنع عن الاعتراف برسامة
فوطيوس. ثم قطع غريغوريوس، وأعلن أغناطيوس بطريركًا شرعيًّا على القسطنطينية.
٥٣ وأغرب ما في أخبار نقولاووس أنه عين زخريا بعد قطعه رئيسًا على دير
القديس غريغوريوس، وهذا الدير كان آنئذٍ من أغنى أديار رومة وأهمها! ثم أعاده إلى
سابق عهده في رئاسة الكهنوت وفي العمل الإداري الذي كان يقوم به قبل القطع،
٥٤ أما رانولد فإنه رفض أن يمثل أمام الآباء في المجمع وأيد فوطيوس فوقع
تحت الحرم.
٥٥
ومضى برداس وفوطيوس في العمل معًا لصالح الإمبراطورية والكنيسة، فقضيا على مقاومة
الأغناطيوسيين ووطدا الأمن في الداخل، ثم أحسنا السياسة في الخارج فحالفا رستيسلاف
أمير مورافية الكبرى، وهزما جيشًا بلغاريًّا كان في طريقه إلى الحدود المورافية،
وراب رستيسلاف أمر المرسلين الألمان الذين كانوا يخلطون بين الدين والسياسة في
بلاده، فطلب مبشرين أرثوذكسيين يعلمون شعبه الدين القويم، فاحتار فوطيوس الأخوين
قسطنطين ومثوذيوس لهذه الغاية، فقاما إلى مورافية في السنة ٨٦٤ وصنفا كتبًا دينية
في اللغة الصقلبية ونقلا الإنجيل إليها وبشرا.
وجاء بوغوريس ملك البلغار بعد انهزامه أمام الروم سنة ٨٦٤ إلى القسطنطينية،
فاعتمد على يد البطريرك فوطيوس، وسمي ميخائيل في المعمودية باسم أشبينه ميخائيل
الفسيلفس، وعين فوطيوس رئيس أساقفة لبلغارية وقسيسين ومعلمين، وكان نقولاووس قد
طالب بمعظم الأراضي البلقانية مدعيًا أن خدمة شعوبها الروحية منوطةٌ بأسقف رومة —
كما سبق وأشرنا — فجاء عمل فوطيوس مخالفًا لرغبته، فاشتدت الأزمة الرومانية
البيزنطية تعقُّدًا.
وبعد أن سجلت القسطنطينية هذا النصر المبين في مورافية وبلغارية؛ رأى صاحبها
ميخائيل الثالث أن يرد على نقولاووس، فكتب إليه في صيف السنة ٨٦٥ كتابًا مرًّا جعل
البابا أن يقول عنه إن كاتبه قد غمس قلمه في حلق ثعبان! فلام الفسيلفس البابا بادئ
ذي بدء على قلة تقديره للتضحية التي قدمتها كنيسة القسطنطينية في سبيل السلم
والوئام، فأبان له أن مشكلة أغناطيوس مسألة داخلية إدارية لا تمت إلى أمور العقيدة
بصلة، وبالتالي فإنه لا يحق لرومة أن تتدخل فيها.
وأضاف الفسيلفس: أنه على الرغم من هذا فإن كنيسة
القسطنطينية نزلت عند رغبة البابا، وسمحت بإعادة النظر في قضية أغناطيوس أمام
ممثليه في المجمع، وأكد الفسيلفس أن الموجب لدعوة هذين الممثلين إلى المجمع إنما
كان للنظر في أمر الأيقونات، ثم اتهم الفسيلفس ثيوغنوسطوس بالتحريض والمشاغبة، وأمر
البابا أن يرسل ثيوغنوسطوس وأعوانه إلى القسطنطينية للتحقيق، وهدد بإحضارهم بالقوة
إذا اقتضى الأمر،
٥٦ فغضب البابا لكرامته — وكان سريع الغضب — وكتب في الخامس والعشرين من
أيلول سنة ٨٦٥ رسالة أصبحت فيما بعد موضوع اهتمام عند علماء الجدل،
٥٧ وأهم ما جاء فيها: أن السيد له المجد هو الذي خص بطرس بهذه الصلاحيات
الواسعة، وأن بطرس منحها خلفاءه من بعده، وأن رومة وحدها تفخر بإقامة بطرس وبولس
فيها ووفاتهما ضمن أسوارها، وأن بعد رومة تأتي الإسكندرية وأنطاكية، أما
القسطنطينية فإنها اضطرت أن تستورد رفات أندراوس ولوقا وتيموثاوس، وأضاف البابا أن
هذه الامتيازات التي تمتعت بها رومة تمنحها حق الإشراف على كنيسة القسطنطينية،
٥٨ وذهب نقولاووس إلى أبعد من هذا فحصر في نفسه حق الدعوة إلى المجامع،
فاصطدم بالعرف والتقليد الشرقيين اللذين جعلا الدعوة لانعقاد المجامع من صلاحيات
الإمبراطور وحده.
دعوة إلى مجمع مسكوني (٨٦٧)
ورأى الفسيلفس في وصول اللاتين إلى بلغارية خطرًا على سلامة الدولة، ورأى فوطيوس
في التعاليم خروجًا يجب بحثُهُ في مجمع مسكوني، ورأى أيضًا في الرسائل التي وردت
عليه من بعض الأوساط الإكليريكية الغربية تذمُّرًا من سلوك نقولاووس وسياسته ما
يوجب دعوة الآباء إلى مجمع مسكوني، فوجه فوطيوس في السنة ٨٦٨ منشورًا إلى بطاركة
الشرق وأساقفته جاء فيه: «إن إبليس لا يشبع من الشر، وإن رجالًا كانوا قد نبغوا في
ظلام الغرب نزلوا في الآونة الأخيرة في بلغارية نزول الصاعقة، وقفزوا قفز الوحوش
ودخلوا كرم الرب المغروس جديدًا، فرعوه وأبادوه بأرجلهم وأسنانهم، واحتالوا على
البلغاريين فنقلوهم إلى صوم السبوت، وفصلوا الأسبوع الأول من الصوم الكبير عن جسم
الصوم وجذبوهم إلى شرب الألبان وأكل الجبن فيه والشراهة. وجعلوهم يمقتوا القسوس
الأفاضل المتزوجين الزيجة الشرعية — كهنة الله الحقيقيين — ولم يخشوا أن يعيدوا
ميرون الميرنين من القسوس، داعين أنفسهم أساقفة مدعين أن المسحة التي يتممها القسوس
باطلة لا نفع لها، فإنهم يقولون: لا يجوزُ للكهنة أن يقدسوا المكملين بميرون؛ لأن
هذه الشريعة خصت برؤساء الكهنة، ولم يقفوا عند هذا الحد من مخالفة الشريعة، فإنهم
شرعوا بوقاحة زائدة في نغل الدستور الشريف المقدس فعلموا بأن الروح القدس ينبثق لا
من الآب فقط، بل من الآب والابن، فمن ترى سمع من الكفرة أنفسهم قولًا مثل هذا، مَن
مِن المسيحيين يطيق أن يُدخل في الثالوث الأقدس علتين فيقول إن الآب علة الابن
والروح ثم إن الابن علة الروح فيحل الرئاسة الواحدة الإلهية إلى اثنين، ويمزق تعليم
المسيحيين في الله، فمن أين سمعت هذا ومن أي إنجيلي جاءك هذا الصوت؟ فربنا وإلهنا
قال: الروح الذي من الآب ينبثق.»
٦٢ ثم يوضح فوطيوس أن القول بأن الآب علة الابن والآب والابن معًا علة
الروح؛ يوجب أن يكون الآب والابن والروح علة لأقنومٍ رابعٍ، والأربعة لخامس إلى ما
لا نهاية له، وأيضًا أن الانبثاق من الآب كاملٌ ولا حاجة إلى القول بأكثرَ منه؛ فإن
كل ما يُقال في الثالوث المتساوي في الطبيعة والجوهر إما أن يكون عامًّا للثلاثة أو
خاصًّا بواحد منهم، فإن كان صدور الروح لا عامًّا لهم ولا خاصًّا بواحد منهم ينتج
أنه ليس انبثاقُ للروح في الثالوث رئيس الحياة الكلي الكمال.
٦٣
واجتمع الآباء الشرقيون في القسطنطينية سنة ٨٦٧ واشتركوا في أعمال المجمع
المنشود، وحكموا على البابا نقولاووس وقطعوه ونادوا بلويس الثاني إمبراطورًا،
٦٤ وهذا جُلُّ ما يجوز قولُهُ عن هذا المجمع، فأعمالُهُ ضائعةٌ ومعظم ما
يقال عنه في بعض المراجع الغربية مأخوذٌ عن أعداء فوطيوس ومناظريه،
٦٥ وهو بالتالي ناقص في العدالة لا يصلح وحده لإثبات الحقائق التاريخية،
ولا يجوز — والحالة هذه — القول مع من قال: إن بطاركة الشرق لم يرسلوا نوابًا عنهم،
وإن فوطيوس نفسه «عيَّن ثلاثة رهبان من أتباعه من الرعاع الأردياء الموافقين لرأيه
الفاسد لينوبوا عن البطاركة».
٦٦ ولعل الأفضل أن نقول مع الأب إميل أمان: إن الأبوكريساريوسة الثلاثة
الموجودين في القسطنطينية آنئذٍ لتمثيل البطاركة الشرقيين نابوا عن رؤسائهم في هذا المجمع.
٦٧
انقلاب في القصر (٨٦٧)
وكان ميخائيل قد عطف على فارس مغوار استرعى نظره حينما ذلل مهرًا جامحًا، فأحبه
وجعله أمير أخورة وهو باسيليوس مؤسس الأسرة المقدونية، وكان باسيليوس ذكيًّا نشيطًا
قديرًا، ولكنه كان طموحًا ملاقًا، فما أن أصبح عالمًا بأحوال البلاط حتى أيد برداس
ضد أخته ثيودورة، ثم أيد فوطيوس ليبعد عن الفسيلفس كاتم أسرار عاقلًا فاضلًا، ثم
نصب لبرداس المكايد وغدر به، وفي الرابع والعشرين من أيلول سنة ٨٦٧ هجم على ميخائيل
نفسه وقتله في قصره.
ولم يرض جمهور الشعب عن ميخائيل ولم يفرح بالانقلاب سوى الزرق المتطرفين، فاضطر
باسيليوس أن يداري هؤلاء ويداورهم، فأوعز إلى فوطيوس خصمهم أن يستعفي ففعل في اليوم
الأول بعد الانقلاب، وفي الثالث من تشرين الثاني عاد أغناطيوس إلى الكرسي البطريركي،
٦٩ وكان باسيليوس قد اشترك في أعمال المجمع الذي قطع نقولاووس فرأى من
الحكمة أن يسرع في إعلام رومة بما تمَّ في بطريركية القسطنطينية.
وكانت السيادة في البحر المتوسط قد استقرت في يد المسلمين، وكان هؤلاء قد استقروا
في صقلية وباري وترنتوم، وكانوا يغيرون من هذه القواعد على سواحل الأدرياتيك
الشرقية وسواحل إيطالية الجنوبية فيرعبون سكانها ويعرقلون تجارتها، فأدى اندفاع
باسيليوس في درء الخطر الإسلامي إلى تقرب من البابا وتعاون مع الإمبراطور الغربي
لويس الثاني.
المجمع القسطنطيني التاسع (٨٦٩-٨٧٠)
ورغب الفسيلفس الجديد في تسوية تعيد الوحدة إلى الصفوف في عاصمته، وعلمت رومة
بهذه الرغبة، ولكنها توجست خوفًا مما جرى في مجمع السنة ٨٦٨ من تذامر الآباء
الشرقيين في محاكمة بابا رومة وقطعه، وكان الآباء الغربيون قد عظموا الرئاسة
ووقروها، فجعلوها فوق حكم البشر،
٧٠ فتبنى أدريانوس الثاني (٨٦٧–٨٧٢) وجهة نظر نقولاووس، ودعا الأساقفة إلى
مجمع في كنيسة القديس بطرس في العاشر من حزيران سنة ٨٦٩،
٧١ فرفض الآباء قرارات المجمعين القسطنطينيين اللذين عُقدا في السنة ٨٥٣
والسنة ٨٦١ وحرموا فوطيوس وغضوا النظر عن هفوات الآباء الذين اشتركوا في أعمال مجمع
السنة ٨٦٧، ولكنهم أوجبوا إبعادهم عن مراكزهم الإكليريكية، ووافقوا على اقتراح
باسيليوس الذي قضى بعقد مجمع مسكوني في القسطنطينية، ولكنهم أوجبوا على هذا المجمع
قبول قراراتهم هذه دون إعادة نظر.
وافتتح المجمع أعماله في الخامس من تشرين الأول برئاسة بانس أحد كبار رجال البلاط،
٧٢ وبحضور الوفد الروماني وممثلي البطاركة الشرقيين الثلاثة توما
متروبوليت صور وإيليا كاتم سر البطريرك الأوروشليمي والأرشدياكون يوسف نائب
البطريرك الإسكندري،
٧٣ واثني عشر أسقفًا قسطنطينيًّا، فلمس الرومانيون لمس اليد مبالغة
ثيوغنوسطوس في أهمية الحزب الذي كان يؤيد أغناطيوس، ثم تكاثر عدد الأساقفة بنسبة
تعاظم الضغط من القصر حتى بلغوا المائة في الجلسات الأخيرة، وعلى الرغم من توصيات
المجمع الروماني بوجوب الاكتفاء بتصديق قراراته والابتعاد عن كل بحث في مواضيعها،
فإن بانس أصر على استدعاء فوطيوس وأعوانه الإكليريكيين وعلى استماع ما يقولون في
الدفاع عن أنفسهم، فاحتج الوفد الروماني على هذا الاستماع ثم وافق، فطلب فوطيوس
للمثول ففعل، ثم طلب إليه أن يجيب عما وجِّه إليه من انتقاد فرفض بعزة وأنفة، فقطع
هو وجميع أتباعه وكسرت قرارات بطريركيته، وفرضت رومة طاعتها فرضًا، فجاء في القانون
الثالث عشر أنه: «إن جسر أحد أن يتمثل بفوطيوس وديوسقوروس ويكتب كتابة، أو يقول
قولًا يَحُطُّ من كرامة كرسي بطرس هامة الرسل فليكنْ محرومًا مثلهما.»
٧٤
ولكن هذا الانتصار لم يدم إلا قليلًا، ففي غد اليوم نفسه الذي انتهت فيه أعمال
هذا المجمع (٢٨ شباط سنة ٨٧٠) تقدم بوغوريس ملك البلغار بطلب إلى المجمع يرجو فيه
البت فيما إذا كانت الكنيسة البلغارية تابعة لرومة أو للقسطنطينية، فعقد أعضاءُ
المجمع اجتماعًا خاصًّا لهذه الغاية، ووجد رُسُل رومة أن باسيليوس وأغناطيوس لم
يكونا أقلَّ تمسكًا بالكنيسة البلغارية، وبوجوب دوام خضوعها لكرسي القسطنطينية من
برداس وفوطيوس. وعلى الرغم من احتجاج رسل البابا فإن باسيليوس وممثلي بطاركة الشرق
أقروا خضوع الكنيسة البلغارية لسلطة البطريرك المسكوني، وأسرع أغناطيوس فسام عليها
رئيس أساقفة يونانيًّا يعاونه عشرة أساقفة يونانيين، واضطر الكهنة الرومانيون
ورؤساؤهم أن يغادروا بلغارية.
ويتضح مما تقدم أن موقف البطريركيات الشرقية في معضلة فوطيوس هذه كان مرتبطًا
بموقف الفسيلفس، فالبطاركة قاوموا فوطيوس إرضاء لباسيليوس الفسيلفس لا اعترافًا
«بسلطة» نقولاووس وأدريانوس أو امتثالًا لأوامرهما؛ فالكنيسة الشرقية كانت — ولا
تزال — تعتبر المجمع المسكوني صاحب السلطة الأولى في الكنيسة، ورئيس الكهنة فيها لا
يعلو عليه رئيسٌ من حيث درجة كهنوته، سوى المجمع (قانون الرسل). ولو كان الدافع
لمقاومة فوطيوس انصياع هؤلاء البطاركة لأوامر رومة لَمَا خالفوها في قضية بلغارية
في غد اليوم نفسه الذي وقعوا فيه قرارات مجمع القسطنطينية.
المجمع القسطنطيني العاشر (٨٧٩-٨٨٠)
وحافظ الأساقفة والكهنة أصدقاء فوطيوس على عهودهم له ووفوا، فاضطر أغناطيوس أن
يرسم غيرهم للقيام بالخدمات الروحية، فلم يلاق العدد الكافي من أصحاب اللاياقة،
فكتب باسيليوس إلى أدريانوس في ذلك ورجاه أن يعدل موقفه ممن رسم على يد فوطيوس فأبى،
٧٥ وحذا حذو أدريانوس خلفه يوحنا الثامن (٨٧٢–٨٨٢)،
٧٦ وأصبحت كنيسة القسطنطينية كنيستين أغناطيوسية وفوطيوسية،
٧٧ وكان الجيش لا يزال يذكر انتصاراته على يد برداس وميخائيل ويعتز بها،
فاضطر باسيليوس أن يتقرب من فوطيوس وأعوانه ومؤيديه، وأن يشركهم في الحكم.
٧٨
فدعا الفسيلفس البطريرك من منفاه في السنة ٨٧٣ وأكرمه إكرامًا عظيمًا، وطلب إليه
أن يشرف على تهذيب أولاده قسطنطين وإسكندر ولاوون،
٧٩ ولا نعلم ما إذا كان هذا العفو شمل الأساقفة المنفيين، ولعله لم
يشملهم، ولما عاد فوطيوس إلى العاصمة انصرف إلى مولاة أغناطيوس ضنًّا بمصلحة
الكنيسة، ولعله استسمحه ونال منه الصفح في السنة ٨٧٦، فإنه في كتابه عن الروح القدس
يدعوه قديسًا، وفي المجمع المسكوني الثامن صرح أنهما تعانقًا متسالمين،
٨٠ ويرى العلماء الباحثون أن أغناطيوس لم يعترض على شرطونية مناظره من
الناحية الكنسية، وأنه اعتبره بطريركًا بعد المسالمة، وأن فوطيوس مارس السلطة
البطريركية في الأشهر القليلة التي سبقت وفاة أغناطيوس، وأن هذا وافق على عودة
فوطيوس إلى الكرسي بعده.
٨١ وتُوفي أغناطيوس عن ثمانين عامًا في الثالث والعشرين من تشرين الأول
سنة ٨٧٧، فاستلم فوطيوس عكاز الرئاسة في السادس والعشرين من الشهر نفسه.
وكتب فوطيوس في أواخر السنة ٨٧٧ إلى بطاركة الشرق رسائل الجلوس، ودعاهم إلى مجمع
مسكوني يُعيد النظر في قرارات مجمع السنة ٨٦٩-٨٧٠، وينظر في أمر الانبثاق، وبات
ينتظرُ رسائلَ السلام، فكتب ميخائيل الثاني الإسكندري يعرب عن فرحه وارتياحه،
ويشكُر الله على النعمة بارتقاء فوطيوس، وأَكَّدَ أَنَّ سَلَفَه لم ينبذ شركته قط،
وكتب ثيودوسيوس الأوروشليمي ينعي ما حَلَّ بالمدينة المقدسة من خراب ويستنجد
بفوطيوس وباسيليوس ثم يقول: «ومَن لا يعترف بفوطيوس بطريركًا على المدينة الملكية
فليكن محرومًا ولينزل من منصبه.» وأظهر ثيودوسيوس الأول الأنطاكي غَمَّهُ وأَسَفَه
على الحكم بمجمع السنة ٨٦٩ الذي وقعه توما باسم كنيسة أنطاكية، وطلب الصفح لنائبه
وختم رسالته قائلًا: «ومن لا يعترف بفوطيوس بطريركًا يكون ملعونًا من الآب والابن
والروح القدس.» وأوفد البطاركة قوزمًا وباسيليوس وإيليا لينوبوا عنهم في المجمع المسكوني،
٨٢ ويلاحظ هنا أن البطاركة لم ينتظروا تعليمات رومة وإرشاداتها قبل
الإقدام على الاعتراف ببطريركية فوطيوس، وأنهم لعنوا مَن لا يعترف بها!
ثم كتب باسيليوس إلى يوحنا الثامن بابا رومة يُعلمه بارتقاء فوطيوس ويرجو
الاعتراف به والاشتراك في مجمع مسكوني للتعاوُن في جعل الوضع في القسطنطينية
قانونيًّا، وكتب فوطيوس كِتابًا لطيفًا وأردفه برسائل السلام التي كانت قد وردت من
البطاركة الشرقيين.
٨٣
وكان التيار الإسلامي يهدد إيطالية ورومة، وكانت آمال يوحنا الثامن في مساعدة
فرنسية أو ألمانية قد خابتْ، فأكرم هذا البابا الوفد البيزنطي الذي حمل رسائل
الجلوس، وأظهر ارتياحًا لِمَا تمَّ في القسطنطينية، ووافق على رُجُوع فوطيوس إلى
منصبه، وألغى المجامعَ السابقة التي عُقدت ضده، وطلب لقاء ذلك أَنْ لا يتدخل فوطيوس
في أبرشية البلغار، وألا يرتقي علمانيٌّ بعد ذلك عرشًا أسقفيًّا، وأن يعتذر فوطيوس
نفسه عما مضى أمام المجمع، وعين البابا الكردينال بطرس نائبًا عنه وحمله رسائل إلى
باسيليوس وفوطيوس، وبطاركة الشرق وأساقفة الكرسي القسطنطيني وإلى الأغناطيوسيين
وإلى النائبين الرسولين الأسقفين أوجانس وبولس اللذين كانا قد أرسلا إلى
القسطنطينية قبل ارتقاء فوطيوس للبَتِّ في القضية البلغارية، والقضاء على البطريرك
أغناطيوس إذا لم يرفع ولايته عن بلغارية، وأردف هذه كلها بكتاب التعليمات
Commonitorium.
٨٤
ووصل الكردينال بطرس إلى القسطنطينية، فاشترك في المفاوضات التمهيدية التي كانت
قد بدأت بين زميليه الأسقفين أوجانس وبولس وبين البطريرك فوطيوس، واتفق الطرفان في
جميع الأُمُور التمهيدية، ولم يَختلفا إلا في أمر اعتراف فوطيوس بخطئه أمام المجمع،
فالبابا كان قد جعل هذا الاعتذار شرطًا أساسيًّا للاعتراف ببطريركية فوطيوس،
وفوطيوس رأى أن ما قاله في مجمع السنة ٨٦٧ ضد نقولاووس جاء ردًّا على تدخُّل هذا
الحبر في شئون كنيسة القسطنطينية الداخلية، وأنه إذا كان قد تجاوز حدودَ الدفاع عن
النفس في ما قاله في هذا المجمع فإن ممثلي رومة تجاوزوا حدود القانون في الحكم عليه
قبل التحقيق والتدقيق، وأضاف فوطيوس أنه اعتذر لأغناطيوس نفسه وتسالم معه، ورأى
الوفد الروماني في تنازُل فوطيوس وباسيليوس عن أبرشية البلغار،
وفي استعداد الفسيلفس للتعاون في صَدِّ المسلمين
عن إيطالية ورومة ما يبرر التراجُع عن أمر الاعتذار موضوع البحث، فوافقوا على ذلك
وتحملوا مسئوليةَ هذا العمل تجاه الحبر الروماني.
٨٥
والتأم المجمع في أوائل تشرين الثاني سنة ٨٧٩ في كنيسة الحكمة الإلهية مؤلفًا من
ثلاثمائة وثلاثة وثمانين أسقفًا خاضعين لفوطيوس ما عدا نواب رومة والإسكندرية
وأنطاكية وأوروشليم، وتغيب الفسيلفس عن الحضور بداعي الحزن على ابنه قسطنطين فترأس
الجلسات فوطيوس نفسه،
٨٦ وبعد تبادُل السلام بين فوطيوس ونواب الكنائس الشقيقة ألقى خطبة
الافتتاح زخريا متروبوليت خلقيدونية، فأوضح أسباب الاضطراب وذكر المصائب التي حلت
بفوطيوس، ثم وجه كلامه إلى نواب رومة فقال: «لقد عقد هذا المجمع لأجلكم ولأجل كنيسة
رومة المقدسة كي لا يقول المشاقون إنكم رؤساء القلاقل والاضطرابات، لقد حسم الخلاف
بنعمة الله، وبسعي إمبراطورنا محب المسيح، وبصلوات بطريركنا اللائق للقداسة،
وبالتفاهم الذي تم بين البطاركة الشرقيين الثلاثة، وبصلوات البابا يوحنا اللائق
بالقداسة وتضرعاته.»
٨٧ فأمَّن المجمع لكلامه، وقال الكردينال بطرس: «والبابا يوحنا يشارك
فوطيوس في الرأي؛ ولهذا السبب أرسل له بدلة رئاسة الكهنوت.» ثم ختمت الجلسة بالدعاء
لجميع البطاركة.
وفي الجلسة الثانية في الثالث عشر من تشرين الثاني قرئت رسائل البابا إلى
الفسيلفس وإلى فوطيوس، وقد اختلف العلماء مدة طويلة من الزمن في صحة
نصها، فقال الأرثوذكسيون منهم بصحة النص اليوناني
كما ورد في أعمال المجمع، وقال الغربيون بتشويه النص الأصلي واتهموا فوطيوس نفسه
بهذا التشويه واعتمدوا النصوص اللاتينية الباقية، ثم قضت العناية بأن ينبري لبحث
هذه الرسائل وتدقيقها عدد من جِلَّة علماء الكنيسة اللاتينية الشقيقة، نخص بالذكر
منهم الأب إميل أمان مدير موسوعة اللاهوت الكاثوليكية، والأب فرنسيس دفورنيك أُستاذ
التاريخ الكنسي في جامعة براغ، والأبوين غرومل ولوران، ونظر هؤلاء العلماء في
التفاوُت بين النصين اليوناني واللاتيني فلم يثبت القول بالدس على فن النقد الحديث،
وارتأى الأبُ أمان أن يكون الوفدُ البيزنطي قد اطلع على نُصُوص الرسائل الباباوية
بعد إدراج أصلها في السجل، فلما لم يجدْها موافقةً للتفاهم والاتحاد عرض أن تعدَّل
فعدِّلت فحملها الكردينال بطرس معدلة إلى القسطنطينية فقرئت معدلة وضمت إلى أعمال
المجمع بنصوصها المعدلة،
٨٨ وعُني سيادة متروبوليت بيروت وجبيل كيريوس فيليبوس في السنة ١٩٣٧ بنقل
خلاصة ما كان قد تمَّ من هذه الأبحاث إلى العربية، فدبج بيراع المحبة المسيحية
سلسلةَ مقالات عنوانها: «هل زور فوطيوس رسائل البابا يوحنا الثامن»، ونشرها في
أعداد مجلة المسرة لتلك السنة فأجاد وأفاد.
وبعد قراءة هذه الرسائل سأل الكردينال بطرس: هل يقبل المجمعُ فحواها؟ فأجاب
المجمعُ أنه يقبل كل ما جاء فيها عن السلام وعن البطريرك، أما ما يتعلق منها بإرادة
الفسيلفس فالأمرُ فيها له، فقال الكردينال: لقد ورد في كتاب التعليمات الذي أحمل
ألا يرسل الشرق بعد الآن أموفوريونًا إلى بلاد البلغار، فذكر فوطيوس ما كتبه إلى
البابا نقولاووس وأكد أنه لم يشرطن لكنيسة البلغار أحدًا بعد عودته إلى الكرسي، ثم
قال بروكوبيوس قيصرية: إننا نؤمل — برحمة الله ودعاء سيدنا ورئيس كهنتنا — أن تخضع
الأُممُ كلها لملوكنا المقامين من الله، وحينئذٍ يعينون لكل أبرشية بإلهام من الله،
فأمَّن المجمع لكلامه، وقالوا: إن هذه المسألة ليست روحية بل مدنية، وإنهم لم
يجتمعوا ليوزعوا أبرشيات، ثم طرح نواب رومة مسألة أُخرى، فقالوا: وكيف رقي فوطيوس
إلى الكرسي قبل وصولهم؟ فأجاب الأساقفة إنه تمَّ باتفاق الأساقفة واعتراف البطاركة
كلهم، ثم سرد فوطيوس تاريخ بطريركيته مستهلًّا بالقول: «إني لم أشتهِ هذا الكرسي
مطلقًا.» ثم ذكر انتخاب الأساقفة والكهنة وإلحاح الحكام عليه ثم عزله وشكره لله،
وأكد أنه عاد إلى البلاط بدون وساطة، وأن أغناطيوس نفسه أقامه نائبًا بطريركيًّا،
وأنه لم يقبل عكاز الرعاية ثانية إلا بعد وفاة سلفه وضغط الفسيلفس وإلحاح الكنيسة،
فقال الأساقفة: «نعم كل هذا جرى تمامًا.» وقرئت رسائل البطاركة وسمع الأعضاء نص
الحرم الذي وضعه البطريرك الإسكندري على من مثله في المجمع السابق، وعلموا أن توما
متروبوليت صور ندم وطلب الصفح.
وفي الجلسة الثالثة في التاسع عشر من تشرين الثاني قُرئت رسالةُ البابا يوحنا إلى
بطاركة الشرق، وحُقق في أَمْر نُوَّاب هؤلاء البطاركة الذين اشتركوا في مجمع السنة
٨٦٩، فتبين أنهم إنما مثلوا أمير العرب لا رؤساءهم.
وفي الجلسة الرابعة في الرابع والعشرين من كانون الأول تُليت رسائلُ جديدةٌ من
بطريركي أنطاكية وأوروشليم، حملها باسيليوس متروبوليت مرتيروبوليس، فتبين منها أن
اعتراف البطاركة لم يكن ضروريًّا لوصول فوطيوس إلى كرسي الرئاسة،
٨٩ وتلي كتاب البابا إلى الفسيلفس ونص الكومونيتوريوم فترك البت في قضية
بلغارية إلى الفسيلفس، ولا سيما وأن يوحنا وفوطيوس أصبحا أخوين متفقين متحابين،
وأعيد البحث في شرطونية العوام، فقاوم الأساقفةُ اقتراحَ رومة مقاومةً أشد من
الأولى، وأُلغيت قراراتُ مجمع أدريانوس ومجمع السنة ٨٦٩، وقرر المجمع اشتراك جميع
الأساقفة في خدمة القداس في اليوم التالي يوم عيد الميلاد.
٩٠
وعاد المجمع إلى العمل في السادس والعشرين من كانون الثاني، سنة ٨٨٠، فأقر في
جلسته هذه الخامسة أن يُعتبر المجمع النيقاوي الثاني مجمعًا مسكونيًّا، وأن يُعرف
بالمجمع المسكوني السابع، وأوفد المجمع ثلاثة من أعضائه إلى متروفانس متروبوليت
أزمير لينقلوا إليه رغبةَ المجمع في اعترافه برئاسة فوطيوس، فاعتذر متروفانس بداعي
المرض، فقَرَّرَ المجمعُ قطعه من الشركة إلى أَنْ يعترف بسلطة البطريرك، ثم سنَّ
المجمع قوانينَ ثلاثة بناء على اقتراح الوفد الروماني، وقضى الأول أن يحرم فوطيوس
من يحرمه يوحنا من رجال إكليروسه أو أبناء رعيته المقيمين في أوروبة وآسية
وإفريقية، وأن يقابل يوحنا فوطيوس بالمثل، وأن التقدُّم الذي للكنيسة الرومانية
يبقى على حاله بلا إحداث ولا تغيير إنْ في الحاضر والمستقبل،
٩١ ومنع القانون الثاني الأساقفة — الذين لجئوا إلى الأديار رهبانًا — عن
العودة إلى وظائفهم السابقة، ولعن المجمع في القانون الثالث كل علماني يجرأ على ضرب
أسقف.
ووقع بولس أسقف أنكونة أولًا، ثم أوجانس، فبطرس، ثم ممثلو البطاركة الشرقيين، ثم
سائر أعضاء المجمع، وكان الفسيلفس لا يزال قابعًا في قصره، محزون الصدر لهيف القلب
على فقد قسطنطين، وكان لا بد من موافقته على قرارات المجمع؛ لتُصبح نافذة سارية
المفعول، فأم الأعضاء القصر في الثالث من آذار وخلا الفسيلفس بالوفود وبثمانية عشر
متروبوليتًا وبالبطريرك، وقضى العُرف بأن يعلن الآباء إيمانهم، فاقترح باسيليوس
إضافة نص الدستور النيقاوي القسطنطيني إلى أعمال المجمع فوافق الرؤساء، فوقف بطرس
رئيس الكتبة، وقال: إننا نُحافظ على تعليم المسيح وأوامر الرسل وشرائع المجامع
السبعة المسكونية وتعاليمها كما تسلمناها، ونرفض ما رفضوه ونقبل ما قبلوه، وعليه:
فإننا نقبل بالقلب واللسان دستور الإيمان الواصل إلينا منهم منذ القديم، ونقرأه في
كل مكان علنًا ولا نحذف منه ولا نزيد عليه ولا نبدل فيه ولا نزيفه؛ لأن هذه كلها من
أعمال المحال الخبيث، فالمجمع المقدس المسكوني الحالي يعانق بالشوق الإلهي
وباستقامة الذهن دستور الإيمان القديم ويوقره، وعليه يؤسس ويبني حقيقة الخلاص ويهتف
للجميع أن يرتئوا ويعلموا هكذا:
أؤمن بإله واحد آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض كل ما يرى وما لا يرى،
وبربٍّ واحدٍ يسوع المسيح … إلخ، وبالروح القدس الرب المحيي المنبثق من
الآب المسجود له والممجد مع الآب والابن الناطق بالأنبياء … إلخ.
فهكذا نَعتقد وعلى هذا الاعتراف تعمدنا وبه طحنت كل هرطقة، وأما الذين يغيرونه أو
يبدلونه أو يمسونه بكلمات غريبة أو بزيادة أو بنقص فبحسب حكم المجامع السابقة
المسكونية، إن كانوا من الإكليروس فليقطعوا قطعًا نهائيًّا، وإن كانوا من العوامِّ
فليحرموا بالأناثيمة.
٩٢
فقال الأساقفة: جميعُنا هكذا نعتقد، وعلى هذا الاعتراف تعمدنا، وعليه أهلنا لدرجة
الكهنوت، فالذين يَعتقدون غير هذا الاعتقاد هم أعداء الله والحقيقة.
وفي الثالث عشر من آذار اجتمع الأعضاءُ في كنيسة الحِكمة الإلهية فتلي اعتراف
الإيمان عليهم، فصدقوا عليه وعلى أعمال الجلسة السادسة، ونادى الجميعُ أن كل من لا
يعترف برئاسة كهنوت فوطيوس لا ينظر مجد الله.
وأدت مشاحناتُ الانشقاق فيما بعد إلى التطرُّف في الجدل، فشاع في الأوساط
اللاتينية الغربية أن أعمال الجلستين السادسة والسابعة مزورة، وأن فوطيوس نفسه زورها،
٩٣ ثم قام الكردينال هرغنروتر
Hergenrother وصارح زملاءه في الغرب بأنه ليس في محتويات هذه الأعمال
ما لا يتفق وعرف الآباء، وأضاف أن تقاليد القصر في ذلك العهد قضت ببقاء الفسيلفس في
قصره في حالة الحزن ستة أشهر كاملة،
٩٤ والواقع أن الآباء كانوا قد ذيلوا أعمال كل مجمع مسكوني باعتراف
بالإيمان سموه هوروسًا
horos،
٩٥ وأنهم اضطروا اضطرارًا في هذه المرة أن يجتمع رؤساؤهم بالفسيلفس في
قصره أولًا ليقروا الهوروس وينالوا التصديق، وأن يجتمعوا جميعًا لتلاوة الهوروس
والاعتراف به،
٩٦ وليس في هذا الهوروس ما لا يتفق وتقليد الكنيسة الرومانية آنئذٍ؛ فإنها
كانت لا تزال تقول بالانبثاق من الآب مخالفة بذلك كنائس إسبانيا وغالية.
٩٧
يوحنا الثامن والمجمع
ورضي يوحنا الثامن عن فوطيوس واعتبره بطريركًا شرعيًّا على كنيسة القسطنطينية
وابتهج لحُلُول السلام والوئام في هذه الكنيسة، وحرر إلى باسيليوس وفوطيوس بهذا المعنى،
٩٨ وظل راضيًا حتى وفاته، ولم يقطع فوطيوس من الشركة مرة ثانية، ولم يقع
أَيُّ انشقاق آخر بين الكنيستين في أيامه،
٩٩ وقد ضل بارونيوس وهرغنروتر وهفله وغيرُهُم من علماء الغرب عندما رأوا
أن يوحنا الثامن لم يعترف بفوطيوس نهائيًّا، ولم يؤيد حكم هذا المجمع، وأنه أرسل
الكردينال مارينس إلى القسطنطينية للتثبت مما جرى، فلما أبلغه هذا أن فوطيوس زوَّر
رسائله عاد فحرمه حرمًا عظيمًا،
١٠٠ والسببُ في هذا التساقُط في الضلال أن هؤلاء العلماء اعتمدوا مراجع
مغرضة، أهمها مُلحق مجمع السنة ٨٦٩ الذي نشره لأول مرة الأب رادر اليسوعي سنة ١٦٠٤،
ثم أدرج فيما بعد في مجموعة هاردوين ومانسي،
١٠١ وواضع هذا الملحق عدو لفوطيوس، لا تُقبل شهادتُهُ بدون تجريح، وقد
انفرد في الحرم الثاني، ولم يشر إليه أحدٌ غيره. ولنا في أقوال الثناء التي فاه بها
فوطيوس مادحًا يوحنا بعد المجمع؛ ما يؤيد دوام المحبة والوفاق بين هذين الحبرين،
فقد دعا فوطيوس يوحنا الثامن «قديسًا» في رسالة وجهها إلى رئيس أساقفة أكيلا في
السنة ٨٨٤، وجاء في كتاب فوطيوس عن الروح القُدس ما معناه: «أما يوحنا فإنه خاصتي،
ويحق لي أن أدعوَه هكذا لأسباب كثيرة أهمها أنه انتصر لي أكثر من غيره، وهو قويٌّ
بعقله وتَقْواه وبغضه للظلم والكفر، وهو خليقٌ بأن يدير الشرائع المقدسة والشرائع
السياسية، وأن يرد كل شيء إلى النظام، وهو الذي ثبت بواسطة نوابه قرارات المجمع
فيما هو من قانون الإيمان.»
١٠٢
ولم يَحِدْ خلفاء يوحنا عن خطته هذه، ولم يقطع أحدُهُم فوطيوس عن الشركة، وهو
قولٌ يؤيدُهُ رجالُ الاختصاص ويجمعون عليه، والشقاق الثاني وَهْمٌ قضى عليه العلم
النزيه ونَبَذَهُ التاريخُ الصحيح.
تطويبه
ولا نعلم بالضبط متى طوب فوطيوس، أو مَنْ طَوَّبَهُ، وليس في هذا النقص في
المعلومات ما يدعو إلى التحذُّر والتيقُّظ، فالتطويب في الكنيستين اليونانية
واللاتينية كان لا يزالُ عملًا فرديًّا — في غالب الأحيان — ولم يكن منوطًا برئيس
الكنيسة وحده، بل كان مباحًا لأي أسقف من الأساقفة أن يطوب من يراه لائقًا بالتطويب،
١٠٣ وحَصْر تطويب فوطيوس بين السنتين ٩٦٦ و٩٩٨ وجعله في عهد البطريرك
سيسينيون؛ هو اجتهادٌ — في حد ذاته — قام به الأب مرتينوس جوجي،
١٠٤ وجل ما يجوز قوله هو أن اسم فوطيوس يرد مطوبًا تطويبًا كنسيًّا كاملًا
لأول مرة في سينكساريون في دير الصليب الأقدس في القدس يعود إلى القرن العاشر أو
الحادي عشر،
١٠٥ وأنه بدأ يظهر في هذا الوقت نفسه أيضًا في سنكساريات القسطنطينية،
١٠٦ ويرى الأب دفورنك أن بعض أتباع فوطيوس بدءوا بتطويبه بعد انتقاله بفترة وجيزة.
١٠٧
وبينما نرى سرجيوس والد فوطيوس مطوبًا معترفًا homologetes تحت اليوم الثالث عشر من آذار؛ نجد فوطيوس نفسه مطوبًا
تحت السادس من شباط قديسًا عجائبيًّا thaumatargos، وذلك في سينكساريون باريز رقم ١٢٩٤، والعجيبة التي جرت
على يده هي اندحار الروس أمام القسطنطينية في السنة ٨٦٠.
لنمدح الآن بأزهار النشائد قيثار الروح القدس اللاهج بالله، كوكب الكنيسة
الباهر الضياء، المرشد الإلهي للمستقيمين للرأي، المقاوم للبدع، الكلي
الثبات. ولنصرخْ نحوه هاتفين: السلام عليك أيها القديس فوطيوس الكلي
الإكرام.
أورولوغيون