أوديسيوس يسخر من بوليفيموس
جوزيف مالورد وليام تيرنر (١٧٧٥–١٨٥١م) من أعظم مصوري المناظر الطبيعية وأرقهم وأغزرهم إنتاجًا؛ إذ يُقَدَّر عدد الصور التي تركها وراءه بثلاثمائة لوحة زيتية، وعشرين ألف رسم وصورة بالألوان المائية!
وُلد في حارة العذراء «ميدين لين» في كوفنت جاردن (سوق الفاكهة والخضار في لندن)، وكان أبوه يعمل حلاقًا. نبغ نبوغًا مُبكِّرًا، فقبلته مدارس الأكاديمية الملكية الإنجليزية سنة ١٧٨٩م. وعرض أعماله أول مرة سنة ١٧٩١م في هذه الأكاديمية التي غمرته طوال حياته بأفضالها؛ إذ اعترفت بعبقريته وحمته من بعض نُقاد عصره وفساد أذواقهم، وضمَّته إلى عضويتها الكاملة سنة ١٨٠٢م.
وكان في السابعة والعشرين من عمره، وعيَّنته أستاذًا للعلم المنظور فيها سنة ١٨٠٧م، ثم اختارته في سنة ١٨٤٥م نائبًا لرئيسها. عمل لدى الدكتور مونرو — الذي كان طبيبًا هاويًا للفن، وحوَّل بيته إلى أكاديمية لرعاية الفنانين الشبان — مع صديقه توماس جيرتين (١٧٧٥–١٨٠٢م) الذي أحدث ثورةً في الرسم بالألوان المائية، وتعلَّم منه وساعده مساعدةً كبيرة. واستمرَّ في التصوير بالألوان المائية حتى سنة ١٧٩٧م عندما عرض في الأكاديمية الملكية أولى صوره الزيتية التي تأثر فيها بأسلوب المدرسة الهولندية في القرن السابع عشر (فلوحته ضوء القمر على سبيل المثال شديدة الشبه بمناظر ضوء القمر التي تخصَّص فيها فان دير نير)، بيد أن التأثير الحاسم عليه قد جاء من أشهر رسامي المناظر الطبيعية على الإطلاق، وهم: الفرنسيان كلود لوران (١٦٠٠–١٦٨٢م)، ونيكولا بوسان (١٥٩٤–١٦٦٥م)، والإنجليزي ريتشارد ويلسون (١٧١٣–١٧٨٢م)، ممَّا نجد صداه في إحدى لوحاته البارزة التي رسمها في تلك الفترة (١٨٠٣م) وهي «كاليه بير»، التي تميزت بروحها الشاعرية والرومانطيقية، وفتحت عليه بابًا هبَّت منه رياح النقد اللاذع، وخصوصًا من دكتاتور النقد الفني في عصره وهو السير جورج بومونت. بيد أن النقاد المنصفين سرعان ما وقفوا بجانبه، فبدأ السير توماس لورنس بالدفاع الحار عنه، ولمَّا أوشك النقاد والجمهور على نسيانه، واتجه اهتمامهم إلى جماعة «السابقين على رافائيل» (انظر ما كُتب عنهم مع صورة الربيع لبوتيتشيللي في ترجمة الرسام والشاعر الإنجليزي دانتي جابرييل روسيتي)، فوجئ بثناء جون راسكين (١٨١٩–١٩٠٠م) عليه في الجزء الأول من كتابه عن الرسامين المحدثين (سنة ١٨٤٣م). وقد كان راسكين ولا يزال واحدًا من أكبر الأدباء وأعظم النقاد في تاريخ الفن بوجه عام، والقرن التاسع عشر بوجه خاص، على الرغم من كل ما يُوَجَّه إليه من اتهام بالشطط والتناقض والعاطفية وربط الفن بالأخلاق والدين. وقد جاءت المفاجأة من تحمس الناقد الأديب لفن تيرنر تحمسًا ظهر في عنوان ذلك الجزء الأول من كتابه: «الرسامون المحدثون، تفوقهم في فن تصوير المناظر الطبيعية على كبار الفنانين القدماء جميعًا. والتدليل على هذا بأمثلة ممَّا هو حق وجميل وعقلي من أعمال الفنانين المحدثين، وخصوصًا أعمال ج. م. و. تيرنر عضو الأكاديمية الملكية المُبَجَّل».
أوصى تيرنر بجميع صوره ولوحاته ورسومه — التي ذكرنا عددها في البداية — لتئول إلى ملكية الدولة، ومعظمها محفوظ اليوم في المتحف البريطاني والمتحف الأهلي ومتحف تيت في لندن.
(١) جيمس إلروي فليكر (James Elroy Flecker) (١٨٤٤–١٩١٥م)
عن لوحة تيرنر: أوديسيوس يسخر من بوليفيوس. وُلد الشاعر الإنجليزي سنة ١٨٨٤م ومات سنة ١٩١٥م في داغوس بسويسرا. عمل في قنصليات بلاده بالقسطنطينية وأزمير وأثينا وبيروت، وكتب القصة القصيرة والمسرحية بجانب ترجماته العديدة. وقصيدته هذه عن لوحة تيرنر التي رسمها سنة ١٨٢٩م، ظهرت مع أشعاره الكاملة التي نشرها السير جون اسكوير في لندن سنة ١٩٤٧م، ص٣٤.
يلاحظ القارئ أن الصورة والقصيدة تُعبِّران عن الأحداث التي رواها هوميروس في النشيد التاسع من الأوديسة (من البيت ١٠٥ إلى البيت ٥٦٦) عن «الكيكلوب» الرهيب الذي دخل أوديسيوس ورفاقه كهفه، فراح يلتهم الواحد منهم تلو الآخر إلى أن تغلَّب عليه أوديسيوس بدهائه فأسكره، وغرس في عينه الواحدة قضيبًا حديديًّا متوهِّجًا بالنار، واستطاع أن يهرب مع رفاقه بعد أن ضلَّل الوحش عن اسمه، فأخذ هذا يصرخ ويستغيث برفاقه من العمالقة، ممَّا فعل به (لا أحد) (انظر كذلك روايةً أخرى عن حبه لحورية البحر جالاتيا مع صورة رافائيل عن انتصار جالاتيا التي هام بها هذا العملاق حبًّا، فداوت بالموسيقى والغناء عاطفته التي لم تستطع أن تستجيب لها. أمَّا «ترنكاريا» المذكورة في السطر الثاني من القصيدة فهي اليوم صقلية التي كانت موطن «بوليفيم» أو «بوليفيموس» الذي ذكرنا حكايته مع السندباد الإغريقي الماكر. وأمَّا عن «هيبريون» الذي يرد ذكره في السطر الثالث من القصيدة، فهو اسم يُطلَق على إله الشمس هيليوس، وقد جعله الشاعر الألماني هلدرلين (١٧٧٠–١٨٤٣م) عنوانًا لروايته النثرية الوحيدة التي كتبها على صورة رسائل بين سنتي «١٧٩٧–١٧٩٩م») (راجع إن شئت كتابي عن هلدرلين، دار المعارف، القاهرة، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، ١٩٧٤م، ص٨٨–٩٤).