قاطعو الأحجار
كوربيه رسام واقعي تغلب عليه النزعة الطبيعية المتطرِّفة. آمن بالواقعية ودعا إليها، وهاجم الكلاسيكية «الأكاديمية» والرومانطيقية السائدة في أيامه بقسوة ألَّبت عليه النُّقاد، وسببت له المتاعب في حياته.
وُلد في «أورنانز» بسويسرا بالقرب من الحدود الفاصلة بينها وبين فرنسا، ثم سافر إلى باريس سنة ١٨٤٠م، وعلَّم نفسه بنفسه عن طريق نسخ اللوحات في «اللوفر» والتردُّد على المرسم (الأتيلييه) السويسري. اتجه إلى النزعة الطبيعية مع التأثر بفن مدرسة البندقية التي اهتمَّت بالتفاصيل الدرامية وتفاعل النور والظلال، وبأعمال كارافاجيو (١٥٧٣–١٦١٠م) ببساطتها وواقعيتها التي ألهمت العديد من كبار الفنانين. استمدَّ موضوعاته من الحياة اليومية ومعاناة الفقراء، وتصوير الوجوه والأجساد العارية، والحياة الساكنة والأزهار، ومناظر البحر والطبيعة التي تعكس في الغالب البيئة الجبلية بالقرب من مسقط رأسه في أورنانز، كما أدخل فيها أحيانًا مناظر نساء عاريات، ورحلات صيد، وغزلانًا وسط الثلج. غير أن شهرته ترجع إلى تصوير حياة الفقراء والكادحين من العُمال والفلاحين، على نحو ما ترى في صورته هذه عن قاطعي الأحجار. وفي لوحته الكبرى «دفن الموتى في أورنانز» (رسمها سنة ١٨٥٠م وتوجد في اللوفر) التي تضم أكثر من أربعين شكلًا بشريًّا، ولوحته الضخمة «رسام في مرسمه» (١٨٥٥م، اللوفر)، التي وصفها بعض النُّقاد بأنها «مانيفستو» (بيان) فلسفي!
يُتَّهم كوربيه بعدائه للثقافة والمثقفين، على الرغم من روابط الصداقة التي جمعت بينه وبين الشاعر «بودلير» والفيلسوف والكاتب الاشتراكي بيير جوزيف برودون (١٨٠٨–١٨٦٥م صاحب العبارة المشهورة: «الملكية سرقة»، التي وردت في كتابه، ما الملكية؟ وصاحب الكتاب المشهور نظام التناقضات الاقتصادية، أو فلسفة البؤس الذي انتقده ماركس وشهَّر به في كتاب بؤس الفلسفة). وقد رفض كوربيه النزعة المثالية في الفن، كما أدان معها الكلاسيكية والرومانطيقية، وحقَّر من شأن الموضوعات الأدبية التي تستنفد جهود أصحابها بدلًا من الاتجاه إلى الواقع، وتصوير العُمال والفلاحين الذين اعتبر حياتهم أنبل موضوع يمكن أن يتناوله الفنان.
لم تلقَ أعماله بوجه عام — على الرغم من فوزه سنة ١٨٤٩م بالميدالية الذهبية من معرض باريس — سوى التجاهل والنقد المرير. وقد عرض لوحاته عرضًا مستقلًّا أثناء المعرضَين الدوليَّين اللذَين افتُتِحا في باريس عامَي ١٨٥٥ و١٨٦٧م، مُحاوِلًا بذلك أن يرد على الجحود والتجاهل الرسمي الذي فُرِض عليه، فلم يلقَ غير المزيد من التجاهل والجحود! وحال هروبه من فرنسا سنة ١٨٧٣م دون التعرف من قريب على الحركة التأثيرية وحضور معرضها الأول الذي افتُتِح في باريس سنة ١٨٧٤م (وشارك فيه عدد كبير من أعلامها مثل مونيه ورينوار وسيزان وديجا وسيسلي وبيسارو وجيومان وبودان)، والواقع أنه أثَّر على هؤلاء التأثيريين الذين اعترفوا بفضله، سواء بأسلوبه في تنفيذ المناظر الطبيعية أو في كراهيته للنزعة الأكاديمية والذهنية، أو في ضرب المثل لهم بإقامة المعارض الخاصة. وقد شابت أعمال كوربيه و«تقنيته»، أو أسلوبه في تنفيذها، عيوبٌ فنية كثيرة — ليس أقلها اختياره لموضوعات واقعية ذات صوت ميلودرامي صارخ، وافتقاره للحساسية في ألوانه ولمسات فرشاته — ولكن يبدو أن عيوبه الشخصية والخلقية من غرور وسلاطة لسان وحدَّة طبع قد ساهمت بنصيب كبير في الجناية على حياته المضطربة البائسة.