الفصل الحادي والأربعون
امرأة جالسة على كرسي وثير
اللوحة لبابلو رويز بيكاسو (
Pablo R.
Picasso) (١٨٨١–١٩٧٣م)، وهو من أعظم الفنانين
الذين بدءوا عصرًا جديدًا وغيَّروا من طبيعة الفن ومن نظرتنا إليه،
شأنه في هذا شأن عباقرة آخرين من أمثال جوتو ومايكل أنجلو وبرنيني.
مرَّ بيكاسو في تطوره الفني الطويل وتجاربه الرائدة مع اللون والشكل
والخط والمرأة بمراحل متعددة، لا مجال هنا للحديث عنها. يكفي أن هذه
اللوحة التي رسمها أثناء الحرب العالمية الثانية؛ أي حوالي سنة
١٩٤٢/١٩٤١ تُعدُّ امتدادًا للمرحلة التي بدأ فيها تصوير مصارعي الثيران
وبلغت ذروتها في لوحته الكبيرة الشهيرة «جيرنيكا» التي تسجِّل سخطه على
الحرب عمومًا، والحرب الأهلية في بلاده بوجه خاص، واستبشاعه للعنف
والوحشية، ووقوفه في صف السلام وصفوف الفقراء والمعذَّبين والمنبوذين.
١ وقد ساد هذه المرحلة بطبيعة الحال مزاج سوداوي عبَّر عن
نفسه في الأشكال المُحَرَّفَة والوجوه المُمَزَّقَة المقلقة والخيال
المتحرِّر المخيف في قدرته على التكوين والتفتيت وإعادة التكوين،
والبهيمية الوحشية الموحشة التي تتغلغل حتى في الآلة والجماد، بل تكاد
تسري في الجمال والصفاء، كما توحي بذلك اللوحة التي نحن بصددها.
ألهمت اللوحة بعض الشعراء، منهم صديقه الصدوق جان كوكتو، وشاعرَين
آخرين هما:
(١) لوثر كلونر (Luthar
Klunner)
وُلد الشاعر سنة ١٩٢٢م في برلين. درس اللاهوت وكتب القصيدة
والقصة القصيرة والمقال، وترجم للشعراء الفرنسيين. كتب قصيدته هذه
«امرأة ذات صدر أزرق» متأثرًا بصورة للوحة بيكاسو مطبوعة بالألوان
على بطاقة كان قد ثبَّتها على جدار حجرته الصغيرة في سنوات
الطلب.
«امرأة ذات صدر أزرق»
يا امرأةً لا وجود لها، يا امرأتي،
يا امرأة الماء، يا عذراء يا حبيبة.
امرأة كل رسائل القلب،
أم الألوان،
أصابع رطبة،
ويد دافئة مُتعَبَة.
طفل غريب من بعيد بعيد،
نقاء البحر الأخضر العميق،
حنان تابوت زجاجي فقير،
وشهوة الليالي الممطرة بلا صوت،
حيث لا يلقى الصدى ظلًّا.
آلهة شامخة منبوذة،
بسيطة كالصاعقة،
بضعة خطوط للمائدة والكرسي،
عالمك وعالمي،
جمال عظيم خامل، جمال القلوب،
الدم والنور
أمام أقنعتنا الليلية.
(٢) فريدريش راشه (Friedrich
Rasche)
وُلد سنة ١٩٠٠م في بلدة «راديبويل» بالقرب من مدينة درسدن، ومات
سنة ١٩٦٥م في مدينة هانوفر. درس اللاهوت والفلسفة والأدب الألماني
وتاريخ الفن في «ليبزج»، واشتغل معلمًا وناقدًا ومحرِّرًا أدبيًّا.
وهذه القصيدة «بيكاسو، الإنسان» مأخوذة من المجلد الثالث من أشعاره
التي نُشرت بعد موته بعنوان «من كل الرياح الأربع» (هامبورج
١٩٦٧م)، ويبدو أن الشاعر قد رأى في «المرأة» التي تصوِّرها اللوحة
رمزًا يجسِّد كل رذائل العصر وآثار التشويه على وجهه وروحه؛ ولهذا
ارتفعت نغمة الأخلاق لديه أكثر ممَّا ينبغي!
«امرأة جالسة على
كرسي وثير»
الاستدارة الضيقة للخد،
مشطوفة كقمر مُصغَّر.
الفك الأسفل ملوي،
والفم يتفجَّر بالصرخة.
العين بلا رمش تبحلق،
سمكة فزَّعها العمق،
ذهب الخوف الباهت بعقلها،
تترقَّب خطاف السنارة!
الانحناءة المتكبِّرة للأنف
ثنتها قبضة سوداء.
غارت في طيات الجبهة
قوقعة الأذن.
وجبين لم يعد يشي
بما حملته الأفكار،
تصبَّب بعرق العذاب المخضر،
شيَّبته محنة الموت.
قصبة العنق الجوفاء
تلحم العدم بالعدم،
صحراء الوجه،
أسر الجسد.
ملعونة اليد والرحم،
والصدر المشقوق الصدع.
شبَّ وكبر في الخطايا.
اسمه: بلا أمل.
(٣) جان كوكتو (Jean Cocteau)
(١٨٨٩–١٩٦٣م)
كتب الشاعر والفنان الفرنسي المتعدِّد الاهتمامات (المسرح
والرواية والمقال والفيلم والرسم والرقص والنحت والموسيقى!) هذه
القصيدة أو السوناتة وأهداها لصديقه سنة ١٩٥٤م، بعد أن وهبه قبل
ذلك (سنة ١٩١٩م) أنشودةً طويلة، ووضع عنه دراسةً مستفيضة (١٩٢٣م).
وهذه القصيدة التي جعل عنوانها «الشابة» مأخوذة من مجموعته الشعرية
«واضح، غامض» التي صدرت في موناكو لدى الناشر دي روشير سنة ١٩٥٤م.
ويُلاحَظ أن جانب الوجه أو صورته الجانبية تعريب لكلمة «البروفيل»
التي يستخدمها الشاعر وتتردَّد على ألسنة فنانينا:
«امرأة جالسة على
كرسي وثير»
قولي لي، ماذا أصنع؟
كيف يحدث هذا؟
أنظر إلى الشابة من أمام
فتريني مع ذلك جانب وجهها،
كيف يحدث هذا؟
لها حين أُواجهها عين واحدة،
وحين أرى جانب وجهها عينان.
قولي لي: ماذا أصنع؟
قولي لي: ماذا أصنع؟
كيف يحدث هذا؟
يزن وجهها مرآةً
تعكس جانب وجهها.