الفصل الخامس والأربعون
الزرافة المحترقة
الصورة للفنان الأشهر سلفادور دالي (Salvador
Dali) (وُلد سنة ١٩٠٤م)، رسمها سنة ١٩٣٥م، وتوجد
بمتحف الفن في مدينة «بازل» أو «بال» السويسرية. وهي من أدل لوحاته على
فنه المتطوِّر من مرحلة إلى مرحلة (من التكعيبية إلى السريالية إلى
غرائب لا تندرج تحت وصف أو مذهب محدَّد!) شأنه في هذا شأن مواطنه
بيكاسو.
استلهمها الشاعر بييت برشبيل (المولود سنة ١٩٣٩م). هذه القصيدة التي يحكي قصتها فيقول إنه شاهد اللوحة الأصلية سنة ١٩٦٣م أو ١٩٦٥م في متحف «بازل»، واحتفظ في جيبه ببطاقتها المطبوعة أكثر من سنة — كعادته في الاحتفاظ ببطاقات أخرى وكأنه متحف متجول! — وجدير بالذكر أن الشاعر ألَّف ديوانًا كاملًا مُستوحًى من الصور واللوحات الفنية لمختلِف الرسامين سمَّاه «الصور وأنا»، وظهر في زيورخ سنة ١٩٦٨م.
«الزرافة المحترقة»
نسختان من امرأة،
صحراء أفريقية، سماء ربيع إسبانية،
جبال بابل، إنسان الساونا،١
الزرافة التي تحترق متوهِّجةً
وتنتظر في هدوء،
حتى تلتهم النار مراعيها البرية وسماواتها.
هذه لحظات، تمتد على السنوات،
على الحياة شبيهةً بخيمياء.٢
أحد مؤسِّسي الديانات،
أو: حياة في الجحيم،
يُسْمَح فيها أحيانًا بالتخفيض على المبيعات بالجملة،
صورتها الفرشاة بالأدراج الفارغة المشدودة.
والطِّحال المنزوع،
ربما كان هو المخ الذي يتأرجح
وسط أسماك خرساء،
وصحراء صامتة.
الإيماءات هناك،
القروح، مساند الجسد،
السموات البلورية،
البشر — المحترقون بلا حراك —
كل شيء هناك.
ما تفتقر إليه هو تكرار الأحلام.
كثيرًا ما أتمنَّى أن أخبِّئ زمنًا طويلًا
في جيوبي لكي أحميه من الحساسية المفرطة،
من تأثيرات الطقس المتقلِّب والأعمال التجارية.
وعندما ينتهي كل شيء،
أتمنَّى أن أستخرجه من الجيوب،
أن أتأقلم معه،
كما توقعت هذا من الناس.
كثيرًا ما أتمنَّى
أن أحتفظ معي بالزمن،
كما أحتفظ بيقين الموت،
كزرافة محترقة،
مختلجة بالذكريات
عن الصبي الصغير بسرواله القصير،
الذي يدور فوق قريته بطائرة من صنع يدَيه،
وينفذ ببصره داخل المطابخ والنوافذ،
ولا يفكِّر أبدًا في المستقبل،
ولا في الحياة بوجه عام،
ولا بوجه خاص،
بل يدور بطائرته الخشبية
التي ركَّبَ فيها موتور
سيارة شيفروليه قديمة
فوق البيوت القليلة،
فوق القرية،
والمدن،
والعالم.
١
الساونا هو الحمام البخاري المعروف الذي أخذته بلاد
العالم عن فنلندا، ولعله يرمز إلى صورة الرجل الواقف
بجوار الزرافة المحترقة.
٢
هو علم الكيمياء القديم الذي كاد يدور حول تحويل
المعادن الخسيسة إلى ذهب، وإطالة العمر … إلخ.