النَّمْلَةُ١
عَاشَتْ فِي سَالِفِ الْأَزْمَانِ نَمْلَةٌ، ذَكَرَ خَبَرَهَا مُؤَرِّخٌ نَمْلِيٌّ عَظِيمٌ، لَا يَتَطَرَّقُ أَقَلُّ شَكٍّ إِلَى صِدْقِ رِوَايَتِهِ؛ قَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ مَوْهُوبَةً بِقُوَّةٍ مُدْهِشَةٍ، لَمْ يَسْبِقْ أَنْ كَانَ لِغَيْرِهَا مِنْ بَنِي جِنْسِهَا مِثْلُهَا؛ فَقَدْ كَانَتْ تَقْوَى عَلَى رَفْعِ حَبَّتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ مِنَ الشَّعِيرِ عَنِ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ لَهَا شُهْرَةٌ ذَائِعَةٌ فِي الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ، حَتَّى إِنَّهَا إِذَا مَا الْتَقَتْ بِدُودَةٍ هَجَمَتْ عَلَيْهَا وَصَرَعَتْهَا وَمَزَّقَتْهَا تَمْزِيقًا بِلَا أَدْنَى خَوْفٍ أَوْ وَجَلٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ لَا تَخْشَى بَأْسَ الْعَنْكَبُوتِ.
وَلَهِجَتْ بِأَخْبَارِ قُوَّتِهَا وَبُطُولَتِهَا كُلُّ قَرْيَةِ النَّمْلِ، فَكَانَتْ تَزْهُو بِمَا يُغْدَقُ عَلَيْهَا مِنْ عِبَارَاتِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، حَتَّى دَاخَلَهَا الْغُرُورُ، فَصَارَتْ تَخْتَالُ عُجْبًا وَدَلَالًا، وَكَأَنَّهَا تَقُولُ لِلْأَرْضِ: «اشْتَدِّي، فَمَا عَلَيْكِ قَدِّي»، إِلَى أَنْ آلَ بِهَا الْأَمْرُ إِلَى الْعَزْمِ عَلَى السَّفَرِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ؛ لِتَكْسِبَ فِيهَا شُهْرةً جَدِيدَةً، وَهَكَذَا هَرْوَلَتْ إِلَى قِمَّةِ حُزْمَةٍ مِنَ التِّبْنِ، كَانَتْ مَوْضُوعَةً بِجَانِبِ سَائِقِ الْمَرْكَبَةِ الذَّاهِبَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَجَلَسَتْ فَوْقَهَا، وَهَكَذَا دَخَلَتِ الْمَدِينَةَ دُخُولَ الْفَاتِحِ الْعَظِيمِ.
وَلَكِنْ مَا أَقْسَى الصَّدْمَةَ الَّتِي أَصَابَتْ كِبْرِيَاءَهَا، عِنْدَمَا رَأَتْ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَمْ يُهْرَعُوا إِلَى الطُّرُقِ وَالْمَيَادِينِ وَالسَّاحَاتِ الْعُمُومِيَّةِ الَّتِي مَرَّتْ بِهَا مَرْكَبَتُهَا الْفَخْمَةُ؛ لِكَيْ يَحْظَوْا بِرُؤْيَتِهَا، وَتَكْتَحِلَ عُيُونُهُمْ بِمُشَاهَدَةِ أَلْعَابِهَا الْبَهْلَوَانِيَّةِ وَشَقْلَبَاتِهَا الِاسْتِعْرَاضِيَّةِ، بَلْ كَانُوا يَرُوحُونَ وَيَجِيئُونَ وَيَنْكَبُّونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ دُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْهَا، أَوْ يُعِيرُوهَا أَقَلَّ الْتِفَاتٍ، فَكَمْ وَكَمْ حَاوَلَتْ أَنْ تَسْتَرْعِيَ أَنْظَارَهُمْ بِالْقَفْزِ وَالْوَثْبِ وَرَفْعِ الْمُثَقَّلَاتِ الْكَبِيرَةِ الْحَجْمِ دُونَ طَائِلٍ!
وَأَخِيرًا عِنْدَمَا أَعْيَتْهَا الْحِيَلُ وَأَضْنَاهَا التَّعَبُ، أَدَارَتْ نَظَرَهَا إِلَى الْكَلْبِ الرَّاقِدِ بِجَانِبِ مَرْكَبَةِ سَيِّدِهِ، وَخَاطَبَتْهُ قَائِلَةً: يَا عَزِيزِي «فِيدُو»، أَلَسْتَ تَرَى مِثْلِي أَنَّ كُلَّ سُكَّانِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ الْكَبِيرَةِ مُجَرَّدُونَ مِنَ الْإِحْسَاسِ؛ فَلَهُمْ عُيُونٌ وَلَكِنَّهَا لَا تُبْصِرُ، وَآذَانٌ لَا تَسْمَعُ، فَقَدْ قَضَيْتُ هُنَا أَكْثَرَ مِنْ سَاعَةٍ، أَنْهَكْتُ فِيهَا بَدَنِي؛ لِأُرِيَهُمْ مَا أَنَا عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَهَارَةِ فِي الْأَلْعَابِ الَّتِي تَسْحَرُ الْأَلْبَابَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، مَعَ أَنَّ شُهْرَتِي قَدْ عَمَّتْ «بَلْدَتَنَا»، حَتَّى أَصْبَحْتُ أُحْدُوثَةَ أَهْلِهَا، قَالَتْ ذَلِكَ، وَإِذْ لَمْ تَسْمَعْ جَوَابًا مِنْ «فِيدُو»، أَدَارَتْ لَهُ وَلِلْمَدِينَةِ ظَهْرَهَا، وَاتَّجَهَتْ نَحْوَ قَرْيَتِهَا …