الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ
حَدَثَ فِي بَعْضِ السِّنِينِ الْخَوَالِي أَنْ عَاشَ فِي الْمَدِينَةِ غَنِيٌّ يَدَّخِرُ
الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةَ مِنَ الْمَالِ فِي خَزَائِنِهِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ
بِالْبُخْلِ؛ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ عَلَى أَحَدٍ مِنَ
الْمُعْوِزِينَ وَالْفُقَرَاءِ.
وَصَارَ سُكَّانُ الْمَدِينَةِ يَتَنَادَرُونَ
١ عَلَى بَعْضِهِمْ بِنَوَادِرِ بُخْلِهِ، حَتَّى بَلَغَهُ خَبَرُ ذَلِكَ،
فَاسْتَاءَ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى تَطْهِيرِ سُمْعَتِهِ، وَلَا سِيَّمَا بَيْنَ أَهْلِهِ
وَجِيرَانِهِ، مِمَّا لَحِقَهَا مِنْ أَدْرَانِ
٢ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تُشَرِّفُ، فَأَعْلَنَ عَزْمَهُ عَلَى مَدِّ
الْمَوَائِدِ فِي مَسَاءِ يَوْمِ السَّبْتِ مِنْ كُلِّ أُسْبُوعٍ لِإِطْعَامِ مَنْ
يَتَقَدَّمُ لِتَنَاوُلِ الطَّعَامِ، مِمَّنْ أَخْنَى عَلَيْهِمُ الدَّهْرُ.
وَانْتَشَرَ الْخَبَرُ كَانْتِشَارِ النَّارِ فِي الْهَشِيمِ،
٣ وَلَمَّا رَأَى الْجِيرَانُ رِتَاجَ
٤ الْغَنِيِّ مَفْتُوحًا عَلَى مِصْرَاعَيْهِ مَسَاءَ يَوْمِ السَّبْتِ
لِاسْتِقْبَالِ الضُّيُوفِ الْجَائِعَةِ، لَمْ يُصَدِّقُوا أَعْيُنَهُمْ، وَأَشْفَقُوا
عَلَى غَنِيِّهِمْ؛ إِذْ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا السَّخَاءَ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّي بِهِ
إِلَى
اللِّحَاقِ بِضُيُوفِهِ بَعْدَ زَمَنٍ قَصِيرٍ.
وَلَكِّنَ الْبَخِيلَ كَانَ أَحْرَصَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ مِنَ الَّذِينَ أَشْفَقُوا
عَلَيْهِ؛ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ كِلَابَهُ الْمُفْتَرِسَةَ عَصْرَ يَوْمِ السَّبْتِ،
فَانْتَشَرَتْ فِي الدَّارِ وَمَدَاخِلِهَا، فَلَمْ يَجْسُرْ عَلَى الدُّنُوِّ مِنْهَا
أَحَدٌ مِنَ الَّذِينَ حَضَرُوا، وَهُمْ يُعَلِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَكْلَةِ شبعٍ.
أَمَّا الَّذِينَ دَفَعَتْهُمْ مَسْبَغَتُهُمْ مِنَ الْبُؤَسَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
إِلَى
الصَّبْرِ وَالِانْتِظَارِ، وَمُحَاوَلَةِ الدُّخُولِ إِلَى مَوَائِدِ الطَّعَامِ بِرَغْمِ
يَقَظَةِ الْكِلَابِ الْحَارِسَةِ، فَإِنَّهُمْ — بَعْدَ أَنْ دَبَّ الْيَأْسُ فِي
نُفُوسِهِم — ارْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ وَقَدْ رَضُوا مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ.
٥
•••
وَهَكَذَا جَعَلَ أَلْسِنَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَلْهَجُ بِذِكْرِ الْكَرَمِ
الْحَاتِمِيِّ الَّذِي تَجَلَّى
٦ فِي فَتْحِ أَبْوَابِ دَارِهِ لِلْجَائِعِينَ مِنَ الْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ، وَقَدْ نَسُوا أَنَّ الْكِلَابَ الْمُفْتَرِسَةَ الَّتِي كَانَتْ
تَتَوَلَّى حِرَاسَةَ أَبْوَابِ هَذَا الْغَنِيِّ قَدْ حَالَتْ دُونَ دُنُوِّ أَحَدٍ
مِنْ
هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ الْجَائِعِينَ إِلَى مَوَائِدِهِ الشَّهِيَّةِ.