الْكُوكُو وَالْحَمَامَةُ
فَأَجَابَهَا قَائِلًا: «لَيْتَ الْأَمْرَ كَانَ هَذَا أَوْ ذَاكَ، أَيَّتُهَا الصَّدِيقَةُ، بَلْ إِنَّهُ أَدْهَى وَأَمَرُّ، وَسَأَذْكُرُهُ لَكِ لِتَرَيْ وَتَحْكُمِي.
وَأَجَابَتْهُ الْحَمَامَةُ مُتَحَسِّرَةً: «يَا لَكَ مِنْ مِسْكِينٍ! إِنَّ مَا ذَكَرْتَهُ يَحْمِلُنِي عَلَى الرثَاءِ بِكُلِّ جَوَارِحِي لِحَالِكَ، وَلَكِنْ خَبِّرْنِي بِرَبِّكَ، وَقُلِ الْحَقَّ: هَلْ فَكَّرْتَ فِي حَيَاتِكَ فِي بِنَاءِ عُشٍّ تَضَعُ فِيهِ بَيْضَ رَفِيقَتِكَ لِترخمَ عَلَيْهِ، وَتَتَعَهَّدَهُ بِالْعِنَايَةِ الْوَاجِبَةِ إِلَى أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ فِرَاخُكَ إِلَى عُشِّكَ الدَّافِئِ، فَتَنْعَمَ بِقُرْبِهِمْ مِنْكَ، وَتَحْظَى بِهَنَائِكَ بِلَذَّةِ الْكَدِّ وَالتَّعَبِ وَالتَّضْحِيَةِ فِي سَبِيلِ تَنْشِئَتِهِمْ؟ أَمَّا الَّذِي أَعْلَمُهُ أَنَا، وَكُلُّ مَعَارِفِي، فَهُوَ أَنَّكَ وَوَلِيفَتَكَ لَمْ تُفَكِّرَا إِلَّا فِي «هَنَاءِ وَرَغَدِ» شَخْصَيْكُمَا، وَلَمْ تَجِدَا مُتَّسعًا مِنْ وَقْتِكُمَا لِلتَّفْكِيرِ فِي مَصِيرِ فِرَاخِكُمَا بَعْدَ نَقْفِهِمُ الْبَيْضَاتِ الَّتِي قَذَفْتُمَا بِهَا فِي أَعْشَاشٍ، تَعِبَ غَيْرُكُمَا فِي تَهْيِئَتِهَا.»
وَقَالَ الْكُوكُو: «حَقًّا، إِنِّي لَمْ أُفَكِّرْ فِي بِنَاءِ عُشٍّ؛ لِأَنِّي أَحْسَبُ أَنَّ مِنَ الْغَبَاوَةِ أَنْ أَقْضِيَ أَيَّامَ الصَّيْفِ مُرْتَبِطًا بِهِ، فَأُضْنِيَ جَسَدِي وَجَسَدَ وَلِيفَتِي بِاحْتِضَانِ الْبَيْضِ حَتَّى يَفْقِسَ، ثُمَّ نَحْرِمَ نَفْسَيْنَا مَا نَحْصُلُ عَلَيْهِ مِنْ غِذَاءٍ لِأَجْلِ تَغْذِيَةِ مَا يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْبَيْضَاتِ؛ ولذلك كُنْتُ أُلْقِي بِهَا خلْسَةً إِلَى أَعْشَاشِ غَيْرِي، وَأَتْرُكُ لَهُمُ الِاسْتِمْتَاعَ بِمَا يُعْرَفُ فِي عُرْفِكُمْ، أَنْتُمُ الْبُسَطَاء السُّذَّج «بِلَذَّةِ» الْكَدِّ، وَالتَّعَبِ، وَالتَّضْحِيَةِ.»
فَجَاوَبَتْهُ الْحَمَامَةُ قَائِلَةً: أَشْكُرُ لَكَ إِفْصَاحَكَ عَنْ رَأْيِكَ فِي أَمْثَالِي، وَلَوْ أَنَّكَ لَمْ تَصِفْهُ بِاللَّبَاقَةِ الْوَاجِبَةِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمُحَادَثَاتِ، وَلَكِنْ، كَيْفَ تَنْتَظِرُ مِنْ صِغَارِكَ أَنْ يَعْرِفُوكَ وَيَلْتَفُّوا حَوْلَكَ بَعْدَ مَا تَرَكْتَ مَتَاعِبَ فَقْسِهِمْ وَإِطْعَامِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ لِسِوَاكَ؟ أَلَمْ يَبْلُغْكَ مَا قَالَهُ الْحُكَمَاءُ: «لَا رَاحَةَ إِلَّا بَعْدَ تَعَبٍ؛ وَلَا لَذَّةَ إِلَّا بَعْدَ أَلَمٍ، وَلَا هَنَاءَ إِلَّا بَعْدَ عَنَاءٍ، وَلَا نُورَ إِلَّا بَعْدَ ظُلْمَةٍ»؟
«وَهَلْ نَسِيتَ قَوْلَهُمْ: إِنَّ مَا تَزْرَعُهُ إِيَّاهُ تَحْصُدُ، أَوْ: مَنْ يَزْرَع الشَّوْكَ لَا يَحْصُدُ بِهِ الْعِنَبَا»؟
ثُمَّ تَرَكَتْهُ وَطَارَتْ …