سنة خمس وعشرين وماية وألف
ورد أيضًا أغا باستعجال الخزينة، ورجع الحجاج في شهر صفر صحبة محمد بك قطامش، وانتهت رياسة مصر إلى قيطاس بك، ومحمد بك، وحسن كتخدا النجدلي، وكور عبد الله، وإبراهيم الصابونجي. فسولت لقيطاس بك نَفْسُه قطعَ بيت القاسمية، وأخذ يدبر في ذلك، وأغرى سالم بن حبيب، فهجم على خيول إسماعيل بك ابن إيواظ بك في الربيع، وجم أذناب الخيول ومعارفها. ما عدا الخيول الخاص فإنها كانت بِدُوَّار الوسية، وذهب ولم يأخذ منها شيئًا، وحضر في صبحها أمير أخور فأخبروه، وكان عنده يوسف بك الجزار، فلاطفه وسَكَّنَ حدَّتَه، وأشار عليه بتقليد حسن أبي دفَّيّة قايمقام الناحية ففعل ذلك، وجرت له مع ابن حبيب أمور ستذكر في ترجمة ابن حبيب فيما يأتي. ثم إنه كتب عرضحالًا أيضًا على لسان الأمير منصور الخبيري يُذكر فيه أن عرب الضعفاء أخربوا الوادي، وقطعوا درب الفيوم، وأرسل ذلك العرضحال صحبة قاصدٍ يأمنُه. فختمه منصور، وأرسله إلى الباشا صحبة البكاري خفير القرافة. فلما طلع قيطاس بك في صبحها إلى الباشا، واجتمع باقي الأمراء، وكان قيطاس بك رتب مع الباشا أمرَّا سِرًّا وأغراه وأطمعه في القاسمية، وما يؤول إليه من حُلوان بلاد إبراهيم بك ويوسف بك، وابن إيواظ بك وأتباعهم.
فلما استقر مجلسهم دخل البكاري بالعرضحال، فأخذه كاتب الديوان، وقراه على أسماع الحاضرين. فأظهر الباشا الحدة، وقال: أنا أذهب لهؤلاء المفاسيد الذين يُخَرِّبون بلاد السلطان، ويقطعون الطريق. فقال إبراهيم بك: أقل ما فينا يخرج من حقهم، وانحطَّ الكلام على ذهاب إبراهيم بك وإسماعيل بك، ويوسف بك وقيطاس بك وعثمان بك ومحمد قطامش، وكان قانصوه بك في بني سويف في الكشوفية، وأحمد بك الأعسر في إقليم البحيرة. فلما وقع الاتفاق على ذلك خلع عليهم الباشا قفاطين، ونزلوا فأرسلوا خيامهم ومطابخهم إلى تحت أم خنان ببرِّ الجيزة، وعَدُّوا بعد العصر ونزلوا بخيلهم، واتفق قيطاس بك مع عثمان بك أنهم يعدون خلفهم بعد المغرب، ويكونون أكلوا العَشَاء وعَلَّقُوا على الخيول، وعندما ينزلون إلى الصيوان يتركون الخيول مُلْجَمَة، والماليك والطوائف بأسلحتها، فإذا أتى إلينا الثلاثة صناجق نقتلهم، ثم نركب على طوائفهم وخيولهم مربوطة، فنقتل كل من وقع، ونُخَلِّص ثأر الفقارية الذين قتلهم خال إبراهيم بك في الطَرَّانة. فلما فعلوا ذلك وعدوا وأوقدوا المشاعل، وذلك وقت العشاء، ونزلوا بالصيوان.
قال إبراهيم بك ليوسف بك وإسماعيل بك: قوموا بنا نذهب عند قيطاس بك، قالا له: أنت فيك الكفاية. فذهب إبراهيم بك وهو ماشٍ، ولم يخطر بباله شيء من الخيانة. فلما دخل عندهم وسلم وجلس سأله قيطاس بك عن رفقائه، فقال: إنهم جالسون محلهم، فلم يتم ما أرادوه فيهم من الخيانة. فعند ذلك قام محمد بك وعثمان بك إلى خيامهما، وقلعا سلاحهما وخلعا لجامات الخيل وعَلَّقَا مخالي التَّبْن ورجعا إليهما.
فقال قيطاس بك لإبراهيم بك: اركبوا أنتم الثلاثة في غدٍ وانصبوا عند وسيم، ونحن نذهب إلى جهة سَقَّارة. فنطرد العربَ، فيأتون إلى جهتكم فاركبوا عليهم. فأجابه إلى ذلك، ثم قام وذهب إلى رفقائه فأخبرهم بذلك، وباتوا إلى الصباح، وفي الصباح حملوا وساروا إلى جهة وَسيم كما أشار إليهم قيطاس بك، فنزلت إليهم الزيدية بالفطور فسألوهم عن العرب، فقالوا لهم: الوادي في أمن وأمان بحمد الله لا عرب ولا جَرَب ولا شر.
وأما قيطاس بك ومن معه فإنه رجع إلى مصر، وأرسل إلى ابن حبيب بأن يجمع نصف سعد وعرب بلى، ويرسلهم مع ابنه سالم يَدْهَمُون الجماعة بناحية وسيم ويقتلونهم. فَتلكَّأَ ابن حبيب في جمع العربان لصداقة قديمة بينه وبين إبراهيم بك، وحضر لهم رجل من الأجناد كان تخلَّف عنهم لعذر حصل له، فأخبرهم برجوع قيطاس بك ومن معه إلى مصر، فركب إبراهيم بك ويوسف بك وإسماعيل بك، ونزلوا بالجيزة عند أبي هريرة، وصحبتهم خيالة الزيدية، وباتوا هناك وعدوا في الصباح إلى منازلهم سالمين.
وفي هذه السنة حصل طاعون، وكان ابتداؤه في القاهرة في غرة ربيع الأول، تناقص في أواخر جمادى الآخرة، ووصل عابدين باشا إلى الإسكندرية، وتقلد يوسف بك الجزار قايمقام، وخلع علي ابن سيده إسماعيل بك، ولما حضر الباشا إلى الحلي، وطلع إلى العادلية، وأحضر الأمراء تقادمهم، وقدم له إسماعيل بك تقدمة عظيمة، وأحبه الباشا، واختص به، ومال قلبه إلى فرقة القاسمية، فقلدهم المناصب والكشوفيات، وحضر مرسوم بإمارة الحج لإسماعيل بك ابن إيواظ بك، وعابدين باشا هذا هو الذي قتل قيطاس بك، بقراميدان، كما يأتي خبر ذلك في ترجمة قيطاس بك.
وهرب محمد بك قطامش تابعه بعد قتل سيده إلى بلاد الروم، وأقام هناك مدةً ثم عاد إلى مصر، وسيأتي خبر ذلك في ترجمته، وفي ولايته تقلد عبد الله كاشف وصاري علي وعلي الأرمني وإسماعيل كاشف صناجق الأربعة إيواظية، وتقلد منهم أيضًا عبد الرحمن أغا ولجة أغات جملية، وإسماعيل أغا كتخدا وإيواظ بك كتخدا جاويشية، ومن أتباع إبراهيم بك أبي شنب قاسم الكبير، وإبراهيم فارسكور، وقاسم الصغير، ومحمد جلبي بن إبراهيم بك أبي شنب، وجركس محمد الصغير، خمستهم صناجق، واستقر الحال وطلع بالحج الأمير إسماعيل بك ابن إيواظ سنة سبع وعشرين وسنة ثمانٍ وعشرين في أمنٍ وأمان، وسخاء ورخاء.
وفي سنة ثمانٍ وعشرين ورد أغا من إسلامبول وعلى يده مرسوم بطلب ثلاثة آلاف من العسكر المصري، وعليهم أمير قائد، وكانت النوبة على محمد بك جركس الكبير. فلما اجتمعوا بالديوان وقري المرسوم خلع الباشا على محمد بك جركس القفطان، ونزل إلى داره فطوى القفطان وأرسله إلى سيده إبراهيم بك، ويقول له: عندك خلافي صناجق كثيرة فإني قشلان، فتكدر خاطره. ثم أرسل إليه صحبة أحمد بك الأعسر عشرين كيسًا، فاستقلها، فأعطاه أيضًا وصولًا بعشرة أكياس على الطَّرَّانه. فجهَّزَ حاله وركب إلى قصر الحلي بالموكب، وأحضر عنده الحريم فأقام أيامًا في حظه وصفائه، والأغا المعين يستعجل السفر، وفي كل يوم يأتيه فرمان من الباشا بالاستعجال والذهاب، وهو لا يبالي بذلك.
ثم إن الباشا تكلم مع إبراهيم بك في شأن ذلك، فلما نزل إلى بيته أرسل إليه أحمد بك الأعسر وقاسم بك الكبير، فأخبراه بتقريط الباشا والاستعجال. فقال في جوابه: جلوسي هنا أحسن من إقامتي تحت الطرانة، حتى يدفعوا لي العشرة أكياس، فلا أرتحل حتى تأتيني العشرة أكياس، ورمى لهم الوصول.
فرجع أحمد بك إلى إبراهيم بك، وأخبره بمقالته ورد إليه الوصول. فما وسعه إلا أنه دفع ذلك القدر إليه نقدًا، وقال: سوف يخرب هذا بيتي بعناده. فلما وصله ذلك نزل إلى المراكب وسافر. ثم ورد مسلم علي باشا وأخبر بولايته مصر. عن سنة تسع وعشرين ومائة وألف فاجتمعوا بالديوان، وتقلد إبراهيم بك أبو شنب قايمقام، ونزل إلى بيته، وخلع على أحمد بك الأعسر، وجعله أمين السِّماط، ونزل عابدين باشا من القلعة عندما وصل الخبر بوصول علي باشا إلى إسكندرية، وسافرت إليه أرباب الخدم والعكاكيز، وسافر عابدين باشا قبل حضور علي باشا بمصر، وحضر علي باشا وطلع إلى القلعة على الرسم المعتاد، واستقر في ولاية مصر، والأمور صالحة والفتن ساكنة، ورياسة مصر للأمير إبراهيم بك أبي شنب الكبير، والأمير إسماعيل بك ابن إيواظ بك؛ ومحمد كتخدا جدك مستحفظان وإبراهيم جربجي الصابونجي عزبان، وأتباع حسن جاويش القازدغلي وهم عثمان أوده باشه، وسليمان أوده باشه تابع مصطفى كتخدا، وخلافهم من رؤسا باب العزب وباقي البلكات، ومات الأمير إبراهيم بك الكبير سنة ثلاثين.
فاستقل بالرياسة إسماعيل بك ابن إيواظ بك، وسكن محمد بك ابن إبراهيم بك بمنزل أبيه وفي نفسه ما فيها من الغيرة والحسد لإسماعيل بك ابن خشداش أبيه، وفي أواخر سنة تسع وعشرين، ورد قابجي وعلى يده مرسوم بطلب ثلاثة آلاف من عسكر مصر، وعليهم أمير لسفر الجهاد، وكان الدور على محمد بك ابن إيواظ أخي إسماعيل بك، فعلم أخوه أنه خفيف العقل فلا يستر نفسه في السفر فقلد أحمد كاشف صنجقية وجعله أمير العسكر، وجعل مملوكه علي الهندي كتخداه، وقضوا أشغالهم، وركب الأمير والسدادرة بالموكب، ونزلوا إلى بولاق، وسافروا بعد ثلاثه أيام، وأدركوا عسكر الأورام، وسافروا صحبتهم، وحضر محمد جركس من السفر (في سنة ثلاثين) فوجد سيده إبراهيم بك توفي، وأمير مصر إسماعيل بك، فتاقت نفسه للرياسة، فضم إليه جماعة من الفقارية مثل حسين أبو يدك وذي الفقار تابع عمر أغا وأصلان وقيلان ومن يلوذ بهم من أمثالهم، واتخذ لهم سَرَّاجًا قبيحًا يقال له الصيفي، وكان الدفتردار في ذلك الوقت أحمد بك الأعسر تابع إبراهيم بك أبي شنب، وكلما رأى تحرك محمد بك جركس؛ لإثارة الفتن يُهَدَّي عليه ويلاطفه ويطفئ نَارِيتَه.
وكان ذو الفقار لما قتل سيده عمر أغا وأراد إسماعيل بك قتله أيضًا في ذلك اليوم، فوقع على خازندار حسن كتخدا الجلفي، وحماه من القتل، وأخرج له حسن كتخدا حصة في (قمن العروس) بالحلول عن سيده، وهي شركة إسماعيل بك ابن إيواظ، ولم يقدر حسن كتخدا أن يذاكر إسماعيل بك في فايظها؛ لعلمه بكراهته لذي الفقار ويريد قتله.
فلما مات حسن كتخدا الجلفي، وحضر محمد بك جركس من السفر، وانضم إليه ذو الفقار المذكور وخاطب في شأنه إسماعيل بك فلم يفد، ولم يرضَ أن يعطيه شيئًا من فايظه، وتكرر هذا مرارًا، حتى ضاق خناق ذي الفقار من الفشل، فدخل على محمد بك جركس في وقت خلوة، وشكا إليه حاله، وفاوضه في اغتيال إسماعيل بك، فقال له: أفعل ما تريد، فأخذ معه في ثاني يوم أصلان وقبلان وجماعة خيالة من الفقارية، ووقفوا لإسماعيل بك في طريق الرميلة عند سوق الغلة، وهو طالع إلى الديوان، فمرّ إسماعيل بك وصحبته يوسف بك الجزار وإسماعيل بك جرجا وصاري علي بك. فرموا عليهم بالرصاص، فلم يصب منهم إلا رَجل قوَّاسٌ، ورمح إسماعيل بك، ومن بصحبته إلى باب القلعة، ونزل هناك وكتب عرضحال ملخصه الشكوى من محمد بك جركس، وأنه قد جمع عنده المفسدين، ويريد إثارة الفتن في البلد، وأرسله إلى الباشا صحبة يوسف بك. فأمر علي باشا بكتابة فرمان خطابًا للوجاقات بإحضار محمد بك جركس، وإن أَبَى فحاربوه، واقتلوه.
فلما وصل الخبر إلى جركس ركب مع المنضمين له من فقارية وقاسمية، ووصل إلى الرميلة فصادف الموجهين إليه، فحاربهم وحاربوه، وقتل حسين بك أبو يدك وآخرون، وانهزم جركس وتفرق مَن حوله، ولم يتمكن من الوصول إلى داره فذهب على طريق الناصرية، ولم يزل سايرًا حتى وصل إلى شبرا، ولم يبقَ صحبته سوى مملوكين فلاقاه جماعة من عرب الجزيرة فقبضوا عليهم، وأخذوا سلاحهم، وأتوا بهم إلى بيت إسماعيل بك ابن إيواظ بك، وكان عند أحمد كتخدا أمين البحرين والصابونجي. فأشارا عليه بقتله فلم يرضَ، وقال: إنه دخل بيتي، وخلع عليه فروة سَمُّور، وأعطاه كسوة وذهبًا، ونفاه إلى جزيرة قبرص، ورجع العسكر الذين كانوا بالسفر، واستشهد أمير العسكر أحمد بك.
فقلدت الدولة علي كتخدا الهندي صنجقًا عوضًا عن مخدومه أحمد بك، وأعطوه نظر الخاصكية قيد الحياة، وأطلقوا له بلاده من غير حلوان. فلما وصلوا إلى مصر عمل له يوسف بك الجزار سماطًا بالحلي، ثم ركب وطلع إلى القلعة، وخلع الباشا عَلَى عَليِ بك الهندي خلعة السلامة، ونزل إلى بيت إسماعيل بك، وأنعم عليه بتقاسيط بلاد فائظها اثنا عشر كيسًا، واستمر صنجقًا، وناظرًا على الخاصكية.
وفي هذه السنة — أعني سنة ثلاثين — حصلت حادثة ببولاق وهو أن سكان حارة الجوابر تشاجروا مع بعض الجمالة أتباع أوسية أمير الحاج، فحضر اليهم أمير أخُور، فضربوه، ووصل الخبر إلى الأمير إسماعيل بك، فأرسل إليهم أغات الينكجرية والوالي فضربوهم، فركب الصنجق بطائفته، وقتلوا منهم جماعة، وهرب باقيهم، وأخرجوا النساء بمتاعهن، وسمروا الدرب من الجهتين، وكانت حادثة مهولة، واستمر الدرب مقفولًا ومسمرًا نحو سنتين، وفيها كان موسم سفر الخزينة وأميرها محمد بك ابن إبراهيم بك أبو شنب، وكان وصل إليه الدور، وخرج بالموكب وأرباب المناصب والسدادرة، ولما وصل إلى إسلامبول واجتمع بالوزير ورجال الدولة أَوْشى إليهم في حق إسماعيل بك ابن إيواظ، وعرفهم أنه إن استمر أمره بمصر ادعى السلطنة بها وطرد النواب. فإن الأمراء وكبار الوجاقات والدفتردار وكتخدا الجاويشية صاروا كلهم أتباعه ومماليكه ومماليك أبيه، وعلي باشا المتولي لا يخرج عن مراده في كل شيء، ونفى وأبعد كل من كان ناصحًا في خدمة الدولة، مثل جركس ومن يلوذ به، وعمل للدولة أربعة آلاف كيس على إزالة إسماعيل بك والباشا، وتولية والٍ آخر يكون صاحب شهامة. فأجابوه إلى ذلك وكان قبل خروجه من مصر أوصى قاسم بك الكبير على إحضار محمد بك جركس، فأرسل إليه وأحضره خفية واختفى عنده.
ثم إن أهل الدولة عينوا رجب باشا أمير الحاج الشامي، ورسموا له عند حضوره إلى مصر أن يقبض عَلىَ عَليِ باشا، ويحاسبه ويقتله، ثم يحتال على قتل إسماعيل بك ابن إيواظ وعشيرته، ما عدا علي بك الهندي، ورجع محمد بك ابن أبي شنب إلى مصر، وعمل دفتردارا، وحضر مُسَلِّم رجب باشا، ومعه الأمر بحبس علي باشا بقصر يوسف، وقائمقامية إلى أحمد بك الأعسر.
وبعد أيام وصل الخبر بوصول رجب باشا إلى العريش، وسافرت له لملاقاة، وتقلد إبراهيم بك فارسكور أمين السماط، وطلع إسماعيل بك أميرًا بالحج تلك السنة، وهي سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف، وذلك عند وصول رجب باشا إلى العريش، ثم حضر رجب باشا إلى مصر، وعملوا له الشنك والموكب على العادة. فلما اسقر بالقلعة أحضر إليه ابن علي باشا، وخازنداره وكاتب خزينته والروزنامجي، وأمرهم بعمل حسابه، ثم قطع رأسه ظلمًا وسلخها، وأرسلها إلى الباب، ودفن علي باشا بمقام أبي جعفر الطحاوي بالقرافة، ويُعرف إلى الآن قبره بعلي باشا المظلوم، وأمر بضبط جميع مخلفاته.
ثم أحضر له محمد جركس خفية، وأمر الأغا والوالي بالمناداة عليه، وكل من آواه يشنق على باب داره. ثم اختلى به، وقال له: كيف العمل والتدبير في قتل ابن إيواظ بك وجماعته؟ فقال له: الرأي في ذلك أن ترسل إلى العرب يقفون في طريق الوشاوشة، فإنهم يرسلون يعرفونكم بذلك فأرسلوا لهم عبد الله بك، وبعد عشرة أيام أرسلوا يوسف بك الجزار، ومحمد بك ابن إيواظ بك وإسماعيل بك جرجا وعبد الرحمن أغا ولجه أغات الجملية. فعندما يرتحلون من البركة يقتل إسماعيل بك الدفتردار كتخدا الجاويشية، وعند ذلك أنا أظهر وتقلد إمارة الحج إلى محمد بك ابن إسماعيل بك، ونرسله بتجريدة إلى ابن إيواظ بك يقتلونه مع جماعته، وهذا هو الرأي والتدبير.
ففعلوا ذلك ولم يتم بل اختفى إسماعيل بك ودخل إلى مصر، ثم ظهر بعد أن دبر أموره، وعزل رجب باشا، وأنزلوه إلى بيت مصطفى كتخدا عزبان، وفسد تدبيره، وكتبوا عرضحال بصورة الواقع وأرسلوه إلى إسلامبول، وسيأتي تتمة خبر ذلك في ترجمة إسماعيل بك، وكان رجب باشا أخذ من مال دار الضرب مائة وعشرين كيسًا صرفها على التجريدة.
ثم وصل محمد باشا النشائجي سنة ثلاث وثلاثين. فعندما استقر بالقلعة طلب من رجب باشا المائة وعشرين كيسًا، وقلد إمارة الحج لمحمد بك ابن إسماعيل بك الكبير الفقاري، فطلع بالحج سنة ثلاث وسنة أربع وثلاثين، ثم حضر مرسوم بالأمان والعفو لإسماعيل بك ابن إيواظ بك وقري بالديوان.
وسافر رجب باشا، وسكن الحال مع التنافر والحقد الباطني الكامن في نفس محمد بك جركس وابن أستاذه محمد بك أبي شنب لإسماعيل بك ابن إيواظ، وهو يسامح لهم ويتغافل عن أفعالهم وقبايحهم، ويسوس أموره معهم، وكل عقدة عقدوها بمكرهم حلها بحسن رأيه وسياسته وجودة رأيه، وجرت بينه وبينهم أمور ووقايع ومخاصمات وجمعيات ومصالحات يطول شرحها. ذكرها أحمد جلبي عبد الغني في تاريخه الذي ضاع مني.
ولم يزل إسماعيل بك ظاهرًا عليهم حتى خانوه واغتالوه وقتلوه بالقلعة على حين غفلة على يد ذي الفقار تابع عمر أغا وأصلان وقيلان ومن معهم، وقتلوا معه إسماعيل بك جرجا، وعبد الله أغا كتخدا الجاويشية، ثم تحيلوا على قتل عبد الله بك، ومحمد بك ابن إيواظ وإبراهيم بك ابن الجزار، وذلك في سنة ستٍ وثلاثين وماية وألف في أيام ولاية محمد باشا المذكور، وسيأتي تتمة ذلك في ذكر تراجمهم.
وقلدوا ذا الفقار قاتل إسماعيل بك الصنجقية، وكشوفية المنوفية، وانضم إليه من كان خاملًا من الفقارية، وبدا أمرهم في الظهور. فممن انضم إليه مصطفى بك بلغيه، ومحمد بك أمير الحاج، وهو ابن إسماعيل بك الكبير الفقاري، وإسماعيل بك الدالي، وقيطاس بك الأعور، وإسماعيل بك ابن سيده، ومصطفى بك قزلار وخلافهم اختيارية، وأغوات من الوجاقلية، ونظم أموره، وقضى لوازمه وأشغاله، وجعل مصطفى أفندي الدمياطي كاتب تركي، وعزم على السفر إلى المنوفية، وركب في موكب حافل وصحبته من ذكر من الفقارية، وكان رجب كتخدا ومحمد جاويش الداودية متوجهين إلى بيت محمد بك جركس، وكانا خصيصين به، وبيدهما باب الينكجرية مع الأقواسي، ولهما الكلمة بالباب دون القازدغلية، فصادف موكب ذي الفقار فوقفا ونظرا إلى الراكبين معه من الفقارية، فتغير خاطرهم على جركس، وتكدر مزاجهما، وترحما على إسماعيل بك ابن إيواظ، ولما دخلا على جركس نظر إليهما فرآهما منفعلين، فسألهما عن سبب انفعالهما فأخبراه بما رأياه، وقالا: إن دام هذا الحال قتلنا الفقارية. فقال: يكون خيرًا، ثم أمر الصيفي بقتل أصلان وقيلان. فوظف معه سراجًا يثق به، وأمره أن يقف في سلالم المقعد، فعندما علم بحضورهما أحدث الصيفي مشاجرةً مع ذلك السراج، وفزع عليه بالطبنجة، فهرب السراج من أمامه، فجرى الصيفي خلفه فأخرج ذلك السراج طبنجته أيضًا، ورفع زنادها، فقال له أصلان: عيب. فأفرغها فيه، وفرغ أيضًا الصيفي طبنجته في قيلان وذلك بسلالم المقعد ببيت جركس، ومسح الخدم الدم، وأخذوا خيولهما، وأرسلوا المقتولين إلى بيوتهما في تابوتين.
ثم إن محمد بك جركس طلع إلى القلعة، وطلب من الباشا فرمانًا بتجريدة يرسلها إلى ذي الفقار، ومن معه من الفقارية فامتنع الباشا، وقال: رجل خاطر بنفسه بمعرفتكم واطلاعكم كيف أني أعطيكم بعد ذلك فرمانًا بقتله. فقام جركس ونزل إلى بيته، ولم يطلع بعد ذلك إلى الديوان، وأهملوا الدواوين والباشا. فلما ضاق خناق الباشا أبرز مرسومًا برفع صنجقية جركس، وكتب فرمانات للمشايخ والوجاقلية بذلك، ويمنعهم من الذهاب إليه، وبلغ الخبر إلى جركس فتدارك الأمر، وعمل جمعيات، ورتب أمورًا، واجتمعوا بالرميلة وحوالي القلعة، وعزلوا الباشا، وأنزلوه، وأسكنوه في بيت ابن الدالي.
وكان ذلك في أواخر سنة ثمانٍ وثلاثين. فكانت مدته في هذه المدة خمس سنوات، وأرسلوا له محمد بك ابن شنب، فخلع عليه، وجعلوه قايمقام، وأخذوا منه فرمانًا بالتجريدة على ذي الفقار، وجعلوا إبراهيم بك فارسكور أمير العسكر وكاشف المنوفية، ووصل الخبر إلى ذي الفقار بك بما حصل من مصطفى بك بلغيه فوزع طوائفه في البلاد، ودخل إلى مصر خفية إلى بيت أحمد أوده باشه مطرباز. فلما سافر إبراهيم بك بالتجريدة لم يجده فضبط موجوداته، وتحقق من المخبرين أنه دخل إلى مصر، وأرسل الخبر بذلك لجركس فأمر لهلوبة الوالي والصيفي بالفحص والتفتيش عليه، وأرسلوا عرضحال محضرًا بما نمقوه وبنزول الباشا، وكان محمد باشا أرسل قبل ذلك مكاتبات لرجال الدولة بما حصل بالتفصيل. فلما وصل عرض المصريين عينوا علي باشا واليًا جديدًا إلى مصر بتدبير ومكيدة، وصحبته قبودان وقابجي بطلب الأربعة آلاف كيس التي جعلها محمد بك ابن أبي شنب حلوانًا على بلاد الشواربية.
ومن الحوادث في أيام محمد على باشا: أن في أول الخماسين الواقع في شهور رجب سنة خمس وثلاثين ومائة وألف طلع الناس على جري العادة في ذلك؛ لاستنشاق النسيم في نواحي الخلاء، وخرج سرب من النساء إلى ناحية الأزبكية، وذهب منهن طائفة إلى غيط الأعجام تجاه قنطرة الدكة. فحضر إليهن جماعة سراجون، وبأيديهم السيوف من جهة الخليج وهم سكارى، وهجموا عليهن، وأخذوا ثيابهن، وما عليهن من الحلي والحلل. ثم إن الخفراء وأدوه باشه القنطرة حضروا إليهن بعد ذهاب أولئك السراجين فأخذوا ما بقي، وكملوا بقية النهب، وجميع من هناك من النساء من الأكابر، ومن جملة ما ضاع حزام جوهر، وبشت جوهر، وقالوا إن الحزام قيمته تسعة أكياس، والبشت خمسة أكياس، ومن جملة من كان هناك: آمنة الجنكية، وصحبتها امرأة من الأكابر؛ فعروهما، وأخذوا ما عليهما، وكان لها ولد صغير وعلى رأسه طاقية عليها جواهر وبنادقة، وزوجا أساور جوهر، وخلخال ذهب بندقي قديم وزنه أربعمائة مثقال، ومن جملة ما أخذوا: لباس شبيكة من الحرير الأصفر والقصب الأصفر، وفي كل عين من الشبيكة لؤلؤة، في كل لؤلؤة شريط مخيش، والدكة كذلك، وأخذوا أزرهن وفرجياتهن، وأرسلن إلى بيوتهن فأتين بثياب يستترن بها وذهبن، وكانت هذه الحادثة من أشنع الحوادث.
ثم إن في ثاني يوم قدموا عرضحال إلى الباشا، وأخذوا على موجبه فرمانًا إلى أغات الينكجرية على أنه يتوجه وصحبته الوالي أوده باشه البوابة. فذهبوا إلى محل الواقعة، وأحضروا أهل الخطة، فشهدوا على أن هذه الفعلة من الخفراء بيد أوده باشه مركز القنطرة، وهو الذي أرسل السراجين والحمارة، فقبضوا على الخفراء، والأوده باشه وسئلوا فأنكروا. فحبس الأوده باشه في بابة، والخفراء في العرقانة، وأمر الباشا الوالي بعقابهم. فلما رأوا آلة العذاب أقروا أن ذلك من فعل الأوده باشه، فأخذوا منه مالًا كثيرًا ونفوه إلى أبي قير، ونادى الأغا والوالي على النساء لا يذهبن إلى الغيطان بعد اليوم، ولا يركبن الحمير.
ومنها أنه ورد أغا من الديار الرومية في سابع عشر ربيع الآخر سنة خمس وثلاثين، وعلى يده مرسوم بدفع ستين كيسًا إلى باشه جدة؛ ليشتروا بها مركبًا هنديًّا لحمل غلال الحرمين عوضًا عن مركب غرقت قبل هذا التاريخ، وحضر صحبة ذلك الأغا تاجر عظيم من تجار الشوام ومعه أتباعه، ووصل الجميع على خيل البريد، إلى أن وصلوا إلى بركة الحاج، فنزلوا؛ ليأخذوا لهم راحة لكونهم وصلوا أرض الأمان، وفارقهم الأغا فنزل عليهم سالم بن حبيب فَعَرَّاهم وأخذ ما معهم، وكذلك كل من صادفه في الطريق.
ومن جملة ذلك سبعون جملًا لعبد الرحمن بك محملة ذخيرة من الولجة إلى منزله، وكذلك جمال عبد الله بك وجمال السقائين، وحصل منهم ما لا خير فيه، وكان صحبة سالم عرب الجزيرة ومغاربة، وسبب ذلك: أنه لما طُرد من دجوة وذهب إلى الصعيد فنزل إليه قيطاس بك وجمع عليه عربان القبايل وحاربه وقتل أولاده، فرجع من خلف الجبل وقعد بالبركة وقطع الطريق، فلما وصل الخبر بذلك إلى مصر نزل إليه أمير الحاج، وكاشف القليوبية حمزة بك تابع ابن إيواظ، وعينوا صحبتهم عرب الصوالحة، وهم نصف حرام. فنزل أمير الحاج بالمسبك وجلس هناك، وابن حبيب نازل في المساطب التي بعد البركة، وناصب صيوان كاشف شرق إطفيح، وكان نهبه وهو متوجه إلى قبلي. فإن الكاشف لما أقبل عليه سالم رمح عليه، وكان في قلَّة فهزمه سالم، وأخذ صيوانه، ونهب الوطاق والجمال، وأخذ النقاقير، ونزل البركة، وربط خيوله هو ومن معه في الغيطان، فأكلوا ستة وثلاثين فدان برسيم في ليلة واحدة.
ثم إن الباشا أرسل إلى أمير الحاج بالرجوع، وعينوا عبد الله بك وحمزة بك وخليل أغا، وأرسل إسماعيل بك صحبتهم خمسمائة جندي من أتباعه ومن البلكات، ومعهم فرمان لجميع العرب بالتعمير في أوطانهم، ما عدا سالم بن حبيب وإخوته ومن يلوذ به، وسافرت لهم التجريدة، وارتحل ابن حبيب وسار إلى جهة غزة، ونهبت التجريدة ما في طريقهم من البلاد، وأرسل إليهم الباشا فرمانًا بالعود، فرجعوا من غير طائل.
ومنها أنه ورد شاهقتان، وهما مركبان من أرض حوران مملوءتان قمح حنطة، في كل واحدة عشرة آلاف إردب، بيعتا في دمياط، وكان سعر الغلة غاليًا بمصر لقصور النيل في العام الماضي، وتسامعت البلاد بذلك، فهذا هو السبب في ورود هذين المركبين.
وفي شهر ذي القعدة سنة خمس وثلاثين ومائة وألف تقلد الصنجقية علي أغا الأرمني الذي عُرف بأبي العدب، وكذلك علي أغا صنجقية وأمين العنبر وحاكم جرجا، وكمل بذلك صناجق مصر أربعة وعشرين صنجقًا، وكانوا في المعتاد القديم اثنين وعشرين، وكتخدا الباشا، وقبطان الإسكندرية. فتكرم الباشا بصنجقية كتخدا لعلي بك الأرمني إكرامًا لإسماعيل بك ابن إيواظ بك، فكمل بذلك عشرة من أتباع إسماعيل بك؛ وهم: إسماعيل بك الدفتردار، وعبد الله بك، وأخوه محمد، وحمزة بك، وعلي بك الهندي، وصاري علي بك، وإبراهيم بك خازندار الجزار، وعبد الرحمن بك ولجة، وعلي بك هذا المعروف بأبي العدب ونفس ابن إيواظ بك وهو عاشرهم.
ومن بيت أبي شنب: محمد بك ابنه، وجركس الكبير، ومملوكه جركس الصغير، وقاسم الكبير، وقاسم الصغير، والأعسر، وإبراهيم بك فارسكور، وذو الفقار تابع قانصوه، ومصطفى بك القزلار، وقيطاس بك تابع قيطاس بك الكبير، وابن إسماعيل بك الدفتردار وهو محمد بك، وأحمد بك المسلماني، ومرجان جور، وإبراهيم الوالي تتمة أربعة عشر.
وتقلد كشوفية الغربية محمد بن إسماعيل بك، والبحيرة أحمد بك الأعسر، وبني سويف قاسم بك الصغير، والجيزة محمد بك أبي شنب الدفتردار، والشرقية عبد الرحمن بك، ولبس علي القليوبية خليل أغا بعد عزله من أغاوية الجراكسة، وتقلد قيطاس بك كشوفية المنوفية بعد عزله من أغاوية التفكجية، وتقلد حسين أغا ابن محمد أغا تابع البكري كشوفية الفيوم، وإبراهيم بك الوالي على الخزينة، وألبس إسماعيل بك محمد أغا ابن أشرف علي أغاوية الجملية على ما هو عليه، وكان أراد محمد بك تلبيس مصطفى أغا بلغية، فحصل بين محمد بك ابن أبي شنب، وبين إسماعيل بك ابن إيواظ بك غم وكلام في الديوان.
فلما رأى مصطفى أغا ذلك ما وسعه إلا النزول من باب الميدان وتركهم، وألبس عبد الغفار أفندي أغاوية الجراكسة، ومصطفى أغا تابع عبد الرحمن بك أغات متفرقة، وركب إسماعيل بك بطائفته، ونزل من باب الجبل إلى قصره بمصر القديمة، ونزل ابن أبي شنب والأعسر، وقاسم بك، وهم مملوؤون من الغيظ.
وفي رجب قبل ذلك ورد أغا من الديار الرومية وعلى يده مرسوم وسيف وقفطان للشريف يحيي شريف مكة، وتقرير للباشا على السنة، وأغاوية المتفرقة لعبد الغفار أفندي، لم يسبق نظير ذلك، وإن أغاوية المتفرقة تأتي من الديار الرومية … وسبب ذلك: أن حسن أفندي والد عبد الغفار أفندي كان عنده طواشي أهداه إلى السلطنة، فأرسل ذلك الأغا أغاوية المتفرقة إلى ابن سيده، فألبسه الباشا القفطان على ذلك، فحصل بسبب ذلك فتنة في الوجاق، وسبب ذلك: أن وجاقهم فرقتان ظاهرتان بخلاف غيره، والظاهر منهما ستة أشخاص من الاختيارية، وهم: سليمان أغا الشاطر، وعلي أغا، وعبد الرحمن أغا القاشقجي، وخليل أغا، وإبراهيم كاتب المتفرقة سابقًا، وكبيرهم محمد أغا السنبلاوين، وهم من طرف محمد بك جركس، لكن لما ظهر إسماعيل بك انحطت كلمتهم، وظهرت كلمة الذين من طرف إسماعيل بك، وهم إسماعيل أغا ابن الدالي، وأحمد جلبي بن حسين أغا أستاذ الطالبية، وأيوب جلبي.
فلما تولى عبد الغفار الأغاوية لحق أولئك الحقد والحسد، وتناجوا فيما بينهم على أن يملكوا الباب، فاجتمعوا بأنفارهم وملكوا الباب، فهرب عبد الغفار أغا إلى بيت إسماعيل بك، وكان عنده الجماعة الآخرون، فدخل عليهم عبد الغفار أغا، وأخبرهم بما حصل، فأشار عليهم إسماعيل بك أن يذهبوا إلى بيت أحمد جلبي، ويجعلوه محل الحكم، وأرسل أولئك الطرف، فطلبوا محمد أغا إبطال، وباكير أغا تابع إسماعيل الكبير، ومصطفى أغا، وكانوا منفيين من بابهم إلى العزب، وكانوا كبراءهم، وخرجوا منهم في واقعة جركس المتقدمة فأبوا من الحضور إليهم.
فلما أبوا عليهم عملوا القاشقجي باشا اختيار عوضًا عن إبطال، وعزلوا وولوا على مرادهم، وطلع في صبحها إسماعيل بك إلى الديوان، وصحبته علي بك وأمير الحاج، وأخبروا الباشا بفعل القاشقجى، فأرسل الباشا اثنين أغوات، ومن كل وجاق اثنين اختيارية لينظروا الخبر، ففزعوا عليهم، فرجعوا وأخبروا الباشا والأمرا، فأرسل لهم فرمانًا بنفيهم إلى الكشيدة فأبوا، وصمموا على عدم ذهابهم إلى الكشيدة، وأقام الأمراء عند الباشا إلى الغروب. ثم إنهم نزلوا ووعدوا الباشا أنهم في غد يفصلون هذا الأمر، وإن لم يمتثلوا حاربناهم. فلما كان في ثاني يوم عملوا جمعية، واتفقوا على توزيع الستة أنفار على الست وجاقات، وكتبوا من الباشا ست فرمانات. فكان كذلك، وتفرقوا في الوجاقات، ونزل إسماعيل بك ابن إيواظ ثالث عشر رجب سنة خمس وثلاثين إلى بيته بعد إقامته في باب العزب ثلاثة أيام في طائفته ومماليكه وصناجقه، بحيث إن أوائل الطائفة دخلوا إلى البيت قبل ركوبه من باب العزب، وكان خلفه نحو المائتين بالطرابيش الكشف، وتُمم الأمر على مراده، ثم تحقق الخبر فظهر له أن أصل هذه الفتنة من إسماعيل أغا ابن الدالي. فطلع في ثاني يوم إلى الديوان، وألبس إسماعيل أغا أغاوية العزب، وأحضر محمد أغا إبطال وباكير أغا ومصطفى أغا من باب العزب، وردهم إلى محلهم، وعمل إبطال باشا اختيارًا.
وفي ذلك اليوم حضر عبد الله بك وحمزة بك المتوجهان إلى العرب، ومعهما أربعمائة وخمسون رأسًا، وسبعة من المقادم بالحياة، فأرسل إليهما إسماعيل بك بأن يرميا الرءوس في الخلفاء الخانقاه، ويقتلا الذين بالحياة، ويدخلا إلى مصر بالليل، ففعلا والله أعلم بغرضه في ذلك.
وفي أيامه أيضًا في شعبان سنة خمس وثلاثين، ورد عرضحال من مكة بأن يحيى الشريف، وعلي باشا والي جدة، وعسكر مصر، الذين عينوا صحبة أحمد بك المسلماني، وأهل مكة، تحاربوا مع الشريف مبارك شريف مكة سابقًا، وكان معه سبعة آلاف من العرب اليمانية، ووقع بينهم مقتلة عظيمة، وسقط علي باشا من على ظهر جواده، إلا أن أحمد بك أدركه، وأنقذه بجواده الجنيب، فخلع على أحمد بك خلعة سمور، وسردارية مستحفظان وكان ذلك في عرفات، وقُتل من العرب زيادة عن ألفين وخمسمائة، ومن العسكر نحو الخمسين، ومن أتباع الباشا كذلك، ومات علي أغا سردار جمليان، وكان الباشا قتل من الأشراف اثني عشر شخصًا، وكانوا في جيرة الشريف يحيى، وقد أبطل الجيرة.
ثم إنهم رجعوا بعد المعركة إلى جدة، وإنهم مجتهدون في جمع اللموم، وقادمون علينا بمكة، والقصد الاهتمام والتعجيل بإرسال قدر ألف وخمسمائة عسكري، وعليهم صنجق؛ لأن الذين عندنا عندما ينقضي الحج يذهبون إلى بلادهم وتصير مكة خالية، وقد أخبرناكم وأرسلنا بمثل ذلك إلى الديار الرومية صحبة الشيخ جلال الدين ومفتي مكة. فكتب الباشا والأمراء بذلك أيضًا، وانتظروا الجواب. ثم ورد الساعي وأخبر بوصول على باشا إلى الإسكندرية في غليون البليك، وحضر بعد يومين المُسَلَّم بقائم مقامية لمحمد بك جركس فخلع عليه فروة سمور، وأنزله بمكان شهر حواله، ورتب له تعيينات، وسافرت الملاقاة وأرباب الخدم والجاويشية والملازمون، وقلد محمد بك خازنداره رضوان صنجقية وجعله أمين السماط، وأخذ الخاصكية من علي بك الهندي، وأعطاها لرضوان المذكور، وأبطل الخط الشريف الذي بيده بالخاصكية قيد حياته.
ووصل على باشا في منتصف ربيع أول سنة ١١٣٨، وركب إلى العادلية، وخَلَع خِلَعَ القدوم، وقدَّموا له التقادم، وطلع إلى القلعة بالموكب المعتاد، وضربوا له المدافع والشنك، وسكن الحال. ثم إن محمد باشا المنفصل أرسل تذكرةً على لسان كتخداه خطابًا لمصطفى بك بلغية وعثمان جاويش القازدغلي مضمونها: أن حضرة الباشا يسلم عليكم، ويقول لكم: لا بد من التدبير في ظهور ذي الفقار، وقطع بيت أبي شنب حكم الأمر السلطاني، وتحصيل الأربعة آلاف كيس الحلوان المعين بها القابجي.
فلما وصلت التذكرة إلى مصطفى بك أحضر عثمان جاويش، وعرضها عليه، فقال: هذا يحتاج أولًا إلى بيت مفتوح تجتمع فيه الناس، فاتفقا على ضم علي بك الهندي إليهما، وهو يجمع طوائف الصناجق المقتولين ومماليكهم. ثم يدبرون تدبيرهم بعد ذلك، فأحضروه وعرضوا عليه ذلك، فاعتذر بخلويده. فقالوا له: نحن نساعدك، وكل ما تريده يحضر إليك، وأحضر أحمد أوده باشه المطرباز ذا الفقار بك عند علي بك الهندي ليلًا. ثم إن علي بك الهندي أحضر مصطفى جلبي بن إيواظ، فأحضر كامل طوائف أخيه، وجماعة الأمراء المقتولين.
وبلغ محمد بك جركس أن علي بك الهندي عنده لموم وناس، فأرسل له رجب كتخدا ومحمد جاويش يأمره بتفريق الجمعية، ووعده برد نظر الخاصكية إليه. فلما وصلا إليه وجدا كثرة الناس والازدحام، وأكلًا وشربًا. فقال له رجب كتخدا: إيش هذا الحال وأنت خالي وجمع الناس يحتاج إلى مال. فقال له: وكيف أفعل؟ قال: اطردهم، وقال: وكيف أطردهم، وهم ما بين ابن أستاذي، وخشداشي وابن خشداشي حتى إني رهنت بلدًا!!! فقال: اقعد مع عائلتك وخدمك ونرد لك نظر الخاصكية، وأخلص لك البلد المرهونة. قال: يكون خيرًا، وانصرفا من عنده، ودخل علي بك الهندي فأخبر ذا الفقار بذلك، فقال له: أرسل إلي سليمان أغا أبي دفية ويوسف جربجي البركاوي. فأرسل إليهما وأحضرهما، وأدخلهما إليه، وتشاوروا فيما يفعلونه. فاتفقوا على قتل إبراهيم أفندي كتخدا العزب، وبقتله يملكون باب العزب، وعند ذلك يتم غرضنا، فأصبحوا بعدما دبروا أمرهم مع الباشا المعزول، والفقارية، والشواربية، وفرقوا الدراهم، فركب أبو دفية بعد الفجر، وأخذ في طريقه يوسف جربجي البركاوي، ودخلا على إبراهيم كتخدا عزبان. فركب معهم إلى الباب، وتطليس ذو الفقار، وأخذ صحبته سليمان كاشف ويوسف زوج هانم بنت إيواظ بك ويوسف الشرايبي ومحمد بن الجزار، وأتوا إلى الرميلة ينتظرونهم بعدما ربطوا المحلات والجهات.
فعندما وصل إبراهيم كتخدا إلى الرميلة، تقدم إليه سليمان كاشف ليسلم عليه، وتبعه خازنداره ابن إيواظ، وضربه فسقط إلى الأرض ورمحوا إلى الباب، فطردوا البكجية وملكوه، وركب في الحال محمد باشا، وحضر إلى جامع المحمودية، ونزل علي باشا إلى باب العزب، واجتمعت كامل صناجق نصف سعد، وقسموا المناصب مثل الحال القديم: أمير الحاج من الفقارية، والدفتردار من القاسمية، ومتفرقة باشا من الفقارية، وكتخدا الجاويشية من القاسمية … ونحو ذلك، وقرأوا فاتحة على ذلك، وأغات الينكجرية أبو دفية، ومصطفى أفندي الدمياطي زعيم.
وكان القبودان أتى من الإسكندرية، ونزل في قصر عثمان جاويش القازدغلي بعسكره فأتى بهم، وملك السلطان حسن وكرنك به مع ذي الفقار بك؛ وخلع محمد باشا عَلَى عِلي بك الهندي دفتردار، وعلى ذي الفقار صنجقية كما كان، وعَلَى علي كاشف قطامش صنجقية، وعلى سليمان كاشف صنجقية وحاكم جرجا؛ وعلى مصطفى جلبي ابن إيواظ صنجقية؛ وعلى يوسف أغا زوج هانم صنجقية، وعلى يوسف الشرايبي صنجقية، وسليمان أبي دفية أغات مستحفظان، ومصطفى الدمياطي والي، وحضر إليهم محمد بك أمير الحاج سابقًا ومصطفى بك بلغية وإسماعيل بك الدالي وقيطاس بك الكور وإسماعيل بك ابن قيطاس، وأقاموا في المحمودية.
هذا ما كان من هؤلاء، وأما محمد بك جركس فإنه استعد أيضًا، وأرسل إلى بيت قاسم بك عدة كبيرة من الأجناد ومدافع، وعملوا متاريس عند درب الحمام، وجامع الحصرية، وهجمت عساكرهم على من بسبيل المؤمن بالعطارين بالبنادق والرصاص حتى أجلوهم وهزموهم، وهربوا إلى جهة القلعة وسوق السلاح، وأكثرهم لم يدرك حصانه، فلما وقع ذلك عملوا متاريسهم في الحال عند مذبح الجمال، ورموا على مَنْ بالمحمودية، وهرب المجتمعون بالرميلة، وبنى طائفة جركس في الحال متاريس عند وكالة الأشكنية، وارتبك أمر الفرقة الأخرى.
ثم إن يوسف جربجي البركاوي — وكان حين ذاك من الخاملين القشلانين، وتقدم له الطلوع بالسفر سردار بيرق — رمى نفسه في الهلاك، وتسلق من باب العزب ونط الحائط والرصاص نازل، وطلع عند محمد باشا والصناجق بالمحمودية، وطلب منهم فرمان لكتخدا العزب يعطيه بيرق سردن جشتي ومائة نفر، وضمن لهم طرد الذين بسبيل المؤمن، وملك بيت قاسم، وعند ذلك تسير البيارق على بيت جركس، وشرط عليهم أن يجعلوه بعد ذلك كتخدا العزب، ففعلوا ذلك، ونزل بمن معه من باب الميدان، وسار بهم من جانب تكية إسماعيل باشا، وهناك باب ينفذ على تربة الرميلة. فوقف بهم هناك، وطوى البيرق، وهجم بمن معه على سبيل المؤمن يطلق رصاصًا متتابعًا، وهو مهللون على حين غفلة؛ فأجلوهم، وفروا من مكانهم إلى درب الحصرية، وهم في أقفيتهم، حتى جاوزوا متاريسهم وملكوها منهم، ودخلوا بيت قاسم بك، وأداروا المدافع على بيت قاسم بك، وصعدوا منارة جامع الحصرية، ورموا بالبنادق على بيت قاسم بك، فعند ذلك نزلت البيارق من الأبواب، وساروا إلى جهة الصليبة، وطلع القبودان إلى قصر يوسف، ورتب مدفعًا على بيت جركس، وأصيب قاسم بك برصاصة من المنار ومات. فعند ذلك عزم جركس على الرحيل والفرار؛ فخرج معه أحمد بك الأعسر ومحمد بك جركس الصغير، وأركب خمسة من مماليكه على خمسة من الهجن المحملة بالمال، وذهبوا إلى جهة مصر القديمة، وعدوا إلى البر الآخر، وساروا وتخلف منهم بمصر محمد بك ابن شنب، وعمر بك أمير الحاج، ورضوان بك، وعلي بك، وإبراهيم بك فارسكور، وطلع محمد باشا إلى القلعة ثانيًا، ونزل علي باشا وسافر إلى منصبه بكريد، وترأس ذو الفقار بك، وقلد عثمان بك كاشف مملوكه صنجقية، وهو عثمان بك الشهير الذي يأتي ذكره، وأرسلوه صحبة يوسف بك زوج هانم بنت إيواظ خلف محمد بك جركس، ومعهم عساكر وأغات البلكات فصاروا كل من وجدوه من أتباع جركس بالجيزة أو خلافها يقتلونه، ووقعوا بأحمد أفندي الروزمانجي فأرسلوه إلى محمد باشا فسجنه مع المعلم داود صاحب العيار بالعرقانة، ثم قتلوهما، وقتلوا عمر بك أمير الحاج، ومحمد بك ابن أبي شنب وجدوه ميتًا بالجامع الأزهر، وعملوا رجب كتخدا سردار جداوي والأقواسي يَمَق، وخرجا إلى بركة الحاج ليذهبا إلى السويس، فأرسلوا من قتلهما وأتى برءوسهما، ونهبوا بيوت المقتولين والهربانين، وبيت جركس الكبير ومن معه.
وبعد أيام رجع عثمان بك ويوسف بك والتجريدة فأخبروا ذا الفقار بك وعلي بك الهندي أنهم لما وصلوا حوش ابن عيسى سألوا العرب عن محمد بك جركس ومن معه فأخبروهم أنهم باتوا هناك. ثم أخذوا معهم دليلًا أوصلهم إلى الجبل الأخضر، وركبوا من هناك إلى درنة، وكان هروب جركس وخروجه من مصر يوم السبت سابع جمادى الآخر سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة وألف. ثم إنهم عملوا جمعية، وكتبوا عرضحال بما حصل، وأعطوه للقابجي، وسلموه ألف كيس من أصل حلوان بلاد إسماعيل بك ابن إيواظ وأمرائه، وبلاد أبي شنب وابنه وأمرائه أيضًا، وذلك خلاف بلاد محمد بك قطامش ورضوان أغا وكور محمد أغا كتخدا قيطاس بك، وكتبوا أيضًا مكاتبة إلى الوزير الأعظم بطلب محمد بك قطامش تابع قيطاس بك الذي تقدم ذكره وهروبه إلى الروم بعد قتل سيده، وختم عليه جميع الأمراء الصناجق، والأغوات، وأعطاه الباشا إلى قابجي باشا، فلما وصل إلى الدولة طلب الوزير محمد بك. فلما حضر بين يديه قال له: أهل مصر أرسلوا يطلبونك إليهم بمصر، فاعتذر بقلة ذات يديه وأنه مديون. فأنعموا عليه بالدفتردارية والذهاب إلى مصر، وكتبوا فرمانات لسائر الجهات بإهدار دم محمد بك جركس أينما وجد؛ لأنه عاصٍ ومفسد وأهل شر، وذلك حسب طلب المصريين.
ثم إن محمد باشا والي مصر خلع على جماعة، وقلدهم إمريات؛ فقلد مصطفى بن إيواظ صنجقية، وحسن أغات الجملية سابقًا صنجقية، وإسماعيل بن الدالي صنجقية، ومحمد جلبي بن يوسف بك الجزار صنجقية، وسليمان كاشف القلاقسي صنجقية، وذلك خلاف الوجاقات والبلكات والسدادرة وغيرهم، وسكن الحال، وانتهت الرياسة بمصر إلى ذي الفقار بك وعلي بك الهندي، وحضر محمد بك قطامش إلى مصر من الديار الرومية فلم يتمكن من الدفتردارية؛ لأن علي بك الهندي تقلدها بموجب الشرط السابق، وكل قليل يذاكر محمد بك ذا الفقار بك. فيقول له: طوِّلْ روحك.
فاتفق أن علي بك المعروف بأبي العدب، ومصطفى بك ابن إيواظ، ويوسف بك الخائن، ويوسف بك الشرايبي، وعبد الله أغا كتخدا الجاويشية، وسليمان أغا أبا دفية، والكل من فرقة القاسمية، وكانوا يجتمعون في كل ليلة عند واحد منهم يعملون حظًّا، ويشربون شرابًا. فاجتمعوا في ليلة عند علي بك أبي العدب. فلما أخذ الشراب من عقولهم تأوَّه مصطفى بك ابن إيواظ، وقال: يموت العزيز أخي الكبير والصغير، ويصير الهندي مملوكنا سلطان مصر! ونأكل من تحت يده، والباشا في قبضته! وكان النيل قريب الوفاء. فقال علي بك: أنا أقتل الباشا يوم جبر البحر، وقال أبو دفية: وأنا أقتل ذا الفقار، وقال مصطفى بك: وأنا أقتل الهندي، وكل واحد من الجماعة التزم بقتل واحد، وقروا الفاتحة، وكان معهم مملوك أصله من مماليك عبد الله بك، ولما قتل سيده هرب إلى الهندي، وأقام في خدمته أيامًا. فلما تقلد مصطفى بك الصنجقية أخذه من علي بك الهندي، فلما سمع منهم ذلك القول ذهب إلى علي بك الهندي وأخبره، فأرسله إلى ذي الفقار، فأخبره أيضًا. فبعثه إلى الباشا فأخبره.
فلما كان يوم الديوان وطلع علي بك أبو العدب قبض عليه الباشا، وقتله تحت ديوان قايتباي، وأحاط بداره ونهب ما فيها، وكان شيئًا كثيرًا، وأرسل في الوقت فرمانًا إلى الأغا بالقبض على باقي الجماعة، فقبضوا على مصطفى بك ابن إيواظ، وأركبوه حمارًا وصحبته مقدمه، وأحضروه إلى الباشا، فأمر بقتله، وقتل معه مقدمه أيضًا، واختفى الباقون، وأخذ ذو الفقار فرمانًا بنفي هانم بنت إيواظ بك، وأم محمد بك ابن أبي شنب، محظية علي بك. فمانع عثمان جاويش القازدغلي في ذلك، واستقبحه، وضمن غائلتهن وألزمهن أن لا يخرجن من بيوتهن، ورتب لهن كفايتهن.
فلما حصل ذلك ضعف جانب القاسمية، وانفرد علي بك الهندي بالرياسة، وكان ذو الفقار أرسل إلى الشام. فأحضر رضوان أغا، ومحمد أغا الكور. فجعلوا رضوان أغا الجملية، ومحمد بك الجزار غائب بإقليم المنوفية. فعند ذلك اغتنموا الفرصة، وتحرك محمد بك قطامش في طلب الدفتردارية. فدبروا أمرهم مع يوسف جربجي عزبان البركاوي ورضوان أغا وعثمان جاويش القازدغلي، وقتلوا علي بك الهندي وذا الفقار قانصوه، وأرسلوا إلى محمد بك الجزار تجريدة، وأميرها إسماعيل بك قيطاس وهو بأقليم المنوفية، وقلدوا مصطفى أفندي الدمياطي صنجقية، وجعلوه حاكم جرجا، وقبضوا على سليمان بك أبي شنب، وقضى إسماعيل بك أشغاله، وسافر بالتجريدة إلى المنوفية، وأخذ صحبته عربان نصف سعد، وساروا إلى محمد بك الجزار، وكان لما وصله الخبر أخذ ما يعز عليه وترك الوطاق، وارتحل إلى جسر سديمة فلحقوه هناك، وحاربوه وحاربهم، وقُتل بينهم أجناد وعرب، وحمى نفسه إلى الليل.
ثم أخذ معه مملوكين وبعض احتياجات، ونزل في مركب وسار إلى رشيد، وترك أربعة وعشرين مملوكًا. فأخذوا الهجن، وساروا ليلًا مبحرين حتى جاوزوا وطاق إسماعيل بك، وتخلف عنهم مملوك ماش. فذهب إلى وطاق إسماعيل بك قيطاس وعرفه بمكانهم، فأرسل إليهم كتخداه بطائفة فردوهم، وأخذهم عنده. فأقاموا في خدمته.
ولم يزل محمد بك في سيره حتى دخل إلى رشيد، واختفى في وكالة، ووصل خبره إلى حسين جربجي الخشاب، فقبض عليه، وقتله بعد أن استأذن في ذلك، وتقلد في نظير ذلك الصنجقية وكشوفية البحيرة سنة أربعين ومائة وألف، ونزل بعد ذلك إلى البحيرة. ثم حضر محمد بك جركس عن غيبته ببلاد الإفرنج، وطلع على دِرْنة، وأرسل مركبه التي وصل فيها إلى الإسكندرية، وحضر إليه أمراؤه الذين تركهم من قبل جهة قبلي. فركب معهم، ونزل إلى البحيرة؛ ليصل إلى الإسكندرية. فصادف حسين بك الخشاب، ففر منه، وغنم جركس خيامه وخيوله وجماله. ثم رجع إلى الفيوم، ونزل على بني سويف.
ثم ذهب إلى القطيعة قرب جرجا، واجتمع عليه القاسمية المشردون. فحاربه حسين بك حاكم جرجا والسدادرة، وقتل حسين بك وطائفته، واستولى على وطاقهم وعازقهم، ووصلت أخباره إلى مصر؛ فجمع ذو الفقار بك جمعية، وأخرج فرمانًا بسفر تجريدة. فسافر إليه عثمان بك وعلي بك قطامش وعساكر. فتلاقوه معه بوادي البهنسا. فكانت الهزيمة على التجريدة، واستولى محمد بك جركس ومن معه على عرضيهم وخيامهم، وحال بينهم الليل، ورجع المهزومون إلى مصر.
فجمع ذو الفقار الأمراء، واتفقوا على التشهيل وإخراج تجريدة أخرى، فاحتاجوا إلى مصروف فطلبوا فرمانًا من الباشا بمبلغ ثلثمائة كيس من الميري عن السنة القابلة، فامتنع عليهم فركبوا عليه وأنزلوه، وقلدوا محمد بك قطامش قائمقام، وأخذوا منه فرمانًا بمطلوبهم، وجهزوا أمر التجريدة، واهتموا فيها اهتمامًا زائدًا، ورتبوا أشغالهم وخرجوا، وجرت أمور وحروب، وقتل من جماعة جركس سليمان بك، ثم وقعت الهزيمة على جركس.
ووصل إلى مصر باكير باشا، وذلك في سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف، وطلع إلى القلعة فمكث أشهرًا، وعزله العساكر في أواخر السنة، وحصل بمصر في أيام هذه التجاريد ضنك عظيم، وثار جماعة القاسمية المختفون بالمدينة، ودبروا مكرهم، ورئيسهم في ذلك سليمان أغا أبو دفية، ودخل منهم طائفة على ذي الفقار بك وقت العشاء في رمضان وقتلوه، وكان محمد بك جركس جهة الشرق ينتظر موعدهم معه. فقضى الله بموت جركس خارج مصر، وموت ذي الفقار داخلها، ولم يشعر أحدهما بموت الآخر، وكان بينهما خمسة أيام، وثارت أتباع ذي الفقار بالقاسمية، وظهروا عليهم وقتلوهم وشرَّدُوهم، ولم يقُم منهم قائم بعد ذلك إلى يومنا هذا، وانقرضت دولة القاسمية من الديار المصرية، وظهرت دولة الفقارية، وتفرع منها طائفة القازدغلية.
وسيأتي تتمة الأخبار عند ذكر تراجمهم في وفياتهم، وقد جعلت هذا فصلًا مستقلًّا من أول القرن إلى سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف، التي هي آخر دولة القاسمية.