الفصل الثالث والعشرون
قضيتُ صباحَ اليوم التالي أتصفَّح جميعَ كتب براين موري. حتى إنني قرأتُ سريعًا أحدثَ رواياته، «مُت قليلًا» التي تحلُّ فيها إليس فيتزجيرالد لغزَ جريمةِ قتلٍ ارتُكبت على يدِ عصابةٍ ما في مدرسةٍ ثانوية محلية. كانت الرواية قديمةَ الطراز لا تُساير عصرها، حتى إنَّ المرء لَيشعر بالإحراج عند قراءتها. كان براين يكره البحث، وشعرتُ أن كلَّ ما فعله للتحضير لكتابةِ كتابه الأخير هو مشاهدةُ عرضٍ مزدوج لفيلم «فتيان في الحي»، وفيلم ميشيل فايفر الذي كانت تُدرِّس فيه للأطفال داخل المدينة.
بعد الظهيرة مباشرةً تلقَّيتُ مكالمةً هاتفية من العميلة بيريز تُذكِّرني بأنني لم أُفصح بعدُ عن أماكنِ وجودي وتحرُّكاتي في الأوقات المتزامنة مع أوقات وقوع جرائم القتل.
قلتُ لها: «آسف. لقد انشغلتُ. هل يمكننا إنجازُ الأمر الآن؟ أعطيني التواريخَ وسأرى ما إذا كنتُ سأعرفُ أين كنت بالضبط وقت وقوع الجرائم؟»
قالت: «لا بأس».
فتحتُ مفكِّرتي على الكمبيوتر المحمول الخاص بي، وبدأنا في مراجعة التواريخ؛ سألَتني أولًا عن إيلين جونسون.
قلتُ: «لقد أرسلتُ تلك المعلومات إلى العميلة مالفي. كنتُ في لندن عندما ماتت. في الثالثَ عشر من سبتمبر، أليس كذلك؟»
قالت العميلة بيريز: «هذا صحيح»، ثم سألتني عن روبن كالاهان، التي قُتلت رميًا بالرصاص في السادس عشر من أغسطس عام ٢٠١٤. لم يكن في مفكِّرتي أيُّ شيءٍ في ذلك الأسبوع باستثناء حقيقة أنني كنتُ سأذهب إلى العمل في ذلك اليوم. أخبرتُ العميلة بيريز بذلك، وسألتني عمَّا إذا كان بإمكان أيِّ شخص أن يشهد لك بذلك. كان يومُ السادس عشر من أغسطس يومَ جمعة، ومن ثَمَّ أخبرتُها أن كِلا الموظفَين لديَّ كانا على الأرجح يعملان في ذلك اليوم، وأنها مُرحَّبٌ بها إن أرادَت استجوابهما. بعد ذلك، سألتني عن جاي برادشو، الرجلِ الذي ضُرب حتى الموت في مرأبه في دينيس بمدينة كيب. اتضح أنَّ ذلك حدث في الحادي والثلاثين من شهر أغسطس.
قلتُ: «سافرتُ إلى لندن في ذلك الأحد.»
«متى؟»
«كانت الرحلة في الساعة السادسة وعشرين دقيقة؛ ولذا ربما غادرتُ متجهًا إلى المطار في تمام الثالثة».
قالت: «هذا مبكر جدًّا.»
قلتُ: «أعلم هذا. أحبُّ الوصول إلى هناك مبكرًا إذا استطعت ذلك. أُفضِّلُ أن يكون لديَّ وقتٌ إضافي هناك على أن أتأخَّر».
أما عن القضيتَين الأُخريَين اللتين سألتني عنهما — بيل مانسو، وإيثان بيرد — فلم يكن لديَّ حُجَّة غيابٍ قوية، على الرغم من أنهما وقَعتا على الأرجح في أيامٍ كنتُ فيها في «أُولد ديفيلز».
قلتُ: «آسف، لا أستطيع مساعدتَكِ أكثرَ من ذلك.»
«لقد كنتَ متعاونًا، سيد كيرشو. أودُّ منك أن ترسل إليَّ أرقامَ الرحلات الدقيقة لرحلتك إلى لندن؛ إذا كانت في حوزتك.»
«بالتأكيد»، قررتُ عدم تذكيرها بأنني قد أرسلتُ بالفعل أرقامَ هذه الرحلات إلى العميلة مالفي.
«وفقط حتى نكون دقيقين ونحيط بكل التفاصيل، وأنا أعلم أنه قد مضى وقتٌ طويل، لكن هل يمكنك إخباري أين كنت في السابع والعشرين من أغسطس عام ٢٠١١؟»
قلتُ: «سأرى. ما الذي حدث في ذلك التاريخ؟»
«كان هذا هو التاريخ الذي قُتل فيه ستيفن كليفتون في حادثِ درَّاجة بالقرب من مدينة ساراتوجا سبرينجز.»
«لقد ذكرتِ اسمَه من قبل. لا أعرف مَن هو. لم تقُل العميلة مالفي أيَّ شيءٍ عنه.»
قالت بيريز: «لقد كانت جريمةُ قتلِه مذكورةً في مذكراتها.»
أخذتُ أقلِّبُ للخلف خلال مفكراتي على الإنترنت. وفكَّرتُ في اختلاقِ شيءٍ ما، لكنني قلتُ بدلًا من ذلك: «على الأرجح كنت أعمل في ذلك اليوم، لكن بصراحة كان ذلك منذ وقتٍ طويل. إنَّ مفكِّرتي لا تحتوي على أي شيءٍ.»
«لا بأس سيد كيرشو. ليست مشكلة، لكنني فكَّرتُ أن أسأل.»
قلتُ: «حسنًا، شكرًا.»
اعتقدتُ أنَّ هذه ستكون نهايةَ المكالمة الهاتفية، لكن العميلة بيريز سعَلَت، ثم قالت: «أعلم أنني طلبتُ منك هذا بالفعل، ولكن عندما جاءت العميلة مالفي إليك، هل اقتنَعَت من فورها بوجودِ صلةٍ بين قائمتك والجرائم التي لم تُحلَّ؟ أودُّ أن أسمع ردَّك مرة أخرى.»
«لم أكن مقتنعًا، ليس على الفور، ولكن ربما كان لذلك علاقةٌ بعدم رغبتي في الاعتراف بوجودِ صلة. إنه شعورٌ سيئ كما تعلمين، تكتبين قائمةً خرقاء ثم تكتشفين أنَّ شخصًا آخرَ يستخدمها لارتكابِ جرائمِ قتلٍ حقيقية.»
«أنا متأكدة من ذلك.»
«لقد أخبرتني عن جرائم الطيور أولًا، وكيف ربطتها ﺑ «جرائم الأبجدية».»
«كتاب أجاثا كريستي؟»
«صحيح. بدا الأمر مبالَغًا فيه، صراحةً. لكن بالنسبة إلى الرجل الذي قُتل على سكَّة القطار — بيل مانسو — فإن تلك الجريمةَ بدَت كما لو كانت تُحاكي رواية «تعويض مزدوج»، إلا أنني — كما قلت — لم أصدِّق ذلك حقًّا حتى وجدنا الكتب في منزل إيلين جونسون. وعندئذٍ اتَّضحَت الصلة. وكان من الواضح أن القاتل أرادني أن أعرف ذلك. أو أراد لذلك أن يشير إليَّ على ما أعتقد. لا أعرفُ حقًّا. لقد تحدَّثنا نحن الاثنين كثيرًا عن ذلك.»
«مَن؟ أنت والعميلة مالفي؟»
«أجل. فكَّرنا في ما كان الشخص، أو تشارلي حسبما أطلقنا عليه، يُحاول تحقيقَه بجرائم القتل. واعتقدنا أنه كان يحاول حقًّا محاكاةَ روح جرائم القتل الأصلية بدقةٍ من الكتب.»
«هل يمكنني أن أسألك عن إحدى ملاحظاتها؟ لقد دوَّنَت الأسماء الثلاثة لما أسمَته «جرائم الطيور»، ثم كتبَت: «مَن كان المُستهدف الفعلي؟» هل تعرف ماذا يعني ذلك؟»
«في «جرائم الأبجدية»، تُرتكب سلسلةٌ من جرائم القتل حتى يبدوَ الأمر كما لو أن معتوهًا يرتكب سلسلةَ جرائم. لكن القاتل لم يكن لديه سوى ضحيةٍ واحدة في ذهنه يريد موتها حقًّا. أما جرائم القتل الأخرى، فكانت مجرد غطاء.»
«إذن هل تعتقد أن ذلك قد يكون هو الحالَ مع جرائم الطيور؟»
«لستُ متأكِّدًا، لكنه احتمالٌ وارد.»
«لعله من المحتمل أن تكون كلُّ هذه الجرائم — كل تلك الجرائم المرتبطة بقائمتك — هي مجردَ غطاء لجريمة قتل واحدة.»
قلتُ: «بالتأكيد، إنه احتمالٌ وارد، ولكن لو أن الأمر كذلك، فإنَّ ما ارتُكب من جرائمَ كثيرٌ جدًّا على إخفاء جريمة واحدة.»
«أجل». كانت هناك وقفةٌ طويلة، وتساءلتُ لحظةً هل انقطَعت مكالمتنا، أم إنها كانت تفكِّر فحسب.
قالت أخيرًا: «إذن، إذا كان عليك أن تُخمِّن، أيٌّ من جرائم الطيور الثلاثة تعتقد أنها كانت الضحيةَ المقصودة؟»
«إذا كنتِ مُصرَّة، فسأقول روبن كالاهان لأنها أشهرُ الثلاثة، وقد أثارت استياءَ الكثير من الناس.»
قالت: «هذا ما أعتقده». ثم كانت هناك وقفة أخرى. «هل تمانع إذا عاودتُ الاتصال بك إن كان لديَّ أيُّ أسئلة أخرى؟»
قلتُ: «بالطبع لا»، وودَّع كلٌّ منا الآخَر.
اتصلتُ ﺑ «أُولد ديفيلز». وردَّت إيميلي.
«أما زلتَ تشعر بالتوعُّك؟»
«الأمر ليس فظيعًا، لكنه ليس برائع.»
«ابقَ في المنزل. كلُّ شيءٍ على ما يرام هنا.»
كنتُ على وشْك إنهاء المكالمة، لكنني قررتُ أنه — بما أن إيميلي على الخط — يمكنني أن أطرحَ عليها بعضَ الأسئلة.
قلتُ: «هل يمكنني أن أسألكِ عن بعض الأسماء وبمقدوركِ إخباري إذا كنتِ قد سمعت بها؟»
قالت: «آه، بالتأكيد.»
«إيثان بيرد.»
صمتَت بُرهةً، ثم قالت: «لم أسمع به.»
«جاي برادشو.»
«لا.»
«روبن كالاهان.»
«أجل، بالطبع. إنها مذيعةُ الأخبار المجنونة التي قُتِلَت. أنا واثقةٌ من أنها ستُصبح موضوعَ أعلى كتب الجريمة الحقيقية مبيعًا في نهاية المطاف.»
«لماذا تقولين إنها كانت مجنونة؟»
«لا أعلم، أعتقدُ أنني سمعتُ ذلك. لقد كتبَت كتابًا عن الزنى، أليس كذلك؟»
قلتُ: «صحيح.»
بعد إنهاء المكالمة، فكَّرتُ أكثرَ في احتمالِ أن تكون روبن كالاهان الضحيةَ المقصودة لجرائم قتلِ الطيور الثلاث. وحتى لو لم تكن هناك ضحيةٌ مقصودة واضحة، فلا بد من وجود شخصٍ ما فكَّر فيه تشارلي أولًا. كان يعلم أنه يريد محاكاةَ جرائم الأبجدية، وكان يعلم أنه لن يستخدم الأبجدية. إذا قرَّر أنه يريد قتْل روبن كالاهان، فإن طريقة تغطيته للجريمة ستكون بالعثور على ضحيَّتَين أُخريين بأسماءٍ تُشير إلى طائرٍ ما. وكانت روبن كالاهان ضحيةً طبيعية؛ بمعنى أنها أثارت استياءَ الناس. لقد دعَت إلى الزنى، وأفسدَت زِيجتَين على أقل تقدير.
نمتُ بعد الظهر على الأريكة. وحلمتُ بأنني كنتُ مطارَدًا مرةً أخرى، كما كنت أحلُم دائمًا. حتى عندما كنتُ صغيرًا، كنت أرى هذه الأحلام التي أكتشف فيها فجأةً أن والديَّ وأصدقائي وأساتذتي جميعهم صاروا وحوشًا، وبأنني كنتُ بحاجةٍ إلى الهروب منهم. في أسوأ الأحلام، كنت أجدُ نفسي عاجزًا عن الحركة، ساقاي ثقيلتان، وقدَماي عالقتان بالأرض. في حُلمي، بعد ظهرِ ذلك اليوم، كان الشخص الوحيد الذي لم أكن أهرُب منه هو جوين مالفي. لقد كانت إلى جانبي، وكنا نحاول الهروبَ معًا من الحشد القاتل. وعندما استيقظتُ، ركضتُ إلى الحمَّام معتقدًا أنني قد اتقيَّأ، لكنني لم أفعل.
ارتديتُ ملابسي لتناول العشاء، أدخلتُ قميصي الأزرق ذا المربَّعات في بنطالٍ غامق قصير من القطن، ثم ارتديتُ سترتي المُفضَّلة، سُترة من الكشمير باللون الأسود ذات رقبة عالية، آخِرَ هديةٍ تلقيتُها من كلير في عيد الميلاد قبل وفاتها. وقفتُ أمام مرآةٍ تصل إلى الأرض، وفي ذهني سألتُ كلير كيف أبدو. قالت: «تبدو رائعًا. أنت تبدو رائعًا دومًا». تخيَّلتُها تُمرِّر أصابعها متخلِّلةً شعري الرمادي القصير.
سألتُها: «ماذا يجب أن أفعل؟ بشأن جرائم القتل هذه؟»
قالت: «إنها فَوْضاك. وعليك إصلاحها.»
كان هذا شيئًا اعتادَت قوله، مع أنها عندما تقول ذلك، كانت تشير دائمًا إلى نفسِها. كان هذا ما قالته بعد أن اعترفَت لي بأنها تورَّطَت في المخدِّرات مرةً أخرى. أخبرتُها بأنه يمكنني المساعدة، فقالت: «آه، كلَّا. إنها فَوضاي اللعينة وعليَّ إصلاحُها بنفسي». اعتدتُ أن أفكِّر في أن هذه السمة الخاصة بها — طريقة اعترافها بإخفاقاتها — كانت شخصًا جيدًا، لكنني الآن لستُ متأكِّدًا. لقد كانت حياتها فوضويَّة، ولكن كان أهم شيء بالنسبة إليها هو تجنُّب المواجهة، وعدم إزعاج الناس، وإلقاء كلِّ اللوم على نفسها. كان لا بأس عندها من إيذاء نفسها، لكنها كانت ستبذل قُصارى جهدها حتى لا تؤذيَ أيَّ شخص آخر.
لقد كان توجُّهها الرئيسي هو الحاجةَ إلى تجنُّب الصدامات. وذلك حتى لا تدَع مجالًا أمام الآخرين للاعتناء بها.
«إنها فوضاي اللعينة.»
لكنها كانت مخطئة.