الفصل السادس والعشرون
عُدتُ إلى المنزل بعد ساعة، باردًا رطبًا، ومتقطِّع الأنفاس من اجتياز شارعي الشديد الانحدار وسط الجليد المتراكم.
خلعتُ معطفي، وحذائي وجواربي، واستلقيتُ على الأريكة في الظلام. كنت بحاجةٍ إلى التفكير. إن لم يكن السببُ شيئًا آخر، فإن المشيَ الطويل إلى المنزل قد عمل على إفاقتي، وظلَّت صورٌ من الليلة الهزلية التي قضيتُها للتو في منزل براين وتيس تتكرَّر في ذهني. بدا سخيفًا الآن أنني اتهمتُ تيس بقتل نيك برويت والآخَرين من القائمة، لكن عندما قلتُ ذلك، عندما كنت هناك، مقتنعًا بأن قهوتي قد تسمَّمَت، كان الأمر منطقيًّا تمامًا. تساءلتُ عمَّا كانت تفعله تيس الآن. هل أيقظت براين وأخبرته كيف دفعتُها أرضًا واتهمتُها بالقتل؟ هل اعتقدَت أنني أُصِبتُ بالجنون؟ قرَّرتُ أنني سأتصل بها أولَ شيء في الصباح، ربما أفضي إليها أكثرَ بقليل عمَّا كان يحدُث مؤخرًا. كما فكَّرتُ قليلًا في عرْضها، حول سبب دعوتي إلى منزلهما في المقام الأول. في ظروفٍ مختلفة، لربما كنتُ في الفراش مع تيس موري الآن.
نهضتُ جالسًا، وسقط كتاب براين موري من حضني، ووقع على الأرض. أشعلتُ المصباح، ثم تناولتُ الكتاب، ونظرتُ إليه أولَ مرة. كان العُنوان «الهواء البرِّي»، وأظهر رسمُ الغلاف، مثل رسمِ العديد من أغلفته، ظَهْرَ إليس فيتزجيرالد وهي تنظرُ خارجًا نحو أحدِ المناظر الطبيعية، أو مسرح الجريمة. على هذا الغلاف، كانت تنظر إلى شجرةٍ واحدة في خطِّ الأفق، وسِربٌ من الطيور يُقلِع من أغصانه، بينما يرقد أحدُ الطيور في حقلٍ مغطًّى بالثلج. على الأرجح ميتًا.
التفتُّ إلى الصفحة التي يُكتب فيها الإهداءُ عادةً، وكان كلُّ ما فيها هو: «الإهداء سيأتي لاحقًا»، وهي جملةٌ يكتبها المحرِّرون للإشارة إلى أن نصَّ الإهداء غير متاح بعدُ. تساءلتُ عمَّا إذا كان براين سيُهدي الكتاب إليَّ بعدما يكتشف أنني ظننتُ أنَّ زوجته قاتلة.
بدأ الكتابُ بخط الحوار: «سأل ميتش: «ماذا ستتناولين؟». تردَّدت إليس. كانت إجابتها كأسًا من النبيذ — كانت دائمًا كأسًا من النبيذ — لكنها قالت هذه المرة: «ماء الصودا والتوت البري، شكرًا».»
فكَّرتُ في قراءة البقية، لكنني قررتُ أنني بحاجةٍ إلى الحصول على قسطٍ من الراحة بدلًا من ذلك. وضعتُ الكتاب على طاولة القهوة، وأطفأتُ المصباح، وتقلَّبتُ على جانبيَّ على الأريكة، وأغمضتُ عينيَّ. استغرقتُ نحو خمس دقائق. ظلَّ عقلي يدور سريعًا، مُراجِعًا أحداثَ الأيام القليلة السابقة مِرارًا وتَكرارًا. ثم تذكَّرتُ الرسالة التي تركتُها على موقع «دوكبرج» محاولًا إعادةَ الاتصال بتشارلي، وتساءلتُ إن كان قد وصلَني الرد. ذهبتُ وأحضرتُ الكمبيوتر المحمول الخاصَّ بي، وأعَدتُه إلى الأريكة، وسجَّلتُ الدخولَ باسم فارلي واكر، وهو اسمي المستعار الجديد. أشارت نقطةٌ زرقاء إلى أنني تلقَّيتُ ردًّا على رسالتي الأخيرة. نقرتُ عليها وقرأتُها: «مرحبًا، صديقي القديم». كان هذا كلَّ ما قيل.
كتبتُ أردُّ: «هل أنت مَن أظنُّ أنه هو؟»
لم يكن هناك طابَعٌ زمني على الرسالة، ومن ثمَّ لم أعرف متى تلقَّيتُها. ومع ذلك انتظرتُ، محدِّقًا إلى الشاشة. وفي اللحظة التي كنتُ فيها على وشْك الاستسلام، ظهرَت رسالة جديدة: «هل تعرف حتى اسمي، مالكوم؟»
كتبتُ مجددًا: «لا أعرفُ، لِمَ لا تُخبرني؟»
«ربما سأفعل، ولكن يجب أن ننتقل إلى محادثةٍ خاصة أولًا.»
حددتُ المربعَ الذي يجعل المحادثة خاصة. كان قلبي ينبض، وكان فكِّي مشدودًا جدًّا لدرجةِ أنه بدأ في الخفقان.
كتبتُ: «لماذا؟»
«لماذا ماذا؟ لماذا استمرَرتُ في شيءٍ أنت مَن بدَأَه؟ أعتقدُ أن السؤال الأفضل هو لماذا توقَّفت؟»
«توقَّفتُ لأنه لم يكن هناك سوى شخصٍ واحد أردتُ موته. وبمجرد موته لم يكن هناك سببٌ للاستمرار في القتل.» كانت هناك فترة توقُّف طويلة، وشعرتُ بالتوتر فجأةً من أن يكون تشارلي قد سجَّل الخروج. كنت أرغب في التحدُّث إليه أكثر. كان هذا أيضًا سخيفًا، لكنني شعرتُ بالأمان بطريقةٍ ما، عندما رأيتُ الكلمات التي كان يكتبها على الشاشة. هذا يعني أنه لم يكن يفعل أيَّ شيءٍ آخرَ، على ما أعتقد.
كتب أخيرًا: «آسفٌ على التأخير. فأنا بحاجةٍ إلى أن أكون هادئًا حيث أكون.»
«أين أنت؟»
«سوف أخبرك، لكن ليس الآن. فذلك سيُفسد بقيةَ المحادثة وأنا سعيدٌ حقًّا بإجراء هذه المحادثة».
شيءٌ ما في لهجته بدأ يُقلقني، وكتبتُ: «إنك مجنونٌ لعين، أنت تعلم ذلك.»
وِقفة قصيرة. ثم: «اعتقدتُ أنني كذلك أيضًا. فبعد أن قتلتُ إريك أتويل من أجلك، شعرتُ بسعادةٍ مذهلة لدرجةِ أنني كنتُ مقتنعًا بأنني كنتُ وحشًا. كان هذا كلَّ ما يمكنني التفكيرُ فيه. أطلقتُ عليه خمسَ رصاصاتٍ، والطلقة الخامسة هي التي قتلَته. أصابت الطلقة الأولى معِدته. كان يُعاني ألمًا شديدًا، ولكن بعد أن أخبرتُه لماذا سيموت، رأيتُ كل هذا الألم يتحوَّل إلى خوف. رأيتُ المعرفة على وجهه، معرفةَ أنه على وشْك الموت. هل رأيتَ ذلك مع تشيني؟»
كتبتُ مجيبًا: «كلَّا.»
«هل عرَف سبب موته؟»
«لا أعلم. أنا لم أخبره.»
«ربما لهذا السببِ لم تستمتع بالأمر كما استمتعتُ أنا. ربما لو كنتَ رأيت هذا في عينيه، معرفته بما كان يحدُث له ولماذا، عندئذٍ كنتَ ستفهم.»
كتبتُ: «لم أشعر بأيِّ متعة في ذلك. بينما شعَرتَ أنت. وهذا فرقٌ كبير بيننا.»
كتب: «لهذا السببِ أعتقد أنك أنت المجنون، تكتب قائمةً تحتفي بفنِّ القتل، ثم أقرِّرُ تنفيذَ ما تقترحه هذه القائمة، لأخلقَ فنًّا حقيقيًّا، ولا يعني هذا لك شيئًا؟»
«هناك فرقٌ بين الخيال والواقع.»
كتب تشارلي: «ليس بقدرِ ما كنتَ تعتقد. هناك جمالٌ في كِلَيهما، وأنا أعرفُ أنك تعرف ذلك.»
كتبتُ الكلمات التالية: «لم يكن هناك أيُّ جمال عندما قتلتُ نورمان تشيني»، ثم حذفتُها. كنتُ بحاجةٍ إلى التفكير لحظة. كنتُ بحاجةٍ لجعل تشارلي يثق بي، ليُخبرني بهُويته أو مكانه.
كتبتُ: «هل يمكننا أن نلتقيَ؟»
جاء الردُّ على الفور: «أوه، لقد التقينا.»
«متى؟»
«أعرفُ إلامَ ترمي من وراء ذلك. وتوفيرًا للوقت فحسب، لن أخبرك بهُويتي. ليس الآن، هكذا. هناك المزيد مما يتعيَّن القيامُ به. إنه لَأمرٌ مدهش كيف تستمر في قيادتي إلى ضحايا جُدد مثاليِّين. لقد سلَّمتَني نيك برويت على طبقٍ من فِضَّة.»
«لم يكن مُدانًا بأي شيء.»
«لقد كان مُدانًا بشيءٍ ما، صدِّقني. اعتقدتُ أنه سيكون من الصعب حملُه على الشراب بنفسه حتى الموت، ولكني أعتقد أنه استمتع بذلك تقريبًا. كان الشراب الأول هو الأصعب، ثم استمر في شربِ كلِّ ما أعطيتُه له. لقد بدا سعيدًا تقريبًا.»
«لا أظن أنني أستطيعُ حملك على تسليم نفسك قبل أن تفعل أيَّ شيءٍ آخر.»
كتب كما تمنَّيتُ أن يفعل: «فقط إذا ذهبتَ معي.»
أجبتُ: «بالطبع. أنت وأنا معًا. سنقول الحقيقة كاملةً.»
كانت هناك وِقفةٌ طويلة، وظننتُ أنني قد فقدتُه. أو لعله كان يُفكِّر في الأمر بالفعل. ثم كتب أخيرًا: «إنه أمرٌ مُغرٍ، لكنني لم أنتهِ بعد. الأمر هو أنك قدَّمتَ لي ضحيتَين أُخريَين، أحداهما ستموت، والأخرى ستختفي، تمامًا مثل «لغز المنزل الأحمر». يمكنك المساعدة إذا أردت.»
شعرت بالبرودة تسري في أوصالي.
أجبتُ وأنا أهمُّ بالوقوف: «دعني أفكِّر في الأمر». ارتديتُ ملابسي بسرعة، وعُدتُ لارتداء جواربي الرطبة مرةً أخرى، ولبستُ حذائي. كنت أرتجف. سيكون في طريقه الآن إلى منزل براين وتيس. هذا إن لم يكن هناك بالفعل. أمسكتُ بهاتفي الخلوي واتصلتُ من فوري برقم تيس، معتقِدًا أن بإمكاني تحذيرَها من السماح لأي شخص بالدخول إلى المنزل. حُوِّلتُ مباشرةً إلى البريد الصوتي، ولم أترك رسالة. فكَّرتُ في الاتصال برقم الطوارئ، لكنني علِمتُ بطريقةٍ ما أنني إذا أجريتُ تلك المكالمة، فسوف تأتي الشرطة ولن تجد شيئًا، وسأكون عالقًا في شرحِ سبب إجرائي للمكالمة في المقام الأول. قلتُ لنفسي إن هذا هو القرار الصائب.
•••
في الخارج، كانت الثلوج تتساقط أكثرَ مما كانت عليه طوال الليل. صعدتُ التلَّ إلى حيث كانت سيارتي متوقِّفة. كانت الطرقُ مروِّعة، لكنني ما زلت أعتقد أنه يمكنني الوصول بالسيارة إلى «ساوث إند» أسرعَ مما لو ذهبتُ سيرًا على الأقدام.
انعطفتُ وقُدتُ بسرعةٍ كبيرة أسفل التل، وانزلقَت السيارة في الأسفل عندما استخدمتُ المكابح، وأخذت تنعطف جانبًا. رفعتُ قدمي عن المكابح وبدأتُ في النقر عليها، لكن السيارة واصلَت السيرَ، تنزلق من تلقاء نفسها خلال الضوء الأحمر وإلى شارع تشارلز. استعددتُ للارتطام، لكن لم يكن هناك سائقون آخَرون في الشارع. فقط عددٌ قليل من المُشاة، بما في ذلك زوجان توقَّفا على الرصيف لمشاهدة حادثتي الوشيكة.
عندما توقفَت السيارة أخيرًا، كانت منحرفةً قُطريًّا، ولكنها متَّجهةٌ بطريقةٍ أو بأخرى في الاتجاه الصحيح. عدَّلتُ وضعيتها وواصلتُ القيادة، أبطأ هذه المرة، مُحدِّثًا نفسي بأن الانحراف عن الطريق هو أسوأ شيءٍ يمكن أن يحدُث. وما لم يكن يحاول فقط إخافتي، فإنَّ تشارلي قد حدَّد فعلًا هُوية ضحيَّتَيه التاليتَين. إذا تمكَّنت من الوصول إلى هناك أولًا، فسيُمكنني على الأقل تحذيرُهما. لكنني كنتُ أتساءل أيضًا إن كان تشارلي هناك بالفعل أم لا. ربما كان في منزلهما عندما كنا نُجري المحادثة على «دوكبرج»، يكتب من هاتفه. هذا من شأنه أن يُفسِّر أخطاء الكتابة. حاولتُ التركيز على عجَلة القيادة وعدم التفكير فيه. كان الثلجُ يتوجَّه الآن مباشرةً إلى الزجاج الأمامي. وكانت المَسَّاحات الخاصة بي تعمل، ولكنَّ الجليد كان يتراكم على طول الحافات، وأخذ الضبابُ يتكوَّن على الزجاج الأمامي. شغَّلتُ خاصيةَ إذابة الجليد طوال الطريق، أنزلتُ نافذتي وأخرجتُ رأسي، وأنا أقود على طول حافة الكومون في أرلينجتون بهذه الطريقة. ثم وصلتُ تريمونت، وكان الزجاج الأمامي قد صفا قليلًا. كنتُ أعلم أنني لا أستطيع الانعطاف إلى شارع منزل عائلة موري الأحادي الاتجاه، ومن ثمَّ خطَّطتُ بالفعل لترك السيارة عند الزاوية، وقطعِ ما تبقَّى من الطريق سيرًا على الأقدام. لكن بعد ذلك مررتُ بشارعهم وقرَّرتُ مواصلةَ القيادة، حتى أسلك يميني التاليَ وأرى إن كان بإمكاني الالتفافُ إلى الخلف.
كان جسدي يؤلِمُني، وأجبرتُ نفسي على إرخاء قبضتي فوق عجَلة القيادة. لم يكن الجليد قد جُرِف مؤخرًا من الشارع الجانبي حيث كنت، وكانت عجلاتي تدور بينما أتحرَّك سريعًا. وبأسرعِ ما استطعتُ انعطفتُ يمينًا ثم يمينًا مرةً أخرى؛ على أملِ أن يضعَني ذلك في الشارع الجانبي لمنزل عائلة موري. بدا الاتجاه صحيحًا، على الرغم من أن جميع الشوارع السكنية في «ساوث إند» بدَت لي متشابهة. قلَّلتُ السرعة، ونظرتُ من نافذتي لأرى إن كان بإمكاني رؤيةُ منزل عائلة موري ببابه الأزرق أم لا. كنت قد قطعتُ نحوَ ثلاثةِ أرباع الشارع عندما رصدتُه. وعلى عكس معظم منازلِ المدينة المبنيَّة من القرميد، كان الضوءُ لا يزال متوهِّجًا من نوافذه المواجهة للشارع. حاولتُ ألا أفكِّر فيما قد يَعنيه ذلك، وما قد أجده عندما أدخلُ المنزل.
أوقفتُ السيارةَ أمام محبسِ مطافئ، وأطفأتُ المحرِّك وخرجتُ من السيارة في ثلاثِ بوصاتٍ من الثلوج الذائبة. وبمجرد أن عبَرت الشارعَ باتجاه منزل عائلة موري، سمِعتُ أحدهم يصرخ «لا يمكنك الوقوف هناك»، واستدرتُ لأرى امرأةً تقف تحت ضوء الشارع مع كلبها على بُعد أربعة منازل تقريبًا. لوَّحتُ لها وواصلتُ السير.
وصلتُ إلى الباب، وفجأةً تمنَّيتُ لو كان لديَّ أيُّ نوعٍ من الأسلحة، أيُّ شيءٍ حقًّا، وكدتُ أفكِّر في العودة إلى سيارتي لإحضار رافعة الإطارات من صندوق السيارة. لكنني لم أرغب في إضاعةِ المزيد من الوقت. جرَّبت الباب وكان مُوصَدًا، ثم ضغطتُ على جرس الباب بينما رُحتُ أطرقُ الباب في الوقت نفسه، متسائلًا ماذا سأفعل إذا لم يردَّ أحد. وأخذتُ أمسح النافذة الثمانيَّة الأضلاع في منتصف الباب عندما سمعتُ وقْع أقدامٍ على الجانب الآخر. وفُتح البابُ على مصراعيه.