الفصل الثامن والعشرون
قلتُ: «همفري».
قال: «هاه. مثل الممثِّل؟»
«أظنُ ذلك. لا أعرف.»
«يا له من كلب حراسة.»
قلتُ: «أجل». كان هناك شيءٌ في يد مارتي الأخرى، واستغرق الأمر مني لحظةً لأدرك أنه هاتفٌ محمول. لقد بدا غيرَ ملائم لمارتي. كنتُ قد تناولتُ الشراب معه عدة مرات، ورأيُته في ندواتٍ في متجري، ولكن بطريقةٍ ما، لم أستطِع تذكُّرَ رؤيته قط وهو ينظر إلى هاتفٍ محمول. كما أنني لم أرَه مطلقًا يحمل مسدسًا، بَيد أنَّ الهاتف المحمول بدا غريبًا عليه أكثرَ من المسدس.
قلتُ: «منذ متى وأنت هنا؟ هل كنتَ تكتب على هذا الشيء؟ على موقع «دوكبرج»؟» حرَّكتُ رأسي في إشارةٍ إلى الهاتف.
قال: «نعم. ليس سيئًا، أليس كذلك؟ بأصابعي المنتفخة مثل أصابع النقانق. مهلًا، انظر، دعنا نجلس». أشار بالمسدس. «ربما حول الطاولة. يمكنك وضْع كلِّ ما تُمسكه بيدك، ولن أُضطرَّ إلى توجيه هذا إليك. ثم يمكننا إجراء محادثة لطيفة.»
قلتُ: «حسنًا.»
استدار وسار نحو الطاولة. تخيَّلتُ نفسي أركضُ مندفعًا وأصطدم به بمجرد أن يستديرَ ومعه السلاح، وأطرحُه أرضًا. لكنَّ كلَّ ما فعلتُه كان اللَّحاق به، وجلسنا معًا إلى الطاولة، في المقعدين نفسيهما حيث كنتُ أجلسُ أنا وتيس قبلها بساعاتٍ قليلة. دفع مارتي ظهره بِضع أقدام، ثم وضع المسدس على فخذه.
«ما هذا الذي تحمله؟»
قلتُ واضعًا إياه فوق الطاولة: «إنه مرقاقُ عجين.»
«هل أخذتَه من هنا، أو أحضرته معك؟»
«كلَّا، أخذتُه من هنا.»
كان هناك مصباحُ سقفٍ معلَّقٌ فوق المنضدة لا يزال مضاءً، وكان بإمكاني رؤيةُ وجه مارتي على نحوٍ أفضلَ بكثير في ضوئه. لقد بدا على الهيئة نفسِها التي اعتاد أن يبدوَ عليها دائمًا؛ بشرة شاحبة، أشعث، وكأنه نسي أن ينام مؤخرًا، لكن كان هناك شيءٌ مختلف قليلًا بشأن عينَيه. أريدُ أن أقول إنهما كانتا أكثرَ قوة، وأكثرَ حيوية، لكن لم يكن هذا كلَّ شيء. لقد كانتا أكثرَ نزوعًا لأن تكونا مبتهِجتَين. ربما لم يكن يبتسم لكنَّ عينَيه كانتا كذلك.
قال: «اعتقدتُ أنك قد تأتي إلى هنا بقوة قتالية أكبر. على الرغم من أنني أدركُ أنَّ هذا ربما ليس من شيمك. هل استدعيتَ الشرطة؟»
قلتُ بسرعة: «أجل. سيكونون في طريقهم الآن.»
عبَس. «دعنا لا يكذب أحدُنا على الآخَر. دعنا نَقُل الحقيقة وبعد ذلك، يمكننا معًا معرفةُ وجهتنا التالية. أعلم أنك تفكِّر في أن فرصتك الوحيدة هنا هي الانقضاضُ عليَّ، لكنها ليست كذلك. سأكون منطقيًّا. وبصراحة، أنا لست شابًّا، ولكن ما تلك الكلمة التي يستخدمونها بتعالٍ لوصفِ شخص كبير السن عندما يُمكنه التحرُّك على قدميه؟»
قلتُ: «رشيق.»
«صحيح، رشيق. هذا ما أنا عليه. وإذا قرَّرتَ الاندفاعَ نحوي فجأة، فسوف أضع رصاصةً لعينةً في وجهك مباشرةً.»
وابتسم.
قلتُ: «حسنًا.»
«إنني فقط أُحذِّرك مسبقًا. فأنا لا أريدُ أن تُراودك أيُّ أفكار سخيفة.»
رفعتُ كلتا يديَّ وقلتُ: «سأبقى هنا.»
«حسنًا. أنا أثقُ بك. الآن يمكننا التحدُّث. ما زلتُ أفكِّرُ في الشيء الذي كتبتَه لي للتو عن الخيال والواقع. كيف كانت قائمة جرائم القتل الخاصة بك من الخيال، وكيف أن هناك بعضَ الاختلاف. أعتقد أنك مُحقٌّ في ذلك يا مال، لكنني أعتقد أنك ترى الأمر بطريقةٍ خاطئة. فالخيال أفضلُ بكثير من الواقع. أنا أعلم ذلك. لقد كنت على قيد الحياة مدةً طويلة. وهل تعرف من أين تعلَّمتُ ذلك، بشأن الخيال؟ لقد تعلَّمتُه منك. لقد دفعتَني إلى القراءة، وأدخلتَني في جريمة قتل. لقد غيَّر ذلك حياتي إلى الأفضل. مهلًا، هل تعتقد أن لديهم جِعةً هنا؟ لا أمانعُ في شرب جِعَة باردة أثناء حديثنا.»
قلتُ: «أنا متأكِّد من أنه لديهم.»
نظر عبْر الطاولة باتجاه المطبخ، حيث تلألأَت الثلاجة الكبيرة في الإضاءة الخافتة. «أيمكنك أن تُحضر لنا مشروبَين؟ هل يمكنني أن أثق في أنك لن تُحاول القيام بشيءٍ غبي؟»
قلتُ: «بالتأكيد.»
نهضتُ وسِرتُ إلى المطبخ بينما صوَّب مارتي المسدس في اتجاهي. مررتُ بالأريكتين؛ كان الكلب همفري الآن متمدِّدًا على الأريكة المقابلة لتيس، وكلاهما نائمٌ وغير واعٍ. فتحتُ الثلاجة، باحثًا في الأرجاء، ورأيتُ زجاجتَين من جِعة هنكن مدفونتَين باتجاه الخلف، ووجدتُ فتَّاحةَ زجاجاتٍ في أحد الأدراج، وفتحتُ غِطاءَيهما.
قال مارتي مبتسمًا عندما وضعتُها أمامه: «أوه، هنكن. هذه مفاجأةٌ سارة.»
أخذ رشفة، وكذلك فعلتُ. كان فمي جافًّا ولزجًا، وكان طعم الجِعة جيدًا، على الرغم من الظروف. قال مارتي: «نعم، لقد غيَّرتَني مرتين، يا مال، هل تعرف ذلك؟» كما لو أنَّ المحادثة التي بدأناها كانت لا تزال تدور في ذهنه بينما كنت أُحضر الجِعة. «لقد عرَّفتَني على القتل، وعرَّفتني على القراءة. ومن ثمَّ أصبحَت حياتي أفضل.»
قلتُ: «أشكُّ في أنني عرَّفتُك على القتل.»
ضحِك. «أوه، لقد فعلت. كنتُ شرطيًّا. لكن هذا لا يجعلني قاتلًا.»
•••
إجمالًا، أعتقد أننا تحدَّثنا ثلاث ساعاتٍ في تلك الليلة. وكان مارتي هو أكثرَ مَن تحدَّث، وكان صوته يزداد خشونةً كلما طالت مدةُ حديثه، ولكن على الرغم من ذلك، بدا أن السنوات تتلاشى عنه وهو يَروي قصته. كان من الواضح أنَّ ما قام به قد جلب له حياةً جديدة. لكن ذلك لم يكن كافيًا. لقد كان بحاجةٍ أيضًا لإخبار شخصٍ ما عن ذلك.
أخبرني كيف أنه قبل خمس سنوات، في عام ٢٠١٠، العامِ الذي قضَت فيه كلير نحْبَها، كان لا يزال ضابطًا في قسم شرطة «سميث فيلد»، يُفكِّر في التقاعد، ويعيش مع زوجةٍ خائنة. وأنه في مناسبتَين متفرقتَين على الأقل وضع مسدسًا محشوًّا في فمه في وقتٍ متأخِّر من الليل. حتى إنه فكَّر في التخلُّص من زوجته أولًا للتأكد فقط من أنها لن تستمتع بعد رحيله. الشيء الوحيد الذي أوقَفه حقًّا هو طِفلاه، وحقيقة أنه كان عليهما التعايُش مع ذلك بقيةَ حياتهما. ومع ذلك، كان يفكِّر في الأمر كلَّ يوم تقريبًا.
في الوقت نفسِه تقريبًا، كان مارتي جزءًا من فرقة عملٍ صغيرة كانت قد أوقعَت بعصابةِ بِغاءٍ من الهواة تُدير أعمالها من مغسلةٍ في سميث فيلد. كانوا قد أعلَنوا عن خدماتهم على موقع «كريجسليست»، بل وأيضًا على موقعٍ أكثرَ غموضًا يُدعى «دوكبرج». كان مارتي قد شرَع في متابعة كِلا الموقعَين في وقتٍ متأخِّر من الليل، متسائلًا عمَّا إذا كان يجب أن تكون له علاقةٌ عاطفية خاصة به، متسائلًا عمَّا إذا كان يمكنه ترتيبُ شيءٍ كهذا عبْر الإنترنت، وما إذا كان الأمر سيُحدِث فرقًا. كان ذلك حيث وجَدني، على موقع «دوكبرج»، أبحثُ عن رفيقٍ مُعجب ﺑ «غريبان على متن قطار». لم يكن قد قرأ الكتاب — لم يكن مارتي قارئًا، بعد — لكنه شاهدَ الفيلم وهو طفل ولم ينسَه قط. روبرت واكر. فارلي جرانجر. «أنا أنفِّذ لك جريمتَك وأنت تُنفِّذ جريمتي». لقد ردَّ على استفساري. بل إنه فكَّر حتى في مطالبتي بقتل زوجته، لكنه أدرك أنه لن يُفلِتَ من العقاب أبدًا، حتى لو كانت لديه حجَّةُ غياب. لكن كان هناك شخصٌ يريد موتَه أكثرَ حتى من زوجته الخائنة. إنه نورمان تشيني صاحب شركة صغيرة في هوليوك؛ كان يمتلك ثلاثَ محطات خدمة، لم تكن أيٌّ منها معروفةً بجودة خدمة السيارات التي تُقدِّمها، ولكن جميعها معروفة بأنها مرتبطة بتجارة المخدِّرات المحلية. لم يُثبتوا مطلقًا أيَّ شيءٍ ملموس على تشيني، لكن كان من الواضح أنه يغسل الأموال على الأقل، وربما كان يوزِّع المخدرات في محطاته. أمَّا ما لفَت انتباهَ مارتي فهو وفاةُ مارجريت تشيني زوجةِ نورمان شِبه المنفصلة عنه، في حريق منزل. علم جميع رجال الشرطة المحليِّين أن تشيني فعَل ذلك من أجل أموال التأمين، وملكية المنزل مدى الحياة المخصَّصة للزوجة، وأنه فرَّ بعد ذلك هاربًا إلى نيو هامبشير. لقد أفلتَ بفَعلته.
بعد أن تلقَّى اسم إريك أتويل وعُنوانه مني عبْر رسالة، أعطاني اسم نورمان تشيني وعُنوانه في المقابل.
قبل إطلاق النار على إريك أتويل في ساوثويل، أجرى مارتي بعض البحث، فقط للتأكُّد من أنه لم يقتل قدِّيسًا ما. واكتشف بالطبع أنَّ أتويل كان معروفًا بكونه حُثالة. فقد اعتُقل عدة مراتٍ بسبب مخالفاتٍ بسيطة: القيادة وهو في حالة سُكر، حيازة مادةٍ محظورة. ولكن كانت هناك أيضًا ثلاثةُ أوامر متفرقة بعدم التعرُّض رُفعَت ضد أتويل، من ثلاث نساءٍ منفصلاتٍ، زعَمن جميعًا مُعاملتهن بفحش.
لم يكن قتلُ أتويل صعبًا. تعقَّبه مارتي مدةَ يومين، وعلِم أنه في وقتٍ متأخِّر من بعد الظهيرة، غالبًا ما يُغادر أتويل منزله ويذهب في نزهاتٍ طويلة وشاقَّة، مرتديًا سمَّاعات الرأس، مستخدمًا مساراتِ المشي المنعزلةَ المتعددة بالقرب من مزرعته. وباستخدام مسدسٍ كان مارتي قد أخذه أثناء تفتيش منزل مهجور قبل عامين، تبِعه الى منطقة مشجَّرة من ساوثويل وأطلق عليه النار خمسَ مرات.
قال مارتي: «هل تعرف هذا المشهد في «ساحر أوز»؟ عندما ينتقل الفيلم من الأبيض والأسود إلى الألوان؟»
قلتُ: «بالطبع.»
«هذا ما كان عليه الحال بالنسبة إليَّ. لقد تغيَّر العالم. وأعتقدُ أنني افترضتُ فحسبُ أن العالم قد تغيَّر بالنسبة إليك أيضًا. بعد أن سمعت عمَّا حدث لنورمان تشيني.»
قلتُ: «هذا لم يحدُث. حسنًا، لقد حدث بالفعل، لكنه كان على النقيض. لقد تجرَّد العالمُ من الألوان.»
عبَس واستهجن. «أعتقد أنني كنت مخطئًا. ومع ذلك، فقد استنتجتُ أنك ربما شعرتَ بنفس شعوري، وأنني ينبغي أن أعرف مَن أنت. حتى إنني ربما ألتقيَ بك.»
في الواقع، لم يكن من الصعب العثور عليَّ. فبعد أن أجرى بحثه السابقَ عن أتويل، علِم مارتي بتورُّط أتويل في وفاة كلير مالوري، وهي زوجةٌ لمدير متجرِ كتبٍ في بوسطن. وبمجرد أن حصل مارتي على اسمي، وجد مدوَّنتي، وعلى وجه التحديد وجد القائمةَ التي أعددتُها، «ثماني جرائم كاملة». حيث كانت «غريبان على متن قطار» تقبع في منتصف القائمة تمامًا. قرأ مارتي الكتاب، ثم قرأ بقيةَ الكتب المقترحة، وأخذ العالم يتَّسع أكثرَ أمامه. قبل أن يحدُث كلُّ هذا، كان في زواج بلا حُبٍّ انتهى بالطلاق. كان ابنه يُعاني إدمانَ المخدرات، وكانت ابنته لا تزال تقضي بعضَ الوقت معه، لكنه كان يعلم في أعماق نفسه أن هذا بمنزلة عملٍ روتيني بالنسبة إليها. أما الآن فقد اكتشف القتل، ومن ثمَّ والأروع من ذلك، اكتشف القراءة. وقَّع مارتي أوراق الطلاق، وتقاعد مبكرًا، وانتقل إلى بوسطن.
ليكون بالقرب مني.
في عام ٢٠١٢، بدأ يحضر الندوات، وفي النهاية تعرَّفنا. أظنُّ أنه اعتقد بأن مقابلتي ستكون كافيةً لكي نصبح صديقَين. ولربما حتى نتحدَّث في النهاية عما حدث، عن جرائم القتل التي ارتكبناها بالوكالة أحدنا عن الآخَر، لكن ذلك لم يحدُث. نعم، أصبحنا صديقَين. لكن هذا لم يكن كافيًا بالنسبة إليه. وكما قلتُ من قبل، بدأنا نقضي وقتًا أقلَّ معًا. وكان ذلك عندما جاء بفكرةِ تنفيذ جرائم القتل من القائمة التي كتبتُها. لقد كانت وسيلةً للتواصل معي؛ لأن الاجتماع على كأسَين من الجِعَة لم يكن ليُنجزَ الأمور. بعبارةٍ أخرى، لو كنتَ رفيقًا أفضل، لَما قُتِلَت حَفنةٌ برُمَّتها من الأشخاص. أو ربما هذا ببساطةٍ غير صحيح. فعندما قتل مارتي في المرة الأولى إريك أتويل، كان الأمر أشبهَ بفتح زجاجة شمبانيا. لم تكن السِّدادة لتعود مرةً أخرى إلى الزجاجة أبدًا. والآن لديه مجموعةٌ كاملة من أساليب القتل لاستخدامها في هُوايته الجديدة. كلُّ ما كان يحتاج إليه هو ضحية.
قبل أن تُقيم زوجته علاقةً غرامية، عندما كان مارتي كينجشيب لا يزال يعيش غربَ سميث فيلد، كانت قد قرأت الكتابَ الشائن لمذيعة الأخبار روبن كالاهان حول فوائد الزنى. كان يُدعى «الحياة طويلة جدًّا»، ونُشر بعد عامٍ من افتضاح أمرِ علاقتها الغرامية مع شريكها الإخباري المتزوج. لقد كانت موضوعًا دسمًا للصحف الصفراء، ساعدها في ذلك حقيقةُ أن كالاهان كانت شقراءَ مذهلة، ويبدو أنها غيرُ نادمة. لقد استغلَّت سُمعتها السيئة من خلال نشرِ كتابٍ ذهب بشكل أساسي إلى أن الزنى كان طبيعيًّا أكثرَ من الزواج الأحادي، وأن متوسط عمر الفرد قد زاد كثيرًا بحيث لم يَعُد من المنطقي أن يظلَّ الناس متزوجين إلى الأبد. قدَّمَت دوراتٍ من البرامج الحوارية، وسرعان ما قفز الكتاب أعلى قوائم الكتب الأكثر مبيعًا. ألقى مارتي كينجشيب باللوم على هذا الكتاب في علاقة زوجته فيما بعدُ بطبيب الأسنان الخاص بالعائلة. أنا متأكِّد من أنه لم يكن الشخصَ الوحيد — رجلًا كان أو امرأة — الذي لديه مشاعرُ سيئة تجاه روبن كالاهان. لكن مارتي كان شخصًا قد ارتكب جريمةَ قتلٍ من قبل، وأفلتَ من العقاب، وكان يتوق للمحاولة مرةً أخرى.
راح يبحث في قائمة جرائم القتل الكاملة التي نشَرتُها، ليرى إن كانت هناك أيُّ أفكار جيدة لكيفية الإفلات بجريمة قتل روبن كالاهان. كان يحبُّ بوجهٍ خاص روايةَ أجاثا كريستي «جرائم الأبجدية»، التي أُخفِيَت فيها جريمةُ قتل معيَّنة بين سلسلةٍ من جرائم القتل التي بدا كأنَّ مَن ارتكبها رجلٌ معتوه. ماذا لو استطاع فِعل الشيء نفسِه مع روبن كالاهان؟ ربما يقتل بضعةً من الأشخاص الذين لديهم جميعًا أسماءٌ متشابهة؛ أسماء طيور، على سبيل المثال. بل ظنَّ بعدها أنه يمكنه تركُ ريشةٍ واحدة في مسرح كلِّ جريمة. أو الأفضل من ذلك، إرسال ريشة واحدة بالبريد إلى الشرطة المحلية.
وكان هذا ما فعله. لقد قتل روبن كالاهان داخل منزلها، بعد أن استطاع الدخولَ عن طريق إظهار بطاقة هُويته الشُّرطيَّة القديمة. كما قتل إيثان بيرد، وهو طالبٌ محليٌّ وجده مارتي من خلال البحث في تقارير الشرطة بحثًا عن أسماءٍ مرتبطة بالطيور. كان قد أُلقي القبضُ على إيثان في حانةٍ رياضية في لويل لتهديده الساقيَ والإخلال بالأمن. وقد وجد جاي برادشو بالطريقة نفسِها؛ كان قد اعتُقل بتهمة الاغتصاب، لكن لم تثبُت إدانته قط. اتضح أنَّ برادشو قضى معظمَ أيامه في كيب جالسًا في مرأب منزله، محاولًا بيعَ الأدوات المستعملة. كان مارتي قد توقَّف في وضَح النهار، ثم ضرب برادشو حتى الموت بمضرب بيسبول كان قد أحضره، ومطرقةٍ ثقيلة كان قد استعارها.
بمجرد أن بدأ في التخطيط لجرائم الأبجدية، عرَف مارتي أنه لن يكون في مقدوره التوقفُ حتى ينتهيَ من القائمة. كان بيل مانسو اسمًا آخَر أخرجه من سجلَّات الشرطة، وهو رجلٌ قد حُقِّق معه في قضيةِ عنفٍ أُسري، وهو أيضًا شخصٌ اتهمَته إحدى الجارات باقتحام منزلها أثناء النهار، وسرقة ملابسها الداخلية. حدَث هذا كلُّه قبل خمس سنوات، لكن مارتي قرأ عن القضية، واكتشف أنَّ مانسو قد أُطلق سراحه؛ لأنه كان يُسافر دومًا بالقطار إلى مدينة نيويورك، وأنه قدَّم دليلًا على أنه كان مسافرًا على متن القطار في وقت الاقتحام. جعله القطار يُفكِّر في رواية «تعويض مزدوج»، وهو كتابٌ آخر في القائمة. كان مارتي قد قرأه بالطبع، لكنه حصل أيضًا على الفيلم من المكتبة المحلية. وقد أحبَّ الفيلم أكثرَ «لقد منَحني استحسانًا وإدراكًا جديدًا لفريد مكموري». قرَّر قتل بيل مانسو، ضربه حتى الموت، وترَكه على القضبان. ثم استقلَّ القطارَ بنفسه في صباح اليوم التالي، وكسر النافذة في الوقت المناسب تمامًا ليجعلها تبدو كما لو أن مانسو قد قرَّر القفز منها. كان يعلم أن ذلك لن يُفلح، فسرعان ما سيعرف مُحقِّقو مسرح الجريمة تقريبًا أنَّ مانسو قد قُتل في مكانٍ آخر، وأن جُثته قد نُقلت من مسرح الجريمة الأصلي. ولكن ما أثار حماسةَ مارتي هو أن شخصًا ما قد يكتشف الأمر، ويبدأ في الربط بين الكتابَين، وهذا سيقود إليَّ. بل وربما يعتقلونني. في كلتا الحالتين، كنتُ سأصبح متورطًا، وهذا ما كان يأمُل فيه.
لم يكن مارتي متأكِّدًا من كيفية الوصول إلى بيل مانسو، لكن عندما وصل إلى كونيتيكت، أصبح الأمر أسهلَ؛ لأنَّ مانسو كان يُحبُّ تناوُلَ الشراب في الحانة الأقرب إلى محطة القطار. كان مانسو يذهب مباشرةً بعد تنقُّله بالقطار إلى حانة «كوريدور بار آند جريل» في الساعة الخامسة والنصف من كلِّ يوم ثم يخرج مِن هناك متعثرًا في نحو الساعة العاشرة ليلًا، ليقود مسافة ميل ونصفٍ إلى مسكنه الريفي. قتله مارتي في ساحة انتظار السيارات بعصا شُرطيٍّ «أفضل بكثيرٍ من مضرب بيسبول، دعني أخبرك.» وترك جثَّته على القضبان. في اليوم التالي، استقلَّ القطار وحطَّم نافذةً بين العربات مستخدمًا العصا الفولاذية نفسها.
أربعُ جرائم قتل، ونَفِد صبرُ مارتي. لم يقل ذلك بعباراتٍ كثيرة، لكنه قرَّر أن الوقت قد حان ليكون أوضح. لقد حان الوقت لتوريطي.
ومثل كلِّ الزبائن المنتظمين في «أُولد ديفيلز»، ولا سيَّما أيُّ شخصٍ حضر ندوات كُتَّابنا، كان مارتي يعرف إيلين جونسون. لقد حاصرَته في مناسباتٍ عديدة لتُخبره بالكتب التي يجب أن يقرأها، والكتب التي كانت مضيعةً للوقت. أخبرته عن تلك السِّحاقية البذيئة التي امتلكَت الشقة التي عاشت فيها، وعن مدى قذارةِ مدينة بوسطن المثيرة للاشمئزاز، وكيف أنه لولاها لكان متجر «أُولد ديفيلز» قد توقَّف عن العمل منذ سنوات. وأخبرته عن حالة قلبِها، وكيف أخبرها أطبَّاؤها أنَّ عليها الانتقالَ إلى منطقةٍ أهدأ، والتأكُّد من عدم وجود أي شيءٍ يجهدها.
عندما عرَف مارتي أنها انتقلت إلى منزل أختها المتوفاة في روكلاند بولاية مين، زارها. اقتحم منزلها عندما كانت بالخارج — على الأرجح تُرهب موظفًا في مكتبةٍ ما محلية — واختبأ في خِزانة غرفة نومها. كان يرتدي قناعَ مهرجٍ ذي فم كبير شنيع ومليء بأسنان حادَّة، وعندما عادت إيلين جونسون إلى المنزل، انتظر بصبرٍ نافد. كان باستطاعته سماعُها تتجوَّل بالطابق السفلي، غافلةً عن وجوده. أخيرًا، صعدت إلى غرفة النوم في الطابق العلوي، وتوجَّهَت مباشرةً إلى الخِزانة، وفتحَتها. كلُّ ما كان عليه فعلُه هو الوقوفُ هناك، ثم التقدُّم خطوةً تجاهها. لقد استحال لونُها إلى اللون الأبيض، ثم ربَّتَت على صدرها، ثم كان بالضبط ما كان يأمُله. قضَت نحْبها جرَّاء أزمة قلبية.
قلتُ: «لماذا تركتَ الكتب؟»
«أردتُهم أن يأتوا إليك، على الأقل في مرحلةٍ ما. كنت أعلم أن مقتل إيلين جونسون كان مضمونًا تمامًا. من المستحيل أن يفكِّر أيُّ طبيب شرعي في وجودِ شبهة جنائية في وفاتها. ولذا، تركتُ الكتب؛ لأحرِّك الماء الراكد وأُربك المشهد. على أملِ أن يكون شخصٌ ما ممن يُطبِّقون القانون في مكانٍ ما ذكيًّا بما فيه الكفاية ليربط الأمورَ بعضَها ببعض.»
قلتُ: «شخصٌ ما فعلها.»
«وأصابك الذعر وهُرِعتَ إليَّ طلبًا للمساعدة. لم أكن أعتقد أن هذا سيحدث أبدًا، لكنني شعرتُ بسعادةٍ غامرة عندما حدث. كان من الجيد سماعُ صوتك وأنت تستجديني معروفًا.»
«كان بإمكانك إنهاءُ الأمر عند هذا الحدِّ. لقد حصلتَ على ما أردت.»
«لا. ما كنتُ أرغبُ فيه هو إكمال المشروع، لكنني أردتُك أن تكون معي طوال الرحلة. وهذا ما لدينا الآن، أنا وأنت. هل تريد أن تسمع البقية؟»