الفصل الرابع
عشتُ بمفردي على الجانب الآخر من شارع تشارلز، أعلى التل في غرفةٍ عليَّة من الحجر الرملي البُني استأجرتُها من سيدةٍ تسعينية من براهمة بوسطن ونُخبتها، لم تكن لديها أيُّ فكرة عن القيمة الفعلية لمِلكيَّتها العقارية. دفعتُ إيجارًا زهيدًا للغاية، وتوجَّستُ بدافعٍ من الأنانية بشأن اليوم الذي ستموت فيه صاحبةُ الغرفة وتنتقل ملكيتها إلى أحد أبنائها الأكثر فطنةً من الناحية المالية.
عادةً ما يستغرق الأمر أقلَّ من عشر دقائق للوصول من المتجر إلى غرفتي، لكنني كنت أسيرُ في مواجهة العاصفة مرتديًا زوجَين من الأحذية ذَوَي نعلَين مهترئَين. لسعَ الثلجُ وجهي، وأخذَت الرياح تعقِفُ الأشجار وهي تدوي في الشوارع الخالية. وعند بلوغ شارع تشارلز، فكَّرتُ في التحقُّق مما إذا كان متجر «سفنز» مفتوحًا لتناول مشروب، لكنني قررتُ الدخولَ إلى متجر الجُبن والنبيذ بدلًا من ذلك، حيث ابتعتُ لنفسي ستَّ عبواتٍ من الجِعَة من نوع «أولد سبيكلد هن» وشطيرةً من خبز الباجيت الجاهزِ محشوةً بلحم الخنزير والجبن لتناولها على العشاء. كنت أخطِّط لطهي شريحةِ لحم الخنزير التي كنت قد أخرجتُها لإذابة تجميدها في ذلك الصباح، لكنني كنت متشوقًا لقراءة قائمة العميلة مالفي في تلك الليلة.
في البناية حيث توجد الغرفة التي أقطُن بها، صعدتُ الدرجات المؤدية إلى الباب الأمامي الثقيل، المصنوع من خشب الجوز والذي له مقابضُ مصنوعة من الحديد الزهر، ولم يكن قد جُرف الثلج عنها بعد. سمحتُ لنفسي بالدخول بعد أن تخلَّصتُ من الثلجِ العالقِ بحذائي. كانت مستأجِرة أخرى، على الأرجح ماري-آن، قد فرزَت البريدَ بالفعل وتركَته على الطاولة الجانبية في الرَّدهة. التقطتُ استمارات بطاقتي الائتمانية الرطبة بينما تساقطت مني قطراتُ الماء على الأرضية المُبلَّطة المُتصدِّعة، ثم تسلقتُ ثلاث درجاتٍ من السُّلَّم صاعدًا إلى مكان العليَّة المُعدَّل.
وكما هو الحال دائمًا خلال أشهر الشتاء، كانت الحرارة خانقة داخل المكان. خلعتُ معطفي وسُترتي، ثم فتحتُ كلتا النافذتَين لديَّ؛ حيث توجد نافذتان على جانبَي الجدارَين المائلَين، تكفيان لأن يسريَ الهواءُ البارد إلى الداخل. وضعتُ خَمسًا من عُبوات الجِعة في ثلاجتي وفتحتُ السادسة. على الرغم من أن شقتي كانت عبارةً عن شقةٍ استوديو صغيرة، كانت بها مساحةٌ كافية لغرفة معيشة مُعيَّنة الحدود بوضوح، وتمددتُ على الأريكة، ثم رفعتُ قدمَي فوق طاولة القهوة، وشرَعتُ أقرأ قائمة العميلة مالفي.
كانت مرتَّبة ترتيبًا زمنيًّا، وكل إدخال فيها منَّسقٌ بالطريقة نفسِها، موضحٌ في رأسية الصفحة كلًّا من التاريخ والموقع واسم الضحية. ومع أنها ملخصٌ مُجمل، كُتب على عجلٍ في آخرِ لحظة، إلا أنها صِيغت في جملٍ كاملة، وتُماثل في أسلوبها الكتابةَ الصحفية النموذجية. على الأرجح لم تحصُل العميلة مالفي على تقديرٍ أقلَّ من ممتاز في مسيرتها الأكاديمية بأكملها. تساءلتُ ما الذي جذبها إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي. لقد بدَت شخصًا أكثرَ مواءمةً للأوساط الأكاديمية، ربما أستاذة لغة إنجليزية، أو باحثة. ذكَّرَتني قليلًا بإيميلي بارساميان؛ وهي موظفة لديَّ مُولعة للغاية بالكتب ومُطالَعتها، ولا تستطيع النظرَ في عينيَّ عندما نتحدَّث. لم تكن العميلة مالفي على هذا القدْر من الارتباك، ربما يُعزى الأمر فقط إلى كون إيميلي شابةً وعديمةَ الخبرة. كان من المستحيل بالنسبة إليَّ ألا أفكِّر في كلاريس ستارلينج (اسم طائر آخر) من فيلم «صمت الحُملان» (ذا سايلنس أوف ذا لامس). هذا تقريبًا ما يتبادر إليه ذهني دائمًا، الكتب والأفلام. هكذا هو الأمر منذ أن بدأت القراءة أولَ مرة. وبدت مالفي، مثل نظيرتها الخيالية، وديعةً للغاية بالنسبة إلى الوظيفة التي تَشغلها. كان من الصعب تخيُّلها تسحب سلاحًا من جَعبته وتلوِّح به، أو تستجوب مُشتبهًا به بضراوةٍ وحَزم.
«ومع ذلك، فقد استجوبَت أحدَ المُشتبَه بهم بالفعل. لقد استجوبَتك أنت!»
طردتُ تلك الفكرةَ بالذات من رأسي، واحتسيتُ بعضَ البيرة، ونظرتُ إلى قائمتها متفحِّصًا البنود المُدرجة قبل أن أعكفَ على قراءة التفاصيل. عرَفتُ على الفور أنه لم يكن يوجد الكثير هنا؛ على الأقل لم يجذب انتباهي شيءٌ بعينه. العديدُ من جرائم القتل كانت جرائمَ سلاح. ومعظمها لشباب في مدن. بدا أحدُ ضحايا عنف السلاح احتمالًا واردًا، ولكن لم يوجد كثيرٌ من التفاصيل في الوصف. قُتل رجلٌ يُدعى دانيال جونزاليس رميًا بالرصاص أثناء تمشية كلبه في منطقة ميدلسكس فيلز. حدث ذلك في وقتٍ مبكِّر من صباح أحد الأيام في سبتمبر الماضي، وقد دوَّنَت العميلةُ مالفي ملاحظةً بعدم كفاية الأدلة حاليًّا في هذه القضية. كان السببُ الوحيد الذي جذب انتباهي إلى تلك القضية بالذات هو جريمة القتل في رواية «التاريخ السري». حيث يُقرِّر قتلةٌ في سنِّ الدراسة الجامعية في رواية «التاريخ السري» لدونا تارت ضرورةَ التخلُّص من صديقهم الملقَّب باسم باني كوركوران أو الأرنب كوركوران؛ خشيةَ أن يكشف ما يعرفه عن جريمةِ قتلٍ سابقة حينما حاكى طلابُ الأدب الكلاسيكي طقسَ عربدةٍ ديونيسي (شهواني) في الغابة، وقتلوا مُزارعًا خطأً (أو عمدًا). لم يكن باني جزءًا من الطقوس، لكنه اكتشف ذلك وبدأ في ابتزاز أصدقائه الأثرياء بهذه المعلومات للحصول على أشياءَ، مثل عشاء في الخارج، ورحلات إلى إيطاليا. كما أنهم شعَروا بالقلق تجاهه خشيةَ أن يُخبر أحدًا وهو في حالةِ سُكرٍ بما حدث. ومن ثمَّ، وضعوا خُطةً لقتله. تولَّى هنري وينتر، وهو الطالب الأذكى في المجموعة، وضْعَ اللمسات الأخيرة لخُطتهم. كانوا يعرفون أن باني يخرج في نزهة طويلة سيرًا على الأقدام بعد ظهر يوم الأحد، ومن ثمَّ تربصوا به في مكانٍ اعتقدوا أنه قد ينتهي به المطافُ إليه، وكان عبارة عن ممرٍّ فوق وادٍ عميق. عندما وصل، دفعوه من فوق الحافة، آملين أن يبدوَ الأمر وكأنه حادث، أملًا في أن يُخفي مسارُ نزهته العشوائي مخططَ الجريمة.
هل من الممكن أن تكون قضية دانيال جونزاليس، الذي قُتل أثناء ركضه الصباحي، ذاتَ صلة؟ يبدو الأمر مُستبعَدًا على ضوء حقيقة كونه قُتل رميًا بالرصاص، ولكن ربما تكون الفكرة وراء هذه الجريمة المقلَّدة هي التخلُّص من شخصٍ ما أثناء قيامه بنشاط مُتوقَّع. أحضرتُ الكمبيوتر المحمول، وبحثتُ عن نعيِه. كان أستاذًا مساعدًا في اللغة الإسبانية بإحدى الكليات المحلية. ومع أن مجال تخصُّصه لم يكن اللاتينية أو اليونانية، لكنه كان أستاذًا للُّغات على أي حال. كان ذلك احتمالًا واردًا، وقرَّرتُ إخبارَ العميلة مالفي به في صباح اليوم التالي.
تفقدتُ بقيةَ الجرائم. كنت أبحث تحديدًا عن حادث غرق، بينما أفكِّرُ في كتاب جون دي ماكدونالد «المُغْرِق». لكن، إذا كان أحدُهم قد غرق بطريقةٍ تجعله يبدو كأنه حادث، فمن المُحتمَل بالطبع ألا يوجد ذكرٌ له في قائمةٍ بجرائم قتل لم تُحلَّ بعد.
لم يكن هناك أيضًا قوائمُ للحوادث المرتبطة بتناول جرعاتٍ زائدة عن طريق الخطأ. كان هذا هو أسلوبَ القتل في رواية «سبق الإصرار». يُحوِّل القاتلُ، وهو طبيبٌ، زوجتَه إلى مُدمنة مورفين. ثم يقتصر الأمر ببساطةٍ على التأكُّد من أن الآخرين يعلمون بشأن إدمانها، لدرجة أن يُصبح الأمر مثارًا للقيل والقال في الأوساط المحلية. ثم يقتلها بجرعةٍ زائدة. وبالطبع، لا بد أنه كان هناك المئات — إن لم يكن الآلاف — من حوادثِ تناول جرعاتٍ زائدة من المخدرات في نيو إنجلاند في السنوات القليلة الماضية. هل يمكن أن تكون واحدةٌ منها جريمةَ قتل مُتعمَّدة؟ الفكرة في قائمتي أنني عندما أنشأتُها في الأساس، كنت أحاول حقًّا الإتيانَ بجرائمِ قتلٍ عبقرية للغاية، يستحيل معها القبضُ على الجاني مطلقًا. وبناءً على ذلك، إذا نجح أحدُهم في تقليد بعض جرائم القتل هذه، فلن يكون من الممكن اكتشافُها.
قضمتُ قضمتَين من شطيرتي ثم تناولتُ عبوةً أخرى من الجِعة. كانت الشقة هادئة للغاية، ولم أرغب في فتح التلفزيون، ومن ثمَّ شغَّلتُ موسيقى بدلًا من ذلك. ألبوم ماكس ريختر «٢٤ بوست كاردز إن فول كلر». استلقيتُ على أريكتي ونظرتُ إلى السقف المرتفع، إلى صُدعٍ رقيق متعرِّج من أسفل الصبِّ؛ كان مشهدًا مألوفًا، ذلك السقف. فكرتُ بشأنِ ما سأقوله للعميلة مالفي في صباح اليوم التالي على الإفطار. سأخبرها عن دانيال جونزاليس بالطبع، ووجه الصلة المحتمَل بينه وبين رواية «التاريخ السري». سوف أقترح عليها أن تبحث في حوادث الغرق، خصوصًا تلك التي حدثَت في البِرَك أو البحيرات، وسأقترح أيضًا أن تطَّلع على حالات الوفاة الناجمة عن تناول جرعاتٍ زائدة، خصوصًا تلك التي استخدم فيها المُتوفَّى مِحْقَنة.
انتهى الألبوم، وأعدتُ تشغيله، مستلقيًا على الأريكة. كان عقلي يسير في اتجاهاتٍ مختلفة؛ ولذا قررتُ أن أتمهَّل وأعُدَّ قائمةً ذهنية. قلتُ لنفسي أن أُدرج الفرضيات أولًا. الفرضية الأولى هي أن أحدهم يستخدم قائمتي لقتل أشخاصٍ على نحوٍ عشوائي. حسنًا، ربما ليس عشوائيًّا، ربما كان الضحايا يستحقون بطريقةٍ ما الموت، على الأقل من وجهة نظر القاتل. والفرضية الثانية أنه على الرغم من أنني ربما كنتُ مشتبهًا به، فلم أكن بأي حال من الأحوال مشتبهًا به جِديًّا. وكما أوضحت العميلةُ مالفي نفسها، لم تكن لتأتي بمفردها لو كانت هذه هي حقيقة الوضع. كان الغرضُ من مقابلتها لي بعد ظهر هذا اليوم هو استشارتي، في محاولةٍ لمعرفة رأيي في هذا الشأن. إذا كانت تعتقد أنني متورِّط، فإنني أجزم أنه في المرة القادمة التي سنلتقي فيها — من أجل الإفطار غدًا، أو ربما في وقتٍ لاحق — سيكون معها عميلٌ فيدرالي آخر. الفرضية الثالثة: أيًّا كان مَن يفعل هذا، فهو لا يستخدم قائمتي فحسب. القاتل يعرفُني. ربما ليس كثيرًا، ولكن إلى حدٍّ ما.
إنَّ ما دفعني إلى اعتقاد — أو معرفة — ذلك هو أنني أعرف في الحقيقة الضحيةَ الخامسة التي ذكرَتها العميلةُ مالفي، المرأة التي أُصيبت بنوبةٍ قلبية في منزلها في روكلاند، إيلين جونسون. إنني لا أعرفها جيدًا، ولكن بمجرد أن سمعتُ الاسم، عرَفتُ أنها إيلين جونسون التي اعتادت العيش في بيكون هيل، وهي زَبونة منتظمة للمتجر، وامرأة حضرَت الندوةَ النقاشية لكل كاتب استضفناه. أعلم أنه كان عليَّ آنذاك إخبار العميلة مالفي بذلك، لكنني لم أفعل، وحتى اللحظة التي شعرتُ فيها بأني مضطرٌّ إلى ذلك، لم أكن أعتزم إخبارها.
لقد كنتُ واثقًا أنها كانت تحجُب معلوماتٍ عني، ومن ثمَّ اعتزمتُ أن أحجُب هذه المعلومات عنها.
كان عليَّ أن أبدأ في الاحتراز لنفسي.