في أحوال النبي الخاصة
رأينا في الأبواب السابقة أن النبي الكريم قد عني بشئون الأمة عناية كبيرة، ولم يترك شاردة ولا واردة تتعلَّق بأحوالها ومرافقها الخاصة والعامة إلا درسها ومحصها وفحصها فحص المدقِّق الخبير، وعالجها معالجة الحكيم الحذق، وجاء بما تحتاج إليه المصلحة وتلائمه ظروف الوقت. ونريد في هذا الباب أن نبين أنه — عليه الصلاة والسلام — اهتم بشئونه الخاصة كرئيس أعلى لهذه المجموعة التي أراد بنيان مجدها وشرع في تأسيس قواعد عزِّها، وانتشالها من العمه والضلالة إلى العزة والكرامة.
ونحن إذا أردنا أن ندقِّق في أحوال النبي الخاصة بشخصه وجدناها بسيطة أبسط ما تكون، ساذجة كل السذاجة، ووجدناها متواضعة لله العلي القدير، عزيزة بالمؤمنين المصطفين، قوية على الطغاة الجبارين. وقد كان النبي العظيم لا يفتر عن ذكر الله والانصراف بكليَّته إليه سبحانه، والعزوف عن الدنيا ومظاهرها وزخرفتها وباطلها ولهوها، ولكنه ﷺ لم ينسَ نصيبه من الدنيا؛ لأنه بشر، ولأنه ما جاء بدين صوفي رهباني، ولكنه جاء بدين فيه ملاك الدين والدنيا، وفيه صلاح المعاش والمعاد.
كان ﷺ إنسانًا كاملًا يضع كل شيء موضعه، وكان على كثرة ما أفاء الله عليه لا يجد ما يُطعِم أهله من التمر والشعير، وكان يخصف نعله بيديه، ويرقِّع ثوبه، ويخدم أهله، ويقطع اللحم معهم، ويعصب الحجر على بطنه من الجوع، ويلبس ما يجد من شملة أو جبَّة، وتواترت هذه الأخبار عنه. ولكن على الرغم من هذا كان يتظاهر بكل ما فيه عز الإسلام، ويعمل على إعلاء شوكة الإيمان. ولم يترك ﷺ ظاهرة يظهر بها الدين، ولا شعيرة يرتفع بها شمل المسلمين إلا جاء بها، وحضَّ عليها وفعلها بنفسه.
ومن تلك المظاهر: أنه كان ﷺ يُعنَى بحراسته ويطلب إلى الأشداء المخلصين من صحابته أن يحرسوه من الغدارين والفُتَّاك، سواء أكان في وقت الحرب أو وقت السلم، فممن حرسه ﷺ يوم بدر، سعد بن معاذ؛ فقد كان على باب العريش الذي نزله ﷺ متوشحًا بسيفه في نفر من الأنصار. وممن حرسه، حين أعرس بالسيدة صفية، أبو أيوب الأنصاري؛ فقد بات الرسول وأبو أيوب يطوف بقبَّة النبي ﷺ حتى أصبح النبي، فلما رآه قال: «ما لك يا أبا أيوب؟» قال: خفت عليك من هذه المرأة — أي صفية — وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها، وكانت حديثة عهد بكفر، فخفتها عليك. فقال رسول الله ﷺ: «اللهم احفظ أبا أيوب كما كان يحفظني.» وذكر ابن هشام في غزوة ذات الرقاع: أن رسول الله لما نزل قال: «من يكلأُنا الليلة؟» فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله. قال: «فكونوا عند الشِّعْب.» وكان رسول الله في أصحابه قد نزلوا إلى شِعْب من الوادي؛ وهما عمار بن ياسر وعبَّاد بن بشر. وذكر في غزوة بني قريظة أنه ﷺ أخرج من تلك الليلة التي نزل في صبيحتها بنو قريظة على حكم رسول الله ﷺ، وأن عَمْرًا القرظي لما قَدِم إلى النبي ﷺ تلقَّاه حرسُ النبي وعليه محمد بن مسلمة.
وذكر في غزوة حنين: أنهم ساروا مع رسول الله يوم حنين، فأطنبوا السير حتى كان عشية، فقال رسول الله ﷺ: من يحرسنا الليلة؟ فقال أنس بن أبي مرثد الفتَوي: أنا يا رسول الله.
وممن كان يحرسه وهو يصلي بمكة، عمر بن الخطاب؛ فقد رووا أنه كان يقوم بالسيف على رأسه ﷺ وهو يصلي؛ خوفًا من أن تتعدَّى عليه قريش. وممن كان يحرسه أيضًا الخشرم بن الحباب الأنصاري ومحمد بن مسلمة والأدرع السلمي وعمار بن ياسر وعباد بن بشر. ولا شك في أن الرسول الكريم كان مع اتكاله على الله، الذي هو خيرٌ حافظًا، ولكنه ﷺ يحتاط ويتخذ كافة الوسائل لئلا يفتك به الفجَّار من المنافقين أو الكفار.
ومن تلك المظاهر أيضًا: اتخاذه ﷺ جماعة من الشعراء والخطباء والحُدَاة يُشيدون بمحامد الإسلام، وقد اقتضتهم الإشادة بمبادئ الإسلام أن يشيدوا بالنبي والافتخار بما كان يتحلى من مزايا وتعديد صفاته الجليلة. وقد حفظت كتبُ التاريخ والسيرة والأدب الإسلامي طرفًا جليلًا من ذلك. ومن أشهر من عُرف من الشعراء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك والنابغة الجعدي والزبرقان والعباس بن مرداس ولبيد وغيرهم، ومن خطبائه علي بن أبي طالب وثابت بن قيس بن شماس وأبو بكر الصديق، ومن حداته ﷺ عبد الله بن رواحة وأنجشة والبراء بن مالك.
ومما يتعلق بهذا الأمر أنه ﷺ تملَّك بعض العقار الكراع والأموال، وكانت أموال بني قريظة وخيبر والنضير التي استصفاها النبي لنفسه أجلَّ مالٍ مَلَكَه ﷺ، فكان ﷺ يعزل نفقة أهله سَنَةً، ثم يجعل ما يبقى في الخيل والسلاح عدةً في سبيل الله، وكان بلال الحبشي المؤذِّن هو القائم على شئون أمواله ونفقاته، وفي سنن أبي داود عن عبد الله الهوزني قال: قلت لبلال: حدِّثني كيف كانت نفقات رسول الله ﷺ؟ قال: ما كان له شيء، وكنت أنا الذي أَلِي ذلك منه منذ بعثه الله حتى توفي، وكان — عليه الصلاة والسلام — إذا أتاه إنسان مسلمًا يراه عاريًا يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري له البردة فأكسوه وأطعمه، وكان ﷺ يقول: «أنفِقْ بلال، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا.»