في زوجاته وأولاده
(١) إباحة الإسلام تعدُّد الزوجات
(١-١) زوجات النبي
كما أثارت فكرة تعدد الزوجات في الإسلام كثيرًا من حملات الانتقاد، كذلك أثارت قضية تعدد زوجات النبي حملات من أعداء الإسلام وزنادقته؛ فقد اتخذوا هذا الأمر وسيلة للطعن في النبي ووصفه بالشهوانية والإفراط في حب الدنيا واللذة الجسدية والجنسية. وقد رأيت لزامًا على نفسي في هذا الموضوع أن أعرض لمناقشة هذه القضية، لا دفاعًا عن النبي الكريم ولا إشادة بمحاسن أخلاقه وتنزيهه عن النقائص؛ فإن هذه الأمور ليست مجال مناقشة، وإنما تعرَّضتُ إليها لأبيِّن الظروف التاريخية والمناسبات التي تزوج فيها النبي زوجاته، مع الإلمام بطرف من أحوال كل سيدة من زوجاته، وما أُثِر عنها، وما أُثِرت في الدين، وما خلَّفت للنبي الكريم من بنين وبنات وحفدة، وما كان لآل البيت النبوي الطاهر من أثر في الإسلام في العروبة خاصة، وفي الإسلام عامة.
السيدة خديجة
قد قدَّمنا الكلام عنها في الفصل الثالث من الباب الثاني.
السيدة سودة
وهي بنت زمعة بنت قيس بن عبد شمس القرشية، وهي ثاني امرأة تزوَّجها رسول الله، وكان أبوها من وجوه قريش، أما أمها فهي الشموس بنت قيس بن زيد بن عمر من وجوه بني النجار.
كانت قبل تزوج النبي بها تحت ابن عمها السكران بن عمرو، ولما جاء الإسلام أسلمت وزوجها في أوائل من أسلموا، وهاجرت مع زوجها إلى أرض الحبشة، فبقيت هناك إلى أن رجع المسلمون، وقد هلك زوجها هناك، وقيل: بل رجع بعد وصولهم إلى مكة. وكانت السيدة خديجة قد تُوفيت وليس في بيت النبي أحد يقوم بأمره، فجاءته خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت له: يا رسول الله، ألا تزوج؟ فقال: «ومن؟» قالت: إن شئت بكرًا، وإن شئت ثيبًا. فقال: «مَن البكر ومَن الثيِّب؟» فقالت: أما البكر فابنة أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر الصديق، وأما الثيِّب فسودة بنت زمعة وقد آمنت بكَ واتبعتك. قال: «فاذكريهما علي.» قالت: فأتيت أم رومان زوج أبي بكر فقلتُ: يا أم رومان، ماذا أدخل الله عليكم من خير؟ قالت: وما ذاك؟ قلتُ: رسول الله يذكر عائشة. قالت: انتظري فإن أبا بكر آتٍ. قالت: فجاء أبو بكر فذكرت ذلك، فقال: أَوَتصلح له وهي ابنة أخيه؟ فذهبتْ إلى رسول الله وقالت له: إن أبا بكر يقول: وهل تصلح له وهي ابنة أخيه؟ فقال رسول الله: «أما أنا فأخوه وهو أخي، وابنته تصلح لي.» فأتت أبا بكر وقالت له ما قال رسول الله، فقالت أم رومان لأبي بكر: وابن المطعم بن عدي، ما تصنع به؟ وقد كان ثمة حديث بين آل أبي بكر وآل المطعم في تزويج عائشة بابن المطعم، فقام أبو بكر من ساعته فأتى المطعم بن عدي فقال له: ما تقول في أمر هذه الجارية؟ فأقبل المطعم على زوجته فقال: ما تقولين؟ فأقبلت على أبي بكر فقالت: لعلنا إن أنكحنا هذا الصبي إليك تُصبيه وتدخله في دينك والذي أنت عليه. فقال أبو بكر لمطعم: وأنت ما تقول؟ فقال بمثل قول زوجته، فقام حينئذٍ أبو بكر وأتى بيته وقال لخولة: قولي لرسول الله فليأتِ. فجاءه رسول الله فملكها وأصدقها أربعمائة درهم. ثم ذهبت خولة إلى سودة فقالت: ما دخل الله عليك من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: إن رسول الله بعثني إليك. فقالت: وددت ذلك، ولكن أدخل على أبي. وكان أبوها شيخًا، فحيَّته بتحية أهل الجاهلية فقالت: أنعم صباحًا. فقال: من أنتِ؟ قالت: خولة بنت حكيم. فرحَّب بها فقالت: إنَّ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يذكر سودة. فقال: هو كريم، فما تقول صاحبتك؟ فقالت: تحب ذلك. قال: فقولي له فليأتِ. فجاء رسول الله فملكها وتزوجها ودخل بها.
السيدة عائشة
وكان الرسول يداعبها ويسامرها ويسابقها ويُكبِر فيها العقل وحُسن الفهم والإدراك وسعة الرواية وحُسن التلقِّي وإفراط التعبُّد والحياء، ولما اتُّهمت بحادثة الإفك وأنزل الله براءتها في القرآن الكريم فرح النبي بذلك، ولما مرض الرسول مرضة الموت اختار بيتها ليُمرَّض فيه ومات عندها. ولم يؤخذ عليها شيء سوى انغماسها في غمرة السياسة وخروجها إلى البصرة لمحاربة عليٍّ، وقد كانت تذكر ذلك وهي نادمة مستغفرة، وظلت في بيتها إلى أن ماتت ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة مضت من رمضان (سنة ٥٨ﻫ) ولها من العمر ست وستون، وصلى عليها أبو هريرة، ودُفنت بالبقيع رضوان الله عليها.
حفصة بنت عمر بن الخطاب
السيدة زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية
السيدة أم سلمة هند بنت أبي أمية حذيفة الجواد الملقَّب بزاد الراكب
وأمها السيدة عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن عبد المطلب، تزوَّجها أول الأمر أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد القرشي، فولدت له سَلَمة، وعمر، ورقية، وزينب. ولما ظهر الإسلام اعتنقته وزوجها وهاجرا إلى الحبشة، ثم رجعا ومات أبو سَلَمة سنة أربع للهجرة، ولما مات خطبها أبو بكر فرفضت، وخطبها عمر فأبت، ثم خطبها النبي فقالت: مرحبًا برسول الله. وكانت من أجمل النساء، وكان زواج النبي بها في ليالٍ بقين من شوال من السنة الرابعة للهجرة.
السيدة زينب بنت جحش بن رباب
وأمها السيدة أُميمة بنت عبد المطلب بن هاشم عمة رسول الله ﷺ، زوَّجها النبي أول الأمر من غلامه زيد بن حارثة الذي تبنَّاه، ثم طلَّقها فتزوَّجها الرسول، وفيها نزلت الآية: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا … ولما تزوَّج بها النبي في السنة الخامسة تكلَّم المنافقون في ذلك، وقالوا: حرَّم محمد نساء الولد وتزوَّج امرأة ولده. فأنزل الله الآية: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ، ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ، فدُعي يومئذٍ «زيد بن حارثة»، وكان يُدعى «زيد بن محمد». وبسبب زينب نزلت آية الحجاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ. وكان النبي ﷺ يُحب زينب حبًّا كثيرًا، وكانت تُسامي السيدة عائشة عند رسول الله، وكانت عائشة تغار منها، ولكنها تصفها بالدين والتقوى وصدق الحديث، والصدقة، والزهد.
السيدة جويرية بنت الحارث بن ضرار الخزاعية المصطلقية
كانت قبل زواجها بالنبي تحت مسافع بن صفوان المصطلقي، ولما غزا النبي ﷺ بني المصطلق وسباهم وقعت في سهم ثابت بن قيس الأنصاري في سنة خمس للهجرة، فكاتبته على نفسها، ثم جاءت إلى رسول الله فقالت: أنا جويرية بنت الحارث، وقد كاتبت نفسي فجئت أسألك. فقال رسول الله: «فهل لكِ إلى ما هو خير؟» قالت: ما هو؟ قال: «أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك.» فقبلت، وأصدقها النبي أربعمائة درهم.
السيدة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان القرشية
وأمها صفية بنت أبي العاص القرشي، تزوَّجها قبل النبي ﷺ عبيد الله بن جحش وأسلم ثم هاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية، ولما أقام في الحبشة اعتنق النصرانية ومات عليها هناك، وبقيت هي على الإسلام، فكتب الرسول إلى النجاشي أن يزوِّجه إياها ويبعث بها إليه، فأخبرها النجاشي بذلك فقبلت، وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار، ثم بعث بها إلى النبي مع شرحبيل بن حسنة، وكان ذلك في السنة السابعة للهجرة.
السيدة ميمونة بنت خزيمة بن الحارث الهلالية
وأمها السيدة هنيدة بنت عوف بن زهير بن الحارث، وهي أخت السيدة زينب بنت خزيمة.
السيدة صفية بنت حيي بن أخطب اليهودية
كانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، الشاعر الوجيه اليهودي الذي قُتل يوم خيبر، تزوَّجها الرسول بعد مقتل زوجها في سنة سبع للهجرة، وكان بينها وبين السيدة حفصة كلام وعتاب، وكان النبي يلاطفها ويجاملها. ويُروى أن عمر بعث إليها أنه بلغه من جارية لها أنها تحب السبت، وأنها تصل اليهود، فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أن بنى بي رسول الله يوم الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحمًا فأنا أصلها. ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعتِ؟ قالت: الشيطان. فقالت صفية: اذهبي فأنتِ حرة. وكانت صفية حليمة عاقلة فاضلة.
هؤلاء هن زوجاته ﷺ، ولم يتزوَّج بهن إلا بعد وفاة السيدة خديجة، ولم يتزوَّج بواحدة منهن إلا لسبب من مصلحة عامة أو غيرة أو غير ذلك من الأساليب التي كان هو ﷺ أدرى بها، لا لأسباب جنسية بحتة كما يزعم ذلك بعض الضالين من الزنادقة أو المغرضين من المستشرقين. فأول امرأة تزوَّج بها بعد وفاة خديجة كانت سودة، وإنما تزوج بها لتقوم بأمور بيته، ثم تزوَّج بالسيدة عائشة، وما كان تزوُّجه بها إلا لأنه كان يحب أن يرتبط بأبي بكر ارتباطًا تقويه وشائج الدم مع وشائج الأخوة والإسلام، وكذلك كان أمر زواجه بحفصة بنت عمر. وأما زينب بنت خزيمة فقد كانت سيدة نبيلة أصيبت بزوجها واشتد ولهها عليه، فلم يجد النبي بدًّا من التزوج بها، ولم تلبث عنده إلا شهرين حتى لحقت بزوجها، وقد ظل النبي الكريم وفيًّا لها ولأسرتها فتزوَّج بأختها ميمونة. وأما أم سلمة فقد كانت امرأة كهلة، ولما مات زوجها يوم بدر اشتد حنينها إليه فواساها النبي قائلًا: «سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك، وأن يخلفك خيرًا.» فقالت: ومن يكون خيرًا من أبي سلمة! فأدرك النبي ﷺ أنها تريده بعد أن رفضت الزواج بأبي بكر وعمر وتزوَّجها. وأما زينب فإنما تزوَّجها ليزيل ما علق بأذهان الناس يومئذٍ من أن مطلَّقات المتبنين حرام على المتبنِّي، كما بينَّا ذلك وكما أشارت إليه الآية الكريمة. وأما زواجه برملة بنت أبي سفيان فقد كان شاهدًا على النجدة والمروءة والشرف؛ لأنه رآها بعد مخالفتها لأبيها وهجرتها مع زوجها إلى الحبشة فرارًا بدينها، وفجيعتها بزوجها، أهلًا لأن تصان ويكون لها عضد يحميها، فكان هو ذلك العضد. وأما جويرية فقد كانت بنت سيد قومها، فلما وقعت سَبيَّة واستعطفته، عطف عليها ورحمها وتزوَّجها، وكان زواجه بها سببًا في عتق أسرى قومها. وأما صفية فكان أمرها كأمر جويرية.
هذا هو السر في تعدد أزواج النبي ﷺ لا ما يزعمه المغرضون والضالون.
وهناك أيضًا عدد من السراري المملوكات تزوَّج بهن رسول الله؛ وهن أربعة: «مارية القبطية»، وهي التي أهداها إليه المقوقس صاحب مصر والإسكندرية في سنة سبع، وكان معها أختها سيرين وهدايا أخرى، وكان النبي معجَبًا بها. وقد ولدت له ابنه إبراهيم في ذي الحجة من السنة الثامنة، وماتت في خلافة عمر سنة ست عشرة للهجرة، فصلى عليها عمر ودفنها بالبقيع. و«ريحانة ابنة شمعون» القرظية، وقيل: النضرية، ملكها النبي بعد غزو قومها بني قريظة أو بني النضير، فلم تزل عنده حتى ماتت بعد رجوعه من حجة الوداع ودفنها بالبقيع. وكانت له ﷺ سريتان أخريان: إحداهما أهدتها إليه زوجته السيدة زينب بنت جحش، والثانية أَمَة يهودية من بني قريظة اسمها زليخة.
(٢) أولاده ﷺ
وقد وُلدوا كلهم قبل الإسلام من السيدة خديجة، إلا إبراهيم فإنه وُلد بعد الإسلام من السيدة مارية. ومات البنون منهم قبل الإسلام أيضًا وهم يرتضعون، وكان القاسم هو أول وَلد وُلد له قبل النبوة، وبه كني، وعاش حتى مشى ثم مات.
وأما ابنته السيدة فاطمة، فقد وُلدت سنة إحدى وأربعين من مولده، وزوَّجها النبي من ابن عمه علي بن أبي طالب في السنة الثامنة، وقد ظلت معه طوال عمره وبقيت بعد قتله بستة أشهر، وهي أم ريحانتَي رسول الله الحسن والحسين رضوان الله عليهما.
(٣) أمواله وتركته وميراثه ﷺ
المتواتر عن النبي ﷺ أنه كان زاهدًا في الدنيا وأموالها ومتعها، وأنه إنما كان ينال منها ما يسدُّ به أوده، ويكفي به عياله من خبز الشعير ومتواضع الإدام، وخشن الثياب، وهذا جعل بعض أهل بيته يضجُّون من كثرة التضييق عليهم؛ فقد ذكر المؤرخون أن نساء النبي ضقن ذرعًا بحياة الخشونة، فأجمعن على أن يسألنه ما يترفهن به، فغضب لذلك أشد الغضب، ورأى أن يطلقهن كلهن، وفي ذلك نزلت الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا. وقد روى جابر بن عبد الله أن أبا بكر الصديق جاء يومًا إلى رسول الله يستأذن عليه والناس ببابه جلوس، والنبي جالس، فلم يؤذن له، ثم جاء عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لهما ودخلا عليه وهو جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمن رسول الله لعله يضحك. فقال: يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد — امرأة عمر — سألتني النفقة آنفًا فوجأت عنقها. فضحك النبي حتى بدت نواجذه، وقال: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة.» فقام أبو بكر إلى عائشة يضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان رسول الله ما ليس عنده! فنهاهما رسول الله، فقالت نساؤه: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده. وأنزل الله آية التخيير: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ، فبدأ رسول الله بعائشة فقال لها: «إني ذاكر لك أمرًا ما أحبُّ أن تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك.» فقالت: ما هو؟ فتلا عليها الآية، فقالت: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله ورسوله. ثم طاف رسول الله بحجر زوجاته فكلهن قلن مثل قولها …
إن هذه القصة تدلنا على أن الرسول الكريم كان شديد الزهد في مفاتن الدنيا ومباهجها ومتعها وملاذها، وأنه كان يريد أن يجعل أهل بيته كنفسه، ويظهر أنهن لمَّا اشتدت عليهن قسوة تلك الحياة الخشنة لجأن إلى الإلحاف، فلجأ هو ﷺ إلى فكرة الطلاق، ثم كان ما كان مما رأيت. وهكذا قضى رسول الله عمره كله حتى بعد أن فتح الله عليه الفتوح، وتواردت إليه المغانم، ولكنه ﷺ آثر ما عند الله على ما في الدنيا.