شروعٌ في قتل أحمد!
في غرفة المعلومات بالمقر الفرعي، جلس الشياطين خلف أجهزة الكمبيوتر يبحثون عن معلومات عن جماعات الجريمة المنظمة فلم يصلوا إلى جماعة «القط الأسود» وبالتالي … فإن ملف العملية ينقصه الكثير من المعلومات … فهل سيجلسون في المقرِّ انتظارًا لوقوع ذلك القط الذي طارد «أحمد»؟ أم يجوبون الأماكن العامة بحثًا عنه؟ وهل لا يزال هذا الرجل في مصر … أم سافر خارجها؟
ورأى «أحمد» أنه لن يسافر دون إتمام مهمته … والتي لم تَعُد التخلص منه فقط … بل الحصول على الديسك قبل كشف ما به، وإن اضطروا إلى التخلص من جماعة الشياطين كلهم. هذا إذا كان يعرفهم. ولكن ما الخطورة في تواجد هذا الرجل وحده أو ضمن مجموعة، أتَت لنفس الغرض؟
وكانت إجابة «إلهام»: إن خطورة تواجده تكمن في أنهم معرَّضون للقتل على يده … وهذا يكفي. إلا أن هناك الكثير غير ذلك، وهو إمكانية بقاء هذه المجموعة لمساعدة مجموعات أخرى مشبوهة في «القاهرة»، أو في العاصمة الثانية «الإسكندرية» في المهام التي ذكرها «صفر» بالذات.
وهنا استطاع «أحمد» تحديدَ المهمة الأولى، ألا وهي … إعداد ملف العملية. ولكن السؤال الذي طرح نفسه هنا هو … كيف يتم ذلك؟ فأغلق جهاز الكمبيوتر، والتفتَ إلى الشياطين الذين فعلوا نفس الشيء. فنظر إليهم مليًّا ثم قال: إن إعداد ملف للعملية يتطلب أن يكون لدينا معلومات عن هذه القطط، ولكن للأسف هذا غير متوفر؛ فنحن لا نعرف غير هذا القط الذي طاردني؛ لذلك … فهو الورقة الوحيدة التي نستطيع قراءتها في ملف هذه العملية … هذا إذا استطعنا الحصول عليه … وذلك يحتاج إلى بحثٍ مُضنٍ في «القاهرة»، وبالطرق الاعتيادية أولًا؛ كحصر أعداد السيارات المرسيدس السوداء من هذا الموديل. ومن ثَم معرفة أصحابها. وإن كانت بعض مكاتب تأجير السيارات، تؤجر مثل هذا الموديل. وأيضًا سيارات الإفراج المؤقت «التربتيك» وهي التي يحضر بها صاحبها من الخارج فترة إقامته في «مصر» فقط، ثم يعود بها إلى بلده مرة أخرى في نهاية إجازته … ويدفع عنها ضرائبَ ورسومًا معينة.
فهد: إنها مهمة يسيرة، تقوم بها إدارة المنظمة.
أحمد: الخط الثاني … هو محاولة اصطياد هذا القط.
عثمان: اصطياده … كيف؟
أحمد: إذا أردت أن تُخرج فأرًا من مكمنه فماذا ستفعل؟
عثمان: أضع له قطعة جبن.
أحمد: وإن كان قطًّا؟
إلهام: نلوح له بفأر.
أحمد: هذه هي الخطة؟
ريما: تقصد أن نوقع بالقط الذي يطاردك بفأر؟
أحمد: أقصد بالفأر … الصيد الذي يريده هذا الرجل.
ريما: نعم … أعرف. تقصد الديسك.
أحمد: وأنا!
وفي نفس الميعاد، وفي نفس المطعم، جلس «أحمد» يتناول غداءَه، ولكن دون حقيبة؛ فقد تُلفِت هذه الحقيبة، نظر مطارده إلى أنه ينوي شيئًا بعد ما حدث.
حضر الجرسون إلى «أحمد» مرتديًا نظارةً شمسية، وثوبًا أنيقًا نظيفًا، وانحنى قليلًا يُحيِّيه في ليونة ورشاقة، ثم قدَّم له قائمة الوجبات، فنظر إليها بعين، والأخرى تحدق به دون أن يلاحظ … فلفت نظرَه أنه هو الآخر يحدِّق فيه. فأسرع في طلب ما يشتهي، ثم نهض ليقف بجوار العامل الذي يقوم بشيِّ الشاورمة، حتى أنهى تجهيز الساندويتشات، ثم تابع الآخرين وهم يُعدون له السلطات وغيره. ثم جلس ونفسه تُحدِّثه بأن هذا الشاب ربما يكون هو القط البري. وقد يضع له مخدرًا في الطعام، إن لم يكن سمًّا. ولم يرفع عينَه عن صينية الغداء، حتى وضع أمامه محتواها. فانهمك في تناول طعامه وعيناه يقظتان لحركةِ ذي النظارة السوداء … وبداخله هاجسٌ يقول: إن وراء زجاج هذه النظارة … عينَي قط … فملامحُ وجهِه ملامحُ قطٍّ ينقصه الشعر، فقرَّر أن يأتيَ بحركة ما، تؤدي إلى سقوط النظارة عن عينَيه، إلا أنه عاد وعدَل عن هذه الفكرة؛ فقد تُثيره … إن كان هو حقًّا … فيفرُّ … ولا يستطيع الحصول عليه مرة أخرى. فأنهى طعامَه مُسرعًا … وخرج من المطعم قاصدًا سيارتَه. فوجد قسيمةً مخالفة ملتصقة بالزجاج، فتعجَّب؛ فالسيارة ليست واقفةً في الممنوع، إلا أن شكل القسيمة لفت نظرَه إلى أنها قد تكون رسالة. فنزعها وقلَّبَها، فقرأ على ظهرها تحذيرًا يقول: «لا تركب السيارة إلا بعد فحصها.» إمضاء «عثمان».
في هذه اللحظة لفت نظرَه أن الجرسون ذا النظارة السوداء، يراقبه من خلف حوائط المطعم الزجاجية … ففتح السيارة، واستقرَّ خلف عجلة القيادة، وفي رأسه تدور ألفُ فكرة، تصطدم بألف سؤال.
فتفحص السيارة بعناية، فلم يستدلَّ على أيِّ شيء يشير إلى أن أحدًا قد عبث بها … ولكن هذه الرسالة … ألم تكن من «عثمان». وهو يعرف خطَّه وأسلوبه جيدًا. ثم الإمضاء الكودي الذي يتفق عليه كلَّ يوم مع كمبيوتر المقر. إذن فالرسالة من «عثمان». ولكن تُرى لماذا يحذره من ركوب السيارة دون فحصها؟ فأدار بصرَه مرة أخرى داخل السيارة … فأدار مفتاح التشغيل ببطء، منتظرًا سماعَ صوتِ انفجار يدمر السيارة وهو بداخلها، إلا أنها دارَت بلا مشاكل، وغادر مكان الانتظار، وها هو في شارع «جامعة الدول العربية» يسير وعيناه على المِرآة ينتظر ظهور «القط الأسود»، ومرَّت الدقائق بطيئةً، وعند سور نادي الزمالك انحرف إلى شارع جانبي، ثم دار دورةً كاملة عائدًا إلى الطريق مرة أخرى، ولكن في الاتجاه العكسي، فلم يظهر القط الأسود أيضًا.
ولكن رأى في المرآة مَن يشير له من الخلف، فأوسع له الطريق حتى مرَّ بجواره، فقال له: إن زيت الفرامل قد تسرَّب كلُّه تقريبًا إلى الشارع.
انزعج «أحمد»؛ فقد كان يسير بسرعة كبيرة … وعن بُعد رأى إشارةً تزدحم بالسيارات وقفوا في صفوف متراصة، وشعر أن كارثة ستقع، إن ظل على هذه السرعة وظلت الإشارة مقفولة.
أخذَته المفاجأة … فلم يلاحظ «القط البري» إلا عندما لمح في السيارة التي تمرُّ بجانبه، مَن يبتسم له من خلف النظارة السوداء ابتسامةَ زهوٍ وتعالٍ.
وتمنَّى في هذه اللحظة رؤيةَ عينَي هذا الشاب الذي تخلف بالسيارة إلى الوراء وتركه يلاقي مصيره ولم يستطع إيقاف السيارة، أو تقليل سرعتها.
اقتربَت السيارة من الإشارة المكدسة بالسيارات، وليس من حلٍّ؛ فقد اكتشف أن عطلًا أصاب فرامل اليد، وعرف لماذا حذره «عثمان»، وشعر أنه بمكانٍ قريبٍ منه، ويرى ما يحدث، فهل سيتدخل؟ وكيف … وماذا سيفعل؟
على الأقل سيساعد في فتح الإشارة التي اقترب منها جدًّا … لمنع مأساة مروعة، إن وقعت … لن يكون هو وحده ضحيتها … بل الكثير من السيارات … وقد تؤدي شدةُ الاصطدام لاشتعال النيران … فتنفجر كلُّ هذه السيارات، وعلى غير انتظار … سمع سارينة سيارة شرطة من خلفه، فأفسح لها الطريق، وعند مرورها بجواره، رأى فتًى أسمرَ مليحَ الوجه، يحبه كثيرًا … إنه «عثمان» يبتسم في ثقة … وقبل أن يبلغ الإشارة كانت كل السيارات قد انصرفَت … وأصبحَت المشكلة هي … كيفية إيقاف السيارة … وهي بهذه السرعة … إلا أن عناية الله قد ألهمَته بفكرة جيدة، وهي أن صعوده لذلك المطلع سوف يمتص قوة اندفاعها … لحظتَها فقط عرَف لماذا سبقَته سيارة الشرطة … وبها «عثمان» إلى مطلع الكوبري.
وعند نهاية المطلع … توقَّفت السيارة تمامًا … وكان «أحمد» قد أوقف موتورها. إلا أنها بدأت في التحرك للخلف، منحدرةً على مطلع الكوبري، الذي تحوَّل إلى منزل لها. فنزل مسرعًا ولحق به «عثمان» … فأوقفها، وهما يتضاحكان على هذا الموقف، وعلى هذا القط الذي يُجيد فنَّ نَصْب الشباك.
وأول ما قاله «عثمان» هو: وماذا بعد يا «أحمد»؟
أحمد: حتى الآن لم يحدث شيءٌ خطيرٌ، وما فعله هذا القط من باب الأساليب القديمة.
عثمان: أساليب قديمة … وكادت تؤدي إلى كارثة … فما بالك إذا ما استخدم الأساليب الحديثة!
أحمد: ألم تسأل نفسك … لماذا لم يستخدمها حتى الآن؟
عثمان: ليس بالطبع؛ لأنه لا يعرفها.
أحمد: لا … ولكن لأنه لا يعرف شيئًا عنَّا … ولا يعرف غيري أنا و«إلهام» … وهو في حاجة إلى الديسك.
عثمان: ولكن كيف سيصل إلى الديسك، بقتلك؟
أحمد: نحتاج مناقشة هذا الأمر بهدوء شديد، وموقف غير الذي نحن فيه الآن.
عثمان: على فكرة … لم تَعُد وحدك المطارَد …
أحمد: هل طاردوك؟
عثمان: لا … ولكن بالتأكيد قد رأوني معك …
أحمد: لا أظن … فقط أنت أحد المصريين المشهورين بالشهامة، تساعدني.
عثمان: أتظن ذلك؟
اقتربَت عربةُ الشرطة، وحملَتهما إلى أول شارع «جامعة الدول العربية»؛ حيث كانت تقف سيارة «عثمان» … فتوجهوا بها إلى المطعم ليستفسروا عن ذلك القطِّ البري. وكيف التحق بالعمل كجرسون، وفي هذا اليوم بالذات … فعرف عنه أنه يعرف أكثر من لغة. وأن لكنتَه غيرُ عربية، مما يدل على أن اللغة العربية ليست لغتَه الأساسية، وعرف أيضًا أن مهارته في العلاقات العامة ممتازة … وهذا ما أهَّله بالقبول كموظف في المطعم … وقد كان يرتب له صاحب المطعم في داخله أمورًا كثيرة، للاستفادة من هذه المهارات … لولا اختفاؤه المفاجئ غير معروف الأسباب.
فسأل صاحب المطعم: ألم ترَ أوراقه الشخصية … بطاقة … جواز سفر … أي شيء يدل على شخصيته … جنسيته؟
صاحب المطعم: للأسف لم يحدث ذلك، ولذلك أسباب سأحكيها لك.
لقد حضر هذا الرجل منذ أيام كزبونٍ … وتناول الطعام أكثر من مرة، وكان يدفع بقشيشًا سخيًّا للعاملين … وقد احتكَّ بي بلباقة، وفتح معي مجالًا للحديث. وتطرَّقنا إلى أمور كثيرة، وبدَا لي أنه مثقفٌ جدًّا، ويستخدم مصطلحات إنجليزية، وفرنسية، ومن لغات أخرى في ثنايا حديثه … وقد أقنعني أنه دارسٌ للعلوم الاجتماعية … ويهمُّه الاحتكاك المباشر مع مواطني الدولة التي يزورها، ليقف بشكل واقعي على عاداتهم وتقاليدهم وطباعهم وغيره … ولذلك عندما طلب مني العمل في المطعم، كانت لديه عندي أسبابه المقنعة. ولم أطلب منه أوراقًا، وكنت أتمنَّى أن أحثَّه على البقاء في مصر.
أحمد: ألم تلاحظ عليه صفات معينة يتميز بها؟
مدير المطعم: نعم، مرونة حركته غير العادية … نشاطه الزائد … سخونة انفعالاته. وإذا نظرتَ إلى عينَيه وهو منفعل، تشعر أنك ترى «فهدًا».
أحمد: أو قطًّا بريًّا؟
مدير المطعم في انفعال واضح: نعم … نعم … «قطًّا بريًّا». فقد كانت معظمُ وجباته من الصيد الصغير؛ كالأرانب، وطيور السمان. وكنت أُحضرها له خصيصًا … حيث إننا مطعم وجبات سريعة، ثم توقَّف عن الكلام شاخصًا ببصره في «أحمد» و«عثمان»، وملْءُ عينَيه الدهشة والتساؤل، فنهض الشيطانان ليُغادرَا المطعم … إلا أن الرجل استوقفهما وهو يقول: آسف … ما معنى ما قلتاه؟ هل هذا الرجل بشرٌ مثلنا … أم؟
أحمد: أم ماذا؟
عثمان: موجهًا الكلام ﻟ «أحمد»: أم من الجان مثلًا؟
أحمد: لا … ولكنها حكايةٌ طويلة، لم تكتمل فصولُها بعد. وأَعِدُك أن أخبرَك بها.
غادر الشيطانان المطعم … وبداخلهما علاماتُ استفهامٍ كثيرة. فمَن يكون ذلك الرجل؟ وهل هو بشرٌ عاديٌّ؟ أم نتاج الهندسة الوراثية؟ أم هي فصيلةٌ بشرية عاشَت وسطَ الأدغال بين فصائل القطط البرية فماثلَتها في كل شيء؟
على العموم … لقد حصلوا على ما يمكن إضافته لملف ذلك القط …
ومن وسط شرودهما، أخرجهما صوتُ آلة تنبيه تُشبه إلى حدٍّ بعيدٍ بل هي … صرخةُ قطٍّ بريٍّ. وهنا صاح «عثمان»: «أحمد» … «القط البري».
أحمد: ولكن أين؟ نحن نسمع صوتًا فقط … ولا نعرف مصدره.
ومدَّ يده فأغلق جهاز الكاسيت … وأصاخ السمع … مترقبًا سماعَ هذا الصوت مرة أخرى لتحديد مصدره. ومرَّت الدقائق ثقيلة، ولم يتكرَّر فأطلق العنان للسيارة. وقد كان المرور بشارع الهرم ميسورًا وعند فندق «ميناهاوس» انحرفت السيارة في اتجاه ميدان الرماية، ثم انحرفَت يمينًا في اتجاه ترعة المنصورية. وقبل أن تبلغها، انحرفَت يسارًا … لتعبرَ الطريق إلى المقرِّ. وقبل أن يصلَا … فتحَت البوابة أتوماتيكيًّا، فمرقَت منها السيارة … وقبل أن تُغلق خلفهما … سمعَا صوت القط البري عاليًا. فأضاء كشافات السيارة الأمامية … وانطلق مسرعًا يخرج من الباب الخلفي في اتجاه طريق الإسكندرية الصحراوي؛ فقد سمع صوت اندفاع السيارة إلى هذا الاتجاه، عقب سماعه صوت آلة التنبيه مباشرة، وعندما وصل إلى أول الطريق الصحراوي رأى عن بُعد سيارةً سوداء متجهة إلى الإسكندرية. ولكن لم يستطع تحديد نوعها. وعلى عجل ربط حزام الأمان … ومثله فعل «عثمان» ثم اعتدل في جلسته متحفِّزًا … وترك العنان لقدمه، لتضغط على بدال السرعة … ويقفز مؤشر السرعة إلى مائة وسبعين كيلومترًا وتطير السيارة لتلحق بالقطِّ البريِّ، الذي لم يَعُد له أثر. وتظهر في هذه اللحظة وفي الاتجاه المضاد سيارة مرسيدس سوداء … لها فوانيس تُشبه عيون القط البري … وتُطلق آلة تنبيه تُشبه إلى حدٍّ بعيد صوتَ القطِّ البريِّ.