من الجاهلية إلى ختم الولاية
من هو «ابن عربي»؟ سنسعى لأن نقدم الصورة التي رسمها الشيخ بنفسه لنفسه. والسؤال الذي يشغلنا هنا، كما شغل باحثين كثيرين من قبل، هو: لماذا اتخذت حياة «ابن عربي» هذا المسار الخاص رغم أنه ينتمي لأسرة كانت كل ظروفها ترشحه للعمل في الديوان أو للانخراط في سلك الحياة العسكرية؟ ولكنْ ثمة سؤالٌ ثانٍ يعنينا هنا بصفة خاصة، وهو: إلى أي حد يُعتبر هذا «التحول» انقلابًا؟ هل كان «انقلابًا» بالفعل أم كان تطورًا طبيعيًّا في بناء الشخصية؟ ثم علينا أن نحاول أن نرصد خطوات ذلك «التحول» والانتقال مما يسميه الشيخ «جاهليته» إلى أن وصل ما وصل إليه من «ولاية».
(١) من هو الشيخ محيي الدين؟
هو «أبو عبد الله محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن العربي الحاتمي» وُلِد في ١٧ أو ٢٧ رمضان سنة ٥٦٠ﻫ/٢٧ يوليو ١١٦٥م، في مدينة «مُرْسِيَة» بالأندلس (إسبانيا). تنتمي أسرة ابن عربي إلى واحدة من أقدم القبائل العربية التي وفدت إلى إسبانيا، هي قبيلة «طيء» التي منها «حاتم الطائي» أشهر كرماء العرب. وكان أسلافه ضمن من وفدوا من عرب «اليمن» إلى إسبانيا في تاريخ مبكر، ربما خلال موجة «الفتح» الثانية في سنة ٩٣ﻫ/٧١٢م. وقد احتلت الأسرة دائمًا مكانة متميزة سواء في «الجيش» أو في «الإدارة». كان والد «محمد» يحتل مركزًا متميزًا في خدمة «محمد بن سعيد بن مَرْدَنيش» حاكم مُرْسِيَة. وبعد سقوط «مُرْسِيَة» في يد الموحدين رحلت الأسرة إلى «إشْبِيلِيَة» سنة ٥٦٨ﻫ/١١٧٢م، وقد بلغ «محمد» سن الثامنة تقريبًا. ولكن الأب استطاع الالتحاق بخدمة «الموحدين»؛ وبذلك احتفظ للأسرة بمكانتها المتميزة.
ليس الأمر سهلًا أو بسيطًا لتحديد سبب بعينه، وعلينا أن نضع في اعتبارنا ما يحكيه الشيخ نفسه أكثر من اعتمادنا على الروايات التي تُحكى عنه. من هنا سنحاول تتبع سيرة حياة ابن عربي من خلال اختيار بعض النصوص التي تتضمن بعض الوقائع التي يحكيها هو عن حياته، وترتيبها ترتيبًا زمنيًّا وتحليل محتواها. إنه ابن عربي نفسه يحكي لنا قصة حياته. لا نحتاج إلى تأكيد أن النصوص التي نختارها للتحليل هي اختيارنا، وأن الدلالات والمعاني التي نستخرجها من هذه النصوص تعتمد بالطبع على مقدار معرفتنا بمجمل تراث الشيخ، ليس فقط من خلال دراستنا لهذا التراث منذ عشرين عامًا، بل أيضًا من خلال تعرفنا مجدَّدًا على هذا التراث وتتبع ما نُشر عنه خلال تلك الفترة.
(٢) من الجاهلية إلى أول طريق العرفان
حين يتحدث الشيخ عن حياته قبل أن يدخل الطريق — طريق الكشف والفيض والإلهام — ويسلك مسلك الصوفية، يسمي هذه الفترة من حياته باسم «الجاهلية»، وهو المصطلح الذي يُستخدم لوصف حال عرب الجزيرة العربية قبل الإسلام. وإلى جانب دلالته التاريخية فالمصطلح يشير بدلالة التضاد إلى «الإسلام» كنظام للحياة مناقض للنظام السابق عليه. كأن ابن عربي يريد أن يقول لنا إن حياته تنقسم إلى قسمين: ما قبل دخوله في الطريق، وهي حالة «الجهل». وما بعد دخوله في الطريق واكتسابه المعرفة والعلم بطريق الفيض المباشر من الله لا عن طريق التعلم وقراءة الكتب.
إن ابن عربي يريد من قص إحدى تجارِبه في جاهليته أن يرسل لنا رسالتين: تتمثل الرسالة الأولى في شرحه لمعنى ما حدث: لماذا أنست إليه الحمر الوحشية، وهو يمر من بينها بحصانه ورمحه يكاد يلامس ظهورها، في حين أنها — الحمر الوحشية — جفَلَت حين مر بها الغلمان؟ التفسير الذي لم يصل إليه الشيخ لهذا الحدث غير العادي إلا بعد أن سلك الطريق، هو الذي يسميه «سر المعاملة». تلك هي الرسالة الواضحة في السرد، لكن ثمة رسالة مضمرة يهمنا هنا إبرازها، فحواها أن «جاهلية» الشيخ كانت محملة ببذور المستقبل. إن حديث النفس الذي دار في نفس الفتى، أو بالأحرى الحديث الذي أداره الفتى في نفسه باستبعاد أي نية في إيذاء الحيوانات أو في مجرد إزعاجها وجد استجابة في نفس الحيوان، فسرى الأمان من قلب الإنسان إلى قلب الحيوان في عملية تواصل غير عادية. الشيخ إذن يقول في رسالته المضمرة إنه لم يكن في أمر جاهليته خالي الوفاض من بذور «الخير» التي ستنبت وتثمر من بعد.
كان ثمة إرهاصات وعلامات تنبئ بأمر التحول الآتي، لأن بذور «الولاية» لا تنبت من فراغ. لا شيء في فلسفة الشيخ يتولد من لا شيء، كما سنرى. والإنسان في جاهليته هو الإنسان في إسلامه، كما رُوي عن النبي «محمد» أنه قال: «خيركم في الجاهلية خيركم في الإسلام»، وهو قول يردده ابن عربي كثيرًا مستشهدًا به لبيان أن «الخير» في نفس البشر لا يتعلق تعلقًا ضروريًّا بالإيمان.
يستطيع الشيخ أن يشرح السبب في سريان الأمان من نفس الإنسان إلى نفس الحيوان بطرق شتى، ولكن بعد أن كان قد اجتاز بالفعل الخطوات الأولى في طريق العرفان. أي بعد أن انتقل من مرحلة «الخير» بلا علم، إلى مرحلة «الخير» المؤسس على المعرفة. ليست المسألة مجرد تواصل بين الإنسان والحيوان مشروطٍ بصفاء قلب الإنسان وقدرته على رؤية الحقيقة السارية في كل المخلوقات، إنسانيةً وحيوانيةً وجمادًا ونباتًا، بل هي فوق ذلك كله تتضمن سرًّا إلهيًّا من حضرة «البسط» و«الرحمة». لقد كانت بداية انبثاق الوجود الظاهر بتجلي صفة الرحمة الإلهية: الرحمة بالموجودات أولًا بنقلها من العدم الذاتي إلى حالة الوجود الظاهر، والرحمة بالأسماء الإلهية — ثانيًا — والتي كانت تعاني «انقباض» سلطانها فأوجد لها أعيان الموجودات لتبسط عليها سلطانها فتتخلص من حالة «القبض». هذا معناه أن مبدأ «الرحمة» وما يتعلق به من «بسط» هو المبدأ الساري في الوجود كله.
واحدٌ من هذه الأسباب حِرصُ ابن عربي على ذكر أنه لم يكن قد عرَف بعدُ حديث النبي عن سورة «يس»، وهذا سبب كافٍ يرشح وقت الطفولة ليكون زمن سرد هذه الواقعة. سبب آخر هو كثرة تَكرار الشيخ لحقيقة أنه دخل خَلوته دون توجيه شيخ أو تعليم أستاذ، فخرج منها بعلوم وَهْبية لا يتأتى الحصول عليها بقراءة الكتب. هذا بالإضافة إلى أن «تلاوة القرآن» في الأماكن الخالية — المقابر بصفة خاصة — كان يمثل — فيما يبدو — أهم الأذكار في خَلوة الشيخ أو خَلَواته المبكرة.
(٣) الخَلوة والأذكار القرآنية، من الإيمان إلى العرفان
من الصعب على الباحث أن يحدد على سبيل اليقين ما إذا كانت هذه «الأذكار» القرآنية ثمرةَ اجتهاد شخصي، أم نتيجة توجيهٍ من شيخ. ونحن نعرف أن الشيخ ظل حتى سنة ٥٨٦ﻫ/١١٩٢م في إشْبِيلِيَة لم يغادرها إلا سنة ٥٨٧ﻫ/١١٩٣م في أول زيارة لتونِس، وأنه في إشْبِيلِيَة وقعت له الرؤيا التي غيرت مسار حياته، فدخل خَلوته التي خرج منها مزوَّدًا بعلمٍ لفَت إليه الأنظار في سن مبكرة. وفي إشْبِيلِيَة أيضًا بدأت تدريبات الشيخ الروحية بقراءة القرآن في المقابر، وحده أحيانًا ومع آخرين أحيانًا أخرى، وعندما بدأ الاتصال بالمشايخ تأثر بهم كما أثر فيهم.
يقول الشيخ في سياق الحديث عن المنزلة التي يمكن استنباطها بطريق الكشف والإلهام من «الذكر» المتضمَّن في الآية القرآنية: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (الأنعام ٦: ٣٦): «اعلم — أيدنا الله وإياك بروح منه — أن هذا الذكر لما وفقنا الله تعالى لاستعماله بإشْبِيلِيَة من بلاد الأندلس سنة ٥٨٦ﻫ بقينا فيه ثلاثة أيام فرأينا بركة في تلك الأيام. وكنا به ثلاثة: أنا وعبد الله النزهوني قاضي شرف، وكان عبدًا صالحًا ضابطًا فقيهًا، وشخصًا ثالثًا من أهل البلد» (الفتوحات ٤: ١٧٨). لكنه في أحيان أخرى يبدو متوحدًا في خَلوته في المقابر لقراءة القرآن. في «إشْبِيلِيَة» أيضًا، وفي سنة ٥٨٦ﻫ كذلك، يذكر الشيخ أنه قرأ الآية القرآنية: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (سورة التوبة ٩: ٢٤) «يوم جمعة بعد الصلاة في المقابر بإشْبِيلِيَة سنة ٥٨٦ﻫ فبقيت فيها سَكرانَ ما لي تلاوة في صلاة ولا يقظة ولا نوم إلا بها ثلاث سنين متوالية، أجد لها حلاوة ولذة لا يُقدَّر قدرها» (الفتوحات ٤: ١٧١).
بدأ الطريق بالخَلوة، دون شيخ أو قراءة أو أي معرفة سابقة. هذا على الأقل ما يردده الشيخ دائمًا، خاصة عند لقائه بابن رشد. لكنه أيضًا حريص في الوقت نفسه على أن يذكر اتصاله بمشايخ التصوف في الأندلس قبل رحيله إلى المشرق. في هذا السياق يذكر أن من أوائل الشيوخ الذين اتصل بهم وتعلم منهم «أبو العباس العُرَيني». ويهمنا هنا قصة محددة كاشفة عن علاقته بشيخه من جهة، وكاشفة عن مستوى «كشفه» من جهة أخرى، رغم أنه كان ما يزال في أول الطريق.
اختلف الشيخ مع أستاذه «أبي العباس العريني» في مسألةٍ ما، وفي الطريق عائدًا إلى بيته التقى به شخص غريب لا يعرفه ونصحه ألا يخالف شيخه، فعاد ابن عربي لبيت شيخه ليعتذر له، وكانت المفاجأة أن الشخص الذي قابله ونصحه كان «الخضر». وسنعود للقصة بتحليل أكثر تفصيلًا في فقرة تالية، لكن ما يهمنا هنا هو محاولة استجلاء متى بدأت صلة الشيخ بشيوخ الأندلس. ومن المحتمل أن يكون لقاء ابن عربي بشيخه الأول هذا — أبو العباس — قد حصل في إشْبِيلِيَة، حين زارها العُرَيني سنة ٥٨٥ﻫ/١١٩٠م، وهي السنة التي يحكي فيها ابن عربي أنه رأى الأنبياء في رؤيا في «قرطبة».
يحكي الشيخ في سيرته العرفانية أن بدايته في الطريق بدأت من النقطة التي انتهت إليها رحلة شيخه: «كان شيخنا أبو العباس العُرَيني عيسويًّا في نهايته، وهي كانت بدايتنا — أعني نهاية شيخنا في هذا الطريق كانت عيسوية — ثم نُقلنا إلى الفتح الموسوي الشمسي، ثم بعد ذلك نُقلنا إلى هود عليه السلام، ثم بعد ذلك نُقلنا إلى جميع النبيين عليهم السلام، ثم بعد ذلك نُقلنا إلى محمد ﷺ. هكذا كان أمرنا في هذا الطريق» (الفتوحات ١: ٢٠٧-٢٠٨). وهذا معناه أن نقطة البداية كانت متقدمة جدًّا مقارنة بشيخه، الأمر الذي يكشف عن علاقة تكافؤ وندية لا تقلل من تقدير الشيخ لمشايخه أو احترامه لهم.
وكما كانت علاقته بشيخه «العُرَيني» علاقة فيها كثير من ملامح الندية، يؤكد ابن عربي أن علاقته بشيخه «أبي يعقوب يوسف بن يخلف الكومي» — التي بدأت عام ٥٨٦ﻫ — كانت كذلك علاقةَ تفاعلٍ لا مجرد علاقة تقبل سلبي، يقول: «ما راضني أحد من مشايخي سواه، فانتفعت به في الرياضة وانتفع بي في مواجيده، فكان لي تلميذًا وأستاذًا وكنت له مثل ذلك. وكان الناس يتعجبون من ذلك ولا يعرف واحد منهم سبب ذلك، وذلك سنة ستٍّ وثمانين وخمسمائة، فكان قد تقدم فتحي على رياضتي وهو مقام خطر، وأفاء الله عليَّ تحصيل الرياضة على يد هذا الشيخ جزاه الله كل خير» (الفتوحات ١: ٦٤٥).
ولكن قبل أن نمضي في تتبع خطى الشيخ العرفانية يهمنا أن نؤكد إلحاح الشيخ على أن طريقه ليست في حقيقتها سوى اتباع نهج «الإيمان» بلا زيادة ولا نقصان. يقول: «ولقد آمنا بالله وبرسوله وما جاء به كله مجملًا ومفصلًا، مما وصل إلينا من تفصيله ولم يصل إلينا، أو لم يثبت عندنا. فنحن مؤمنون بكل ما جاء به في نفس الأمر. أخذت ذلك عن أبويَّ أخذ تقليد، ولم يخطر لي ما حُكم النظر العقلي فيه من جواز وإحالة ووجوب. فعملت على إيماني بذلك حتى علمت من أين آمنت وبماذا آمنت، وكشف الله بصري وبصيرتي وخيالي، فرأيت بعين البصر ما لا يُبصَر إلا به، ورأيت بعين الخيال ما لا يُدرَك إلا به، ورأيت بعين البصيرة ما لا يُدرَك إلا بها؛ فصار الأمر لي مشهودًا، والحكم المتوهم المتخيل بالتقليد موجودًا. فعلمت قدر من اتبعت، وهو الرسول المبعوث إليَّ محمد ﷺ. وشاهدت جميع الأنبياء كلهم من آدم إلى محمد ﷺ. وأشهدني الله تعالى المؤمنين بهم كلهم حتى ما بقي منهم أحد ممن كان وهو يكون إلى يوم القيامة، خاصهم وعامهم، إلا شهدته. ورأيت مراتب الجماعة كلها فعلمت أقدارهم. واطلعت على جميع ما آمنت به مجملًا مما هو في العالم العلوي. وشهدت ذلك كله فما زحزحني علم ما رأيته وما عاينته عن إيماني؛ فلم أزل أقول وأعمل ما أقوله وأعمله لقول رسول الله النبي ﷺ لا لعلمي ولا لعيني ولا لشهودي؛ فواخيت بين الإيمان والعِيان. وهذا عزيز الوجود في الأتباع؛ فإن مزلة الأقدام للأكابر إنما تكون هنا: إذا وقعت المعاينة لما وقع به الإيمان فتعمل على عين لا على إيمان فلم تجمع بينهما، ففاته من الكمال أن يعرف قدره ومنزلته؛ فإنه وإن كان من أهل الكشف فما كشف الله له على قدره ومنزلته، فجهل نفسه فعمل على المشاهدة. والكامل من عمل على إيمانٍ مع ذوق العِيان، وما انتقل ولا أثَّر فيه العِيان. وما رأيت لهذا المقام ذائقًا بالحال، وإن كنت أعلم أن له رجالًا في العالم لكن ما جمع الله بيني وبينهم في رؤية أشخاصهم وأسمائهم، فقد يمكن أن أكون رأيت منهم وما جمعت بين عينه واسمه. وكان سبب ذلك أني ما علَّقت نفسي قط إلى جانب الحق أن يطلعني على كون من الأكوان ولا حادثة من الحوادث، وإنما علَّقت نفسي مع الله أن يستعملني فيما يرضيه ولا يستعملني فيما يباعدني عنه، وأن يخصني بمقام لا يكون لمتَّبِع أعلى منه، ولو أشركني فيه جميع من في العالم لم أتأثر لذلك، فإني عبدٌ محض لا أطلب التفوق على عباده، بل جعل الله في نفسي من الفرح أني أتمنى أن يكون العالم كله على قدم واحدة في أعلى المراتب. فخصني الله بخاتمة أمرٍ لم يخطر لي ببالٍ فشكرت الله بالعجز عن شكره مع توفيتي في الشكر حقه. وما ذكرت ما ذكرت من حالي للفخر، لا والله وإنما ذكرته لأمرين؛ الواحد: لقوله تعالى: «وأما بنعمة ربك فحدث» وأي نعمة أعظم من هذا الأمر. والآخر: ليكون سامعُ الحديث فيه همة لاستعمال نفسه فيما استعملتُها فينال مثل هذا فيكون معي وفي درجتي؛ فإنه لا ضيق ولا حرج إلا في المحسوس» (الفتوحات ٣: ٣٦٠).
في هذا النص الهام يلخص الشيخ تجرِبته في الانتقال من حال «الإيمان» المبني على «التقليد» إلى حال «المعاينة» و«الكشف»، مؤكدًا عزوفه عن طريق النظر العقلي ومقولاته من «جواز» و«وجوب» و«إحالة» … إلخ. بالإيمان وحده، والعمل وَفقًا لمقتضى متطلباته، ارتقت الروح فميزت بين مستويات الإدراك وقنوات المعرفة: بين إدراكات البصر الحسية، ومعرفة «الخيال»، ومعاينة «البصيرة»، فأعطت كل مستوًى حقه، وميزت بينه وبين غيره. وبهذا الوعي انكشفت للروح تجرِبة الأنبياء جميعًا من «آدم» إلى «محمد»؛ أي انكشفت الدلالات المضمرة في كلٍّ منهم بوصفهم كلمات حكمية. أليس هذا هو موضوع «فصوص الحِكَم»؟ لقد صارت الروح مصفاة رائقة ومرآة صقيلة وعدسة تجمعت فيها الأشعة من كل حدب وصوب، فانعكس فيها الماضي والحاضر والمستقبل في نقطة واحدة. ورغم ذلك الكشف الباهر لم تَزِلِّ القدم، كما زلَّت أقدام الأكابر من قبل. وهنا يشير الشيخ من طرف خفي لأسلافه الذين أسكرتهم خمرة المعرفة وحرقتهم أشعة الكشف فلم يصبروا على أنفسهم وغلبتهم أحوالهم. ابن عربي ثابت القدم، لم تخرجه المعاينة عن حدود الأدب. ولكن علينا أن ندرك أن ابن عربي لا يتفاخر ولا يعلو بقدر نفسه فوق غيره بقدر ما يحاول أن ينقل إلى قارئه رسالة أن «العمل» و«السلوك» — والأقوال تندرج في إطار الأعمال بلا شك — يجب أن يظل دائمًا محكومًا بأفق الإيمان، لا موجهًا بروح «المعاينة».
إن العارف مسئول في نهاية الأمر عن أثر سلوكه على العامة، مثله في ذلك مثل الأنبياء، الذين تتجاوز معايناتهم حدود ما هو مسموح لهم بكشفه في خطابهم. إن الخطر الماثل على العارف هو أن يعمل وَفقًا لمشاهدته ومعاينته فيتصرف بناء عليهما، فتَزِلَّ قدمه. والعارف الكامل — وابن عربي يقدم نفسه بهذه الصفة — هو الذي يتميز بقوة تحميه من الزلل. والأساس المعرفي للحماية من الزلل أن ما يكشفه الله للعارف إنما هو كشف يتعلق بذاته، أي أن الكشف على قدر العارف لا على قدر الحقيقة في ذاتها. هذا الإدراك يعني أن الزلل سببه عدم إدراك العارف لقدر ذاته. هذا الوعي من جانب ابن عربي لحقيقة أن الكشف إنما يكون على قدر العارف حماه من مغبة الزلل، وفتح له من ثَم آفاقًا من الرقي المعرفي حتى خصه الله بخاتمة أمر لم يخطر له على بال، شأنه في ذلك شأن «موسى» وشأن «الخضر» اللذين كانا يسعيان في شأن الغير فمنحهما الله ما منح. ابن عربي لم يتعلق قلبه بغير الله، لم يطلب من الله شيئًا يشغله عنه أو يباعده عن التوجه إليه، فكانت المنحة على قدر الإخلاص في التوجه.
إنها أرقى مكانة وصل إليها بشر، مرتبة يعجز الشيخ عن الوفاء بحق الشكر لها، رغم استيفائه كل متطلبات الشكر. لكن ليس معنى رقيها أنه لا يشاركه فيها أحد، إذ يتمنى الشيخ لو كان البشر جميعًا في نفس المرتبة، فلا ضيق في مراتب الكمال والمعرفة. إن «القمة» تتسع لجميع البشر لو كانوا يقدرون على احتمال الطريق إليها. إن ابن عربي يحكي قصته لا للفخر الكاذب، بل لأنه — أولًا — يتحدث بنعمة الله طاعة لله، ولأنه — ثانيًا — يحفز القارئ مشيرًا للطريق، شأنه شأن الغزالي الذي قال: «المشهد هناك لمن يريد أن يراه.»
(٤) إرهاصات الرحيل، بين المغرب والأندلس
منذ أن زار الشيخ تونِس سنة ٥٨٧ﻫ/١١٩٣م لأول مرة، لم تتوقف رحلاته إلى الأندلس عامة، وإشْبِيلِيَة بصفة خاصة، والمغرب العربي. نجده في فاس سنة ٥٨٩ﻫ/١١٩٥م مع شيخ آخر هو «أبو إسحاق بن طريف»: «وهو من أكبر من لقيته. ولقد سمعت هذا الشيخ يومًا وأنا عنده بمنزله بالجزيرة الخضراء سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وقال لي: والله يا أخي ما أرى الناس في حقي إلا أولياء عن آخرهم ممن يعرفني. قلت له: كيف تقول يا أبا إسحاق؟ فقال: إن الناس الذين رأوني أو سمعوا بي إما أن يقولوا في حقي خيرًا أو يقولوا ضد ذلك. فمن قال في حقي خيرًا أثنى عليَّ، فما وصفني إلا بصفته، فلولا ما هو أهل له ومحل لتلك الصفة ما وصفني بها، فهذا عندي من أولياء الله. ومن قال فيَّ شرًّا فهو عندي وليٌّ أطلعه الله على حالي، فإنه صاحب فِراسة وكشفٍ ناظرٌ بنور الله فهو عندي ولي. فلا أرى يا أخي إلا أولياء الله.»
في سنة ٥٩٠ﻫ/١١٧٥م، نجد الشيخ في تونِس، حيث يحكي قصة أبيات من الشعر حدَّث بها نفسه دون أن يكتبها أو يُنشدها بمسمع من أحد. ويحدد ابن عربي المكان الذي حدث فيه ذلك بأنه مقصورة ابن مثنى بشرق تونِس من بلاد إفريقية، ويحدد الوقت بأنه عند صلاة العصر. والسياق هو الباب ٣٦٠ — في معرفة منازل الظلمات المحمودة والأنوار المشهودة — الذي يتضمن فيما يتضمنه من علوم الكشف أحد العلوم، الذي يحدده الشيخ بأنه «أن يعلم صاحب الكشف أن أي واحد أو جماعة، قلَّت أو كَثُرت، لا بد أن يكون معهم من رجال الغيب واحد عندما يتحدثون. فذلك الواحد ينقل أخبارهم في العالم، ويجد ذلك الناسُ من نفوسهم في العالم، فيجتمع جماعة في خلوة، أو يحدث الرجل نفسه بحديث لا يعلم به إلا الله، فيخرج أو تخرج تلك الجماعة فتسمعه في الناس يتحدثون به.»
يتضمن هذا العلم أن هناك دائمًا «موجودًا» من عالم الغيب، وظيفته أن يلازم الإنسان فردًا كان أم جماعة. هذا الملازم من عالم الغيب ينقل ما يدور من حديث منطوق أو نفسي من الإطار الذي يدور فيه إلى خارج هذا الإطار؛ فيفاجأ الفرد أو الجماعة بحديثهم هذا — المنطوق منه أو النفسي — منتشرًا بين الناس الذين لم يكونوا حاضرين، والذين لا سبيل لهم لمعرفة الحديث بالطرق المعتادة. العلم بهذا الأمر — أمر رجال الغيب الذين ينقلون الأحاديث ويُشِيعونها — من العلوم الكشفية التي لا يعلمها إلا أصحاب «منازل الظلمات المحمودة والأنوار المشهودة». يحكي ابن عربي في هذا السياق قصتين متداخلتين: تتعلق القصة الأولى بأبيات الشعر التي كان قد حدَّث بها نفسه وهو بمقصورة ابن مثنى بشرق تونِس عند صلاة العصر، لكنه وجد شخصًا يُنشد تلك الأبيات نفسها في «إشْبِيلِيَة» بعد ثلاثة أشهر، وهي الفترة التي تستغرقها رحلة العودة إلى «إشْبِيلِيَة» من «تونِس». وكان من الطبيعي أن يسأل ابنُ عربي منشدَ الأبيات: لمن تلك الأبيات؟ وكانت المفاجأة في جواب الرجل أنه قال إن الأبيات لمحمد بن العربي. فسأله الشيخ مرة أخرى — أم نقول الصبي؟ — ومتى حفظتها؟ فذكر له بالضبط التاريخ والوقت الذي حدثته نفسه بالأبيات فيهما. ولما سأله: أنشدك إياها، كان الجواب: «كنت جالسًا ليلةً بسوق إشْبِيلِيَة في مجلس جماعة على الطريق، ومر بنا رجل غريب لا نعرفه كأنه من السياح، فجلس إلينا فتحدث معنا ثم أنشدنا هذه الأبيات فاستحسناها وكتبناها.»
ثم يواصل الرجل قصته مفصِّلًا ما حدث من حوار بينهم وبين الرجل الغريب الغامض الذي أنشدهم الأبيات التي حدَّث ابن عربي نفسه بها في مقصورة ابن مثنى بتونِس. «فقد تساءل الجمع موجهين السؤال للغريب الغامض: لمن هذه الأبيات، وكان جواب الرجل الغامض أنها لفلانٍ، وذكر اسم «محمد بن العربي». فلما قالوا له: فهذه مقصورة ابن مثنى (المذكورة في الأبيات) ما نعرفها ببلادنا، كان جواب الرجل الغريب الغامض: هي بشرق جامع تونِس، ثم أضاف عن الأبيات: وهناك عملها (يقصد ابن عربي) في هذه الساعة وحفظتها. ثم يأتي التعليق من الراوي الثاني الذي يحكي لابن عربي عن الشخص الذي أنشدهم الأبيات: ثم غاب فلم ندر أمره، ولا كيف ذهب عنا وما رأيناه.»
جدير بالالتفات هنا أن الشخص الذي سمعه ابن عربي يُنشد أبياته شخص لا يعرفه ابن عربي، فقد التقيا بالمصادفة، وسمعه يُنشد الشعر الذي سبق له أن حدث نفسه به بالمصادفة أيضًا. الرجل الغريب الذي روى الشعر في حضور الجماعة — التي كان قد انضم إليها الشخص الذي قابله ابن عربي — يدلي للجماعة بمعلومات دقيقة عن الأبيات وأين سمعها ومتى سمعها، دون أن يشير إلى «كيف» سمعها. الغريب في الأمر أن الأبيات التي حدث بها ابن عربي نفسه في تونِس، وسمعها الكائن الذي ينتمي إلى عالم الغيب فأشاعها وأذاعها في إشْبِيلِيَة، وسمع ابن عربي شخصًا مجهولًا بطريق المصادفة يُنشدها في إشْبِيلِيَة، هي أبيات موضوعها الغزل في صبي تونِسي:
ليس الغزل بمذكَّرٍ أمرًا غريبًا، فهذا تقليد شعري صوفي، والمعنى الصوفي للتعلق بالمُرْدان — الصبيان — يفسره ابن عربي في مكان آخر (انظر الفتوحات ٢: ٢١١). في نهاية السرد يذكر الشيخ الأبيات الشعرية ثم يحدد اسم الصبي — الذي يتغزل فيه — ويذكر تاريخ الواقعة: «وهذا الصبي كان يقال له أحمد بن الإدريسي، من تجار البلد كان أبوه، وكان شابًّا صالحًا يحب الصالحين ويجالسهم وفَّقه الله. وكان هذا المجلس بيني وبينه سنة تسعين وخمسمائة، ونحن الآن في سنة خمس وثلاثين وستمائة» (الفتوحات ٣: ٣٧٧-٣٧٨).
ولكن قبل أن يصل السرد إلى نهايته، يروي الشيخ قصة أخرى لتأكيد أمر العلم برجال الغيب الذين ينقلون للناس ما يحدِّث به الإنسان نفسه، أو ما تتحدث به الجماعة بين بعضها البعض. والقصة الثانية في السرد تحكي عن شخص — مجهول أيضًا — التقى به الشيخ بجامع «العديس» بإشْبِيلِيَة يومًا بعد صلاة العصر. بدأ هذا الشخص يحكي لابن عربي عن صفات رجل من أهل الطريق كان قد التقى به هذا الشخص المجهول في «خراسان». مركز القصة الثانية وبؤرة دلالتها أن «الشيخ الخراساني» ظهر بذاته لِعَينَي ابن عربي، دون أن يراه الشخص الذي يحكي. الأهم من ذلك أنه — أي الشيخ الخراساني — أخبر ابن عربي أنه هو الشخص الذي يحكي عنه الراوي المجهول. يمكن للباحث أن يلحظ هنا علاقة ما بين هذه القصة، أو بالأحرى التجرِبة، وبين تجرِبة ابن عربي في جاهليته مع الحمر الوحشية: تجرِبة سريان روح «الأمان» من نفس «الإنسان» إلى نفس «الحيوان». فهل يكون هذا السريان بفعل رجال «الغيب» الذين يدل عليهم العلم الكامن في القصة الحالية؟
وما يهمنا من هذا الإهداء في سياقنا هنا ما يعكسه من إيماء ابن عربي إلى الدرجة التي كان قد وصل إليها في سلم المعرفة الصوفية، وعدم رضاه بسبب عدم تقدير أقرب الناس إليه — وهو صديقه ووليه — لمكانته. ويفصح الشيخ أن سبب ذلك أنه لا يفخر بمكانته ولا يُدِلُّ بها على أقرانه، ولكنه على العكس من ذلك يبدي من نفسه التواضع وسوء الحال. يبدأ الشيخ إهداءه بذكر أن من واجب الصديقين إذا افترقا أن يداوما الوصال، ويحس أن من واجبه أن ينقل إلى صديقه ووليه ما حصَّله في غيابه عنه من تجارِب وما أفاء الله عليه من عوارف: «فاعلم أيها العاقل الأديب والولي الحبيب أن الحكيم إذا نَأَت به الدار عن قسيمه، وحالت صروف الدهر بينه وبين حميمه، لا بد أن يُعرِّفه بما اكتسب في غيبته وما حصَّله من الأمتعة الحِكَمِيَّة في غيبته؛ ليُسَرَّ وليُّه بما أسداه إليه البَر الرحيم من لطائفه ومَنَحه من عوارفه، وأَوْدَعه من حِكَمه وأَسْمَعَه من كَلِمِه، فكأن وليه ما غاب عنه بما عرَف منه.»
بعد هذه المقدمة التي يؤكد فيها الشيخ أن الوُد بين الأصدقاء لا يؤثر فيه تباعد المسافات يشير إلى «الكدَر» الذي أحس به من وليه وأسرته أثناء زيارته سنة ٥٩٠ﻫ، وذلك دون أن يشرح أو يفصِّل سبب هذا «الكدر». لكنه يعطي علامات ذات مغزًى بالنسبة للقارئ، إذ سبب «الكدر» منشؤه عدم الالتفات إلى مكانته التي حاول بطرق شتى أن يكشفها لوليه: «وإن كان الولي — أبقاه الله — قد أصاب صفاءَ الوُد بعده كدَرٌ لِعَرَض، وظهر منه انقباض عند الوداع لتتميم غرض، فقد غَمَّضَ وليه عن ذلك جفنَ الانتقاد، وجعله من الولي أبقاه الله من كريم الاعتقاد؛ إذ لا يهتم منك إلا من يسأل ثَم عنك. فليهنأ الولي أبقاه الله تعالى فإن القلب سليم، والوُد كما يعلم من الجوانح مقيم … وربما كان من الولي — حفظه الله تعالى — في الرحلة الأولى التي رحلت إليه سنة تسعين وخمسمائة عدمُ التفات فيها إلى جانبي، ونفور عن الجري على مقاصدي ومذاهبي. لما لاحظ فيها — رضي الله عنه — من النقص. وعذرته في ذلك فإنه أعطاه ذلك مني ظاهر الحال وشاهد النص؛ فإني سترت عنه وعن بنيه ما كنت عليه في نفسي، بما أظهرت لهم من سوء حالي وشِرَّة حِسِّي. وربما كنت أسألهم أحيانًا على طريق التنبيه، فيأبى الله أن يلحظني واحد منهم بعين التنزيه. ولقد قرعت أسماعهم يومًا في بعض المجالس، والولي أبقاه الله في صدر تلك المجالس، بأبيات أنشدتها، وفي كتاب «الإسرا» أودعتها وهي:
فوالله ما أنشدت من هذه المقطوعة بيتًا إلا وكأني أُسمع مَيْتًا؛ وسبب ذلك حكمة كنت أبغي رضاها. فما كان إنشادي لهم، مع معرفتي بقلة حرمتي عندهم، إلا حاجةً في نفس يعقوب قضاها … ولم أزل بعد مفارقتي حضرة الولي، أبقاه الله، له ذاكرًا ولأفعاله شاكرًا، وبمناقبه ناطقًا، ولأحواله وآدابه عاشقًا. وربما سطرْتُ من ذلك في الكتب ما سارت به الركبان، وشُهِرَ في بعض البلدان، وقد وقف الولي عليه، ورأى بعض ما لديه. فقد ثَبَت له الوُد مني قبل سبب يقتضيه، وغرض عاجل أو آجل يُثبِته في النفس ويُمضيه.»
لقد عجز الولي عن الالتفات إلى ما حاول الشيخ لفته إليه من مكانته التي بلغت أن يكون هو نفسه «القرآن والسبع المثاني»، وهي مكانة توازي مكانة النبي عليه السلام، الذي قالت عنه زوجته السيدة عائشة: «كان خلقه القرآن.» ومن الواضح أن «عدم الالتفات» هذا جرح كرامة «ابن عربي» وإن حاول أن يخفي هذا الجُرح بنسبة النقص إلى نفسه، أو بالأحرى بإقراره أنه كان حريصًا على أن يبدو في عيونهم بمظهر النقص. لكنه أيضًا يعود فيقول إنه قصد بإظهار حاله لوليه — رغم علمه بنقص حاله في عينه — «حاجة في نفس يعقوب». والمقصود هنا — في تقديري — أنه شأن «الملامتية» لا يريد أن يُظهر حاله بالإفصاح، وإن أراد أن يُلمح إليه؛ ولأنه كان يتوقع من وليه أن يتفهم الإشارات، وهذا لم يحدث، فقد أصابه ما أصابه من إحساس بالكدَر.
من الجدير بالذكر أن الشيخ يذكر أن «أبا عبد الله المرابط» كان هو الذي أحس بما يحاول كشفه من حاله في الزيارة الأولى سنة ٥٩٠ﻫ، لكن إحساسه به كان ملتبسًا، الأمر الذي يعني أنه حتى هؤلاء الذين كانوا يحسون مكانته لم يكونوا قادرين على فهمها فهمًا عميقًا: «وما أحس بي من ذلك الجمع المُكرَّم إلا «أبو عبد الله بن المرابط» كَلِيمُهم المُبَرَّز المُقَدَّم، ولكن بعض إحساس، والغالب عليه في أمري الالتباس» (الفتوحات ١: ٩-١٠). هل كان هذا الإحباط الذي يعبر عنه الإهداء واحدًا من أسباب قرار الرحيل؟
في سنة ٥٩١ﻫ/١١٩٥م يحكي لنا ابن عربي أنه كان في فاس حين شهد عبور عساكر الموحدين للأندلس، وهو العبور الذي تحقق به انتصار الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور (٥٨٠–٥٩٥ﻫ/١١٨٤–١١٩٩م) في ٨ شعبان ٥٩١ﻫ/٨ يوليو ١١٩٥م، في معركة «الأراك». فهل كانت الحروب سببًا آخر للرحيل؟
غنيٌّ عن القول أنه لا يوجد لابن عربي كتاب اسمه «الإرشاد في خرق الأدب المعتاد»، لكنها روح الدعابة والرغبة في المباسطة وإزالة وحشة الهيبة والتوقير المبالغ فيه بين الشيخ ومريديه. لكنه يربط تلك القصة بمقام «البسط» وهو مقام صوفي يقابل مقام «القبض»، وكلٌّ من المقامين يرتبط بأسماء إلهية، إذ يرتبط مقام «البسط» بأسماء الجمال والرحمة، بينما يرتبط مقام «القبض» بأسماء «الجلال» و«الجبروت». من مقام «البسط» هذا يضاحك الملوك أهل البلاط من أمراء ونساء، بل يضاحكون أولادهم بما ينزلون إليهم من حركاتهم حتى يضحك الصغير. (انظر الفتوحات ٤: ٤٢٧).
(٥) اللقاء بالخَضِر، البداية والنهاية
عن لقائه بالخضر وهو في أول الطريق يقول ابن عربي في سياق حديثه عن «الأقطاب»، و«الخضر» واحد من المتميزين منهم: «هذا الوتد (المخصوص المعمر) هو الخضر صاحب موسى عليه السلام أطال الله عمره إلى الآن، وقد رأينا من رآه واتفق لنا في شأنه أمر عجيب؛ وذلك أن شيخنا أبا العباس العُرَيني جرت بيني وبينه مسألة في حق شخص كان قد بشر بظهوره رسول الله ﷺ فقال لي: هو فلان بن فلان، وسمى لي شخصًا أعرفه باسمه، وما رأيته ولكن رأيت ابن عمته، فتوقفت فيه ولم آخذه بالقبول، أعني قوله فيه؛ لكوني على بصيرة في أمره. ولا شك أن الشيخ رجع سهمه عليه فتأذى في باطنه ولم أشعر بذلك؛ فإني كنت في بداية أمري، فانصرفت عنه إلى منزلي. ولما كنت في الطريق لقيني شخص لا أعرفه، فسلم عليَّ ابتداءً سلامَ محبٍّ مشفق، وقال لي: يا محمد، صدِّق الشيخ أبا العباس فيما ذكره عن فلان، وسمى لي الشخص الذي ذكره أبو العباس العُرَيني، فقلت له: نعم، وعلمت ما أراد. ورجعت من حيني إلى الشيخ لأعرِّفه بما جرى. فعندما دخلت عليه قال لي: يا أبا عبد الله أأحتاج معك إذا ذكرت لك مسألة يقف خاطرك عن قبولها إلى الخضر يتعرض إليك ويقول صدِّق فلانًا فيما ذكره لك؟ ومن أين يتفق لك هذا في كل مسألة تسمعها مني فتتوقف؟ فقلت: إن باب التوبة مفتوح، فقال: وقبول التوبة واقع. فعلمت أن ذلك الرجل كان الخضر ولا شك أني استفهمت الشيخ عنه، أهو هو؟ فقال: نعم هو الخضر» (الفتوحات ١: ٢٠٧-٢٠٨). ويعود ابن عربي لذكر القصة نفسها في سياق آخر ليبين أن الخضر حين طلب منه أن يصدق الشيخ أبا العباس في رأيه لم يكن يعني أكثر من التأكيد على ضرورة الالتزام بحدود الأدب واللياقة في الاختلاف مع الشيخ. يقول ابن عربي إن شيخه رجع إلى رأيه في المسألة موضوع الخلاف بينهما «وقال لي: إني كنت على غلط فيها. فقلت له: يا سيدي علمت الساعة أن الخضر ما أوصاني إلا بالتسليم. ما عرَّفني بأنك مصيب في تلك المسألة، فإنه ما كان يعين على نزاعك فيها؛ فإنها لم تكن من الأحكام الشرعية التي يحرم السكوت عنها. وشكرت الله على ذلك وفرحت للشيخ للمرتبة التي ينزله الحق فيها» (الفتوحات ٣: ٣٧٥).
وقد تكررت واقعة اللقاء بالخضر في أول الطريق أكثر من مرة: «ثم اتفق لي مرة أخرى أني كنت بمرسى تونِس بالحفرة في مركب في البحر فأخذني وجع في بطني، وأهل المركب قد ناموا، فقمت إلى جانب السفينة وتطلعت إلى البحر فرأيت شخصًا على بُعد في ضوء القمر، وكانت ليلة البدر، وهو يأتي على وجه الماء، حتى وصل ووقف معي ورفع قدمه الواحدة واعتمد على الأخرى، فرأيت باطنها وما أصابها بلل، ثم اعتمد عليها ورفع الأخرى فكانت كذلك. ثم تكلم معي بكلام كان عنده ثم سلَّم وانصرف يطلب المغارة مائلًا نحو تلٍّ على شاطئٍ بيننا وبينه مسافة تزيد على ميلين؛ فقطع المسافة في خطوتين أو ثلاث، فسمعت صوته وهو على ظهر المغارة يسبح الله تعالى.
وربما مشى إلى شيخنا جرَّاح بن خميس الكِتَّاني، وكان من سادات القوم، مرابطًا بمرسى عبدون، وكنت جئت من عنده بالأمس من ليلتي تلك، فلما جئت المدينة لقيت رجلًا صالحًا فقال لي: كيف كانت ليلتك البارحة في المركب مع الخضر؟ ما قال لك وما قلت له؟
فلما كان بعد ذلك التاريخ خرجت إلى السياحة بساحل البحر المحيط، ومعي رجل يُنكِر خَرق العوائد للصالحين، فدخلت مسجدًا خَرِبًا منقطعًا لأصلي فيه أنا وصاحبي صلاة الظهر، فإذا جماعة من السائحين المنقطعين دخلوا علينا يريدون ما نريده من الصلاة في ذلك المسجد، وفيهم ذلك الرجل الذي كلمني على البحر الذي قيل لي إنه الخضر، وفيهم رجل كبير القدر أكبر منه منزلة. وكان بيني وبين ذلك الرجل اجتماع قبل ذلك ومودة، فقمت وسلمت عليه؛ فسلَّم عليَّ وفرح بي، وتقدَّم فصلى بنا. فلما فرغنا من الصلاة خرج الإمام وخرجت خلفه وهو يريد باب المسجد، وكان الباب في الجانب الغربي يشرف على البحر المحيط بموضع يُسمَّى بكة. فقمت أتحدث معه على باب المسجد، وإذا بذلك الرجل الذي قيل إنه الخضر قد أخذ حصيرًا صغيرًا كان في محراب المسجد، فبسطه في الهواء على قدر علو سبعة أذرع من الأرض، ووقف على الحصير في الهواء يتنفَّل، فقلت لصاحبي: أما تنظر إلى هذا وما فعل؟ فقال لي: سِرْ إليه واسأله، فتركت صاحبي واقفًا وجئت إليه، فلما فرغ من صلاته سلمت عليه وأنشدته لنفسي شعرًا:
فقال لي: يا فلان، ما فعلتُ ما رأيتَ إلا في حق هذا المنكِر، وأشار إلى صاحبي الذي كان ينكر خَرْق العوائد، وهو قاعد في صحن المسجد ينظر إليه؛ ليعلم أن الله يفعل ما يشاء مع من يشاء. فرددت وجهي إلى المنكِر وقلت له: ما تقول؟ فقال: أَبَعْدَ العين ما يقال؟
ثم رجعت إلى صاحبي، وهو ينتظرني بباب المسجد، فتحدثت معه ساعة، وقلت له: من هذا الرجل الذي صلى في الهواء؟ وما ذكرت له ما اتفق لي معه قبل ذلك. فقال لي: هذا الخضر، فسكتُّ … فهذا ما جرى لنا مع هذا الوتد نفعنا الله برؤيته، وله من العلم اللدني ومن الرحمة بالعالم ما يليق بمن هو على رتبته … وقد كنت قد لبست خِرقة الخضر من يد صاحبنا تقي الدين عبد الرحمن بن علي بن ميمون بن أبي التَّوْزَري، ولبسها هو من يد صدر الدين شيخ الشيوخ بالديار المصرية، وهو ابن حَمُّوَيْهِ، وكان جده قد لبسها من الخضر.
ومن ذلك الوقت قلت بلباس الخرقة، وألبستها الناس؛ لِمَا رأيت الخضر قد اعتمرها. وكنت قبل ذلك لا أقول بالخرقة المعروفة الآن؛ فإن الخرقة عندنا إنما هي عبارة عن الصحبة والأدب والتخلُّق، ولهذا لا يوجد لباسها متصلًا برسول الله ﷺ، ولكن يوجد صحبةً وأدبًا، وهو المعبَّر عنه بلباس التقوى. فجرت عادة أصحاب الأحوال إذا ما رأوا واحدًا من أصحابهم عنده نقصٌ في أمر ما، وأرادوا أن يكملوا له حاله اتحد به هذا الشيخ، فإذا اتحد به أخذ ذلك الثوب الذي عليه في ذلك الحال ونزعه وأفرغه على الرجل الذي يريد تكميل حاله، فيَسْرِي فيه ذلك الحال فيُكمِّل له ذلك؛ فذلك هو اللباس المعروف عندنا والمنقول عن المحققين من شيوخنا» (الفتوحات ١: ٢٠٧-٢٠٨).
تمثل علاقة ابن عربي بالخضر — الشخصية التي تمثل في الثقافة الإسلامية نَموذج القطب الصوفي الموهوب نعمةَ العلم الإلهي بلا نبوة أو رسالة — في تطورها من اللقاء العابر إلى استلام الخرقة — شارة اكتمال المعرفة — نَموذجًا لتطور رحلة ابن عربي العرفانية من بداية الطريق حتى الوصول إلى قمة الولاية. ولعله من الدال في هذا السياق أن نلاحظ حرص الشيخ على بيان أن مصادر خبرته الروحية تجمع بين مصادر نبوية — عيسوية موسوية أولًا — ومصادر عرفانية على رأسها يقف الخضر، القطب والإمام. ولكن من هو «الخَضِر» هذا؟ يقول ابن عربي عنه: «واسمه إيلِيَا بن مَلْكَان بن فالَغ بن عابَر بن شالَخ بن أَرْفَخْشَذَ بن سام بن نوح، وكان في جيش فبعثه أمير الجيش يرتاد له ماء، وكانوا فقدوا الماء، فوقع بعين الحياة فشرب منها فعاش إلى الآن. وكان لا يعرف ما خص الله به من الحياة شاربَ ذلك الماء … ثم عاد إلى أصحابه فأخبرهم بالماء فسارع الناس إلى ذلك الموضع ليستقوا منه فأخذ الله بأبصارهم عنه فلم يقدروا عليه» (الفتوحات ٣: ٣٧٥).
ومن الجدير بالتنويه أن ابن عربي يفسر هذا العطاء الذي وهبه الله للخضر دون غيره من رجال الجيش (شرب ماء عين الحياة) بأنه كان مكافأة له على سعيه لطلب الماء للناس. ومن خلال هذا التفسير يربط بين العطاء الرباني الإلهي للخضر وبين العطاء الإلهي للنبي موسى؛ فقد كان موسى — في القصة القرآنية — يسعى في حاجة أهله حين توجه إلى النار: فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (سورة طه ٢٠: ١٠) فكانت نتيجة هذا السعي في حاجة أهله كلامَ ربه له: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى … هكذا يربط ابن عربي بين الخضر وموسى حين يقول إن سعي الخضر بحثًا عن الماء من أجل الجيش أنتج له الخلود «مثل ما في قصة موسى عليه السلام لما مشى في حق أهله ليطلب لهم نارًا يصطلون بها ويقضون بها الأمر الذي لا يُقضى إلا بها في العادة. وما كان عنده عليه السلام خبر بما جاءه فأسفر له عاقبةُ ذلك الطلب عن كلام ربه، يكلمه الله تعالى في عين حاجته، وهي النار في الصورة، ولم يخطر له عليه السلام ذلك الأمر بخاطر» (الفتوحات ٣: ٣٧٤).
هنا يمتح ابن عربي من تراث طويل عن شخصية «الخضر»، وهو تراث تختلط فيه عناصر شتى شفاهية يهودية ومسيحية. وقد أُدمجت هذه العناصر في كتب التفسير الكلاسيكية في سياق تفسير القصة القرآنية التي وردت في سورة «الكهف» رقم ١٨، وهي القصة التي تمثل محور المصدر الإسلامي. ونحتاج من ثَم لوقفة نحلل فيها عناصر القصة كما وردت في القرآن الكريم.
(٦) الخضر في القرآن
والقصة القرآنية كما وردت في سورة «الكهف» تتحدث عن قصة «موسى» و«العبد الصالح» دون تعيين لاسمه. والقصة تبدأ بذكر شأن موسى مع «فتاه»، الذي حدده المفسرون بأنه «يوشع بن نون»، وكان يتبع موسى يخدمه ليأخذ عنه العلم. ويبدو أن «موسى» كان في رحلة هدفها الوصول إلى «مجمع البحرين»: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا.
هذه الرحلة الغامضة إلى «مجمع البحرين»، ثم الوصول واكتشاف «انسراب الحوت» العجيب للبحر، الأمر الذي دفع بموسى وفتاه للرجوع عودًا على بدء بحثًا عن الحوت فيما يبدو، هذه الرحلة الغامضة فتحت المجال أمام المفسرين للبحث عن الدلالات والمعاني التي تَكتنز بها القصة. ومما زاد من درجة «الغموض»، الباعث على مزيد من محاولات الكشف من جانب المفسرين، ذلك الانتقال المباشر من قصة موسى وفتاه والحوت لقصة أخرى يكون فيها موسى هو التابع بعد أن كان «المتبوع». يظهر «العبد الصالح» المشغول في رحلته الخاصة، ليصبح هو «المتبوع» الذي يتبعه موسى ليتعلم منه. وبعبارة أخرى يختفي المتعلم «فتى موسى» من المشهد، ليصبح موسى «فتى» تابعًا للعبد الصالح: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا.
هذا الاتفاق الغريب يثير منذ البداية تشوق القارئ أو المستمع أولًا لنوع المعرفة والعلم الذي آتاه الله «العبد الصالح»، والذي يحتاج موسى — النبي الرسول — لتعلمه. تتمثل الإثارة الثانية في تقرير «العبد الصالح» لموسى أنه لن يحتمل مصاحبته ولن يصبر على مشقتها، مبينًا له — بطريقة تَزيد من درجة تَشوُّفه أكثر مما تُزهِّده في المصاحبة والتعلم — أنه من الصعب على الإنسان أن يحتمل مشاهدة ما لا يعلم أسبابه وعلله وغاياته. وتنجح حيلة «التشويق» ويقبل «موسى» التحدي، فيضع «العبد الصالح» شرطًا أكثر غرابة لا يتردد «موسى» في قبوله. كان الشرط هو «عدم السؤال» عن شيء من جانب «موسى»، و«الانتظار» حتى يتكرم «العبد الصالح» بكشف الأسباب والمبررات والبواعث المفسرة لأفعاله. اتفاق غريب وعجيب، خاصة إذا كان الهدف والغاية من المصاحبة هو «العلم» و«المعرفة».
وككل القصص المُلْغِزة يقوم «العبد الصالح» بارتكاب أفعالٍ ثلاثة تبدو في عين موسى إفسادًا: الفعل الأول هو قيام العبد الصالح بإحداث «خرق» في السفينة التي ركباها، والفعل الثاني هو قيامه بقتل صبي بلا سبب واضح أو مبرر معقول، وكانت الحادثة الثالثة قيام «العبد الصالح» ببناء «جدار» كان على وشك السقوط، دون أن يطلب أجرًا على هذا العمل، رغم حاجته هو وموسى الماسَّة لما يقيم أَوَدهما في هذه القرية التي أبى أهلها أن يقدموا لهما أي طعام على سبيل الضيافة. بعد كل فعل من الأفعال الثلاثة السابقة يعترض موسى. ردًّا على أول اعتراض يُذكِّره العبد الصالح بما سبق أن اتفقا عليه، فيعتذر موسى. بعد الاعتراض الثاني يشتد لوم العبد الصالح لموسى لعدم صبره، فيعتذر موسى واعدًا أن تكون تلك هي المرة الأخيرة. في المرة الثالثة يكون اعتراض موسى علامة على عجزه عن احتمال الصمت، ويكون إعلان «الفراق» من جانب العبد الصالح. لكن قبل الفراق لا بد من كشف السر خلف الأفعال الثلاثة، وبانكشاف السر تكون القصة قد وضعت الأساس للتمييز بين «العلم اللدني»، أي العلم الإلهي الذي يلقيه الله مباشرة على قلب من يشاء من عباده، وبين «العلم النبوي الرسولي».
ولكن هل يمثل اعتراض «موسى» على العبد الصالح — الخضر — نقصًا في العلم النبوي وسُموًّا للعلم «اللدني»؟ أو بعبارة أخرى: هل يمكن القول إن معارف «الأولياء» أرقى وأعمق من معارف الأنبياء؟ القراءة السطحية لابن عربي يمكن أن توهم القارئ بمثل هذا الاستنتاج الخاطئ. والحقيقة أن الأنبياء والرسل من آدم إلى «محمد» يمثل كل منهم حقيقتين متلازمتين: حقيقة كونه نبيًّا ورسولًا مهمته إبلاغ رسالة الله للبشر بلغة مفهومة للبشر على تفاوت مستوياتهم في الفهم، والحقيقة الثانية كونهم أولياء عارفين يتلقون معارف قلبية لا يستطيعون كشفها مكتفين بأداء الرسالة التي كُلفوا بأدائها للبشر. في أحيان كثيرة يميز ابن عربي بين نمطين من النبوة: «نبوة الاختصاص»؛ وهي صفة من اختارهم الله من الرسل والأنبياء ليبلغوا رسائل خاصة، وهذه لها بداية ولها نهاية: بدأت بآدم وخُتمت بمحمد. النمط الثاني من النبوة هو نمط «النبوة العامة المكتسبة»، وهي «الولاية» أيضًا، وهذه لها بداية في «الكلمة المحمدية» ونهايتها عودة «عيسى» ونزوله إلى الأرض ليقيم العدل في الأرض ويحكم بشرع محمد؛ أي إن عودة عيسى هنا هي عودة له لا بصفته التاريخية — نبيًّا ورسولًا بُعِثَ في زمنٍ ما مضى إلى بني إسرائيل — بل بصفته ختم «الولاية العامة»؛ تلك الولاية التي عبر عنها الحديث: «كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين»؛ حيث يُبرز ابن عربي في تأويله للحديث حقيقة أن التأكيد هنا على «النبوة» ولا ذكر للرسالة. في شرح مستفيض يميز ابن عربي بين «اختلاف الشرائع» لاختلاف الأزمان، وبين وحدة «الدين» لوحدة الحقيقة الوجودية والمعرفية. وفي إطار هذا التمييز أيضًا يضع «المعتقدات» المختلفة في جانب، و«الحقيقة» — حقيقة الدين كما هو عند الله — في جانب آخر.
هذا عن القصة القرآنية، أما التراث التفسيري، والتراث الصوفي منه بصفة خاصة، فيحتفي، بالإضافة إلى ذلك، بالمرويات والقصص والرؤى التي أحاطت بهذه الشخصية. «رُوِّينا عن رسول الله ﷺ في الخضر رضي الله عنه وقد سئل عن سبب تسميته بخضر فقال ﷺ: «ما قعد على أرض إلا اهتزت تحته خضراء».» والخضر هو القطب مداوي الكُلوم الذي يستدعي ابن عربي، في سياق حديثه عنه، لقاءه بابن رشد؛ شرحًا لقوله تمييزًا بين معرفة ومعرفة: «لكل مقام مقال، ولكل علم رجال، ولكل وارد حال … فالحقيقة الحقيقة، والطريقة الطريقة؛ فقد اشتركت الجنة والدنيا في اللبِن والبناء، وإن كانت الواحدة من طينٍ وتبن، والأخرى من عَسْجَدٍ ولُجَين» (الفتوحات ١: ١٧١).
«وهو من «الركبان/الأفراد»، وهي طائفة خارجة عن حكم القطب وحدها، ليس للقطب فيهم تصرف. فلو كان الخضر نبيًّا لما قال: «ما لم تُحِط به خُبرًا» فالذي فعله لم يكن من مقام النبوة. قال له في انفراد كل واحد منهما بمقامه الذي هو عليه: يا موسى أنا على علم علَّمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علَّمكه الله لا أعلمه أنا. وافترقا وتميزا بالإنكار؛ فالإنكار ليس من شأن الأفراد فإن لهم الأوليةَ في الأمور، فهم يُنكَر عليهم ولا يُنكِرون … ولهم من الأعداد من الثلاثة إلى ما فوقها من الأفراد؛ فليس لهم ولا لغيرهم فيما دون الفرد الأول الذي هو الثلاثة قدم. فإن «الأحدية» وهو «الواحد» لذات الحق، و«الاثنان» للمرتبة: وهو توحيد الألوهة، و«الثلاثة» أول وجود الكون عن الله» (الفتوحات ١: ٢٢٣-٢٢٤).
(٧) الاستمداد من فلك النبوة، ابن عربي خاتم الولاية المحمدية
أشرنا من قبل إلى قول ابن عربي: «كان شيخنا أبو العباس العُرَيني عيسويًّا في نهايته، وهي كانت بدايتنا — أعني نهاية شيخنا في هذا الطريق كانت عيسوية — ثم نُقلنا إلى الفتح الموسوي الشمسي، ثم بعد ذلك نُقلنا إلى هود عليه السلام، ثم بعد ذلك نُقلنا إلى جميع النبيين عليهم السلام، ثم بعد ذلك نُقلنا إلى محمد ﷺ. هكذا كان أمرنا في هذا الطريق» (الفتوحات ١: ٢٠٧-٢٠٨). إذا كانت نقطة بداية الفتى هي نقطة نهاية الشيخ فأين يمكن أن نتوقع نهاية الشيخ؟ كانت البداية عيسوية، ثم كانت النقلة من «عيسى» إلى «موسى» ثم إلى «هود»، ثم تقلبت روح ابن عربي في أرواح الأنبياء جميعًا حتى استقرت في روح «محمد» عليه السلام، خاتم الأنبياء. وهكذا صار ابن عربي خاتم الأولياء. ولكن يظل هناك حبل ينظم البداية بالنهاية، فعيسى هو خاتم الولاية «العامة»، في حين أن ابن عربي هو خاتم الولاية المحمدية.
«ولقد رأيت رؤيا لنفسي في هذا النوع (حيث يدرك الرائي أنه في رؤيا ويميز بين ذاته خارج الرؤيا وبين صورته في الرؤيا)، وأخذتها بشرى من الله؛ فإنها مطابقة لحديث نبوي عن رسول الله ﷺ حين ضرب مَثَله في الأنبياء، فقال رسول الله ﷺ:
مَثَلي في الأنبياء كمَثَل رجل بنى حائطًا فأكمله إلا لَبِنَة واحدة، فكنت أنا تلك اللبنة، فلا رسول ولا نبي بعدي.
فشبه النبوة بالحائط والأنبياء باللبِن التي قام بها الحائط، وهو تشبيه في غاية الحسن؛ فإن مسمى الحائط هنا المشار إليه لم يصح ظهوره إلا باللبِن، فكان ﷺ خاتم النبيين. فكنت بمكة سنة تسع وتسعين وخمسمائة فرأيت فيما يرى النائم الكعبة مبنية بلبِنٍ فضة وذهب: لبنةٍ فضة ولبنةٍ ذهب، وقد كملت بالبناء وما بقي فيه شيء. وأنا أنظر إليها وإلى حسنها فالتفتُّ إلى الوجه الذي بين الركن اليماني والشامي، وهو إلى الركن الشامي أقرب، فوجدت موضع لبنتين: لبنة فضة ولبنة ذهب، ينقص من الحائط في الصفين: في الصف الأعلى ينقص لبنة ذهب، وفي الصف الذي يليه ينقص لبنة فضة، فرأيت نفسي قد انطبعت في موضع تلك اللبنتين؛ فكنت أنا عين تَيْنِك اللبنتين، وكمل الحائط، ولم يبق في الكعبة شيء ينقص. وأنا واقف أنظر، وأنا أعلم أني واقف وأعلم أني عين تلك اللبنتين لا أشك في ذلك، وأنهما عين ذاتي. واستيقظت فحمدت الله تعالى وشكرته، وقلت متأولًا:
إني في الأتباع من صنفي كرسول الله ﷺ في الأنبياء، وعسى أن أكون مَن خَتَم الله الولاية بي، وما ذلك على الله بعزيز.
وذكرت حديث النبي ﷺ في ضربه المثل بالحائط، وأنه كان تلك اللبنة، فقصصت رؤياي على بعض علماء هذا الشأن بمكة من أهل تَوْزَر، فأخبرني في تأويلها بما وقع لي. وما سميت له الرائي من هو، فاللهَ أسأل أن يُتمها عليَّ بكرمه.» (الفتوحات ١: ٣٥٥)
اللبنتان هنا إشارة إلى المكانة المزدوجة لخاتم الولاية المحمدية — الذي هو ابن عربي نفسه — فهو من حيث الظاهر «تابع» لخاتم الرسل والأنبياء، وتلك دلالة اللبنة الفضة. أما من حيث الباطن فالولي الخاتم يستمد ولايته من نفس المصدر الأصلي الذي يستمد منه النبي نبوته، وتلك دلالة اللبنة الذهب. ويكاد ابن عربي أحيانًا يجعل من «الولاية» أفقًا أوسع من أفق «النبوة»، وذلك استنادًا إلى أن «الولاية» لها مستند في الأسماء الإلهية، هو الاسم «الولي»، وليس ثمة اسم إلهي تستند إليه «النبوة». ومن هنا يحرص على ربط أفق النبوة بأفق الولاية، وليس العكس؛ فكل الأنبياء أولياء، بمعنى أن كل نبي ورسول له ظاهر وباطن: فظاهر النبوة الرسالة ومناطها التبليغ ومخاطبة الناس على قدر عقولهم، أما الباطن فهو العلم بالأمر على ما هو عليه. من هنا نفهم التفرقة المعروفة في الرسل والأنبياء من حيث هم كلمات إلهية، ومن حيث هم شخصيات تاريخية. محمد التاريخي الذي وُلد بمكة هو الرسول النبي الخاتم؛ أي به أغلق باب النبوات والشرائع السماوية المنزلة، أما «الحقيقة المحمدية» فهي المشكاة التي لا ينقطع نورها أبدًا، منها يستمد الرسل والأنبياء، بدءًا من آدم حتى عيسى، نورَهم ظاهرًا وباطنًا. ومن باطنها يستمد «الأولياء».
«إن الرسالة والنبوة — أعني نبوة التشريع ورسالته — تنقطعان، والولاية لا تنقطع أبدًا. فالمرسلون من كونهم أولياء، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعًا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجهٍ يكون أنزل كما أنه من وجهٍ يكون أعلى … فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله ﷺ:
كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين.
وغيره من الأنبياء ما كان نبيًّا إلا حين بُعِث. وكذلك خاتم الأولياء كان وليًّا وآدم بين الماء والطين، وغيره ما كان وليًّا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها من كون الله تسمى «بالولي الحميد».
من المهم هنا أن نشير إلى أن مسألة «الولاية» وما يحيط بها من دلالات في التراث الصوفي تستمد بعض جذورها من التراث الشيعي، وهو تراث تعتمد مشروعيته السياسية والفكرية على «ميراث» العلم النبوي بانتقاله في أبناء «فاطمة» الذين يمثلون سلسلة «الأئمة». لكن إذا كان التراث الشيعي قد حصر ميراث العلم النبوي في الأئمة من بيت النبوة فقد فتح التراث الصوفي أفق ميراث العلم النبوي لكل إنسان. وفي حالة ابن عربي ترى أنه شديد الاعتزاز بمسألة أصله العربي وانتمائه إلى جذور يمنية تربط بينه وبين «الأنصار» من أهل يثرب. وسنرى في فصل لاحق كيف أن جذور هذا الانتماء تتبدى في رؤاه وتمنحها بعدًا سياسيًّا واضحًا في تقييم الماضي. ومن ناحية أخرى لا يفتأ ابن عربي — في مفتتح «الفتوحات المكية» بصفة خاصة — يلح على أن كون اسمه «محمد» يقربه من الرسول ﷺ. ومعنى ذلك أن ثمة صلتين تربطانه بالنبي الكريم: كونه عربيًّا طائيًّا، وكونه سميًّا له. وسنرى كيف أنه يميز بين «المهدي المنتظر» من نسب النبي وبين «خاتم الولاية» المحمدية في إشارة واضحة للفارق بينه وبين مفهوم «المهدي» في التراث الشيعي.
لكن البعد الأكثر عمقًا لمسألة الولاية يتبدى في الحرص على عدم إغلاق التواصل بين السماء والأرض بالنسبة للفقهاء ورجال اللاهوت في كل الأديان تقريبًا، يمثل «الوحي» لحظة اتصال مكتملة بين «النبي» والله. ولا شك أن كون محمد «خاتم الأنبياء والمرسلين» صارت تعني تدريجيًّا أن الإنسان قد مُنح الاستقلال بوصفه صار قادرًا على الاعتماد على نفسه. لقد قالت السماء كل ما عندها، وعلى الإنسان وحده أن يقرر مصيره بالفوز باتباع أوامر السماء، أو بالهلاك بمخالفتها. ولكن تحديد المعنى — معنى ما تأمر به السماء وما تنهى عنه — تحول إلى ساحة صراع بين الفقهاء بعضهم مع البعض الآخر من جانب، وبين رجال اللاهوت بعضهم مع البعض الآخر من جانب آخر. في التجارِب الروحية محاولة دائمة للاتصال بالسماء، ولا بد من ثَم من الحرص على ترك الباب مفتوحًا. وهذا على وجه التحديد ما تضمنه نظرية «الولاية». يقول ابن عربي كاشفًا ذلك بوضوح:
«ثبت أن رسول الله ﷺ قال: «إن الرسالة والنبوة قد انقضت فلا رسول بعدي ولا نبي.» الحديث بكماله. فهذا الحديث من أشد ما جَرَعت الأولياء مرارته؛ فإنه قاطع للوُصلة بين الإنسان وبين عبوديته، وإذا انقطعت الوُصلة بين الإنسان وبين عبوديته من أكمل الوجوه انقطعت الوُصلة بين الإنسان وبين الله؛ فإن العبد على قدر ما يخرج من عبوديته ينقص من تقربه من سيده؛ لأنه يزاحمه في أسمائه، وأقل المزاحمة الاسمية.
فأبقى علينا اسم «الولي» وهو من أسمائه سبحانه. وكان هذا الاسم قد نزعه من رسوله وخلعه عنه وسماه بالعبد الرسول. ولا يليق بالله أن يُسمَّى بالرسول؛ فهذا الاسم من خصائص العبودية التي لا تصح أن تكون للرب سبحانه. وسبب إطلاق هذا الاسم وجود الرسالة، والرسالة قد انقطعت فارتفع حكم هذا الاسم بارتفاعها من حيث نسبتها إلى الله.
ولما علم رسول الله ﷺ أن في أمته من تجرَّع مثل هذا الكأس، وعلم ما يطرأ عليهم في نفوسهم من الألم لذلك، رحمهم، فجعل لهم نصيبًا ليكونوا بذلك عبيدًا، فقال للصحابة: «ليبلِّغ الشاهد الغائب»، كما أمره الله عز وجل بالتبليغ، لينطلق عليهم أسماء الرسل التي هي مخصوصة بالعبيد. وقال رسول الله ﷺ:
رحم الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها.
يعني حرفًا حرفًا. وهذا لا يكون إلا لمن بلَّغ الوحي من قرآن وسنة بلفظه الذي جاء به. وهذا لا يكون إلا لنقلة الوحي المقربين والمحدِّثين. ليس للفقهاء ولا لمن نقل الحديث على المعنى — كما يراه سفيان الثوري وغيره — نصيبٌ ولا حظٌّ فيه (في الاسم «الرسول»)؛ فإن الناقل على المعنى إنما نقل إلينا فهمه في ذلك الحديث النبوي، ومن نقل إلينا فهمه فإنما هو رسول نفسه … فالصحابة إذا نقلوا الوحي على لفظه فهُم رسُلُ رسول الله ﷺ، والتابعون رسُلُ الصحابة، وهكذا الأمر جيلًا بعد جيل إلى يوم القيامة … وإنما جوَّزنا حذف الوسائط لأن رسول الله كان يخبره جبريل أو ملَك من الملائكة، ولا نقول فيه «رسول جبريل».» (الفتوحات ١: ٢٥٦)
ابن عربي هنا لا يؤسس فقط مشروعية «الولاية» على الاسم الإلهي «الولي»، بل يضيف إلى ذلك أن كل من ينقل الوحي عن الرسول ويبلغه للناس فهو أيضًا «رسول»، أي أن «الرسالة لم تنقطع». وابن عربي يقصد بالوحي هنا القرآن فقط، لأنه الذي يمكن نقله حرفًا حرفًا كما هو، على عكس الأحاديث النبوية التي تُروَى عادة بالمعنى. وفي رأي ابن عربي أن الرواية بالمعنى ليست إلا تفسيرًا، فمن روى بالمعنى — كرجال الحديث والفقهاء — فليس مبلِّغًا ولا رسولًا. الولاية إذن هي الأفق المفتوح أبدًا لاستنادها لاسم إلهي، ولأنها تستمد من نفس المصدر الذي تستمد منه النبوة. وابن عربي ينتمي لأفق الولاية «وراثةً» و«اكتسابًا» في الوقت نفسه. وإذا كان قد بدأ «عيسويًّا» فإن النهاية — ختم الولاية المحمدية — لا تنفصل عن البداية؛ إذ تظل مسألة «ختم الولاية» تربط ابن عربي بعيسى؛ فابن عربي هو خاتم الولاية المحمدية وعيسى هو خاتم الولاية العامة. هذا ما يكرره الشيخ في كتبه كلها، لا في «الفتوحات» فقط، أنه هو لا غيره «خاتم الولاية المحمدية»، وهنا وجه الشبه والاشتراك في الحكم بينه وبين «عيسى» الذي يمثل «خاتم الولاية العامة».
ارتبط اكتمال التجرِبة الروحية للشيخ في مكة بتجرِبة عشق جمالية لمن تسمى «عين الشمس نظام» ابنة شيخه «مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم الأصفهاني». وهي تجرِبة تجسدت فيها العلاقة بين العالمين: عالم الغيب وعالم الشهود، وهي تجرِبة تلائم المكان، مكة مهبط الوحي ولقاء الإلهي بالإنساني في تواصل «الوحي». هذ اللقاء بين السماوي والأرضي في علاقة العشق عبر عنه الشيخ في ديوان «ترجمان الأشواق»، الذي اضطُر لشرحه بعد أن أساء بعض الفقهاء فهمه، واتهموا الشيخ في عقيدته ودينه؛ على أساس أن «الحب» عاطفة دنيوية، غايتها اللذة المحرمة. أن يكون «الحب» مَجلًى للمقدس، وأن يكون الجمال الإنساني أحد تجليات الجمال الإلهي، أمر لا يفهمه الفقهاء ولا يقدرونه. والشيخ لا يكف عن القول:
لم أزل فيما نظمناه في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية والتنزلات الروحانية، والمناسبات العلوية، جريًا على طريقتنا المثلى، فإن الآخرة خير لنا من الأولى، ولعلمها (عين الشمس) رضي الله عنها بما إليه أشير، ولا ينبئك مثل خبير، والله يعصم قارئ هذا الديوان من سبق خاطره إلى ما لا يليق بالنفوس الأبية، والهمم العالية، المتعلقة بالأمور السماوية، آمين بعزة من لا رب غيره والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
إن المحبوب دائمًا، ذكرًا كان أم أنثى — وقد مر بنا تغزل الشيخ بصبي تونِسي — لا يمثل موضوعًا في ذاته بقدر ما يمثل مَجلًى من مجالي الجمال في قلب العارف. ونظرية الحب عند المتصوفة عامة، وعند ابن عربي خاصة، تتوازى إن لم تتماثل مع نظرية الوجود، فالحق كان كنزًا مخفيًّا فأحب أن يُعرَف فخلق الخلق ليعرفوه. إذا كان فعل الخلق فعل محبة، فكيف لا يتسع قلب الصوفي للحب بكل أنواعه؛ بما هو عرش الرحمن.
في مكة استغرق الشيخ في الطواف والعبادة والتأمل والقراءة، وكلها أفعال لا تنفك عن «الحب»، الذي هو باعثها ومحركها. وفي هذا المناخ كتب «تاج الرسائل» و«روح القدس» وبدأ موسوعته «الفتوحات المكية». في سنة ٦٠٠ﻫ/١٢٠٤م التقى ابن عربي في مكة بعدد من الحجاج من الأناضول وقونية ومالطا بقيادة «مجد الدين إسحاق» والد «صدر الدين القونوي»، الذي سيصير أهم تلاميذ الشيخ من بعد، والذي كان يقيم في سوريا. في رحلة العودة إلى ديارهم صحبهم الشيخ، حيث مروا جميعًا ببغداد والموصل، ومكثوا هناك بضعة أشهر، حتى وصلوا أخيرًا إلى مالطة سنة ٦٠١ﻫ/١٢٠٥م. وهكذا بدأت رحلة ابن عربي إلى الأناضول، وبدأت علاقته بالحكام وانغماسه في الشئون العامة، الأمر الذي سنتناوله في الفصل الثالث بمزيد من التفاصيل.
تبدو هذه السنوات سنوات قلق وعدم استقرار؛ فبعد عام واحد نلتقي بابن عربي في القدس والقاهرة، عائدًا إلى مكة. ولكنه في سنة ٦٠٦ﻫ/١٢٠٩م يعود مرة أخرى إلى قونية حيث كتب «رسالة الأنوار». وفي سنة ٦٠٨ﻫ/١٢١١م نجده في بغداد. بعد ذلك زار «حلب» وهناك كتب شرحًا لديوانه «ترجمان الأشواق» درءًا لهجوم تعرض له، ولعل هذا يفسر ولو جزئيًّا عدم الاستقرار الملحوظ في هذه السنوات. يحكي ابن عربي قصة الحاجة إلى شرح ديوان «ترجمان الأشواق» فيقول:
وكان سبب شرحي لهذه الأبيات أن الولد بدر الحبشي، والولد إسماعيل بن سُودَكِين، سألاني في ذلك، وهو أنهما سمعا بعض الفقهاء بمدينة حلب ينكر أن هذا من الأسرار الإلهية، وأن الشيخ (ابن عربي) يتستر لكونه منسوبًا إلى الصلاح والدين؛ فشرعت في شرح ذلك، وقرأ علي بعضه القاضي ابن العديم بحضرة جماعة من الفقهاء. فلما سمعه ذلك المنكِر الذي أنكره تاب إلى الله سبحانه وتعالى، ورجع عن الإنكار على الفقراء وما يأتون به في أقاويلهم من الغزل والتشبيب ويقصدون في ذلك الأسرار الإلهية، فاستخرت الله تعالى وقيدت هذه الأوراق، وشرحت ما نظمته بمكة المشرفة من الأبيات الغزلية، في حال اعتماري في رجب وشعبان ورمضان، أشير بها إلى معارف ربانية، وأنوار إلهية، وأسرار روحانية، وعلوم عقلية، وتنبيهات شرعية. وجعلت العبارة عن ذلك بلسان الغزل والتشبيب، لتعشق النفوس بهذه العبارات؛ فتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها، وهو لسان كل أديب ظريف، روحاني لطيف.
وإذا كان المقام قد استقر بالشيخ في دمَشق حيث مات ودفن، فقد كان الرحيل من مكة إلى مالطة وقونية ثم حلب قبل الاستقرار في دمَشق، مرورا بالقدس والقاهرة وبغداد، بمثابة إطلالة للشيخ على أحوال العالم الإسلامي في المشرق الذي رحل إليه من بلاده. هل كانت رحلة الاكتمال، أم رحلة المعاناة؟ لئن كان الشيخ قد وصل إلى «ختم الولاية» فقد كان العالم الإسلامي يختتم دورة من دوراته في التاريخ، دورة العكوف على الذات واجترار الأحزان، والبكاء على الماضي. في هذا العالم عانى الشيخ فاضطر للرمز والإيماء كما رأينا، وكما سنتوسع في الفصل التالي.
خاتمة
نعلم من العرض السابق أن تحول الفتى «ابن عربي» من «الجاهلية» إلى طريق «الولاية» بدأ في فترة مبكرة من حياته بلا شيخ ولا معلم. ونعلم أن علاقته بالشيوخ الذين يذكر أسماءهم بحرص واضح وإجلال مشهود كانت علاقة «ندية» و«تكافؤ». والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا كان عليه أن يرحل عن «الأندلس» و«المغرب» كله إلى «المشرق» بلا عودة؟ لا شك أن هناك أسبابًا كثيرة: فهل كان رحيل الشيخ من «الأندلس» و«المغرب» بصفة عامة بحثًا في المشرق عن تقدير لم يجده؟ أم كان بحثًا عن الحياة في عالم أكثر استقرارًا من عالم «الأندلس» و«المغرب»؟ هل ظن الشيخ أن «المشرق» هو موطن الإسلام، وأن وجوده في الأندلس مهدد بالزوال؟ هل كان توقع هذا الزوال مؤكَّدًا؟ أم كان مناخ الاحتقان الفكري الناتج عن سيطرة الفقهاء وتحالفهم مع الحكام ضد المفكرين والمتصوفة هو الحافز الأصلي للرحيل؟ تلك كلها أسئلة مشروعة. ولعلنا نجد بعض الإجابة في تحليلنا لهذا المناخ في الفصل الثالث عن «قيود المكان وضغوط الزمان». لكن الأمر يتطلب قبل ذلك إلقاء نظرة عابرة، أو طائرة، على طبيعة اللغة الصوفية والصعوبات الناجمة عن بنيتها المعقدة، ومحاولة استجلاء بعض أسباب هذه البنية، واقتراح بعض الحلول لإنجاز قراءة منتجة. هذا موضوعنا في الفصل القادم.