جدلية الوضوح والغموض
يسعى الصوفي إلى التواصل تواصلًا مباشرًا مع «الحق» سبحانه، ويطمح إلى عبادة «المعاينة» التي أشار إليها جبريل. من هنا نفهم أقوال شهيدة العشق الإلهي «رابعة العدوية» (ت. ١٨٥ﻫ/٨٠١م) التي ترى في العبادة التي مبناها «الخوف» من العقاب و«الطمع» في الثواب سلوكًا يماثل سلوك عبد السوء، الذي إذا خاف أطاع وإذا أمِنَ عصى. أما عبادتها هي فمبناها على «الحب»، الذي غايته الوصول إلى رضا المحبوب حتى يكشف للمحب الحُجُب التي تحول دونه ودون رؤية وجه المحبوب. فإذا انكشفت الحجب تحققت الرؤية:
ويمكن لنا بالمثل أن نفهم ما ورد على لسان «الحسين بن منصور الحلاج» (٣٠٩ﻫ/٩٢٠م) من شطحات، أساء فهمها وتأويلها فقهاء السلطة فأهدروا دمه، وهي أقوال مبناها العشق الذي تفنى فيه «إنِّيَّة» العاشق في ذات المحبوب، فلا تبقى إلا ذات واحدة:
وتجرِبة «حي بن يقظان» التي قصها «أبو بكر بن طفيل» — وسنتناولها في الفصل التالي —تقدم شاهدًا فلسفيًّا على ما يمكن أن ينشأ من تعارض بين التجرِبة الدينية الصوفية ومثيلتها العادية.
بسبب هذا التعارض في الفهم والتأويل بين التجرِبتين الدينيتين من جهة، وبسبب «العنف» المادي واللغوي الذي مارسته التجرِبة الدينية العادية — والفقهية بصفة خاصة — من جهة أخرى، كان على المتصوفة أن يُنْتِجوا لغتهم الخاصة بهم، والتي يمكن أن تحميهم من بعض هذا العنف. من هنا منشأ اهتمام المتصوفة باللغة؛ فاستعاضوا عن اللغة العادية بلغة الرمز والإشارة؛ سواء في تفسيرهم للقرآن الكريم أو في تعبيراتهم عن مواجدهم وتجارِبهم الصوفية ومكاشفاتهم الروحية في أحوالهم ومقاماتهم.
(١) مؤلفات الشيخ، نظرة عامة
يذكر ابن عربي هذا الكتاب الأخير في سياق الحديث عن طهارة الأعضاء الثمانية المكلفة من الإنسان، وهي العين والأُذن واللسان واليد والبطن والفرْج والرِّجْل والقلب، من حيث الظاهر والباطن معًا، وذلك في كتاب «الفتوحات المكية». يقول: «وقد بينَّاها بكمالها وما لها من الكرامات والأنوار والمنازل والأسرار في كتابنا المسمى مواقع النجوم. وما سُبقتُ، في علمي، في هذا الطريق إلى ترتيبه أصلًا. وقيدته في أحد عشر يومًا من شهر رمضان بمدينة المَرِيَّة سنة خمس وتسعين وخمسمائة. وهو يغني عن الأستاذ، بل الأستاذ محتاج إليه، فإن الأستاذ فيهم العالي والأعلى، وهذا الكتاب على أعلى مقام يكون الأستاذ عليه، ليس وراءه مقام في هذه الشريعة التي تعبدنا بها. فمن حصل لديه فليعتمد بتوفيق الله عليه؛ فإنه عظيم المنفعة. وما حملني على أني أعرِّف بمنزلته إلا أني رأيت الحق في النوم مرتين وهو يقول لي: «انصح عبادي»، وهذا من أكبر نصيحة نصحتك بها، والله الموفق وبيده الهداية.»
وهنا نلمس أول ملمح من ملامح مؤلفات الشيخ: إنها ليست كتبًا من تأليفه، بل هي رسائل طُلب منه أن يبلِّغها للناس. هكذا ليس كتاب «مواقع النجوم» إلا ثمرة من ثمار اللقاء مع «الحق» سبحانه في رؤيا تسلم فيها الكتاب ليبلِّغه للناس ناصحًا. أهمية الكتاب تكمن هنا في مصدر إلهامه، من هنا علو قدر ما يتضمنه من نصائح وإرشادات فوق قدر أي أستاذ أو معلم.
(٢) جدلية الغموض والوضوح، الفصوص والفتوحات
والحقيقة أن كتاب «الفتوحات» يتضمن — فيما يتضمن من معرفة موسوعية تكاد تشمل كل فروع الثقافة الإسلامية — توضيحًا لكثير من جوانب الغموض التي نلمسها في كتب ابن عربي المبكرة. لعلنا نشير هنا إلى أن الغموض الذي أشرنا إليه بخصوص كتاب «عنقاء مُغرِب» يجد شرحًا له في الباب ٣٦٦ من الفتوحات، وعلى هذا الباب اعتمدنا في تحليلنا في الفصل الثالث لمفهوم «المهدي المنتظر». لكن الجدير بالالتفات أن يكتب ابن عربي «الفصوص» في لغة غامضة بعد أن شرح فلسفته كاملة في «الفتوحات»، فهل لهذا علاقة بما نسميه هنا «جدلية الغموض والوضوح»؟ لنبدأ بتأمل بنية الكتابين:
يتكون كتاب «الفتوحات المكية»، بالإضافة إلى «الافتتاحية» و«الخطبة»، من ستة فصول يحتوي كل منها عددًا من الأبواب:
وينتهي الكتاب بقول المؤلف: «انتهى بحمد الله بانتهاء الكتاب على أمكن ما يكون من الإيجاز والاختصار على يدَي مُنشئه. وهو النسخة الثانية من الكتاب بخط يدي، وكان الفراغ من هذا الباب الذي هو خاتمة الكتاب بكرة يوم الأربعاء ٢٤ من ربيع الأول سنة ٣٦٣ﻫ. وكتب منشئه بخطه محمد بن علي بن محمد بن العربي الطائي الحاتمي وفقه الله: هذه النسخة ٣٧ مجلدًا، وفيها زيادات على النسخة الأولى التي وقفتها على ولدي محمد الكبير، الذي أمه فاطمة بنت يونس بن يوسف أمير الحرمين وفقه الله، وعلى عقبه وعلى المسلمين شرقًا وغربًا وبرًّا وبحرًا.»
ورغم الأسباب الكثيرة التي يذكرها أبو العلا عفيفي لصعوبة أسلوب ابن عربي في كتاباته، فإنه لم يطرح تساؤلًا ما عن سبب هذا التفاوت في الأسلوب بين «الغموض» و«الوضوح». فيما سبق لنا الاستشهاد به — خاصة من كتاب «عنقاء مُغرِب» — يفصح لنا ابن عربي أن أسلوبه يعتمد اعتمادًا واضحًا على توظيف جدلية «الغموض» و«الوضوح»، أو «الإظهار والكتمان» و«التعريض والتصريح» معًا.
لكن لماذا الصعوبة في الصياغة، والغموض والتعريض؟ هل هو الضن بالمعرفة أن تصل إلى عقل من لا يقدرها حق قدرها؛ فيتخذها ذريعة للتشويش على إيمان صاحبها عند «العامة»؟ ومَن هؤلاء الذين يخشى منهم المتصوفة عمومًا و«ابن عربي» على وجه الخصوص؟ هل هم «الفقهاء» كما يقرر كثير من الباحثين؟ هل هو الخوف على العامة من «المعرفة»؟ ولماذا الكتابة إذن إذا كان القصد «الإخفاء» لا «الكشف والبيان»؟ لا جدال في أن منشأ الصعوبة والغموض يجد تفسيره الأساسي في طبيعة التجرِبة الصوفية. أما «تعمد» الغموض فيمكن أن نتلمس تفسيره في العنف المادي الذي عانى منه المتصوفة الأوائل، هذا فضلًا عن العنف المعنوي الذي ظل «الفقهاء» يمارسونه ضد الصوفية حتى عصر ابن عربي وبعده.
(٣) مشكل التجرِبة أم مشكل اللغة، الخطاب الإلهي
لأن التجرِبة الصوفية في جوهرها تجرِبة انفتاح الأنا على المعنى الباطني للوجود كله، وهذا الانفتاح مرهون بالقدرة على التواصل بين الأنا والكون الذي هي جزء منه، فمن الطبيعي أن تمثل التجرِبة الصوفية تجرِبة موازية لتجرِبة «الوحي» النبوي. الفارق بين تجرِبة «النبي» وتجرِبة «الصوفي» أن التجرِبة الأولى تتضمن الإتيان بتشريع جديد، بينما يكون فهم الوحي النبوي بالاتصال بنفس المصدر هو مهمة «العارف» في التجرِبة الصوفية. هذا التشابه والتوازي بين التجرِبتين يؤسس تشابهًا لُغويًّا. فكلام الله الموحى به إلى الرسل والأنبياء يكشف ويصرح من ناحية، ويخفي ويومئ من ناحية أخرى. إنه يكشف ويصرح بما هو خطاب للناس كافة؛ وذلك بحكم تفاوت مستويات عقول الناس وأفهامهم. لكنه يومئ ويعرِّض بما هو خطاب قابل دائمًا لانفتاح المعنى في الزمان والمكان.
هذا التشابه بين التجرِبتين الصوفية والنبوية أفضى إلى تشابه الخطاب الصوفي، من حيث بنية لغته التعبيرية، بالخطاب القرآني. ويمثل التفسير الصوفي للقرآن الكريم مجال التقاء التجرِبتين: فمهمة التفسير «كشف المعنى» الخفي، الذي تمت صياغته في اللغة الإنسانية بكل ما تعانيه من قصور في التعبير عن المطلق والمتعالي. وإذا كان «الوحي» يجسد التقاء المطلق بالنسبي فقد كان ذلك الالتقاء ممكنًا خلال وسيط اللغة. في اللغة تنزل الإلهي للإنساني، من هنا كان الوحي «تنزيلًا»، وكان على اللغة الإنسانية أن تحتمل ازدواج بنيتها الدلالية. يسعى الصوفي في مجال تفسير القرآن إلى شرح الغامض و«إظهار» الباطن، في حين يبدو في تعبيره عن تجرِبته الصوفية ساعيًا إلى «الستر» و«الإخفاء» و«الغموض».
من أجل هذا يميز المتصوفة بين مصطلحي «الإشارة» و«العبارة»، حيث الإشارة مجرد إيحاء بالمعنى دون تعيين وتحديد، ومن شأن هذا الإيحاء أن يجعل «المعنى» أفقًا منفتحًا دائمًا. أما العبارة فهي تحديد للمعنى يجعله مغلقًا ونهائيًّا، الأمر الذي يتعارض مع حقيقة الكلام الإلهي الذي تتعدد مستويات الدلالة فيه تعددًا لا نهائيًّا. هذا التمييز بين مصطلحي «الإشارة» و«العبارة»، يتأسس على التمييز الذي يؤكده المتصوفة بين «المعنى الظاهر» للخطاب الإلهي وبين دلالته «الباطنة»؛ إذ «الظاهر» هو ما يدل عليه الخطاب بدلالة اللغة الوضعية في بعدها الإنساني، في حين أن «الباطن» هو المستوى الأعمق، مستوى اللغة الإلهية، «المشار إليه» بطريقة لا تنكشف إلا لصاحب التجرِبة الصوفية. وإذا كان فهم الفقهاء — أهل الظاهر — للخطاب القرآني لا يتجاوز حدود الدلالة الوضعية للغة في بعدها الإنساني، فالعارفون وحدهم هم القادرون على النفاذ إلى ما يشير إليه الخطاب الإلهي من معانٍ ودلالات إلهية عميقة (باطنة).
إذا كان منهج التفسير الإشاري نابعًا من تصور ثنائي لبنية الدلالة في الخطاب الإلهي، فإن استخدام الإشارات في تعبير المتصوفة — وابن عربي خاصة — عن تجارِبهم ينطلق من نفس التصور. والباعث في الحالتين واحد هو محاولة تحاشي التعرض للعنف المادي واللغوي اللذين كانا أخطر أسلحة الفقهاء — ومن ورائهم السلطة السياسية أحيانًا — في اضطهاد التصوف. في هذا البُعْد يتخذ المتصوفة من مصطلح «الإشارة» دلالة على نهجهم في «ستر» معارفهم عمن ليسوا أهلًا لها. ورغم ما يبدو من تعارض في توظيف المصطلح، مرة بمعنى «التفسير» والكشف وأخرى بمعنى «الستر» و«الإضمار» فالحقيقة أن هذا التعارض شكلي خالص. فاللغة الإلهية ذاتها اتخذت منحى الستر في الخطاب القرآني، وهذا المستور هو الذي يحتاج للكشف عنه بفك شَفرة «الإشارات». لكن التعبير عن هذا المستور الدلالي لو اتخذ منحى الوضوح التام لكان الصوفي يرتكب بذلك خطيئة عظمى؛ تلك هي خطيئة مخالفة الهدف من وراء الستر الإلهي. وبعبارة أخرى: إذا قام الصوفي بفك شَفرة الخطاب الإلهي يكون قد قضى على «الحكمة» التي اقتضت هذه البنية الدلالية المزدوجة، وهي مناسبة الخطاب الإلهي للمستويات المختلفة من عقول البشر، بوصفه خطابًا موجهًا للناس كافة.
ولما كان التعبير عن التجرِبة الصوفية هو في الحقيقة كشف لمعنى الوجود ومعنى «الخطاب» الإلهي معًا كان استخدام نهج «الستر» بتوظيف الإشارات استخدامًا منطقيًّا في الحالتين. وبعبارة أخرى يصبح استخدام منهج «الستر» في لغة الصوفي المعبرة عن تجرِبته الكشفية تقليدًا للنهج الإلهي في خطابه. ومن السهل أن يلاحظ القارئ لأي تفسير من تفاسير المتصوفة أن «الوضوح» ليس هدفًا ولا غاية، بل الهدف والغاية حَفْز المتلقي على الدخول في المغامرة. يقول أبو حامد الغزالي (ت. ٥٠٥ﻫ/١١١١م): المشهد هناك لمن يريد أن يراه. ويقول أيضًا:
«ولا أشد من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته، العارفين به من طريق الوهب الإلهي، الذين منحهم الله أسراره في خلقه، وفهَّمهم معاني كتابه وإشارات خطابه، فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل عليهم السلام. ولما كان الأمر في الوجود والواقع على ما سبق به العلم القديم. عَدَل أصحابنا إلى الإشارات، كما عدلت مريَمُ عليها السلام، من أجل أهل الإفك والإلحاد، إلى الإشارة. فكلامهم — رضي الله عنهم — في شرح كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إشارات، وإن كان ذلك حقيقةً وتفسيرًا لمعانيه النافعة. وردَّ (الله) ذلك كله إلى نفوسهم، مع تقريرهم إياه في العموم، وفيما نزل فيه كما يعلمه أهل اللسان، الذين نزل الكتاب بلسانهم؛ فعمَّ به سبحانه عندهم الوجهين، كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ يعني الآيات المنزلة في الآفاق وفي أنفسهم؛ فكل آية لها وجهان: وجه يرونه في أنفسهم، ووجه يرونه فيما خرج عنهم، فيسمُّون ما يرونه في أنفسهم «إشارة»؛ ليأنس الفقيه صاحب الرسوم إلى ذلك، ولا يقولون في ذلك إنه تفسير وقايةً لشرهم وتشنيعهم في ذلك بالكفر عليه؛ وذلك لجهلهم بمواقع خطاب الحق. واقتدوا في ذلك بسُنن الهدى؛ فإن الله كان قادرًا على تنصيص (التعبير عنه نصًّا؛ أي بلا حاجة إلى تفسير) ما تأوَّله أهل الله في كتابه، ومع ذلك فما فعل، بل أدرج في تلك الكلمات الإلهية، التي نزلت بلسان العامة، علوم معاني الاختصاص التي فهمها عباده حين فَتَحَ لهم فيها بعين الفهم الذي رزقهم.» (الفتوحات ١: ٢٧٩)
هكذا يصبح منهج الستر باستخدام اللغة الإشارية منهجًا اتباعيًّا للمنهج الإلهي، الذي استخدم لغة الستر والإشارة في خطابه. والباعث هنا كما هو الباعث في لغة الخطاب الإلهي هو التلاؤم مع مستويات العقول. ويبقى مع ذلك فارقان يجب التنبيه إليهما؛ الفارق الأول: أن لنهج الستر عند المتصوفة هدفًا وقائيًّا ضد علماء الرسوم وأهل الظاهر. الفارق الثاني: أن نهج الستر عندهم يرتد إلى مأزق «ضِيق اللغة»، وهو مأزق لا وجود له في الخطاب الإلهي، إذ لو شاء الله أن يعبِّر عن كل الحقائق بأسلوبٍ مفهومٍ لكل أحدٍ لَفَعَل، ولكنه شاء ألا يفعل. مأزق الصوفي أن معرفته أوسع من لغته من جهة، وأنه من جهة أخرى لا يريد أن يصطدم بالعالم، الذي ليس على استعدادٍ بعدُ لفهم الحقائق التي يعرفها هو. هذا المأزق الأخير، أو شبيه به، ينسبه المتصوفة إلى النبي ﷺ وإلى الأفراد المعدودين من جيل الصحابة، الذين كتموا معارفهم عن العامة رحمة بهم:
ويُنسَب مثل هذا النهج في الستر أيضًا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإلى كلٍّ من أئمة الشيعة «جعفر الصادق» و«علي زين العابدين».
وكما قال علي رضي الله عنه، حين علَّم النَّقَلَة: «إن هاهنا — وضرب على صدره بيده — لعلومًا جمَّة، لو وجَدَتْ لها حملة.» وكما قال ابنه الذكي الحَبْر السَّنِي:
(٤) البنية القرآنية ومؤلفات الشيخ
لعل من أهم الأبعاد الجديرة بالالتفات في أسلوب ابن عربي بُعْدًا كنت قد تنبهت إليه بعد عشر سنوات من إنجاز دراستي الأولى عنه في سنة ١٩٨١م. كنت بصدد المشاركة في ندوة في «إشْبِيلِيَة» بإسبانيا بعنوان «الأندلس ملتقى ثلاثة عوالم» سنة ١٩٩٢م، واخترت أن تكون مساهمتي في الندوة بحثًا عن دور الأندلس في تشكيل الصيغة الفكرية لفلسفة «ابن عربي» الصوفية. وفي أثناء إعدادي لهذا البحث تنبهت إلى سيطرة البنية «القرآنية» — كنَموذج ونمطٍ سَرْديٍّ متميز — على بنية كتاب «الفتوحات المكية». لا أقصد بهذا مجرد الحضور الطاغي للاستشهادات القرآنية المباشرة، أو غير المباشرة، وهي أكثر من أن تُحصَى. بل أعني ما هو أكثر من الحضور. أعني تَعَمُّد «ابن عربي» الانتقال من موضوع إلى موضوع آخر تقليدًا للبنية القرآنية التي يتحرر فيها السرد من وحدة الموضوع تحررًا تامًّا.
ومن المعروف أن الترتيب الآني للقرآن في المصحف لا يتماثل مع ترتيب نزول الوحي ﺑ «الآيات» و«السور» على النبي عليه السلام. ولا نزال لا ندري على وجه اليقين حتى الآن لماذا اتخذ الترتيب النهائي — الحالي — شكلًا مخالفًا لترتيب النزول، وإن كنا نعلم أن الترتيب الحالي للقرآن جعل الموضوعات مفرقة. فإذا احتاج باحث لدراسة موضوع بعينه في القرآن فإن عليه أن يجمع الآيات التي تتناول هذا الموضوع من مختلف سور القرآن، ثم يضمها إلى بعضها البعض، قبل أن يجري عليها التحليل والفحص. وقد كان من أهم آثار هذا الاختلاف بين «ترتيب النزول» و«ترتيب التلاوة» أن أصبح هناك نمطان من «التفسير»: نمط يتتبع السور والآيات حسب ترتيب المصحف، وهذا هو النمط السائد، والنمط الثاني من التفسير هو ما أصبح معروفًا باسم «التفسير الموضوعي» وهو الذي يجمع من الآيات ما يتصل بموضوع بعينه ويضمها إلى بعضها البعض كما سبق القول.
ولأن «ابن عربي» يصر على أن كتبه ومؤلفاته ليست من الكتابات والتآليف العادية، بل هي إلهامات ورؤًى تلقاها من الله وأُمر بإبلاغها للناس، فمن الطبيعي ألا تخضع في ترتيب فصولها وأبوابها لقواعد التأليف المعتادة. إنها في الحقيقة تتبع نهج الترتيب القرآني. بعبارة أخرى يصر «الشيخ الأكبر» على أن يقنع قارئه بأنه ليس مسئولًا عن هذا الترتيب للكتاب؛ لأنه ببساطة لم يؤلفه من فكره الخاص. إن اسم الكتاب «الفتوحات المكية» يشير فقط إلى «المكان» الذي تنزلت فيه على الشيخ ملائكة «الإلهام» بالأفكار التي ليس له فيها إلا فضل صياغتها، أي إعطائها الغطاء اللغوي. يقول عن كتاب «الفتوحات» في المقدمة:
«الأغلب فيما أودعته هذه الرسالة ما فتح الله به عليَّ عند طوافي بيته المكرم، أو قعودي مراقبًا له بحرمه المشرَّف المعظم، وجعلتها أبوابًا شريفة، وأودعتها معاني لطيفة.» ويذكر في المجلد الثاني أن كتابه لا يخضع في ترتيب فصوله وأبوابه لما ينبغي أن تكون عليه الكتب من ترتيب منطقي وانتظام فكري يبدأ بالمقدمات وينتهي بالنتائج، ويعلل ذلك بأمرين: الأمر الأول أن الترتيب والتبويب ليس من صنعه هو؛ فهو مجرد «مُتلقٍّ» لما يتجلى على قلبه من معارف. الأمر الثاني أن ترتيب كتابه يمكن أن يقارن بترتيب سور القرآن الكريم وآياته، وهو ترتيب له منطقه الخاص. وفي هذين الاعتبارين الأول والثاني يكاد الشيخ الأكبر أن يقول إن مؤلفاته تخضع في بنائها وأسلوبها السردي لنفس القوانين التي تنبني عليها الكتب المقدسة عامة والقرآن الكريم بصفة خاصة.
يقول الشيخ عن ترتيب كتاب الفتوحات في المجلد الثاني، وهو بصدد الحديث عن «علم الأصول» أو «أصول الأحكام»، أن حق هذا الموضوع أن يوضع في الباب السادس والستين من المجلد الأول «في معرفة سر الشريعة ظاهرًا وباطنًا وأي اسم إلهي أوجدها»، لأنه يتصل به، «لكن» — يستدرك الشيخ — «هكذا وقع فإنا ما قصدنا هذا الترتيب عن اختيار. ولو كان عن نظر فكري لم يكن هذا موضعه في ترتيب الحكمة، فأشبه آية قوله تعالى: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى» بين آيات طلاق ونكاح وعدة ووفاة تتقدمها وتتأخر عليها. فيعطي الظاهر أن ذلك ليس موضعها، وقد جعل الله ذلك موضعها لعلمه بما ينبغي في الأشياء، فإن الحكيم من يعمل ما ينبغي لما ينبغي، وإن جهلنا نحن صورة ما ينبغي في ذلك. فالله رتب على يدنا هذا الترتيب فتركناه ولم ندخل فيه برأينا ولا بعقولنا، فالله يُملي على القلوب بالإلهام جميع ما يسطره العالم في الوجود؛ فإن العالم كتاب مسطور إلهي» (الفتوحات ٢: ١٨١).
إن ابن عربي ينظر إلى كتبه بوصفها تنزيلًا إلهيًّا لا يخضع ترتيبها لعقل الكاتب ولا لنظر المؤلف، بل يتبع نظام ترتيبها نسق الكلام الإلهي المنزل. والمثال الواضح لذلك هو مثال الآية التي تأمر المسلمين بالمحافظة على الصلوات وتخص بالذكر «الصلاة الوسطى»، والسياق الذي وردت فيه في القرآن هو سياق الزواج والطلاق وموقف الزوجة في حالة وفاة الزوج إلخ. إن الله الحكيم يعلم مواضع الكلم، وعلمنا لا يرقى إلى إدراك حكمة هذا الترتيب. ولأن مؤلفات ابن عربي ليست من وضعه فهي تخضع في ترتيبها لحكمة الواضع الذي أنزلها على قلبه. ليس هذا فحسب، فكل كلام مسطور في العالم ليس في الحقيقة إلا وضعًا إلهيًّا، وإن كان لا يعلم ذلك إلا العلماء. أليس الكون كله من أعلاه إلى أدناه هو كلام الله المسطور في الوجود، كما أن «القرآن» الكريم هو كلامه المسطور في المصحف.
هذا التمييز بين «المعروف» بالكشف والإلهام وبين «المسموح» بالبوح به فقط تمييز هام في الفكر الصوفي منذ تعرَّض الصوفية للمحاكمات والقتل بسبب بوحهم بالأسرار الإلهية التي لا تطيقها ولا تتحملها لا عقول العامة فقط، بل لا تطيقها بالأساس المؤسسات الدينية الرسمية. من هنا ليس مستغربًا أن يفتتح ابن عربي فتوحاته — بعد «الخطبة» التي سنناقش مغزاها ودلالتها في فقرة مستقلة — بأن يورد أقوالًا مثل ما يُنسب إلى الصحابي «أبي هريرة» الذي قال: «حفظت عن رسول الله ﷺ وعاءين من علم، أما أحدهما فقد بثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقُطِع مني هذا الحلقوم.» وهذا القول يحرص ابن عربي على ذكر أسماء شيوخ الصوفية الذين تَداولُوه ورَوَوه بعضهم عن بعض، كما يؤكد وروده في «البخاري: كتاب العلم» عن الصحابي «أبي ذر الغفاري» (الفتوحات ١: ٣٤). وكذلك يورد ما يُروى عن «ابن عباس» حين سئل عن تفسير قول الله في القرآن: اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لو ذكرت تفسيره لرجمتموني، أو لقلتم إني كافر. وهو يستند إلى استشهاد «أبي حامد الغزالي» في كتاباته الصوفية بمثل تلك المرويات. وبالمثل يورد الشعر الذي سبق أن ذكرناه، والذي يُنسب إلى «الرِّضا» حفيد «علي بن أبي طالب»:
هذا بالإضافة إلى شاهد قرآني شديد الأهمية عند الصوفية: قصة «موسى» النبي مع «العبد الصالح» الذي أوتي علمًا من عند الله لم يؤتَه «موسى»، وهي القصة التي وردت في سورة «الكهف»، وسنحللها في الفصل التالي.
وفي مقدمة كتاب الفتوحات لا نعجب إن كان الشيخ الأكبر يقول عن نفسه إنه هو «القرآن» وهو «السبع المثاني»:
(٥) الغموض المتعمَّد
يبدو في خطاب «ابن عربي» أحيانًا أن الصعوبة في التعبير منشؤها «غموض» الأفكار، فلا تتسع لها مواضعات اللغة المتداولة. ولكن يبدو أحيانًا أخرى أنه يتعمد «الغموض». وفي كتابه الموسوعي «الفتوحات المكية» يستهل خطابه بتأكيد هذه النقطة؛ إذ يبدأ الكتاب بتقرير عقيدة العامة من المسلمين، ثم يتلوها بعقيدة «خواص أهل الله»، ثم يحدثنا عن اضطراره لبعثرة عقيدة «خلاصة الخاصة» في ثنايا الكتاب، بحيث يصعب العثور عليها بشكل منتظم:
صحيح أن «ابن عربي» يبعثر فلسفته عامدًا متعمدًا في ثنايا كتبه، حتى إن محاولة تقديم عرض متناسق لأفكار الشيخ تضطر الباحث إلى الدوران حول نفسه مع أطروحات «ابن عربي» عدة مرات قبل أن يستطيع حسم «نقطة البداية» لعرضه. وأيًّا كانت «نقطة البداية» التي يبدأ منها الباحث — أي باحث — عرضه لفكر الشيخ، فإن النقطة الأولى تحيله إلى نقطة تليها؛ فالتي تليها، ثم التي تليها، وهكذا حتى يجد الباحث نفسه في النهاية عائدًا لنقطة البداية بعد أن يُتم دورة كاملة في استعراض فكر الشيخ. يمكن القول إن الباحث يستطيع دائمًا أن يعثر بسهولة على نقطة بداية، وليس من السهل بأي شكل الوصول إلى نقطة «النهاية»، بل الأمر من أصعب الصعوبات. إن فكر «ابن عربي» صيرورة تبدأ ولا تنتهي؛ فمثله في بنائه الدائري اللانهائي مثل التجليات الإلهية التي لا أول لها ولا آخر، لا بداية لها ولا نهاية.
لكن إذا كان «الغموض» حالة محايثة للتجرِبة ذاتها فلماذا إصرار ابن عربي على «السرد» رغم الصعوبة التي لا يكف عن الشكوى منها؟ لا شك أن الإجابة يمكن أن نجدها فيما سبق أن حاولنا شرحه لجدلية الغموض والوضوح، بأبعادها المركبة، إن في بنية الوجود أو في بنية التجرِبة أو في بنية اللغة.
حين يقرر الشيخ في مفتتح الفتوحات من أن عقيدته هي بذاتها عقيدة أهل السنة من الأشاعرة، ويُشهِد القارئ على ذلك. ثم يقرر، من ناحية أخرى، أن هذه العقيدة هي عقيدة العوام، التي تختلف عن عقيدة الخاصة، والتي تختلف بدورها عن عقيدة «خاصة الخاصة» من أهل التحقيق. فكأن ابن عربي لا يحاول أن يميز بين عقائد ثلاثٍ متغايرة بقدر ما يحاول التمييز والفصل بين مستويات من الفهم والإدراك لنفس الأصول العقيدية. ولا يتركنا الشيخ، بعد هذه المقدمة، دون أن يتلوها بخطبة تشبه «فاتحة الكتاب»، القرآن الكريم، من حيث تضمنها بطريق التركيز والاختصار لمجمل ما هو مفصل في القرآن كله. وهي تستحق من هذه الزاوية تحليلًا خاصًّا؛ لأنها تمثل عصارة الكتاب في أسلوب سردي لرؤيا رآها الشيخ.
الجانب الثاني: أن الخطبة من حيث بنيتها السردية «رؤيا»، وأهمية ذلك أن «الرؤى» تمثل في الخطاب الصوفي عامة، وفي خطاب الشيخ الأكبر بصفة خاصة، أداة هامة من أدوات التعبير ووسائله؛ لأنها أداة قادرة على «تشخيص» الرمزي، و«تجسيد» المجرد. إنها قادرة على أن تقول ما لا يمكن قوله بلغة السرد الواقعي العادي. وليس الأمر عند «ابن عربي» بصفة خاصة مجرد تفضيل أسلوب سردي على آخر، بل إن «الرؤيا» هي الأداة الوحيدة الممكنة للجمع بين الحقائق، بوصفها أداة «التخييل» الذي تقوم عليه بنية الوجود من أعلاه إلى أدناه. وإذا كانت «الحيرة» هي الصفة المعرفية التي تعكس «الحقيقة» — حقيقة العالم الذي يمكن أن ننظر إليه فنراه «خلقًا»، ويمكن أن نراه في الوقت نفسه «حقًّا»، أو بعبارة أخرى، نراه إلهًا وإنسانًا في الوقت نفسه، ومكلِّفًا (اسم فاعل) ومكلَّفًا (اسم مفعول) في آن واحد — فلغة «الرؤيا» والحلم هي اللغة الوحيدة الممكنة للتعبير. وكما أن «الوجود» في حقيقته «رؤيا» تحتاج للتأويل، فرؤى «ابن عربي» يمكن أن تمثل لقارئه مدخلًا لفهم عالمه ولتحليل خطابه.
يقدم «ابن عربي» في خطبة الكتاب مفهومه للوجود — وللحيرة المعرفية في إدراك حقيقته — على النحو التالي:
فليس إلا أشباح خالية على عروشها خاوية. وفي ترجيع الصدى سرُّ ما أشرنا إليه لمن اهتدى.
إنه أسلوب في التأليف — أو لِنَقُل: أسلوب في التدوين — لا بديل له عند «الصوفية» بصفة عامة، وعند «ابن عربي» على وجه الخصوص. فكتاب «الفتوحات» ليس تأليفًا، هكذا يؤكد الشيخ كما سبقت الإشارة، بل هو فتوحات وإلهامات ورؤًى قلبية. إنها تنزيلات إلهية، وتعبير عن اللقاء بين السماوي والأرضي، أو بين المقدس والدنيوي — أو لنقُل بلغة ابن عربي: بين «الحق» و«الخلق» — في حضرة «الخيال»، الذي تنتمي إليه «الخطبة» ببنيتها السردية الرمزية الكاشفة والملغزة في الوقت نفسه. ثم إن هذه الفتوحات القلبية والإلهامات الإلهية تنتمي مكانيًّا إلى الحرم المقدس في أم القرى «مكة»، حيث «الكعبة»، أول بيت وُضِع للناس على ظهر الأرض للعبادة، البيت الذي رفع «إبراهيم» و«إسماعيل» قواعده بعد أن أوشكت على الاندثار، وهو البيت الذي أُمِر «إبراهيم» أن يؤذن للناس بالحج ليَعمُروا حوله، وذلك استعدادًا لهبوط الوحي على «محمد»، وهو نفس الوحي الذي تنزَّل بالفتوحات على قلب «محمد بن العربي» في نفس المكان، وأثناء طوافه حول البيت.
في العالم السردي للخطبة إيحاء بكل تلك المعاني والدلالات. إنها تبدأ بتسبيح الله وتمجيده، ثم تُثَنِّي بالصلاة على النبي محمد مبرزةً الصفات والخصائص التالية في شخصيته:
الكلمة المحمدية — أو الحقيقة المحمدية — ليست هي شخصية محمد التاريخية، أي ليست «محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف» الذي وُلِد بمكة حوالي سنة ٥٧٠ ميلادية، بل هي «سر العالم ونكتته»، وليس محمد التاريخي إلا أحد تعبيراتها أو تجلياتها التاريخية في العالم. هذه «الحقيقة/الكلمة» وُجدت قبل آدم، بل آدم المخلوق من الطين والماء هو أحد تجلياتها التاريخية كذلك. هذا من الوجهة الوجودية، أي أُنطولوجيًّا.
أما من الناحية المعرفية — إبستمولوجيًّا — فابن عربي يضيف، في سياق الصلاة على محمد، إلى قوله السابق أن محمدًا هو:
تشير كلمة «العلو» هنا إلى مطلب الصوفي في الارتقاء المعرفي، وهو «الطريق» الذي مهده محمدٌ بتجرِبة «معراجه» إلى السماوات العلى، وهي التجرِبة التي يصفها ابن عربي في هذه الخطبة على النحو التالي واصفًا محمدًا بأنه:
ومن الممكن للقارئ أن يتساءل: إلى أي حدٍّ تُعتبر صياغة ابن عربي لمفهوم «الحقيقة المحمدية» — أو «الكلمة المحمدية» — نوعًا من الأسلمة لمفهوم «الكلمة» في اللاهوت المسيحي؟ وللسؤال مشروعيته من منظور تصورنا لمجمل مشروع ابن عربي بأنه في جوهره محاولة لصياغة مفهوم للدين جامعٍ لكل المعتقدات، سواء منها الكتابية أو غير الكتابية.
ليس من قبيل المبالغة أن يتصور الدارس أن الصياغة اللاهوتية المسيحية لمفهوم «الكلمة»، كما صاغها لأول مرة «يوحنا» في مفتتح «إنجيله»، وجدت صدًى لها في القرآن الكريم، الذي وصف «عيسى» بأنه «روح الله» و«كلمة» منه ألقاها إلى «مريَمَ». لكن القرآن الكريم لم يَخُص عيسى وحده بهذه الصفة — صفة الكلمة — فكلمات الله لا نهاية لها، ولا يمكن الإحاطة بها علمًا أو تدوينًا، حتى لو كانت كل البحور والمحيطات حبرًا، ولو كانت كل أشجار العالم أقلامًا. وكل شيء في هذا العالم، كبيرًا كان أو صغيرًا، أوجده الله بالكلمة «كن»؛ وبهذا المعنى يصبح الكون كله من أعلى مراتبه إلى أدناها «كلمات». من هذا الكنز القرآني يغترف ابن عربي فيجعل من «الكلمة المحمدية» الأصل والعلة والغاية، وبهذا يؤسس لاهوتًا إسلاميًّا لا يمثل بديلًا للاهوت الكلمة المسيحية بقدر ما يستوعبه داخل بنيته. والدليل على تلك الطبيعة الاستيعابية المكانةُ التي تحتلها الكلمة العيسوية، لا فقط بصفتها النبوية الرسولية، بل أيضًا بصفتها العرفانية: مفهوم «عيسى» خاتم الولاية العامة كما سيتضح من الخطبة كذلك.
بعد هذه السطور المثقلة بالرموز والمحملة بالإيحاءات والإحالات عن «الحقيقة المحمدية» ومكانتها وجوديًّا ومعرفيًّا، يواصل ابن عربي خطبته كاشفًا لنا عن مكانته من تلك الحقيقة. يحكي لنا ابن عربي أنه قد شاهد محمدًا خلال كتابته خطبة كتاب الفتوحات.
المشهد من بعيد:
المشهد القريب:
والمشهدان معًا يحتلان على مستوى البنية السردية واللغوية جزءًا من جملة شرطية، هذا نصها:
ومعنى تداخل المشهدين — البعيد والقريب — أن ابن عربي في رؤياه القلبية يستوعب الوجود التاريخي للأمة المحمدية بمعناها الواسع الشامل، وذلك حين يرى «محمدًا» عليه السلام وأمامه الرسل والأنبياء جميعًا مصطفون (مفهوم الأمة الواسع) ومحاطًا بأمته (بالمفهوم التاريخي) في الوقت نفسه. أما المشهد القريب فيجسد بدوره أيضًا الالتقاء بين «الزماني» — وجود الخلفاء الأربعة محيطين بمحمد من الجهتين — «واللازماني»، الذي يتمثل في جثو عيسى بين يدَي محمد يحدثه. يضع ابن عربي نفسه داخل المشهد القريب الجامع للخلفاء الراشدين الأربعة يتوسطهم النبي محمد: يقف «أبو بكر الصديق»، الخليفة الأول، عن يمينه، ويقف «عمر بن الخطاب»، الخليفة الثاني عن يساره، بينما لا نعرف على الوجه التحديد موقع الخليفتين: الثالث «عثمان بن عفان» والرابع «علي بن أبي طالب». وجدير بالالتفات أن الخليفة الثالث «عثمان بن عفان» يبدو في المشهد مشغولًا بشأنه لا علاقة له بما يجري حوله، في حين أن الخليفة الرابع «علي بن أبي طالب» مشغول بترجمة ما يقوله «الختم» الواقف خلف محمد. الختم هو «عيسى ابن مريَمَ»، فهو وفقًا لتصور ابن عربي للولاية — أو «النبوة المكتسبة» — خاتم الولاية العامة. لكن ما هو «حديث الأنثى» الذي يفضي به الختم إلى محمد، وما الحاجة للترجمة؟ هل يتحدث «عيسى» في هذا المشهد بلغته الأم الآرامية أو العبرية؟ ولماذا يكون «عليٌّ» هو المترجم؟ لا جواب عن مثل هذه الأسئلة، ولعل الأمر هنا يتعلق بالأسرار التي لم يُسمح لابن عربي بالإفصاح عنها.
نعود إلى الجملة السردية المتضمِّنة للمشهدين، وهي الجملة الشرطية التي تبدأ بمشاهدة ابن عربي للنبي، الذي التفت بدوره فرأى ابن عربي يقف في المشهد القريب وراء «عيسى» أو «الختم». وهنا يشرح لنا ابن عربي أنه استحق هذا الموقع — خلف الختم — في هذا المشهد لوجود «حكم مشترك» يجمع بينهما. وقد سبق أن بينا أن ابن عربي يذكر في «الفتوحات» فقط، كما يذكر في «الفصوص» أنه هو لا غيره «خاتم الولاية المحمدية»، وهنا وجه الشبه والاشتراك في الحكم بينه وبين «عيسى» الذي يمثل «خاتم الولاية العامة». عند هذا الالتفات تبدأ المحاورة بين النبي وابن عربي، يقول النبي أولًا مخاطبا «الختم»، فيما يسرد لنا ابن عربي:
هذه شهادة النبي لابن عربي بالقرابة التي تربطهما، وهي ليست القرابة العصبية، وهي موجودة، فابن عربي ينتسب في نسبه البعيد إلى قبيلة «طيء» فهو من نسل «حاتم الطائي»، وليس مجرد التشابه في الاسم — وكلاهما «محمد» — بل هي قرابة «ذاتية»؛ ففي ابن عربي شعرة من محمد النبي، وهي أنه «ختم ولايته» على الأرض.
لننتقل الآن إلى مشهد «المنبر» الذي طلب النبي محمد من عيسى «الختم» أن ينصبه لمحمد «ابن عربي». في وصف هذا المنبر يؤكد ابن عربي أن ولايته وختمه للولاية المحمدية لا تعني أنه أكثر من «وارث» للعلم النبوي، وأن مكانته — ومكانة أي ولي مهما بلغت — لا ترقى أبدًا إلى مرقى «ختم النبوة» محمد. إن هذا «المنبر»، الذي نصبه «الختم» عيسى ليرقى فيه ابن عربي تنفيذًا لطلب «محمد»، هو «منبر المقام المحمدي»، الذي يؤهل من يرقى فيه لوراثة العلم النبوي. لكن الوراثة هنا ليست وراثة مباشرة؛ فالأنبياء جميعًا والرسل منذ «آدم» حتى «عيسى» آخر الرسل قبل «محمد» هم الورثة المباشرون للمقام المحمدي؛ أي لحقيقة محمد، أو للكلمة المحمدية. أما الأولياء فيرثون العلم النبوي المحمدي وراثة غير مباشرة، أي عن قلوب الأنبياء الآخرين. ومحمد بن عربي يريد أن يبرز ويؤكد — من خلال رمز المنبر الذي نصبه له الختم — أن وراثته للكلمة مستمدة من روح «عيسى»، خاتم الولاية العامة من جهة، وآخر الرسل قبل محمد من جهة أخرى. يعني أن نصب «المنبر» كان عن أمر محمد لعيسى؛ فعيسى هو الناصب للمنبر ومحمد هو الآمر له.
تتأكد دلالة الميراث غير المباشر من خلال بيان ابن عربي لقارئه أنه لا يضع قدمه فوق أثر القدم النبوي في ارتقائه للمنبر، بل يجعل بين قدمه هو وبين درجات المنبر «حجابًا»، حتى لا يقع القدم على القدم:
الإشارة السريعة في السطر الأخير لإنكار «موسى» على «الخضر» تحيل إلى الدليل النصي من القرآن الذي يبني على أساسه المتصوفة عمومًا، وابن عربي على وجه الخصوص، التمييز بين علم «النبوة» وعلم «الولاية»، وقد تعرضنا لتحليل القصة القرآنية في الفصل الأول.
كانت تلك مقدمة «الخطبة» التي سُمح للشيخ أن يلقيها في حضرة النبي والصحابة والختم؛ فأفاض فيها في ذكر نشأة العالم ومنتهاه حتى وصل إلى ختامها بمخاطبة الجمع قائلًا:
بهذا تستعيد الخطبة المشهد البعيد — حضور الرسل والأنبياء — فتجعله قريبًا، لكن ابن عربي يكتفي بالإشارة إلى ستة فقط منهم، على الترتيب التالي:
-
(١)
آدم: أول الآباء والزمردة البيضاء.
-
(٢)
إبراهيم: الأب الثالث والنور المبين.
-
(٣)
عيسى: اللجين الأخلص.
-
(٤)
يوسف: ياقوتة النفس الحمراء.
-
(٥)
داود: الإبريز الأحمر.
-
(٦)
موسى: الياقوتة الصفراء.
من المهم هنا ملاحظة أن وصف الأنبياء يجمع بين درجات من النور ومستويات من الجواهر تعكس كل منها درجة النور، فآدم «الزمردة البيضاء» وإبراهيم هو «النور المبين»، يتلوه عيسى «اللجين»، ثم يوسف «الياقوتة الحمراء» وداود «الإبريز الأحمر»، وأخيرًا موسى «الياقوتة الصفراء». هذه الأنوار كلها، على تفاوت مستوياتها، تستمد من مشكاة النور الإلهية، أو بالأحرى من «مشكاة الأنوار»، النظرية التي صاغها أبو حامد الغزالي في رسالته المشهورة بهذا الاسم. وابن عربي يتوسع في شرح درجات الأنبياء بوصفهم «فصوص الحِكَم» في كتابه المعنون بهذا الاسم. لكن ثمة ملاحظة أخرى لا يمكن تجاهلها تتعلق بتقديم «عيسى» في المشهد على كل أنبياء بني إسرائيل مثل يوسف وداود وموسى رغم أنه، من الوجهة التاريخية، آخر أنبيائهم. وربما يمكن تفسير هذا الترتيب بأنه يعتمد على مستويات «الولاية» لا على مراتب الرسالة، وطبقًا لهذا التصنيف يمكن أن يتقدم عيسى بوصفه خاتم الولاية العامة على كل الأولياء/الأنبياء باستثناء الآباء الثلاثة، الذين ذكر منهم ابن عربي هنا الأول والثالث فقط. أما الثاني فقد ذكره في فص الحكمة الشيئية في كتاب «الفصوص».
يواصل ابن عربي:
ثم أظهرتُ أسرارًا، وقصصتُ أخبارًا، لا يسع الوقت إيرادها، ولا يعرف أكثر الخلق إيجادها. فتركتها موقوفة على رأس منبعها، خوفًا من وضع الحكمة في غير موضعها.
ثم رُدِدت من ذلك المشهد النومي العلي إلى العالم السفلي، فجعلت ذلك الحمد المقدس خطبة الكتاب. (الفتوحات ١: ٦)
إذا كانت الخطبة تمثل الجملة الافتتاحية في اللحن، أو تمثل فاتحة الكتاب كما قلنا، فكيف يمكن الإلمام وصفيًّا بكنه اللحن الذي كانت تلك جملته الافتتاحية. ومن الصعب — إن لم يكن من المستحيل — ادعاء أن أي كتاب قادر على الكشف عن البناء الشاهق لفكر ابن عربي.