اللقاء بابن رشد
كانت تجرِبة الشيخ الروحية قد بدأت بالفعل وهو في إشْبِيلِيَة — حسب تحليلنا في الفصل الأول — من خلال رؤيا غيرت مسار حياته خلال فترة مرض في شبابه المبكر. وقد أثار هذا التحول الروحي نظر أبيه أولًا؛ ثم إعجاب صديق الأب «ابن رشد» ثانيًا. كان ابن رشد قاضي إشْبِيلِيَة خلال الفترة من ٥٦٥–٥٦٧ﻫ/١١٦٩–١١٧١م، ثم عُيِّن بعد ذلك قاضيًا في قرطبة، حيث التقى به الفتى «ابن عربي» كما سنرى. ولعل من آخر ما شاهده ابن عربي في الأندلس قبل رحيله النهائي، هو جنازة الفيلسوف قاضي قرطبة «ابن رشد» سنة ٥٩٥ﻫ، فهل كان ابن رشد آخر خيط يربطه بالأندلس وبالمغرب، ولما انقطع الخيط بوفاة ابن رشد قرر الرحيل بلا عودة؟
لعل «المحنة» التي تعرض لها فيلسوف قرطبة سنة ١١٩٥م بسبب حاجة الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور إلى تأييد «الفقهاء» — وتأييد العامة بالتالي — في حروبه ضد الملوك الكاثوليك — وهي محنة نفيه ومصادرة كتبه، وما تبع ذلك من صدور فتاوى بتحريم دراسة الفلسفة وتعلمها، لعل هذه المحنة كان لها تأثير في قرار ابن عربي مغادرة المغرب كله إلى المشرق. لكنه فيما يبدو لم ينفذ قراره إلا بعد رحيل الفيلسوف من العالم رحيلًا تامًّا.
سنتخذ من الرواية السردية التي يحكيها لنا «ابن عربي» عن اللقاءات التي حدثت بينه وبين فيلسوف قرطبة «أبي الوليد بن رشد» منطلقًا لتحليل موقف الشيخ الأكبر من الفلسفة والفلاسفة، مع وضع هذا الموقف في السياق الثقافي التاريخي العام للعالم الإسلامي من جهة، وفي السياق الخاص للوضع الفكري والثقافي الديني في الأندلس من جهة أخرى. إن موقف الشيخ الأكبر من الفلسفة والفلاسفة وأصحاب النظر العقلي، المعتمد على الاستنباط والاستنتاج باستخدام أدلة المنطق، محكوم بنظرته العامة للحقيقة التي لا تقبل التقييد والحصر. وَفقًا لهذه النظرة فإن ما يتوصل إليه الفلاسفة بمنهجهم يُعَد اجتهادًا موصِّلًا لوجه واحد، أو لعدة وجوه ربما، من الحقيقة، لكنه لا يحصرها ولا يستوعبها استيعابًا كاملًا. وانطلاقًا من المبدأ الإسلامي القائل إن «لكل مجتهد نصيب» وأن «المجتهد له أجران إن أصاب، وله أجر واحد إن أخطأ» فإن ابن عربي لا يُخطِّئ أحدًا في إيمانه ولو أخطأ فكره ونظره. من هنا لا مجال للتكفير عند شيخنا، فالخطأ يقع دائمًا فقط حين يزعم الزاعم — أيًّا كان — أن منظوره للحقيقة هو المنظور الكامل والنهائي.
إن منهجنا في التحليل يضع في اعتباره أنه يتعامل مع بنية سردية، تلعب الذاكرة فيها دورًا لا يمكن إغفال تأثيره في إعادة بناء الواقعة في السرد. بعبارة أخرى علينا أن نميز بين شخصية «الراوي» — وهو «ابن عربي» كاتب الفتوحات — وبين شخصية «البطل» في السرد، والذي قد يكون «ابن عربي» الفتى، ولكن مرسومًا بقلم «ابن عربي» الشيخ. هذا التمييز التحليلي من شأنه أن يمنحنا قدرًا من الحرية في تحليل السياق الواضح في السرد من جهة، والغائب من فضائه في الوقت نفسه من جهة أخرى. ذلك ممكن بحكم «المسافة» التي نفترضها بين «الراوي» و«البطل» في البناء السردي. هذا هو المنهج العام. وهو المنهج الذي سنتعامل به مع قصة لقاءات الشيخ مع الفيلسوف، اللقاءات التي يروي لنا ابن عربي أحداثها مرتبة على الوجه التالي في المجلد الأول من كتاب «الفتوحات المكية»، وذلك في الباب الخامس عشر من الكتاب، والذي عنوانه «الأنفاس ومعرفة أقطابها المحققين بها وأسرارهم»:
(١) اللقاء الأول
دخلت يومًا بقرطبة على قاضيها أبي الوليد بن رشد وكان يرغب في لقائي لِمَا سمع، وبلغه ما فتح الله به عليَّ في خلوتي. وكان يُظهر التعجب مما سمع. فبعثني والدي إليه في حاجة قصدًا منه حتى يجتمع بي، فإنه كان من أصدقائه. وأنا صبي ما بَقَل وجهي ولا طرَّ شاربي. فلما دخلت عليه قام من مكانه إليَّ محبة وإعظامًا، فعانقني وقال لي: نعم، فقلت له: نعم. فزاد فرحه بي لفهمي عنه. ثم استشعرت بما أفرحَه فقلت له: لا؛ فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟ هل هو ما أعطاه النظر؟ قلت له: نعم لا، وبين نعم ولا تطير الأرواح من موادِّها والأعناق من أجسادها. فاصفرَّ لونه وأخذه الأَفْكَل وقعد يحوقل، وعرَف ما أشرت إليه، وهو عين المسألة التي ذكرها هذا القطب؛ أعني مداوي الكُلوم.
(٢) اللقاء الثاني: الأمل الذي لم يتحقق!
«وطلب من أبي بعد ذلك الاجتماع بنا ليعرض ما عنده علينا، هل هو يوافق أو يخالف؟ فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي؛ فشكر الله تعالى الذي كان في زمان رأى فيه من يدخل خلوته جاهلًا وخرج مثل هذا الخروج، من غير درس ولا بحث ولا مطالعة ولا قراءة، وقال: هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابًا؛ فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها الفاتحين مغاليق أبوابها، والحمد لله الذي خصني برؤيته.»
(٣) اللقاء الثالث: أين ومتى؟
«ثم أردت الاجتماع به مرة ثانية؛ فأُقيمَ لي رحمه الله في الواقعة في صورةٍ ضُرِب بيني وبينه حجاب رقيق، أنظر إليه منه ولا يبصرني ولا يعرف مكاني، وقد شُغِل بنفسه عني، فقلت: إنه غير مراد لما نحن فيه.»
(٤) اللقاء الأخير: بعد الرحيل
فما اجتمعت به حتى دَرَجَ وذلك في سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة مرَّاكش ونُقل إلى قرطبة وبها قبره. ولما جُعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة جُعِلَت تآليفُه تعادله من الجانب الآخر، وأنا واقف ومعي الفقيه الأديب أبو الحسن محمد بن جُبير كاتب السيد أبي سعيد، وصاحبي أبو الحكم عمر بن السرَّاج الناسخ، فالتفت أبو الحكم إلينا وقال: ألا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام وهذه أعماله، يعني تآليفه، فقال له ابن جبير: يا ولدي، نِعْم ما نظرت، لا فُض فوك. فقيَّدْتها عندي موعظة وتذكرة، رحم الله جميعهم وما بقي من الجماعة غيري، وقلنا في ذلك:
هذا الاستنتاج لمعنى «الآمال» التي لم تتحقق يستنبطه علي مبروك لا من عبارات ابن عربي الصريحة، بل «من تصويره الرمزي الفريد» لمشهد نقل رفات ابن رشد من جنوب المتوسط (مرَّاكش) إلى شماله (قرطبة)، وذلك من حيث إن الرفات لم يكن وحده الذي غادر، بل كانت النصوص أيضًا قد غادرت في معيَّته، لأنها «جُعِلَت تعادله من الجانب الآخر» بحسب نص عبارة ابن عربي. ويهمنا هنا تأكيد كون علي مبروك يقرأ نص ابن عربي قراءة رمزية مدركًا أن ابن عربي هنا هو «القاصُّ» و«الراوي»، ومدركًا أن لغة السرد يمكن أن تقول أحيانًا أكثر مما يبدو أنها تعني على مستوى الدلالة السطحية. وطبقًا لهذه القراءة الرمزية، فإن معادلة رفات جثمان الفيلسوف بمؤلفاته لِيُنقَل الكل من جنوب المتوسط — من مرَّاكش — إلى شمال المتوسط — إلى قرطبة — هي بمثابة عملية «نفي» واستبعاد من النظام الثقافي العربي الإسلامي لمنظومة «ابن رشد» إلى «الشَّمال» حيث وجدت أرضًا خِصبة احتضنتها، وفيها أنتجت ثمارها، وتحققت «آمال» ابن رشد.
-
(١)
الركيزة الأولى: أن ابن رشد ينتمي إلى نظام معرفي مغاير تمامًا للنظام المعرفي الذي ينتمي إليه الطفل «ابن عربي». دليل المؤلف على ذلك، أن الفيلسوف أراد أن يرى الطفل، فليس هناك ما يُقرأ لفهم ما حدث للطفل. مفهومٌ هنا أن المؤلف يحصر طريق الفيلسوف في تحصيل المعرفة في قراءة الكتب وتوظيف أدلة القياس وأدوات الاستنتاج والبرهان العقلي، هذه هي القناة الوحيدة للمعرفة. ولهذا لم يكن من سبيل أمام الفيلسوف لاكتشاف حقيقة الأمر بالنسبة لما سمعه عن الفتى إلا «اللقاء»، ومن ثَم سعى إليه ورتَّب له. وسنرى أن هذا التصور لوجود نظامين معرفيين تصور مثالي مأخوذ من الدلالة الحرفية للقصة السردية للقاء، حسب صياغة ابن عربي الشيخ.
-
(٢)
الركيزة الثانية: أن سياق القصة في كتاب الفتوحات هو الحديث عن «القطب مداوي الكُلوم» وما ذكره من مقارنة بين «الدنيا» و«الجنة» وتشابههما من حيث البنية — كلاهما مبني من وَحَدات من لَبِن وآجُرٍّ (طُوب) — واختلافهما من حيث المادة، فلَبِن «الدنيا» من «طين وقش» بينما لَبِن «الجنة» من «ذهب وفضة».٤ بناء على السياق نرى أن معرفة «الآخرة» هو موضوع الخلاف بين ابن عربي الفتى والشيخ الفيلسوف. سنرى أن حصر دلالة اللقاء في سياق الباب الذي ورد فيه، بل في سياق الفكرة التي تسبق السرد مباشرة، أمر يتأبى على الانسجام مع طبيعة بنية خطاب ابن عربي التي يصعب إدراجها في نسق تأليفي بعينه. إن مؤلفات الشيخ أشبه في نظامها السردي بالقرآن الكريم، هكذا يؤكد الشيخ نفسه في أكثر من موضع من كتبه. في القرآن يمكن أن يدرك القارئ بسهولة الانتقال في السورة الواحدة من موضوع إلى موضوع، وهي موضوعات قد توجد في سياق سورة أخرى بترتيب ونسق مغاير. ابن عربي حريص على أن يَلْفِت قارئه إلى ضرورة التنبه إلى هذه البنية السردية الخاصة لمؤلفاته، وهو موضوع سنناقشه تفصيلًا في الفصل القادم. وهي بنية يصعب معها حصر وحدة سردية ما — أقصد هنا قصة لقائه بابن رشد — في سياق وحدة سردية سابقة أو تالية حصرًا تامًّا. يمكن بالفعل اكتشاف علاقات بين الوَحَدات السردية، لكن اعتراضي ينصبُّ على حصر الدلالة فقط في سياق ما سبق أو ما يتلو من وحدات سردية.
-
(٣)
الركيزة الثالثة: ركيزة نصية، إذ إن ابن رشد سأل الفتى سؤالين لا سؤالًا واحدًا حين قال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟ هل هو ما أعطاه النظر؟ وبناء على هذا التوصيف كانت إجابة الفتى «نعم» هي إجابة عن السؤال الأول، والمعنى المقصود: «نعم لقد وجدت الأمر في الكشف والفيض الإلهي» بينما «لا» إجابة عن السؤال الثاني، والمعنى: أن ما وجده الفتى في الكشف والفيض الإلهي ليس هو ما أعطاه النظر. ومن الصعب لُغويًّا اعتبار ابن رشد سأل الفتى سؤالين، بل سأله سؤالًا واحدًا يتعلق بمواصفات المعرفة التي تحصلت للفتى؛ أي هو سؤال عن الكيفية، وما إذا كانت هذه المواصفات مماثلة كيفيًّا لمواصفات المعرفة النظرية أم لا.
السؤال الغائب في تحليل ستيفن: كيف يمكن لابن عربي «الفتى الذي ما طرَّ شاربه بعد» أن يعرف ما إذا كان الكشف يتعارض مع «النظر» أم لا، وهو الذي لم يكن قرأ كتابًا بعد؟ ألا يعني هذا أن المجيب ﺑ «نعم ولا» على السؤال — سؤال واحد لا سؤالين — هو ابن عربي الشيخ — الذي أتيح له أن يقرأ ويقارن ويحكم — وليس الفتى الذي ما طرَّ شاربه بعد؟ إنه ابن عربي الشيخ الذي يردد كثيرًا — في إشارة لابن رشد — «وقد سمعت واحدًا من أكابرهم (العقلاء) وقد رأى ما فتح الله به عليَّ من العلم سبحانه من غير نظر ولا قراءة، بل من خلوة خلوت بها مع الله، ولم أكن من أهل الطلب، فقال: الحمد لله الذي أنا في زمان رأيت فيه من آتاه الله رحمة من عنده وعلَّمه من لدنه علمًا» (الفتوحات ١: ٣٦٢). ومن الواضح في هذا «الاستشهاد» القرآني الذي يرويه ابن عربي على لسان الفيلسوف أنه يحيل إلى أن الفيلسوف المسلم يعلم من القرآن قصة العبد الصالح (الخَضِر)، ولا يستبعد أن يَهَب الله من عنده علمًا لأحد عباده. والسؤال: هل اللقاء يعكس بالفعل مواجهة بين نظامين معرفيين؟ لنتأملْ تحليلنا للِّقاءات حسب تقسيمنا السالف:
(١) اللقاء الأول
ومن الواضح أنه لقاء تم بناء على طلب «ابن رشد» نفسه الفيلسوف وقاضي «قرطبة» ورجل البلاط. سمع الفيلسوف قصة الفتى — الذي لم يكن قد بلغ سن النضج بعد — وما توصل إليه من خلال «الخلوة» من معارف وعلوم تحتاج إلى سنوات من معاناة القراءة والتدبر والتأمل. سمع الفيلسوف بذلك، الأمر الذي يعني أن أمر الفتى محمد بن العربي كان يتردد على الألسن، هكذا يحكي لنا الشيخ على الأقل وهو يكتب فتوحاته ويتذكر، ربما بعد أكثر من ربع قرن من هذا اللقاء. فنحن نعرف يقينًا أن الشيخ وُلِد سنة ٥٦٠ﻫ/١١٦٥م، وأنه بدأ في كتابة «الفتوحات» سنة ٥٩٨ﻫ/١٢٠٢م. ومكان اللقاء هو «قرطبة» بعد أن أعد «الأب»، الذي كان صديقًا للفيلسوف القاضي، أمر اللقاء بإرسال الفتى في حاجة ما، بينما كان القصد — يقول الشيخ — تحقيق رغبة قاضي قرطبة المرموق في لقاء الفتى الأعجوبة.
لا ينبغي في تقديري أن يشغلنا السؤال عن قصد «ابن رشد» من اللقاء؛ لأن «ابن رشد» لم يذكر في كتاباته شيئًا عن هذا اللقاء في حدود ما نعلم، ولم يذكر أحد ممن اهتم بهذا اللقاء ودلالته — فيما قرأت — شيئًا عن أي رواية لابن رشد أو إشارة لهذا اللقاء. إنه «ابن عربي» الذي يسرد لنا اللقاء من ذاكرته، ونحن نعلم أن «الذاكرة» تعيد تشكيل الحدث من خلال الأسلوب السردي. فماذا يقول لنا ابن عربي هذا اللقاء، الذي لم يكن من المفترض أن يكون مستعدًّا له؟ يقول الشيخ حاكيًا عن «الفتى» أن قاضي «قرطبة» وفيلسوف البلاط ومترجم أرسطو قام له إجلالًا ومحبة وعانقه عناق الصديق. لكن الأهم من ذلك أن الشيخ الفيلسوف بدأ مخاطبة الفتى بلغة الرمز سائلًا: نعم؟ لا بد من وضع علامة الاستفهام؛ فالكلمة لا بد أن تكون — وَفقًا لأسلوب السرد — قد نُطِقَت بنغمة السؤال الذي يتطلب إجابة. وكانت الإجابة تكرارًا لنفس الكلمة ولكن بتنغيم الجواب: نعم.
طبقًا لأسلوب السرد نفهم أن «الفتى» ابن عربي كان مستعدًّا للقاء، بل ومتحفزًا له. وهنا لا بد لنا أن نؤكد أهمية التمييز في السرد بين «الراوي» — وهو ابن عربي مؤلف الفتوحات الذي وصل إلى سن الأربعين أو قريبًا منها — وبين «الفتى» بطل السرد بلا منازع. وبدون هذا التمييز تختلط علينا الأمور في التحليل والفهم واستنباط الدلالة. يحكي الراوي عن الفتى أن «ابن رشد» «زاد فرحه» بالفتى لِمَا لمسَه من سرعة بديهته وفهمه عنه. ثم يواصل الراوي الحكاية على لسان الفتى: «ثم استشعرت بما أفرحه فقلت له: لا؛ فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده.»
تعددت التأويلات والشروح لهذا «اللغز» الذي يجمع بين «الإثبات» في قول الفتى «نعم»، وبين «النفي» في قوله «لا» بعد ذلك مباشرة. ولكن ابن عربي — على لسان الفتى — يكشف للقارئ أن الباعث على «النفي» بعد «الإثبات» كان إزالة «الفرحة» التي ظهرت على وجه قاضي قرطبة بالإثبات. ولا يحتاج القارئ إلى من يرشده إلى «الموضوع» الذي يمكن إثباته ويمكن نفيه في الوقت نفسه. الموضوع هو التساؤل من جانب فيلسوف البلاط وقاضي قرطبة عن «الاتفاق» بين نتائج تجرِبة العقل واستنتاجاته المنطقية من جهة، وبين تجرِبة الروح التي تعتمد على الخلوة وتلقي الإلهامات الربانية من جهة أخرى. وهو تساؤل لا نستبعد نحن أنه صحيح، بصرف النظر عن طريقة العرض الدراماتيكية في سرد الشيخ الأكبر.
فيلسوف قرطبة هو في النهاية، كما نعرف، تلميذ «أبي بكر بن طفيل» (ت. ٥٨١ هجرية/١١٨٥م). وهذا الأخير هو الذي قدم ابن رشد التلميذ إلى «يعقوب أبي يوسف» (٥٥٨–٥٨٠ﻫ/١١٦٣–١١٨٤م) الخليفة الثالث في دولة «الموحدين». كان الخليفة قد شكا لابن طفيل من صعوبة قراءة ترجمات أرسطو العربية وأبدى رغبة في إعادة ترجمتها إلى لغة يمكن قراءتها. وكانت تلك هي المهمة التي طلب «ابن طفيل» الشيخ من «ابن رشد» الشاب أن يقوم بها. إن تساؤل ابن رشد الموجه للفتى: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي: هل هو ما أعطاه النظر؟ ينطلق من خلفية فكرية يمكن تلمُّس ملامحها قبل «ابن رشد» في الأليجوريا التي كتبها أستاذه؛ «حي بن يقظان». وهي الأليجوريا الفلسفية التي كتبها قبل «ابن طفيل» كلٌّ من «ابن سينا» و«السُّهْرَوَرْدي».
(٢) البرهان والعرفان، لقاء لا صدام
وتجرِبة «حي بن يقظان» التي قصَّها «أبو بكر بن طفيل» هي تجرِبة فكرية روحانية لنَموذج الإنسان بإطلاق، أي الإنسان المتوحد خارج الزمان والمكان واللغة والثقافة والدين. وهناك بعدان على الأقل نهتم بهما في هذه التجرِبة: أما البعد الأول الذي يهمنا هنا لاتصاله بسؤال الفيلسوف الكبير، فهو الذي يتجلى في القصة — قصة «حي بن يقظان» — في طبيعة الأدوات المعرفية التي أوصلت بطل القصة إلى إدراك الحقيقة، بل ومعاينتها، بلا معرفة سابقة دينية أو غير دينية. أما البعد الثاني، وهو بُعد عدم التعارض بين «الشريعة» و«الحقيقة»، وهو بُعد نعلم أن «ابن رشد» أفرد له رسالته المعروفة باسم «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال». وفي هذه الرسالة يُسلِّم قاضي قرطبة — كما سلَّم «حي» في القصة كما سنرى — بحقيقة تفاوت مستويات البشر في إدراك الحقائق. لكن «ابن رشد» يميز — كما هو معروف — بين ثلاث طبقات في البشر: «أهل البرهان»، وهم الفلاسفة، و«أهل الجدل» وهم المتكلمون اللاهوتيون، و«أهل الخطابة» وهم العامة. ولأن الله بعث الأنبياء للبشر كافة — أسودهم وأحمرهم — فقد تضمن القرآن الكريم في لغته وأسلوبه أنواعًا ثلاثة من «الخطاب» لتلائم أنواع البشر؛ فتضمن الأسلوب الخطابي الشعري — أو المجازي — الذي يلائم «العوام»، كما تضمن الأسلوب الجدلي الذي يلائم «المتكلمين» أهل الجدل، هذا بالإضافة إلى الأسلوب البرهاني الذي يلائم الحكماء والفلاسفة.
ويهتدي «حي» إلى عملية «دفن» جثمان الظبية بالتقليد، تقليد الغراب الذي صرع غرابًا آخر وقام بدفنه. والمشهد في قصتنا هذه يكاد ينقل المشهد القرآني في قصة ابني آدم «قابيل» و«هابيل»، باستثناء ما تتضمنه القصة القرآنية من النص على أن الله هو الذي «بعث» الغراب ليُرِيَ القاتل كيف يواري سوءة أخيه (المائدة: ٣١). لكن هذه الدلالة غير غائبة عن قصتنا؛ لأن إحساس «حي» بأنه كان أحق من الغراب بالاهتداء إلى عملية الدفن يعمِّق في نفس القارئ استدعاء الدلالات الموجودة في الأصل، على أساس أنها مضمرة في النص الراهن مهما كانت غائبة. ومن هنا يمهد النص قارئه لإدراك أن العقل الإنساني في سعيه المخلص والدءوب للمعرفة والفهم تحوطه العناية الإلهية وترعاه دائمًا.
هذا مستوى ما وصل إليه «حي»، في سن الخامسة والثلاثين، من معرفة عقلية أساسها ومصدرها النظر في الأدلة الوجودية. وقد حركت تلك المعرفة أشواقه إلى مشاهدة جمال ذلك الموجود الذي أثبته عقله، وهذا ما يميز «حي» عن إنسان المتكلمين أو إنسان الفلاسفة البرهانيين. إن «حي» يمثل نموذج الإنسان عند العِرفانيين من المتصوفة والفلاسفة على السواء. إنه باختصار «الإنسان العارف»، الكامل والنموذج، الذي أنتجه الوعي الإسلامي. إن البراهين العقلية الوجودية لا تكفي هذا الإنسان لتحقيق السعادة التي تتمثل في معانقة المطلق والاتحاد به. المعرفة «العقلية» مرحلة لإدراك ظاهر الوجود، والتوصل إلى «معرفة» الخالق والمبدع، مجرد معرفة تثير الشوق وتوقظ الحنين إلى «التواصل»، تواصل اليقين بالكشف والمشاهدة لا مجرد الاكتفاء بالمعرفة.
والسبيل إلى ذلك الكشفِ وتلك المشاهدةِ لا يكون إلا بالنفاذ من سجن الكون الذي هو حجابٌ يُخفي وجه المحبوب. ولأن «الإنسان» جسد وروح — هكذا يتوصل العقل بالمعرفة — فأول الطريق يبدأ بإسقاط ما سوى الضروري من حاجات «الجسد»، الذي ليس في الحقيقة إلا مختصرًا للكون، وذلك من أجل تطهير النفس وتنقيتها من الشواغل حتى تصل إلى حالة الاستعداد للاتصال بمصدرها وأصلها الأول.
«لما كان في طباعه من الجبن عن الفكرة والتصرف. فكانت ملازمته للجماعة عنده مما يدرأ الوسواس، ويزيل الظنون المعترضة، ويعيذ من همزات الشياطين.» (ص٩٠)
(٣) حل ابن رشد وحل للتعارضات
يمكن لنا بلا شك أن نعتبر القصة الفلسفية التي صاغها شيخ «ابن رشد»، والتي سبق لكل من «ابن سينا» و«السُّهْرَوَرْدي» كتابتها لتنقل نفس المعنى، تعبيرًا عن اللقاء الذي تحقق بين الفلاسفة العقليين وفلاسفة الإشراق، والذي على أساسه أصبح للعرفان مكان إلى جانب «البرهان». أصبح «البرهان» في هذا النسق الفلسفي «مقدمة» لا بد منها قبل الولوج إلى عالم «العرفان»، الذي اكتسب مكانة أعلى، رغم أن الوصول إليها مستحيل دون المرور بالبرهان. لكن هذا التصالح بين «البرهان» و«العرفان» ظل، كما هو واضح في القصة، سجين إشكالية الحقيقة المزدوجة. يتبدى ذلك في تساؤلات «حي» عن الحكمة في توظيف التمثيل والمجاز في التعبير عن الحقائق، وذلك رغم ما تسببه هذه الصيغ التعبيرية من ارتباكات معرفية. تحت ضغط الضرورة فقط، الضرورة التي تعكسها التجرِبة التي تعرض لها «حي» و«أسال» حين أرادا أن ينقلا للعامة في الجزيرة الأخرى الحقائق التي توصلا إليها. تحت ضغط «غباء» العامة وضعف استعدادهم لتلقي الحقائق اعترف «حي» بأن «الوحي» لا بد له أن يخاطب الناس جميعًا بقدر عقولهم.
أليس هذا هو المشكل الذي يحاول «ابن رشد» أن يجد مخرجًا له في التقسيم الثلاثي للخطاب الإلهي؟ ولعل الأهم من ذلك تجريم «ابن رشد» لمسلك المتكلمين؛ لأنهم أشاعوا النتائج التي توصلوا إليها — من خلال أدلتهم الجدلية غير اليقينية — بين الناس على أساس أنها حقائق الشريعة، «فأوقعوا الناس من قِبَل ذلك في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع كل تمزيق». ويصل الأمر في خاتمة «فصل المقال» أن يعبر الفيلسوف الكبير عن ألمه أشد الألم من الأضرار التي سبَّبها مَن ينسبون أنفسهم للحكمة من المتكلمين — يقصد أبا حامد الغزالي (ت. ٥٠٥ﻫ/ ١١١١م) تحديدًا — للشريعة بنشر تأويلاتهم الفاسدة. لسنا معنيين هنا بنقد موقف «ابن رشد»، الذي لم يجد حلًّا لعلاج هذا الداء العضال إلا في إغلاق باب معرفة التأويلات الصحيحة دون العامة، واستبعاد كتب البرهان من أن تصل إلى أيديهم. وهو حل شبيه بحل «حي بن يقظان» وصاحبه «أسال». ليس هذا شأننا هنا بقدر ما نحن معنيون بالكشف عن الأزمة واستجابات كل من الفيلسوف والشيخ لها.
إن مشكلة المتكلمين — في نظر ابن رشد — تكمن في أنهم وقعوا في أخطاء جسيمة نتيجة لأدلتهم الجدلية التي تعتمد أساسًا على «القياس». لقد انتهوا إلى تصور «الله» سبحانه وتعالى كما لو كان «إنسانًا أزليًّا». وبعبارة أخرى فقد أدى مبدأ «قياس الغائب على الشاهد» بالمتكلمين إلى أنهم حين «شبهوا العالم بالمصنوعات، التي تكون عن إرادة الإنسان وعلمه وقدرته، توصلوا إلى أن الله سبحانه لا بد أن يكون له — بالمثل أو بالقياس — إرادة وعلم وقدرة. فلما قيل لهم إنه يلزم أن يكون (صانع العالم) — وَفقًا لهذا القياس — جسمًا قالوا في التمييز بين «الله» والإنسان: إن الله أزلي. فصار هذا — يعلق ابن رشد — القولُ قولًا مثاليًّا شعريًّا. والأقوال المثالية — يواصل فيلسوف قرطبة — مقنعة جدًّا، إلا أنها إذا تُعُقِّبَت ظهر اختلالها.»
والآن ما هو الدواء الشافي الذي يطرحه الفيلسوف لهذا المرض الذي أصاب العقل الإسلامي بسبب سيطرة المتكلمين وأشباه الحكماء على عقول العامة حتى أفسدوا عقائدهم؟ كيف يمكن الهروب من مفهوم «الإله» الذي ليس في الحقيقة سوى «إنسان أزلي»؟ وما هو المفهوم الذي يمكن أن يقنع «العامة» ويقترب من الحقيقة؟ في محاولة الفيلسوف إيجاد دواءٍ شافٍ للمرض لا يكتفي بما اكتفى به «حي بن يقظان» من إدانة «العامة» في قلبه وموافقتهم باللسان. كما أنه ليس قانعًا بتأويلات المتكلمين لأنها أفسدت عقائد العامة بسبب خلافاتهم، بل وكانت سببًا مباشرًا في عداء العامة للفلسفة بصفة عامة. أما لماذا لم يكتف ابن رشد بموقف التعالي واحتقار العامة، فهذا سؤال يمكن أن نجد إجابة له في حياة ابن رشد «القاضي» و«الفقيه»، بكل ما يعنيه الجلوس في منصة «القضاء» من الانشغال بهموم العامة وبمشكلاتهم. هذا بالإضافة إلى سعي «الموحدين»، منذ بداية حركتهم على يد «ابن تُومَرْت» في المغرب، لتنقية عقائد العامة من مظاهر الشرك والتشبيه، بالحرص على تأكيد مفهوم «التوحيد».
في النهاية لا يجد «ابن رشد» حلًّا لإقامة عقيدة العامة في التوحيد على أساس لا يناقض البرهان، ولا يَصعُب على العامة في الوقت نفسه هضمه، سوى المفهوم الصوفي الذي صاغه «الغزالي» — خصمه اللدود — في رسالته «مشكاة الأنوار»، ذلك مفهوم «الله/النور». وجدير بالالتفات أن الشاهد الشرعي الذي يؤسس عليه الفيلسوف جواز تعليم العامة بشكل يناسب قدرتهم على الاستيعاب هو نفس الشاهد الذي يردده ابن عربي كثيرًا ولكن لغاية أخرى غير الغاية النفعية البرجماتية المحركة لابن رشد. أراد أحدهم أن يُعتِق جارية، ولكنه أراد أن يتأكد من إيمانها، فأحضرها لرسول الله ﷺ، فسألها: «أين الله» فلما قالت: «في السماء» اعتبر الرسول أنها مؤمنة. هذا رغم الخطأ الفادح في التحديد المكاني. ابن رشد يستدل من ذلك على مشروعية «مخاطبة الناس على قدر عقولهم»، لكن نفس الشاهد — عند ابن عربي — دالٌّ على «الحقيقة» في حق هذه الجارية دون خطأ، فهي صادقة الإيمان؛ لأن الحقيقة تتجلى لها على قدرها. عند «ابن عربي» ليس في العالم مرض يحتاج لعلاج، بل فيه تعصب يحتاج للتواضع.
هل يساعدنا هذا أن نفهم دلالة «النفي» بعد «الإثبات»، وعلاقة هذا «النفي» بالفرحة التي لاحظ الفتى انتشارها في وجه الفيلسوف؟ لكن علينا أن نكرر أن «الراوي» هنا ليس «الفتى»، بل هو الشيخ الذي أصبح على معرفة بالتراث وقادرًا على التعامل معه. إنه الآن في هذه اللحظة — لحظة الكتابة — الشيخ الأكبر، هو الذي يقول لنا إن فيلسوف قرطبة، الذي فهم «الإثبات» واستوعبه، لم يفهم «النفي» ولم يستوعبه. وابن عربي الراوي — وليس الفتى بطل السرد — هو الذي يقول عن الفيلسوف: «فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده». لقد تكفل «النفي» — حين قال الفتى «لا» — بإزالة «اليقين» الذي سببه الإثبات في «نعم»، فما معنى «الإثبات والنفي»؟
(٤) حلول ابن عربي
يسأل الفيلسوف مجدَّدًا بعد أن فاجأه «النفي» بعد «الإثبات»، فتحولت حاله من «الفرح» إلى الحزن و«الانقباض»: «كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟ هل هو ما أعطاه النظر؟» ويجيب «الفتى» على لسان «الراوي» دون شك: «نعم لا، وبين نعم ولا تطير الأرواح من موادِّها والأعناق من أجسادها.» فما هو هذا الذي بين «نعم» و«لا»، والذي يسبب طيران «الأرواح» من موادِّها وطيران «الأعناق» من أجسادها؟ إن الجامع بين «الإثبات» و«النفي» هو «عالم الخيال» أو «البرزخ الأعلى» أو «برزخ البرازخ»، وهي مرتبة الوجود الوسيط الذي تجتمع فيه كل الثنائيات بدءًا من الثنائية التي أشرنا إليها بين «الوجود لا بشرط شيء» و«الوجود بشرط شيء»، أو بين «الذات الإلهية» في أحديتها المطلقة وبين «العالم» في كثرته الظاهرة. بين المرتبتين تتوسط الألوهة — وهي مجموع الأسماء الإلهية — وهي نسب وعلاقات وروابط لا تتمتع بأي وجود ذاتي.
وقد آن الأوان أن يتحدث ابن عربي بنفسه عن هذا الوسيط الذي تطير فيه الأرواح من موادِّها والأعناق من أجسادها، إنه عالم ما بين «الإثبات» و«النفي». يبدأ الشيخ الأكبر بتأكيد الثنائية التي أشرنا إليها بالقول: «والمناسبة بين الخلق والحق غير معقولة ولا موجودة؛ فلا يكون عنه شيء من حيث ذاته، ولا يكون عن شيء من حيث ذاته. وكل ما دل عليه الشرع أو اتخذه العقل دليلًا إنما متعلقه الألوهة لا الذات. الله من كونه إلهًا هو الذي يستند إليه الممكن لإمكانه» (الفتوحات ٢: ٥٧٩). ويقول أيضًا: «وأما أحدية الذات في نفسها فلا تُعرف لها ماهية حتى يُحكَم عليها؛ لأنها لا تشبه شيئًا في العالم ولا يشبهها شيء» (الفتوحات ٢: ٢٦٩). «إن الكون لا تعلق له بعلم الذات أصلًا، وإنما متعلقه العلم بالمرتبة وهو مسمى الله؛ فهو الدليل المحفوظ الأركان الدال على معرفة الإله وما يجب أن يكون عليه سبحانه من أسماء الأفعال ونعوت الجلال وبأية حقيقة يصدر الكون عن هذه الذات المنعوتة بهذه المرتبة المجهولة العين والكيف. وعندنا لا خلاف في أنها لا تُعلم، بل يُطلق عليها نعوت تنزيه صفات الحدث، وأن القِدَم لها والأزل الذي يطلق لوجودها إنما هي أسماء تدل على أسلوب من نفي الأولية وما يليق بالحدوث. وهذا يخالفنا فيه جماعة من المتكلمين الأشاعرة، ويتخيلون أنهم قد علموا من الحق صفة نفسية ثبوتية. وهيهات أنَّى لهم بذلك» (الفتوحات ١: ١٦٠).
نلاحظ هنا نقد الشيخ للمتكلمين كما يمثلهم «الأشاعرة»، وهم أتباع «أبي الحسن الأشعري» (ت. ٣٢٤ﻫ/٩٣٦م)، الذين يقولون بوجود صفات لله سبحانه وتعالى ذات وجود متميز عن «الذات». وهذا بالضبط محور نقد الشيخ الأكبر، فالصفات عنده مجرد أسماء ونسب لا تتمتع بأي وجود، وهو ما يعنيه من أن الأسماء تدل بالسلب على نفي الأزلية والحدوث … إلخ، أما تصور أن لها وجودًا ثابتًا فهذا خطأ محض. كل الأسماء والصفات تمثل منطقة وسطى بين «وجود الذات» وبين «الوجود الظاهر»، أي العالم. فإذا أثبت المُثبِت اسمًا أو صفة للذات الإلهية واضعًا في اعتباره مستواها في الوجود الخيالي فهو صادق. أما ادعاء وجود ثابت فهو الخطأ الذي ينعيه على المتكلمين عمومًا وعلى الأشاعرة على وجه الخصوص. في هذا النقد للمتكلمين يلتقي ابن عربي مع ابن رشد في نقده لمنهج المتكلمين حين قاسوا الشاهد على الغائب، فتوصلوا إلى مفهوم لله ليس في الواقع سوى تصور لإنسان إزلي.
لكن ابن رشد في نقده للمتكلمين لم يقدم بديلًا، وفي محاولته إحلال «البرهان» الفلسفي ليحل مكان «القياس» عند المتكلمين، لم يضف البرهان إلى أطروحات المتكلمين جديدًا. إن نعي الشيخ الأكبر على الأشاعرة إثبات صفات نفسية ثبوتية على الذات الإلهية يصدق أيضًا على الفلاسفة، ومنهم ابن رشد، لأنهم لم يميزوا بين مراتب وجودية لا تتمتع بوجود عيني. إن «الذات الإلهية» لا يتعلق بها من الوصف إلا «السلب»، وهو «النفي». أما الإثبات فلا يجوز إطلاقه على الذات الإلهية، والذي ورد في القرآن الكريم من صفات إنما تشير للألوهة، وهي مرتبة الوجود الخيالي الفاصلة والجامعة في الوقت نفسه بين «الذات» و«العالم». أما عن تعريف هذه المرتبة — مرتبة الوجود الخيالي — فيقول الشيخ عن البرزخ بصفة عامة:
«البرزخ يتوسع الناس فيه، وما هو كما يظنون. إنما هو كما عرَّفنا الله في كتابه في قوله في البحرين «بينهما برزخ لا يبغيان»؛ فحقيقة البرزخ ألا يكون فيه برزخ. وهو الذي يلتقي ما بينهما بذاته، فإن التقى الواحد منهما بوجه غير الوجه الذي يلقى به الآخر، فلا بد أن يكون بين الوجهين برزخ يفرق بين الوجهين حتى لا يلتقيان، فإذا ليس ببرزخ. فإذا كان عينُ الوجه الذي يلتقي به أحد الأمرين الذي هو بينهما عينَ الوجه الذي يلتقي به الآخر فذلك هو البرزخ الحقيقي؛ فيكون بذاته عين كل ما يلتقي به فيظهر الفصل بين الأشياء، والفاصل واحد العين. وإذا علمت هذا علمت البرزخ ما هو. ومثاله بياض كل أبيض، وهو في كل أبيض بذاته ما هو في أبيض ما بوجه منه ولا في أبيض آخر بوجه آخر، بل هو بعينه في كل أبيض، وقد تميز الأبيضان أحدهما عن الآخر. فعين الأبيض واحد في الأمرين، والأمران ما هو كل واحد عين الآخر. فهذا مثال البرزخ الحقيقي. وكذلك الإنسانية في كل إنسان بذاتها. فالواحد هو البرزخ الحقيقي، وما ينقسم لا يكون واحدًا. والواحد يَقسِم ولا يُقسَم؛ أي لا ينقسم في نفسه، فإنه إن قبل القسمة في عينه فليس بواحد. وإن لم يكن واحدًا لم يقابل كل شيء في الأمرين اللذين يكون بينهما بذاته. والواحد معلوم في أنه ثم واحد بلا شك. والبرزخ يُعلم ولا يُدرك ويُعقل ولا يُشهد.» (الفتوحات ٣: ٥١٨)
وينتقل من التعريف العام نزولًا إلى مستوى من مستويات التخصيص في التعريف فيقول:
«ولما كان البرزخ أمرًا فاصلًا بين معلوم وغير معلوم، وبين معدوم وموجود، وبين منفي ومثبت، وبين معقول وغير معقول، سُمِّيَ برزخًا اصطلاحًا. وهو معقول في نفسه وليس إلا الخيال؛ فإنك إذا أدركته وكنت عاقلًا تعلم أنك أدركت شيئًا وجوديًّا وقع بصرك عليه، وتعلم قطعًا بدليل أنه ما ثَم شيء رأسًا وأصلًا. فما هو هذا الذي أثبتَّ له شيئية وجودية ونفيتَها عنه في حال إثباتك إياها؟ فالخيال لا موجود ولا معدوم، ولا معلوم ولا مجهول، ولا منفي ولا مثبت» (الفتوحات ١: ٣٠٤). أما مجال فعالية هذه المرتبة الوجودية فهي تتسع لتصبح الحضرة الجامعة للحقائق من أعلاها إلى أدناها: الألوهة، عالم الأمر، عالم الخلق، عالم الطبائع … إلخ:
«فما أوسع حضرة الخيال، وفيها يظهر وجود المحال، بل لا يظهر فيها على التحقيق إلا وجود المحال؛ فإن الواجب الوجود وهو الله تعالى لا يقبل الصورة وقد ظهر بالصورة في هذه الحضرة. فقد قبل المحال الوجودِ الوجودَ في هذه الحضرة (الفتوحات ٢: ٣١٢).
الحق بين الخلق وبين ذاته الموصوفة بالغني عن العالمين. فالألوهة في الجبروت البرزخي؛ فتقابل الخلق بذاتها، وتقابل الحق بذاتها. ولهذا لها التجلي في الصور الكثيرة والتحول فيها والتبدل؛ فلها إلى الخلق وجه به يتجلى في صور الخلق، ولها إلى الذات وجه به تظهر للذات. فلا يعلم المخلوق الذات إلا من وراء هذا البرزخ وهو الألوهة. فتحققناها فما وجدنا سوى ما ندعوه بها من الأسماء الحسنى؛ فليس للذات جبر في العالم إلا بهذه الأسماء الإلهية. ولا يُعرَف من الحق غير هذه الأسماء الإلهية، وهي أعيان هذه الحضرات.» (الفتوحات ٤: ٢٠٨-٢٠٩، وأيضًا ٢: ٢٠٣، ٣٧٩، و٣: ٣٥٨)
(٥) اللقاء الثاني: الأمل الذي لم يتحقق!
إن فرح ابن رشد بالإثبات يعني من منظور ابن عربي «الراوي» لا «الفتى» بطل السرد، أنه يقف بعلمه عند أحد طرفي الحقيقة — جانب الإثبات — فأراد أن يكشف له عن جانبها الآخر — جانب النفي — لكن الفيلسوف لم يدرك مغزى الإشارة. الدليل على ذلك الاضطراب والحزن الذي حل محل الفرح في وجهه فأعاد السؤال. وكان لا بد للجواب أن يكون أكثر تفصيلًا، وإن لم يخرج عن أفق الرمز والتلميح. لكن الفيلسوف، مرة ثانية، «اصفر لونه وأخذه الأَفْكَل وقعد يحوقل، وما عرَف ما أشرت إليه». ينهي الشيخ الأكبر قصة هذا اللقاء الأول تعليقًا بأن المسألة التي لم يفهم ابن رشد الإشارة إليها هي «عين المسألة التي ذكرها هذا القطب؛ أعني مداوي الكلوم.» سبق أن قلنا إن الباب الذي ترد فيه قصة اللقاء تلك هو الباب المعنون: «الأنفاس ومعرفة أقطابها المحققين بها وأسرارهم»، وهو الباب الخامس عشر. أما المسألة المشار إليها فهي تتعلق بالمقارنة بين «الدنيا» و«الآخرة»، أو بالأحرى بين «الدنيا» و«الجنة». ومداوي الكلوم المشار إليه يقول إن الدنيا والجنة يتشابهان في بنائهما، لكنهما يتفاوتان تفاوتًا حادًّا من حيث «مادة» البناء. فبناء الدنيا من لَبِن مادته «القش والطين»، في حين أن بناء الجنة من لَبِن مادته من «ذهب ولُجَيْن». ومن الواضح أنها مسألة تثير في عمقها أمر «الإثبات»؛ إذ تبدو كل من «الدنيا» و«الجنة» من حيث ظاهر بنائهما متشابهتين، وهذا هو «الإثبات»، بينما هما في الحقيقة والواقع مختلفتان من حيث المادة التي يقوم عليها البناء، وهذا هو «النفي». نقول هذا بالطبع دون أن نحصر الدلالة في السياق كما قلنا في تعليقنا من قبل.
لكن لماذا مثال الجنة والدنيا تحديدًا؟ ربما لأن جذر الشجار بين المتكلمين بعضهم البعض من جهة، وبينهم وبين الفلاسفة من جهة أخرى، كان يدور حول «تأويل» القرآن الكريم. دار الخلاف بين المتكلمين حول ثنائية «المحكم والمتشابه»، التي تمحورت حول تفسير الآية السابعة من سورة آل عمران (رقم ٣) حول صفات الله وأفعاله. أما بين المتكلمين والفلاسفة فقد كانت قضية التأويل الأشد إثارة تتعلق بتأويل «العقاب والثواب»، وهي قضية من القضايا التي بسببها كفَّر «أبو حامد الغزالي» الفلاسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة»، وهو الكتاب الذي تصدى «ابن رشد» للرد عليه بكتاب «تهافت التهافت».
وموقف «ابن عربي» من ثنائية «المحكم والمتشابه» هو امتداد لموقفه من كل الثنائيات: البحث عن وسيط جامع. وقد وجد ابن عربي في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ نَموذجًا لجدلية «الإثبات والنفي». ورغم أن «المعتزِلة» — وهم بلا منازع فرسان تأويل «الصفات» التي توهم مشابهة الله للبشر — يتخذون من هذه الآية نَموذجًا للإحكام الذي ينفي المشابهة، فابن عربي يراها نَموذجًا للجمع بين «التنزيه» و«التشبيه»، كما هي نموذج للجمع بين «النفي» في «ليس كمثله شيء»، لكنها في بقيتها تُثبت وتُشَبِّه «وهو السميع البصير». لقد سالت دماء وسالت أحبار في العراك بين «المثبتين» و«النُّفاة»، والقرآن بظاهره — أي بلا تأويل — يثبت وينفي؛ لأن كلا من النفي والإثبات يقدمان الحقيقة في لغة واضحة. هل تحتاج الآيات القرآنية التي وردت في نعيم الجنة وعذاب النار إلى تأويل؟ نعم إن القرآن يبدو وكأنه يصور «الجنة» بصورة «الدنيا»، لكن شتان بين الحقيقتين. لا نريد أن نطيل في عرض ما يقوله ابن عربي في شأن «الصورة»، فالله سبحانه خلق الإنسان على صورته، لكنه إنسان والله إله. إن تشابه صورة الجنة صورة الدنيا هو تشابه في شكل البناء. لا حاجة إذن للتأويل، لا تأويلات المتكلمين ولا تأويلات الفلاسفة. إنها تجرِبة الروح ومعانقة باطن الكون وإدراك روحانيته السارية هي الكفيلة بحل المشكلات وفك المُعمَّيات.
«وطلب من أبي بعد ذلك الاجتماع بنا ليعرض ما عنده علينا، هل هو يوافق أو يخالف؟ فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي؛ فشكر الله تعالى الذي كان في زمنٍ رأى فيه من يدخل خلوته جاهلًا وخرج مثل هذا الخروج، من غير درس ولا بحث ولا مطالعة ولا قراءة، وقال: هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابًا؛ فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها الفاتحين مغاليق أبوابها، والحمد لله الذي خصني برؤيته.»
ماذا يعني ذكر أمر هذا اللقاء الذي لم يتحقق، والذي يمر عليه الدارسون المهتمون بشأن دلالة لقاء الشيخ والفيلسوف بلا تعليق؟ إنه يعني أن الشيخ/الفتى لم يكن في لقائه الأول بالفيلسوف قد اطلع على شيء من كتاباته، الأمر الذي يعني أن إجاباته المُلغزة على سؤال الشيخ في اللقاء الأول هي إجابات الشيخ كاتب الفتوحات — الراوي — وليست إجابات الفتى الذي لم يكن شاربه قد نبت بعد. وابن عربي حريص في أكثر من سياق على تأكيد أن الفيلسوف لم يستبعد إمكانية الوصول بالفيض والإلهام والكشف إلى معارف وَهْبية لَدُنِّية تأتي مباشرة من الله على قلب السالك. بل أكثر من ذلك، يكرر ابن عربي أن الفيلسوف عبَّر عن امتنانه لوجوده في الزمن الذي شهد واحدًا من أرباب المعرفة الكشفية، وأنه قابله. ويبدو ابن عربي في سياق نادر، حين يذكر اسم «أفلاطون»، يبدو مدافعًا عن الفلسفة ضد من يكرهون «أفلاطون» من المسلمين فقط بسبب علاقته بالفلسفة. يفسر ابن عربي كراهيتهم لأفلاطون بجهلهم بمعنى كلمة «فلسفة». إذا كانت «الفلسفة» ليست إلا «محبة الحكمة»، فإن كل من له نصيب من عقل لا بد أن يكون محبًّا للحكمة (الفتوحات ٢: ٥٢٣). لم يكن فيلسوف قرطبة بأي معنى من المعاني من أتباع أفلاطون، وهذا ما يباعد بينه وبين فلاسفة الإشراق الأقرب إلى قلب ابن عربي. لكن من الواضح كذلك أن ابن عربي يكن تقديرًا خاصًّا لابن رشد رغم ما يبديه من تفاوت بين طريقتيهما، خاصة في اللقاء الثالث.
(٦) اللقاء الثالث: أين ومتى؟
«ثم أردت الاجتماع به مرة ثانية؛ فأُقيمَ لي رحمه الله في الواقعة في صورةٍ ضُرب بيني وبينه حجاب رقيق، أنظر إليه منه ولا يبصرني ولا يعرف مكاني، وقد شُغِل بنفسه عني، فقلت: إنه غير مراد لما نحن فيه.»
وصورة ابن رشد في الواقعة — كما يخبرنا السرد — محجوبة عن رؤية ابن عربي. ليس هذا فقط، بل «الصورة» مشغولة بنفسها، فما معنى ذلك؟ مفهوم الحجاب يتسع عند ابن عربي ليصبح الوجود كله؛ فالوجود الظاهر يمثل حجابًا على «الحقيقة»؛ فلا موجود في الحقيقة إلا الله والعالم كله مظاهر تظهر وتختفي في الوقت نفسه. هي مظاهر كاشفة للقادر على النفاذ من الصورة إلى أصلها، وهي في الوقت نفسه حجاب لمن لا يرى إلا الصورة. في التمثيل الرمزي لصورة «ابن رشد» المشغولة بنفسها نتبين من صياغة ابن عربي أن «الحجاب» ليس مانعًا في ذاته، بدليل أن الفتى قادر على رؤية «صورة» الفيلسوف، لكن انشغال الصورة بذاتها هو «المانع» لها من رؤية ابن عربي. وهكذا يصبح الحجاب المانع في الحقيقة هو «الصورة».
ربما يحيل ابن عربي في هذا الجزء من السرد إلى حقيقة انشغال ابن رشد بشئون الدولة والحكم والقضاء، وهو انشغال معوِّق في نظر الشيخ عن صفاء القريحة الذي هو شرط لبداية السلوك إلى العرفان. والمبرر لهذا التفسير من جانبنا أن الشيخ الأكبر لا يفتأ يردد أن ملاحظة الإنية — أنا العبد — عائق عن ملاحظة إنية الرب. وبعبارة أخرى يمكن القول إن «الأنا» تمثل حجابًا معرفيًّا عن إدراك الحقيقة، رغم أن «الحقيقة» ليست خارج «الأنا». وطريق الصوفي هو المحاولة الدائمة لإزاحة صورة «الأنا» الظاهرة لإخلاء الطريق لانبثاق «الأنا» الحقيقية؛ أنا الروح التي هي «الصورة» الشفافة للحقيقة، فتدرك «الأنا» حقيقتها، وبذلك فقط تنتفي «الصورة» الخارجية، الصورة التي تحجب الأنا الحقيقية، وتحجب معها الحقيقة.
هذا ما يحيل إليه النص السردي الخاص باللقاء الثالث: صورة الفيلسوف التي تحجبه عن رؤية الشيخ بسبب عجز الفلسفة عن اختراق «الحجاب» الذي لا يمثل عائقًا بالنسبة للعارف. في هذا اللقاء الثالث يصرح الشيخ أن طريق الفلسفة — خاصة طريق فلسفة «أرسطو» والمتكلمين — ليس الطريق الأمثل الموصل للحقيقة. إنما يكون الوصول إليه برفع الأحجبة ونزع الأغطية عن «الأنا» الروحية المحجوبة بالصورة. لماذا إذن تتملك ابن عربي الحَيرة أمام جثمان الفيلسوف، الذي تعادله مؤلفاته على ظهر الدابة التي تحمله من «مرَّاكش» إلى «قرطبة»؟ وما معنى هذه الحَيرة؟
(٧) اللقاء الرابع: بعد الرحيل
«فما اجتمعت به حتى دَرَج، وذلك في سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة مرَّاكش، ونُقل إلى قرطبة وبها قبره. ولما جُعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة جُعِلَت تآليفه تعادله من الجانب الآخر، وأنا واقف ومعي الفقيه الأديب أبو الحسن محمد بن جبير كاتب السيد أبي سعيد، وصاحبي أبو الحكم عمر بن السرَّاج الناسخ، فالتفت أبو الحكم إلينا وقال: ألا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام وهذه أعماله؛ يعني تآليفه، فقال له ابن جبير: يا ولدي، نِعْم ما نظرت، لا فُض فوك. فقيَّدْتها عندي موعظةً وتذكرة، رحم الله جميعهم، وما بقي من الجماعة غيري، وقلنا في ذلك:
لا نجد حضورًا للسنة مكثفًا عند المتكلمين العقلانيين من المعتزِلة والفلاسفة عمومًا من أمثال «الكندي» و«الفارابي» و«ابن سينا» يماثل حضور «القرآن» أو يقاربه. وإذا كان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على أي مفكر إلا أن يجد نفسه مضطرًا للمساهمة في النقاش في مشكلة العلاقة بين «الوحي» و«العقل»، فقد تم قصر محتوى «الوحي» عند المتكلمين والفلاسفة — عدا استثناءات قليلة —في كلام الله الذي هو القرآن. الفقهاء وحدهم هم الذين ضموا «السنة» بمعناها الشامل — أي أقوال النبي وأفعاله، بل وتقريراته (الموافقة على فعلٍ أو قولٍ ما مِن أحد معاصريه أو الاعتراض عليه) — إلى نطاق «الوحي». وكان التمييز الذي استقر تقريبًا في نهاية القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) أن «القرآن» هو «كلام الله» بالمعنى واللفظ، في حين أن «السنة» هي كلام الله بالمعنى فقط دون اللفظ الذي هو من كلام «محمد». هذا بالإضافة إلى تمييز آخر يتمثل في طريقة الانتقال من جيل إلى جيل. في حالة القرآن كان الانتقال بالتواتر عن طريق الحفظ والترديد من خلال الذاكرة الجمعية للمسلمين في كل جيل، بينما انتقلت السنة بالرواية التي تعتمد على الذاكرة الفردية للصحابة الذين اعتنَوا بحفظ بعض ما سمعوه من النبي أو ما شاهدوه يفعله (يُستثنى من ذلك الشعائر الجماعية كالصلاة والحج والصيام، فقد كان يشهدها الجمع الغفير وينقلونها؛ فهي تدخل في باب التواتر كذلك).
لأن ابن رشد شغل منصب «القضاء» فقد كان فقيهًا، أو لأنه كان فقيهًا فقد صار قاضيًا. وله في الفقه كتاب شهير عنوانه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وهو كتاب مختصر لكنه في الوقت نفسه جامع للآراء المذهبية المختلفة في أصول المسائل الفقهية. هذا بالإضافة إلى محاولة ابن رشد أن يرد الخلافات في المسائل بين أصحاب المذاهب إلى أصولها العامة في القواعد، فهو بذلك لا يكتفي بجمع الآراء بل يضيف إليها قدرًا من التحليل؛ فالفيلسوف ليس فقيهًا تقليديًّا. وابن رشد الفقيه كان في ذلك مخلصًا للتقاليد العائلية، فجده كان فقيهًا مرموقًا، لدرجة أن التمييز بين «الجد» الفقيه و«الحفيد» الفيلسوف جعل من الضروري أحيانًا أن يُقرَن باسم «الفيلسوف» كلمة «الحفيد». ولم تكن التقاليد العائلية الرشدية من هذه الزاوية سوى جزء من التقاليد الثقافية في بيئة الأندلس، التي اكتسب فيها الفقهاء خلال حكم «المرابطين» مكانة خاصة، مكنتهم من السيطرة على الحكام فحرَّموا «الكلام» و«الفلسفة». ولعل «ابن طفيل» في «حي بن يقظان» يلمِّح إلى سيطرة الفقهاء بتزمتهم حين يتحدث عن «الجزيرة» التي فر منها «أسال»، ولعله يلمح إلى شخصية «الفقيه» المتزمت المسيطر على عقل العامة وذي السطوة بسبب ذلك عند السلطان، في شخصية «سلامان» الغائبة الحاضرة في السرد.
ولم تهدأ سيطرة الفقهاء في عهد «الموحدين»، إذ كان مناخ الصراع العسكري الديني يدفع بالتوتر في أفق الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية إلى أقصاه، وفي ظل هذا المناخ المتوتر تسيطر عادةً نزعات التمسك بالشكليات الدينية تعبيرًا عن مفاهيم «الهوية» في مواجهة التهديد بالقضاء عليها من قبل أعداءٍ خارجيين يرفعون شعارات دينية بدورهم. نحن نعرف مثلًا أن مأساة «ابن رشد» ومحنته المعروفة تَسبَّب فيها حاجة الخليفة لفرض ضرائب جديدة لتغطية تكاليف الحروب. ولما كان من شأن «العامة» المستضعفين اجتماعيًّا واقتصاديًّا أن تحركهم مثل هذه الأعباء إلى انتفاضات وثورات، فقد كان الحكام دائمًا في حاجة إلى الفقهاء والوعاظ في المساجد ليمتصوا أي احتمال لثورة العامة ضد الأعباء الجديدة. ومن المنطقي في مثل هذا السياق أن يكون للفقهاء بدورهم شروطًا على الحاكم لضبط «السلوك» الديني الذي غالبًا ما يتهمون «الفلاسفة» و«المتكلمين» و«الصوفية» بإفساده.
كان الاهتمام بالفقه، وما يتضمنه من اهتمام بدراسة السنة والوقوف في الوقت نفسه ضد سطوة الفقهاء، هو الجامع بين ابن عربي «الصوفي» وابن رشد «الفيلسوف» في سياق الوضع الأندلسي. من هنا روح «التوقير» البادية في وصف اللقاء الأخير، لقاء ما بعد الرحيل. هذا هو «الرفات»، تعادله المؤلفات تعبر «البحر الأبيض المتوسط» من «مرَّاكش» إلى «قرطبة». أمام هذا المشهد يتساءل «الناسخ» في حضرة «الفقيه». ولا بد للقارئ أن يهتم بملاحظة حرص الراوي على ذكر أن الفقيه هو «محمد بن جبير»، وأنه يعمل كاتبًا لأبي سعيد. لماذا هذا الحرص على ذكر اسم الفقيه وعلى تحديد وظيفته؟ هل لأن الشيخ الأكبر يريد أن يُلمِح إلى «محنة» الفيلسوف ودور الفقهاء فيها؟ ربما. لكن الذي بدأ التعليق على المشهد هو الناسخ «أبو الحكم عمر بن السراج»، فكان من المنطقي أن يَلفت نظره ثقل المؤلفات وكبر حجمها في الوقت نفسه، حتى تعادل «رفات» الفيلسوف على ظهر الدابة. فقال: ألا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام وهذه أعماله. يبدو تعليق الفقيه، كأنه يعظ: يا ولدي، نِعم ما نظرت، لا فُض فوك. لكن ما معنى التعليق وما دلالته؟ ابن عربي وحده في المشهد صامت، لكن الذاكرة استوعبت: «فقيَّدْتها عندي موعظةً وتذكرة، رحم الله جميعهم، وما بقي من الجماعة غيري.» وهو في النهاية الذي يتساءل:
كان هذا المشهد هو آخر شيء شاهده ابن عربي في الأندلس قبل رحيله النهائي الذي لم يعد منه أبدًا إلى الأندلس، فهل كان ابن رشد آخر خيط يربطه بالأندلس وبالمغرب، فلما انقطع الخيط بوفاة ابن رشد قرر الرحيل بلا عودة؟ سؤال يستحق الالتفات، وليست الإجابة عليه يسيرة، خاصة بعد أن ترسخت قراءة المشهد في إطار التعارض بين طريق فيلسوف قرطبة وقاضيها وبين طريق «ابن عربي». هل الأمر بالفعل أمر اختلاف وتدابر، أم كان ابن عربي يدرك أن أمر الأندلس إلى «أفول»، وأن «العلامة» قرأها لا في رحيل ابن رشد فقط، بل في الموعظة التي تشي بالشماتة في تعليق الفقيه على ملاحظة «الناسخ» عن حجم مؤلفات الفقيد ووزنها؟ ابن عربي وحده قرأ العبرة والموعظة في المشهد، ووحده رثى الإمام في تساؤله، كأنه ينعَى الأندلس. لقد تحققت آمال ابن رشد في الغرب شمال المتوسط، فهل تحققت آمال ابن عربي في شرق العالم الإسلامي؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال علينا أن نلقي نظرة على الخطوط العامة لفلسفة ابن عربي.