نشأة الوجود ومراتب الموجودات
مقدمة
يتميز فكر ابن عربي في بنيته بخاصية نادرة جدًّا لا أعلم لها نظيرًا في فكر مفكر آخر. تتمثل تلك الخاصية في أن أي نقطة بداية يختارها الباحث للإبحار في فكر ابن عربي تحيل إلى نظامه الفكري كله، إنه فكر يقوم على بنية دائرية مماثلة لبنية الوجود التي سنشير إليها من بعد. وككل بنية دائرية ثمة مركز وثمة محيط، وأي نقطة على المحيط يمكن أن تكون هي نقطة البداية، وتكون في الوقت نفسه هي نقطة النهاية. ليس مهمًّا في نسق ابن عربي الفكري المتميز من أين تبدأ، لأن أي نقطة ستقودك إلى التجوال في محيط دائري ينتهي بك إلى حيث بدأت. من هنا لا بد من الإشارة مقدمًا إلى أن نظرية الوجود ونشأته ومراتبه ليست إلا نسيجًا مركبًا من عناصر ومكونات شتى تشكلت في نظرية يصعب الإلمام بها دون فك شَفراتها الأساسية.
هناك ثلاثة عناصر على الأقل في تفسير نشأة الوجود وفي تحليل مراتبه في خطاب ابن عربي؛ العنصر الأول: هو مفهوم «التجلي الأسمائي»، والعنصر الثاني: مفهوم «التجلي في النفس الإلهي»، وهو العنصر الذي يمثل محور نظرية «الكلمة» عند الشيخ الأكبر. أما العنصر الثالث: فهو مفهوم «النكاح». وسنبدأ عرضنا بشرح مفهوم «التجلي الأسمائي»، وتلخيصه أن «الأسماء الإلهية» تمثل الوسيط العازل بين «الذات الإلهية» وبين «العالم». من خلال الأسماء تَبْطُن «الذات» عن أن يلحقها وصف أو تتعلق بها معرفة أيًّا كانت سوى معرفة «وجودها». لكن هذه الأسماء ذاتها هي التي تتجلى في العالم، أي تمنحه صفة «الوجود». ومن هذه الزاوية فهي تُظهِر فعالية الذات — المحتجبة فيها — في العالم. وهنا نتفهم قول ابن عربي: «الحق بين الخلق وبين ذاته الموصوفة بالغِنى عن العالمين. فالألوهة في الجبروت البرزخي؛ فتقابل الخلق بذاتها، وتقابل الحق بذاتها. ولهذا لها التجلي في الصور الكثيرة والتحول فيها والتبدل؛ فلها إلى الخلق وجه به يتجلى في صور الخلق، ولها إلى الذات وجه به تظهر للذات. فلا يعلم المخلوق الذات إلا من وراء هذا البرزخ وهو الألوهة. فتحققناها فما وجدنا سوى ما ندعوه بها من الأسماء الحسنى؛ فليس للذات جبر في العالم إلا بهذه الأسماء الإلهية. ولا يُعرَف من الحق غير هذه الأسماء الإلهية، وهي أعيان هذه الحضرات» (راجع الفتوحات ٤: ٢٠٨-٢٠٩، وأيضًا: ٢: ٢٠٣، ٣٧٩، و٣: ٣٥٨).
إن ابن عربي على خلاف الفلسفة الإشراقية — المتأثرة بالأفلاطونية المحدثة — لا يرى الوجود بنية خطية هابطة من «الواحد» أو «الأول»، ولكن الوجود عنده دائرة ذات مركز ومحيط. يمثل المحيط دائرة الموجودات الممكنة، بينما يكون المركز هو «الله» الاسم الجامع للأسماء الإلهية والمعبر في الوقت نفسه عن ظاهر «الذات». ابن عربي هنا مخلص أشد الإخلاص للمعاني والدلالات القرآنية، كما أنه مخلص بنفس القدر للتمييز الحاد الذي لا تنازل عنه بين «الذات» الإلهية وبين أسمائها وصفاتها التي يعبر عنها جميعًا الاسم الجامع «الله».
من مركز الدائرة — دائرة الوجود — وهو الاسم «الله» تمتد خطوط لكل نقطة من المحيط، وهي الأسماء الإلهية التي لا يحصرها عدد ولا يحيط بها إحصاء. لكن داخل الدائرة دوائر أصغر بعضها يصور الأسماء الفاعلة في إظهار الممكن الأول، وبعضها يمثل الأصول الطبيعية الأربعة — الماء والهواء والتراب والنار — التي منها يتكون العالم الطبيعي. «كل خط يخرج من النقطة إلى المحيط مساوٍ لصاحبه، وينتهي إلى نقطة من المحيط. والنقطة في ذاتها ما تعددت ولا تزيدت مع كثرة الخطوط الخارجة منها إلى المحيط. وهي تقابل كل نقطة من المحيط بذاتها، إذ لو كان ما يقابل به نقطة يقابل به نقطة أخرى لانقسمت ولم يصح أن تكون واحدة، وهي واحدة، فما قابلت النقط كلها — على كثرتها — إلا بذاتها. فقد ظهرت الكثرة عن الواحد العين، ولم يتكثر هو في ذاته، فبطل قول من قال لا يصدر عن الواحد إلا واحد (إشارة واضحة للفلاسفة الإشراقيين وأتباع أفلوطين من أصحاب الفيض والصدور). فذلك الخط الخارج من النقطة إلى النقطة الواحدة من المحيط هو الوجه الحاصل لكل موجود من خالقه، وهو قوله: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
فالإرادة هنا هي ذلك الخط الذي فرضناه خارجًا من نقطة الدائرة إلى المحيط، وهو التوجه الإلهي إلى عين تلك النقطة في المحيط بالإيجاد، لأن ذلك (المحيط) هو عين دائرة الممكنات. والنقطة التي في الوسط المعَيِّنة لنقطة الدائرة المحيطة الواجب الوجود لنفسه. وتلك الدائرة المفروضة دائرة أجناس الممكنات، وهي محصورة في: جوهر متحيز، وجوهر غير متحيز، وأكوان، وألوان.» «والذي لا ينحصر وجود الأنواع والأشخاص، وهو ما يحدث من كل نقطة من كل دائرة من الدوائر التي يحدث فيها دوائر الأنواع. وعن دوائر الأنواع دوائر أنواع وأشخاص، فاعلم ذلك. والأصل في النقطة الأولى لهذا كله. وذلك الخط المتصل من النقطة إلى النقطة المعينة من محيطها يمتد منها إلى ما يتولد عنها من النقطة في نصف الدائرة الخارجة عنها، وعن ذلك النصف تخرج دوائر كاملة. وعلة ذلك الامتيازُ بين «الواجب الوجود لنفسه» وبين «الممكن»؛ فلا يتمكن أن يظهر عن «الممكن»، الذي هو دائرة الأجناس، دائرةٌ كاملة؛ فإنها كانت تدخل بالمشاركة فيما وقع به الامتياز. وذلك محال، ليتبين نقص «الممكن» عن كمال «الواجب الوجود لنفسه»» (الفتوحات ١: ٢٨٩-٢٩٠).
هذا التصور الدائري للوجود هو ما يميز تصور ابن عربي عن غيره من التصورات في التراث الإسلامي، وهو تصور يجعل من صدور «الكثرة» عن «الواحد» أمرًا مقبولًا دون تعارض منطقي. ومن المهم الإشارة إلى أن ابن عربي يقرن كلامه بالرسم، وله رسالة بعنوان «إنشاء الدوائر» يفصل فيها نظريته التي تُبقي على المفهوم الديني للخلق من خلال تأويله بمفهوم ديني آخر هو «التجلي». هكذا تكون التوجهات الإلهية حاضرة في العالم، وتكون بنية العالم بنية روحية في حقيقتها وجوهرها. ويصبح من الطبيعي أن تتعدد الظواهر المرئية المشاهدة رغم الرابطة الروحية الجامعة لأشتاتها، وهي الرابطة التي لا يدركها إلا العالمون.
إن هذا التصور الدائري إلى جانب قدرته على تجسيد التصور الروحي للعالم والوجود؛ أعني بوصف الوجود بنية روحية، يضمن التقاء البداية — بداية الوجود — بالنهاية؛ الأمر الذي يُسقط مفهوم «الزمن» الخطي لصالح مفهوم «الزمن» الكوني، أو الزمن الإلهي. في هذا الزمن الإلهي الباطن الذي يُعَد الزمن الخطي الظاهر تعبيرًا — مجرد تعبير سطحي — عنه، توجد الموجودات كلها، وفيه تتحرك حركتها الدائرية التي تربط البداية بالنهاية.
«اعلم أن العالم لما كان كُروي الشكل لهذا حن الإنسان في نهايته إلى بدايته، فكان خروجنا من العدم إلى الوجود به سبحانه وإليه نرجع كما قال عز وجل: «وإليه يُرجع الأمر كله» وقال: «وإليه المصير» وقال: «وإلى الله عاقبة الأمور.» ألا تراك إذا بدأت وضع دائرة فإنك عندما تبتدئ بها لا تزال تديرها إلى أن تنتهي إلى أولها، وحينئذ تكون دائرة. ولو لم يكن الأمر كذلك لكنا إذا خرجنا من عنده خطًّا مستقيمًا لم نرجع إليه، ولم يكن يصدق قوله، وهو الصادق: «وإليه تُرجَعون.» فكل أمر وكل موجود هو دائرة تعود إلى ما كان منه بدؤها، وإن الله تعالى قد عيَّن لكل موجود مرتبة في علمه.» (الفتوحات ١: ٢٨٤)
(١) الأسماء الإلهية والممكنات
يستخدم ابن عربي مفهوم «الأعيان الثابتة» ويوظفه في نسق تصوره العام للوجود ولنشأته. فهذه «الأعيان الثابتة» في العدم — يقول ابن عربي — لا تمتلك من خصائص الوجود شيئًا سوى القابلية لسماع الأمر الإلهي والاستجابة له: «ولم يكن للأعيان في حال عدمها شيء من النِّسب إلا السَّمع، فكانت الأعيان مستعدة في ذواتها، في حال عدمها، لقبول الأمر الإلهي إذا ورد عليها بالوجود. فلما أراد لها الوجود قال لها «كن» فتكونت وظهرت في أعيانها، فكان الكلام الإلهي أول شيء أدركته من الله تعالى بالكلام الذي يليق به سبحانه» (الفتوحات ١: ١٨٧). وهذا الفهم متسق تمامًا مع النسق القرآني، حيث قال الله تعالى للسماء والأرض: ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فالطاعة هنا هي سرعة الاستجابة للأمر الإلهي بالتكوين.
الممكنات: إن العدم قد أعمانا عن إدراك بعضنا بعضا، وعن معرفة ما يجب لكم من الحق علينا. فلو أنكم أظهرتم أعياننا وكسَوتمونا حُلَّة الوجود أنعمتم علينا وقمنا لكم بما ينبغي لكم من الإجلال والتعظيم. وأنتم أيضًا كانت السلطنة تصح لكم في ظهورنا بالفعل، واليوم أنتم علينا سلاطين بالقوة والصلاحية؛ فهذا الذي نطلبه منكم هو في حقكم أكثر منه في حقنا.
أدركت الأسماء الإلهية — مثل الخالق الذي هو المقدِّر، والعالم، والمدبر، والمفصِّل، والباري، والمصوِّر، والرازق، والشكور، وجميع الأسماء الإلهية — أن هذا الذي ذكرته الممكنات صحيح لأنهم حين نظروا في ذواتهم لم يجدوا مرجعية لهم تبرز فاعليتهم، فأين «المخلوق» و«المعلوم» والمدبَّر … إلخ؟ الممكنات إذن على حق في قولهم إن الأسماء تظل مثلهم مجرد ممكنات (بالقوة والصلاحية لا بالفعل والتحقق) ما لم توجد الممكنات نفسها فتمنح الأسماء صلاحيتها الفعلية.
المفهوم الجدير بالإبراز هنا أن ابن عربي يجعل الوجود علاقة مشاركة بين «الأسماء الإلهية» و«العالم»؛ إذ بدون ظهور أعيان الممكنات من حالة العدم لا تتحقق للأسماء الإلهية فعاليتها، فتظل مجرد إمكانيات باطنة في الذات الإلهية. ومن جهة أخرى فإن ظهور الممكنات من حالة العدم إلى حالة الوجود أمر مستحيل دون ممارسة الأسماء الإلهية لفعاليتها. نحن إذن إزاء مرتبتين، أو لنقل كينونتين، تتضمن إحداهما الأخرى تضمنًا ضروريًّا: هما «الألوهية» و«العالم»، وكلتاهما بالنسبة للذات الإلهية — الواجب الوجود بالذات — ممكنات وجودية.
من هنا يجب تفَهُّم لماذا حرص ابن عربي في عرضه التصويري أن يبين كيف اعتمدت الممكنات في تحريضها للأسماء على المسارعة في إظهار أعيانها إلى تأكيد حاجتهن — حاجة الممكنات — أولًا إلى الظهور، ثم ثانيًا بيان احتياج الأسماء لهذا الظهور من أجل أن تُبرز فعاليتها. والحال كذلك، فمن الفاعل ومن المنفعل؟ هل الأسماء الإلهية هي التي أظهرت الممكنات، أم الممكنات هي التي أظهرت الأسماء؟ سؤال محير، لكن «الحَيرة» في نظر ابن عربي هي قمة المعرفة الحقيقية. من هنا نفهم تساؤله البلاغي الشعري:
ولأن طلب الممكنات كان مقنعًا للأسماء من زاوية حاجتها هي لإظهار سلطان فعاليتها، فقد اجتمعت — كما يقص ابن عربي — وتشاورت وقررت التوجه للاسم الإلهي «الباري» طالبة منه أن يُظهر أعيان الممكنات. لكن الاسم «الباري» يحتاج إلى الاسم «القادر» ليتمكن من القيام بمهمته؛ فيحيل الاسم «الباري» الأسماء الإلهية لتطلب من الاسم «القادر» إظهار فعاليته التي تمنح الاسم «الباري» القدرة لإظهار فعاليته بإظهار أعيان الممكنات.
لكن الاسم «القادر» بدوره اسم يدل على مطلق القدرة — إن الله على كل شيء قدير — فهو يحتاج من ثَم للمرجِّح والمخصِّص الذي يحدد له مجال ممارسة فعالية فعله — «القدرة» — على التحديد. وهذا الترجيح والتخصيص من وظائف ومهامِّ الاسم الإلهي «المُريد»، وهكذا يحيل الاسم «القادر» الأسماء الإلهية الأخرى، لكي تتوجه بطلبها إلى الاسم الإلهي «المُريد». يقوم الاسم الإلهي «المُريد» بدوره بإحالة الأسماء الإلهية لتتوجه للاسم الإلهي «العالِم»، الذي يطلب بدوره من الأسماء الإلهية أن تستأذن الاسم الجامع «الله». ورغم أن الاسم الله يمثل الجمعية — جمعية الأسماء الإلهية — فهو محكوم بسلطة «الذات» الإلهية؛ فيحتاج من ثَم إلى الدخول على مدلول «الذات» طلبًا للإذن بالفعل.
لا يسرد لنا ابن عربي ما قاله الاسم «الله» للذات الإلهية. أكثر من ذلك لا ينص ابن عربي صراحة، أي لا يصرح تصريحًا مباشرًا بدخول «الله» على الذات، ويكتفي بالقول إنه دخل على «مدلول» الذات. وهي عبارة تعكس حرصًا بالغًا من جانب ابن عربي على عدم إعطاء أي وصف لغوي — فلسفي أو لاهوتي أو حتى سردي — للذات الإلهية. إنها خارج العالم وفوق أي معرفة، ولا تطولها العبارة سلبًا أو إيجابًا. إن وسيلتنا لمقاربة وجودها — مجرد وجودها بلا زيادة ولا نقصان — هو معرفة «الأسماء» الإلهية. ومعرفة «العالم» هي وسيلتنا الوحيدة الممكنة لمعرفة «الأسماء» الإلهية. وإذا كنا نحن العارفين جزءًا من العالم، الجزء الذي يمثل الكل، فالعالم «إنسان كبير» والإنسان «عالم صغير»، فإن معرفتنا بذواتنا هي معرفة بالعالم ومعرفة بالأسماء الإلهية. أليس «من عرَف نفسه فقد عرَف ربه»؟
ليس ثمة وسيلة إذن لمعرفة ما جرى حين دخل الاسم الجامع «الله» على مدلول الذات الإلهية. وينتهي التصوير السردي لقصة الخلق، أو بالأحرى لقصة ظهور العالم من حالة العدم، بقول ابن عربي: فخرج الاسم «الله» ومعه الاسم «المتكلم» يترجم عنه للممكنات والأسماء (الإلهية)، فذكر لهم (الاسمُ الله) ما ذكره المسمَّى (أي الذات)؛ فتعلق (الاسم الإلهي) «العالِم» و(الاسم الإلهي) «المُريد» و(الاسم الإلهي) «القائل» و(الاسم الإلهي) «القادر» فظهر الممكن الأول من الممكنات بتخصيص (الاسم الإلهي) «المُريد» وحُكم (الاسم الإلهي) «العالِم» (الفتوحات ١: ٣٦٠).
جدير بالإشارة هنا أن الشيخ يعطي دورًا متميزًا لاسمين إلهيين متشابهين، هما الاسم «المتكلم» والاسم «القائل»، فما هو الفارق بينهما؟ لاحظنا أن دور الاسم الإلهي «المتكلم» في التصوير السردي هو «الترجمة» عن الاسم «الله» فيما ينقله هذا الأخير عن «الذات»، بينما يكون دور الاسم الإلهي «القائل» متعلقًا بإظهار أعيان الممكنات.
هذا التمييز بين صفة «الكلام» وصفة «القول» ليس مجرد تمييز شكلي أو إجرائي، فالكلام صفةٌ محايثةٌ للذات، أي من الصفات الذاتية، بينما تنتمي صفة «القول» لصفات «الأفعال». وابن عربي في هذا التمييز بين «المتكلم» و«القائل» يستند بلا شك للمعطيات القرآنية المباشرة، حيث يتعلق «القول» بفعل «الإيجاد» متمثلًا في الأمر الإلهي «كن» تعبيرًا عن «الإرادة»، بينما تتعلق صفة «الكلام» بسياقات أخرى: الكلام مع الملائكة، الكلام مع موسى … إلخ. وهنا يبدو ابن عربي حريصًا على عدم مخالفة ظاهر القرآن بالتأويل، على طريقة المعتزِلة خصوصًا، والفلاسفة والمتكلمين على وجه العموم. لكنه في الوقت نفسه لا يتردد في استعارة بعض مفاهيمهم بقدر ما تتلاءم مع نسقه المعرفي وتخدم فلسفته.
من الضروري أيضًا أن نلاحظ أن الشيخ في هذا التصوير السردي لا يتحدث عن إبراز الممكنات كلها، فهذا لا يتسق مع مفهومه للخلق المتجدد والتجليات الدائمة استنادًا إلى العبارة القرآنية: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، بقدر ما يتحدث عن ظهور الممكن «الأول» من الممكنات في إشارة واضحة «للعقل الأول» عند الفلاسفة الإشراقيين، أو «للقلم» في القرآن، أو «الحقيقة المحمدية» عند الصوفية، أو «حقيقة الحقائق الكلية» عند المشائين من أتباع «أرسطو». عن هذا الموجود الأول انبثقت الموجودات الكلية من خلال عمليات تفاعل كونية تتحكم فيه، وتوجهها «التجليات الإلهية» الدائمة.
(٢) مراتب التجليات الوجودية في النفس الإلهي
وَفقًا لمفهوم التجلي في «النفس الإلهي» يرى ابن عربي أن الوجود قد نشأ حروفًا في «النفس» الإلهي حين أرادت «الذات» الإلهية أن ترى نفسها في صورة غير ذاتها. وفي تعبير آخر إن الذات الإلهية أرادت أن تُعرَف خارج إطار ذاتيتها. يعتمد ابن عربي في هذا التصور على تأويلٍ خاص للحديث القدسي الرائج في دوائر التصوف فقط: «كنتُ كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرَف؛ فخلقتُ الخلقَ فبي عرَفوني»، فيقرر أن «الواحد» أحب أن يرى نفسه في صورة غيرية، يتجلى فيها ويرى نفسه من خلالها. ويتمسك ابن عربي في تأويله للحديث القدسي بالمعنى الحرفي لكلمة «أحببتُ» ويفسرها بالعشق الذي يسبب ضِيقًا في النفس؛ فيحاول العاشق «التنفيس» عن ضِيقه بإخراج ما في صدره عن طريق «التنفس» العميق.
وهكذا يكون التجلي الإلهي الذاتي من مرتبة الوجود «لا بشرط شيء» إلى مرتبة «الوجود بشرط لا شيء» تفريجًا عن «كرب» الوحدة، وعن «حب» الواحد أن يرى ذاته ماثلة في صورة غيرية. في هذا المستوى المعبر عن «نفس» الذات بدأ الوجود رحلة تجلياته، التي هي صورة الذات منعكسة في الخارج. (الفتوحات ٢: ٣١٠، ٤٢٠).
ومن المهم هنا التوقف عند مدلول «الحب» في الحديث لارتباطه بمفهوم الرحمة؛ فالذات التي «أحبت» أن ترى نفسها في صورة أخرى غير ذاتها سبَّب لها «الحب» غير المتحقق ضِيقًا في النَّفَس، فكان «التنفس» هو الوسيلة المثلى للتفريج عن هذا الضيق. وعن هذا التنفس — الذي هو العماء — تتكون حروف الوجود حرفًا حرفًا — أو لنقُل مرتبةً مرتبةً — حتى استوت مراتب الوجود الأساسية كما تنتظم حروف اللغة في النفَس الإنساني. فإذا استوت الحروف أمكن تكوين الكلمات، وإذا استوت بالمثل مراتب الوجود الأساسية أمكن ظهور الموجودات. أليست الموجودات في النهاية هي كلمات الله؟ الوجود إذن نبَع من بُعدين ونشأ على أساسين: الحب من جهة والرحمة من جهة أخرى. وهذا هو الذي يبرر لابن عربي أن يكون مآل الوجود إلى الرحمة التي منها بدأ.
هذا النفس الإلهي هو البرزخ، وهو الوسيط الجامع الذي ينتظم الكون كله، يقسمه ابن عربي إلى أربعة مستويات، يتفرع كل مستوًى منها إلى أربعة مستويات فرعية متداخلة في بعضها البعض، بحيث يظل هناك دائمًا بين كل مستوًى والذي يليه مجالٌ مشترك يكون عادة «الرابع» في المستوى الأعلى، وهو هو بذاته «الأول» في المستوى التالي. وبعبارة أخرى، إذا كان الوجود كله من أعلاه إلى أدناه برزخًا فاصلًا وجامعًا، فإن هذا البرزخ الجامع ينقسم إلى ما لا نهاية له من البرازخ. من الضروري الإشارة هنا إلى أن ابن عربي حين يُسهب في شرح مراتب الوجود ومستوياته يحذر قارئه دائمًا من تصور أي نوع من التوالي الزماني؛ فالزمان لا مدخل له في التجليات الإلهية لأنه مفهوم نسبي محدَث مخلوق (الفتوحات ١: ٢٩١).
ومن الهام هنا أيضًا تأكيد أن العلاقة بين المستويات البرزخية هي علاقة «الباطن» و«الظاهر»؛ بمعنى أن المستوى الأول — البرزخ الأعلى — يمثل المستوى «الظاهر» مقارنًا بمستوى الذات الإلهية في وحدتها المطلقة، ولكنه بالنسبة للمستوى الثاني — عالم العقول — يُعَد «باطنًا». ويُعَد المستوى الثاني، من جهة أخرى، «ظاهرًا» بالنسبة للمستوى الأول، لكنه «باطن» بالنسبة للمستوى الثالث، وهكذا. نفس العلاقة — علاقة «الباطن» و«الظاهر» — تتمثل في العلاقة بين المراتب في كل مستوًى على حدة؛ فالمرتبة الأولى في كل مستوًى تمثل «ظاهر» المرتبة الأخيرة في المستوى السابق، وهي «باطن» بالنسبة للمرتبة التالية لها داخل نفس المستوى، وهكذا.
(٢-١) مستوى «البرزخ الأعلى» أو «الخيال المطلق» أو «برزخ البرازخ» أو «العماء المطلق»
يقع هذا المستوى خارج نطاق المعرفة، إلا من خلال تجلياته — وجوديًّا ومعرفيًّا — في المستويات التي تليه. وليس هذا المستوى إلا تعبيرًا أُنطولوجيًّا/معرفيًّا عن مستوى الذات في وحدتها المطلقة وغيبها الأزلي. ويتضمن هذا المستوى أربع مراتب من «الوسائط» أو «البرازخ» هي بمثابة «العلل» الكلية للوجود عند الفلاسفة:
-
(أ)
المرتبة الأولى: هي مرتبة «الألوهة»، وهي مجموع الأسماء الإلهية الفاعلة في العالم. وهي تمثل الوسيط الذي تجتمع فيه «الذات الإلهية» و«العالم»، ومن خلال هذه المرتبة يتمكن ابن عربي من حل معضلة ثنائية «الذات والصفات»، وهي معضلة أساسية في «علم الكلام». وهذه المرتبة تقابل مفهوم «العلة الفاعلة» عند الفلاسفة. في هذا الفلك الأعلى تنتظم حقائق «الألوهة» وهي النسب والإضافات التي تتطلب وجود العالم كما يتطلبها بنفس الدرجة. إنها «الحضرة الجبروتية» التي تفصل بين «الحق» و«الخلق» من جهة، وتقابلهما وتصل بينهما من جهة أخرى.
-
(ب)
المرتبة الثانية: هي مرتبة «العماء أو الأعيان الثابتة في العدم»، وهي تمثل وسيطًا من نوع آخر بين «الوجود المطلق الكلي» و«العدم المطلق». إنه وسيط عالم «الإمكان» الذي توجد فيه أعيان الموجودات وجودًا بالقوة لا بالفعل. وهذه المرتبة تقابل مفهوم «العلة الهيولانية» عند الفلاسفة.
-
(جـ)
المرتبة الثالثة: هي مرتبة «حقيقة الحقائق الكلية»، وهي الوسيط العلمي/المعرفي الكلي؛ أي الحقائق الكلية المعقولة التي تشبه إلى حد كبير «المقولات الكلية». وهذه المرتبة تقابل مفهوم «العلة الصورية» عند الفلاسفة.
-
(د)
المرتبة الرابعة: هي مرتبة «الحقيقة المحمدية أو الإنسان الكامل»، وهي تمثل الوسيط بين «الذات الإلهية» و«الإنسان»، وهي تقابل مفهوم «العلة الغائية» عند الفلاسفة. ولهذه «الحقيقة المحمدية» جانبان بوصفها برزخًا في ذاتها: من حيث الجانب الذي تنتمي به إلى «البرزخ» الأعلى هي الحقيقة المحمدية السارية في الكون والإنسان والنبوة، هي العلة الغائية. ومن حيث الوجه الذي تنظر به إلى المستوى التالي، عالم الأمر، هي «العقل الأول» و«القلم الأعلى».
(٢-٢) مستوى «عالم الأمر» أو «العقول الكلية»
هذا المستوى — مستوى عالم الأمر أو العقول الكلية — يحتل بدوره موقعًا وسطًا بين مستوى «الخيال المطلق» السابق ومستوى «عالم الخلق» الذي يليه. وبدءًا من هذا المستوى تتجلى فعالية الأسماء الإلهية في توجهها على إيجاد أعيان مراتب الوجود التي تتعلق بها المعرفة (كما شرح ابن عربي أليجوريًّا في الفقرة السابقة). وبدءًا من هذا المستوى أيضًا ترتبط كل مرتبة وجودية بمرتبة معرفية يُعبَّر عنها برمزية حرف من حروف اللغة. وينبع هذا الربط بين مراتب الوجود الكلية وبين حروف اللغة عند ابن عربي من موازاته للمستوى السابق بمفهوم «النفَس الإلهي» كما سبقت الإشارة. وكما تتشكل حروف اللغة نطقًا في النفَس الإنساني باعتماد أعضاء النطق على أماكن معينة في جهاز النطق، كذلك تتشكل مراتب الوجود الكلية في مستوى العماء، وتظهر بالتجليات المختلفة والدائمة لحقائق الألوهة. ومن الضروري التنبيه هنا إلى أن هذا المستوى من الوجود وجود «عقلي» لا وجود «عيني» (الفتوحات ١: ٦٧٥).
-
(أ)
يُعَد «العقل الأول أو القلم الأعلى» أول مبدَعٍ في العماء: فهو ينتمي من حيث بُعده الباطن إلى مستوى «الخيال المطلق» في مرتبته الرابعة «الحقيقة المحمدية»، بينما ينتمي ظاهرُه إلى أولى مراتب مستوى «عالم الأمر». ومعنى ذلك أنه يقوم بدور «همزة الوصل» بين المستويين الأول والثاني. والاسم الإلهي الذي توجه على إيجاد «العقل الأول أو القلم» هو «البديع»، ويوازيه من حروف اللغة حرف «الهمزة» على المستوى الوجودي/المعرفي.٨ (الفتوحات ٢: ٤٢٠، ٤٢٧).
-
(ب)
المرتبة الثانية: هي «النفس الكلية أو اللوح المحفوظ»، أول منبعث عن مرتبة «العقل أو القلم». ويمثلها على مستوى اللغة حرف «الهاء»، وتوجه على إيجادها الاسم الإلهي «الباعث» (الفتوحات ٢: ٥٦٨، ٣: ٢٩٦، ٤٢٠).٩ والفارق بين العقل الأول واللوح المحفوظ فارق كَمِّي لا كيفي، بمعنى أن كلًّا منهما يمثل تجليًا مختلفًا في مستوى العماء، يتماثل مع الفارق بين «الهمزة» — الملتبسة في وصف اللغويين العرب بألف المد، والتي يكون هواء النفَس حالة النطق بها في حالة تحرر كامل — وبين حرف الهاء التي تمثل مرحلة أدنى من تحرر الهواء على المستوى الصوتي؛ بسبب ما في نطقها من الاحتكاك نتيجة ضِيق مخرج الهواء عند النطق بها.
-
(جـ)
المرتبة الثالثة: هي «الطبيعة الكلية أو الهباء»، وهي ثمرة التلاقح بين «القلم» أو «العقل»/مذكر وبين «النفس الكلية»/مؤنث. وتمثل هذه المرتبة من حروف اللغة حرف «العين»، ومن الأسماء الإلهية الاسم «الباطن».
-
(د)
المرتبة الرابعة: مرتبة يسميها ابن عربي «الهيولى الكل» أحيانًا، ويشير إليها في أحيان أخرى باسم «الجوهر الهبائي». هذه المرتبة توجه على إيجادها الاسم الإلهي «الآخِر»، ويوازيها حرف «الحاء» من حروف اللغة. ويُدْمِج ابن عربي داخل هذه المرتبة مرتبة أخرى هي مرتبة «الجسم الكل». هذه المرتبة الأخيرة تمثل مرتبة وسطى بين آخر «المعقولات» وبين أول الموجودات في المستوى الثالث، مستوى «عالم الخلق»، وهو «العرش». وعلى إيجاد تلك المرتبة الوسطى المدمجة توجه الاسم الإلهي «الظاهر»، ويوازيها من حروف اللغة حرف «الغين» (الفتوحات ٢: ٤٣٠، ٤٣١، ٤٣٣). ويتداخل أيضًا مع تلك المرتبة مرتبة «الشكل»، التي تبدو مرتبة أكثر تجريدية لمفهوم «الجسم الكل»؛ ذلك لأن الاسم الإلهي المتوجه على إيجاد هذه المرتبة هو الاسم «الحكيم»، وحرف اللغة الذي يوازيها هو حرف «الخاء».
وللأسماء الإلهية هنا دلالتها؛ فالطبيعة تمثل باطن النفس الكلية (اللوح المحفوظ)، والجسم الكل يمثل مجلى «الظهور» الأول في «الجوهر الهبائي» أو «الهيولى الكل»، الذي يمثل بدوره آخر المراتب المعقولة. ويجب الإشارة هنا إلى أن التمييز بين هذه المراتب يتسم ببعض الغموض عند ابن عربي. ولكن مثل هذا الغموض يزول إذا وضعنا في اعتبارنا تأكيد ابن عربي الدائم أن هذه المراتب ليست مراتب وجودية عينية، بل هي مراتب معقولة تمثل وسائط ذهنية. والواقع أن ترتيب تلك المراتب، وما يرتبط بإيجادها من أسماء إلهية، وكذلك ما يوازيها من حروف اللغة، إنما هو ترتيب لا يعكس تتاليًا بأي معنًى من المعاني. إنها كلها في حقيقتها تعبيرات مختلفة عن حقيقة واحدة هي الحقيقة الإلهية على مستوى الأسماء، وحقيقة «العماء» أو «النفَس الإلهي» على مستوى حروف اللغة. والترتيب مجرد تصور ذهني عقلي، فالأمر في حقيقته دائرة يتصل أولها بآخرها كما سبقت الإشارة.
(٢-٣) مستوى عالم الخلق
وهو يتكون كذلك من أربع مراتب:
-
(أ)
المرتبة الأولى: «الجسم الكلي أو العرش»، وهو يمثل من حيث باطنه آخر مستويات مرتبة «عالم الأمر»، ويمثل من حيث ظاهره أول مستويات المرتبة الثالثة. ولأنه أول عالم الوجود الروحي، الذي يحيط بجميع الموجودات؛ فقد توجه على إيجاده الاسم الإلهي «المحيط»، ويوازيه من حروف اللغة حرف «القاف».
-
(ب)
المرتبة الثانية: مرتبة «الكرسي» الذي يمثل بداية عالم «التعدد» في عالم الروحانيَّات، لكنه تعدد في مستوى «الإثنينية»، والتي تتحول إلى «كثرة» في المرتبة التالية. والإثنينية التي يمثلها الكرسي منشؤها أنه موضع «القدمين»؛ أي انقسام الأمر الإلهي إلى «خبر وحكم»، وانقسام الحكم إلى «أمر ونهي»، ثم انقسم الأمر إلى «وجوب وندب وإباحة»، في حين انقسم النهي إلى «حظر وكراهة». هذا تأويل ابن عربي لثنائية «القدمين»، التي يمثلها «الكرسي» إذا قورنَت مرتبته بمرتبة العرش السابقة. ويوازي الكرسي حرف «الكاف» من حروف اللغة، والاسم الإلهي الذي توجه على إيجاده هو «الشكور».
-
(جـ)
المرتبة الثالثة: هي «الفلك الأطلس» أو فلك «البروج»، الذي تتحول ثنائية المرتبة السابقة فيه إلى كثرة تمثلها البروج الاثنا عشر. وهذا الفلك يُعَد — بحكم تمثيله للكثرة — علةً لكل التغيرات التي تحدث في عالم «الكون والاستحالة» (التبدل والتغير) على المستويين الطبيعي والروحي. يوازي هذه المرتبة من حروف اللغة حرف «الجيم»، وتوجه على إيجاده الاسم الإلهي «الغني».
-
(د)
المرتبة الرابعة: هي مرتبة «فلك الكواكب الثابتة» أو «كوكب المنازل»، وله من الحروف حرف «الشين»، وتوجه على إيجاده الاسم «المقدِّر». وللاسم الإلهي هنا دلالته؛ لأن الأمور يتم تقديرها تقديرًا فعليًّا عبر هذا الفلك. أما دلالة حرف الشين فنابعة من خصائصه الصوتية، حيث يمثل «تفشيًا» واضحًا للهواء حال النطق به، وهي حالة توازي تحول «المضمر» إلى «معلن» في الأمر الإلهي من حيث صلته بعالم الكون والاستحالة.
(٢-٤) مستوى عالم الشهادة (الكون والاستحالة)
وهو يتضمن — أولًا — الأفلاك السبعة المتحركة، والتي تسبب حركتُها التغيرَ والتحولَ في العالم المشهود لنا. هذه الأفلاك السبعة يتوسطها فلك «الشمس»، يعلوها ثلاثة أفلاك وتعلو هي ثلاثة أخرى. وهذه الأفلاك كلها مقدرة في فلك المنازل، الذي هو بدوره في باطن الفلك الأطلس. وليس هذا الأخير إلا دائرة أضيق داخل دائرة «الكرسي»، الذي هو بالنسبة للعرش كالحلقة الملقاة في فلاة. وكل الأفلاك السبعة المتحركة توجه على إيجاده اسم إلهي، ويوازيه حرف من حروف اللغة كما هو مبين في الشكل. لكن الجدير بالالتفات هنا هو ظهور أرواح بعض «الأنبياء» في كل فلك من تلك الأفلاك، تمثل كل واحدة منها «الروحَ» الموكَّلةَ بحفظ الفلك. هذا إلى جانب أن ابن عربي يحدد اسم اليوم الذي تم فيه إيجاد كل فلك منه، الأمر الذي يكشف عن معنى «الكون والاستحالة». وآخر هذه المرتبة هو فلك «القمر» الذي يليه عالم الكون والاستحالة الفعلي.
(ب) المرتبة الثانية في هذا المستوى هي الدوائر التي تمثل العناصر الطبيعية الأربعة: «النار» و«الهواء» و«الماء» و«التراب». ولكل منها فلك توجه على إيجاده اسم إلهي، كما يوازيه حرف من حروف اللغة. ومرة أخرى يحرص ابن عربي على تأكيد أنه يتحدث عن مراتبَ روحيةٍ كلية، لا عن درجات يعلو بعضها فوق بعض أو يسبق بعضها البعض في الوجود. فالعناصر الأربعة هي الطبائع الأصلية التي منها تشكلت أجسام الكواكب السابقة الإشارة إليها، أي من حيث الوجود المادي.
(ج) المرتبة الثالثة: تتضمن مراتب الموجودات الأصلية، وهي ثلاثة: مرتبة «المعدِن»، ومرتبة «النبات»، ثم مرتبة «الحيوان»، والمقصود بها مرتبة «الحياة» بإطلاق.
الحرف اللغوي | الاسم الإلهي | اسم المرتبة الوجودية |
---|---|---|
الهمزة (الألف الممدودة؟) | البديع | (١) العقل الأول/القلم |
الهاء | الباعث | (٢) النفس الكلية/اللوح المحفوظ |
العين | الباطن | (٣) الطبيعة الكلية |
الحاء | الآخِر | (٤) الهيولى الكل/الجوهر الهبائي |
الغين | الظاهر | (٥) الجسم الكل |
الخاء | الحكيم | (٦) الشكل |
القاف | المحيط | (٧) العرش |
الكاف | الشكور | (٨) الكرسي |
الجيم | الغني | (٩) الفلك الأطلس/فلك البروج |
الشين | المقدِّر | (١٠) فلك الكواكب الثابتة/كوكب المنازل |
الياء |
الاسم الإلهي: الرب النبي: إبراهيم اليوم: السبت |
(١١) كوكب زحل/السماء الأولى/كيوان |
الضاد |
الاسم الإلهي: العليم النبي: موسى اليوم: الخميس |
(١٢) كوكب المشتري/السماء الثانية |
اللام |
الاسم الإلهي: القاهر النبي: هارون اليوم: الثلاثاء |
(١٣) كوكب المريخ/السماء الثالثة |
النون |
الاسم الإلهي: النور النبي: إدريس اليوم: الأحد |
(١٤) كوكب الشمس/السماء الرابعة |
الراء |
الاسم الإلهي: المصوِّر النبي: يوسف اليوم: الجمعة |
(١٥) الزهرة/السماء الخامسة |
الطاء |
الاسم الإلهي: المُحصي النبي: عيسى اليوم: الأربعاء |
(١٦) عطارد/الكاتب/السماء السادسة |
الدال |
الاسم الإلهي: المبين النبي: آدم اليوم: الاثنين |
(١٧) القمر/السماء السابعة، أو السماء الدنيا |
التاء | القابض | (١٨) كرة النار |
الزاي | الحي | (١٩) كرة الهواء |
السين | المحيي | (٢٠) كرة الماء |
الصاد | المميت | (٢١) كرة التراب |
الظاء | العزيز | (٢٢) المعدن |
الثاء | الرازق | (٢٣) النبات |
الذال | المذل | (٢٤) الحيوان |
الفاء | القوي | (٢٥) الملَك |
الباء | اللطيف | (٢٦) الجن |
الميم | الجامع | (٢٧) البشر |
الواو | الرفيع الدرجات | (٢٨) المرتبة |
(٣) الموجودات كلام الله
تتكون الموجودات العينية من تآلف بعض مراتب الوجود السالف ذكرها، والتي تكونت بدورها في «العماء» (النفَس الإلهي). من هنا تتوازى الموجودات العينية مع كلمات اللغة، التي تتكون بدورها من تآلف الحروف، التي توازي مراتب الوجود. وعلى ذلك فالموجودات هي كلمات الله، التي توازيها كلمات اللغة. وإذا كانت مراتب الوجود البسيطة ٢٨ مرتبة مثل عدد حروف اللغة، فإن الكلمات التي تتألف من الحروف، بالمعنى الوجودي واللغوي على السواء، لا حصر لها. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن «الصوامت» تحتاج للحركات من أجل تكوين الكلمات، فلا وجود لكلمة واحدة في اللغة تتكون من صامتين متتاليين. وهنا يأتي دور المستوى الأول من مستويات الوجود «البرزخ الأعلى أو برزخ البرازخ»؛ إذ لا يوازيه أيٌّ من حروف اللغة الصوامت، بل توازيه الحركات، التي لا تتصف بالدخول في هذا العالم ولا بالخروج عنه (الفتوحات ١: ٥٨، ٢: ٣٩٥، ٤٢١–٤٦٩). من تآلف الصوامت والحركات تتألف الكلمات التي تنِد عن الحصر، إنْ في الوجود وإنْ في اللغة: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (سورة الكهف ١٨: ١٠٩)، وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (سورة لقمان ٣١: ٢٧).
«اعلم أن الممكنات هي كلمات الله التي لا تنفد وبها يظهر سلطانها الذي لا يبعد. وهي مركبات؛ لأنها أتت للإفادة فصدرت عن تركيب يُعبَّر عنه باللسان العربي بلفظة «كن»، فلا يتكون عنها إلا مركَّب من روح وصورة، فتلتحم الصور بعضها ببعض لما بينها من المناسبات … والمادة التي ظهرت فيها كلمات الله التي هي العالم هي نفَس الرحمن، ولهذا عُبِّر عنه بالكلمات» (الفتوحات ٤: ٦٥، ١٠٤-١٠٥، ١٦٦-١٦٧؛ ١: ١٦٨-١٦٩؛ ٣: ٢٨٣). وإذا كانت مراتب الوجود وُجدت عن «النفَس» الإلهي، فإن الموجودات المركبة وجدت عن كلمة إلهية مركبة هي فعل الأمر «كن».
ويكتسب حذف «الواو» عند ابن عربي دلالات وجودية، فهي رابطة «باطنة» — غير ظاهرة — بين الكاف والنون، وهي تماثل من هذه الزاوية التوجه الإلهي الباطن في إيجاد عين كل شيء، سواء تم هذا التوجه باسم إلهي، كما في حالة إيجاد مراتب الوجود الأصلية، أو تم التوجه بالقول (الفتوحات ٢: ٣٣١-٣٣٢). هذا الوضع الباطني للواو يتماثل مع تصور ابن عربي لوجود وجهين لكل موجود: وجه إلى علته وسببه المباشر، وهذا هو وجهه الظاهر، ووجه إلى موجده الفعلي، وهو الله، وذلك هو وجهه الباطن.
ولا تتوقف دلالة الكلمة الإلهية «كن» عند هذا المستوى من التحليل؛ لأنها على مستوى آخر من مستواها الظاهر تتماثل مع الأفلاك التسعة (الفلك الأطلس وفلك الكواكب الثابتة بالإضافة إلى الأفلاك السبعة المتحركة) التي ينتج عنها كل ما يحدث في الدنيا والآخرة من كون واستحالة. توازي كلمة «كن» هذه الأفلاك التسعة لأن حروفها الظاهرة والباطنة عددها ثلاثة، يمكن أن تنحل إلى تسعة؛ فالكاف — حين تُنطَق منفردة — ثلاثة حروف هي «الكاف» و«الألف» و«الفاء»، وكذلك الواو ثلاثة — «واو» و«ألف» و«واو» — والنون أيضًا هي: «نون» و«واو» و«نون». ومن جهة أخرى توازي «الكاف» من «كن» الفلك الأطلس؛ لأنه باطن بالنسبة لفلك البروج الذي يليه. و«النون» توازي فلك البروج، الذي يضم في باطنه الأفلاك السبعة المتحركة. أما الواو الباطنة في «كن» فتمثل حركة توجه الفلكين الثابتين على الأفلاك السبعة المتحركة (الفتوحات ١: ١٦٩).
إن دلالة الكلمة هنا لا تنفصل عن دلالة حروفها، بل يمكن القول إن دلالة الكلمة ليست سوى محصلة لمجموع دلالة حروفها الظاهرة والباطنة على السواء. مثل هذا التصور لدلالة الكلمات من شأنه أن يثير أسئلة لا تخطر على ذهن مفسر غير متصوف، مثل السؤال الذي يثيره ابن عربي مثلًا عن دلالة حذف الألف في رسم المصحف من كلمة «بسم» في «البسملة» ووجودها في نفس الكلمة في غير البسملة مثل: «اقرأ باسم ربك» و«باسم الله مجراها». ويشرح ابن عربي مسألة غياب «الألف» كلمة «بسم» في البسملة بأن «الألف» تدل على الألوهية، والباء — أو بالأحرى النقطة التي تحت الباء — تدل على الإنسان، فيمتنع ظهورهما معًا، خاصة مع كثرة استعمال البسملة في القرآن وفي التداول اللغوي (الفتوحات ١: ١٠٢). أما وجودها في غير البسملة — مع وجود الباء أيضًا — فهو للدلالة عليها، ولتأكيد أن وجود العبد هو مجرد وجود ظاهر، وأن الله هو الفاعل على الحقيقة من خلف حجاب الصور الكثيرة ومنها الإنسان:
«فلو لم تظهر في «باسم» السفينة ما جرت السفينة، ولو لم تظهر في «اقرأ باسم ربك» ما علم المِثْل (الإنسان) حقيقته؛ فتيقَّظ من سِنة الغفلة وانتبه. فلما كثر استعمالها في أوائل السور حُذِفَت لوجود المثل (الإنسان) مقامه في الخطاب وهو الباء، فصار المثل مرآة للسين، فصارت السين مثالًا، وعلى هذا الترتيب نظام التركيب.» (السابق نفسه)
أما منظور ابن عربي لقضية الدلالة فينطلق من منظوره للألوهة — وهي مجموع الأسماء والصفات الإلهية — بأنها مجمل العلاقات الوسيطة بين الذات الإلهية والعالم من جهة، وبينها وبين الإنسان من جهة أخرى. من خلال هذا المنظور تختفي ثنائية الذات والصفات، كما تختفي بالمثل كل الثنائيات الأخرى مثل «القدم والحدوث». وبناء على موازاة ابن عربي بين اللغة والوجود من جهة، وبين مراتب الوجود والأسماء الإلهية من جهة أخرى، تنتفي ثنائية القدم والحداثة على مستوى الدلالة في القرآن؛ الذي يتسم بصفة الإحاطة فيجمع بين صفتي القدم والحدوث (الفتوحات ٤: ٤٠٢).
إذا كانت الموجودات كلمات الله، وكلام الله قديم محدث معًا؛ فالموجودات/الكلمات لها وجه إلى القدم من حيث وجودها في علم الله القديم الأولي الأزلي، كما لها وجه إلى الحدوث من حيث الظهور في صور أعيان الموجودات. ولما كانت اللغة الإنسانية تمثل «ظاهر» اللغة الإلهية، فإن اصطلاحية الدلالة وعُرْفيتها في اللغة الإنسانية تصبح مسألة اعتبارية فقط. وإذا كانت دلالة اللغة الإنسانية — ظاهر اللغة الإلهية — كذلك، فإن دلالة الكلمات الإلهية — باطن اللغة الإنسانية — لا تقوم على الوضع والاتفاق، بل تستند إلى أعيانها ومعانيها الثابتة في علم الله القديم. ولأن الإنساني يمثل «ظاهر» الإلهي، الذي يمثل الباطن الحقيقي والفعلي فإن اللغة الإنسانية تبدو على مستوى الوعي الظاهري وكأنها «تُحْدِث المعاني فينا بحدوث تأليفها الوضعي»، وليس الأمر كذلك، لأن هذه اللغة تدل على الموجودات وتشير إليها، وهذه الموجودات/الكلمات «ما وقع فيها الوضع في الصور المخصوصة إلا لذاتها، لا بحكم الاتفاق، ولا بحكم الاختيار؛ لأنها بأعيانها أعطت العلم الذي لا يتحول والقول الذي لا يتبدل» (السابق نفسه، ص٦٥).
لكن قضية الدلالة في اللغة لا تتضح في فكر ابن عربي دون تبيان موقع «الإنسان» الوجودي والمعرفي. وأهمية تبيان هذا الموقع يستند إلى حقيقة أن «مرتبة الإنسان» هي المرتبة الأخيرة، حيث لا تليها سوى مرتبة «المرتبة». ولكن هذه الآخِرية لا تعني التأخر الزماني، كما أنها لا تعني انفصالًا عن المراتب السابقة، خاصة مرتبة الألوهة. والإنسان في النهاية «كلمة» من كلمات الله الوجودية، بل هو «الكلمة» المقصودة من التجليات الإلهية؛ فهو الذي يحقق غايتها الأساسية.
(٤) الإنسان كلمة الله
باطن الإنسان …………… / / الله.
ظاهر الإنسان …………… / / العالم.
العالم (بدون الإنسان) = جسد بلا روح (مرآة صَدِئة غير مَجْلُوَّة).
العالم … + … الإنسان … / / الله.
الله / / الإنسان / / العالم.
لكن علينا أيضًا أن نؤكد أن ابن عربي يتحدث هنا عن تشابه وتماثل لا عن تطابق؛ فالعالم والإنسان صور ومرايا لحقيقة واحدة. وأيًّا كانت الصورة فهي تعكس الأصل بحسب طبيعتها، وليست هي الأصل. وعلى ذلك فالإنسان ليس هو الله وإن جمع في ذاته بين الصورتين الإلهية والكونية (الفتوحات ٣: ٣٤٣-٣٤٤، ٢: ٤٦٨). فالإنسان مماثل لله ومماثل للعالم، لكن هذه المماثلة لا تنفي التغاير بين الله والإنسان من جهة، وبين الله والعالم من جهة أخرى، فضلًا عن التغاير بين الإنسان والعالم. ومن الواجب علينا حين يوازي ابن عربي بين حقائق الألوهة وحقائق العالم أن نفهم أن «العالم» في هذه الموازاة يتضمن الإنسان. وعلينا أيضًا أن نلاحظ أن الإنسان الذي يوازي ابن عربي بينه وبين العالم من جهة وبينه وبين حقائق الألوهة من جهة أخرى هو الإنسان العارف الذي وصل إلى معرفة حقيقة نفسه. إنه الإنسان الكامل الذي يُعَد آدم المجْلَى الأول له، كما يُعَد الرسل والأنبياء والعارفون الوارثون تجليات مختلفة لحقيقته الروحية.
هكذا يبدأ التجلي المعرفي بمبادرة إنسانية في اتجاهٍ معاكس لاتجاه التجلي الوجودي، بحيث يمكن القول إن التجلي الوجودي يبدأ أولًا في عالم «برزخ البرازخ» ليصل إلى عالم الكون والاستحالة، في حين أن التجلي المعرفي يبدأ من عالم الكون والاستحالة مع بدايات معراج الصوفي في رحلته. وإذا كان التجلي الوجودي في أعيان الموجودات يجعل لها ظاهرًا وباطنًا، فقد يكون التجلي المعرفي على ظاهر الإنسان؛ فيدرك ظواهر أعيان الموجودات، وقد يكون تجليًا على باطن الإنسان — القلب — فيدرك علومًا من علوم الأسرار. وإذا كانت علوم معرفة الظواهر تحتمل الخطأ وتحتاج تأويلًا، فإن علوم الأسرار ليست كذلك؛ لأنها أشبه ﺑ «النصوص» التي لا إشكال فيها. وهذه العلوم هي التي تمكن العارف من القدرة على فهم حقيقة أعيان الموجودات، والنفاذ إلى أسرارها الباطنة. وتزداد العلوم التي تنكشف لقلب العارف مع رقيه في المعراج. وكلما رَقِيَ درجة زاد التجلي في باطنه بقدر ما ينقص الوعي بظاهره، حتى يصل إلى حالة الفناء، أو المشاهدة التامة، فيغمر التجلي باطن العارف وظاهره، أو بالأحرى لنقُل تنتفي الثنائية التي مردها إلى عالم الكون والاستحالة. هذا الاستغراق إلى حد «الفناء» يمثل نوعًا من الموت «الاختياري» تنقشع فيه الحجب، ويصبح البصر بصيرة، وهي الحالة التي لا تحدث للإنسان العادي إلا بالموت، حين يصبح البصر حديدًا، فيقال له: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (سورة ق ٥٠، الآية ٢٢).
إن حالة «الفناء» تلك ليست إلا يقظة من «الغفلة» التي يعيشها الإنسان العادي وتستغرقه. يقظة من الحياة في عالم الصور، التي هي أشبه بالصور التي تتراءى للنائم؛ فيظنها حقيقة ثم يستيقظ فيكتشف أنها كانت أوهامًا. وليس الوجود في نظر ابن عربي في حقيقته إلا خيالًا يماثل الصور التي تتراءى للنائم في أحلامه. والمراتب المختلفة والمتعددة للوجود من أولها إلى آخرها — وهو الوجود الإنساني — تخضع جميعها لهذا التصور. الصوفي وحده هو الذي يدرك تلك الحقيقة؛ «فإذا ترقى الإنسان في دَرَج المعرفة علم أنه نائم في حال اليقظة المعهودة، وأن الأمر الذي هو فيه رؤيا إيمانًا وكشفًا. ولهذا ذكر الله أمورًا واقعة في ظاهر الحس وقال: «فاعتبروا»، وقال: «إن في ذلك لعبرة»، أي جُوزوا واعبروا مما ظهر لكم من ذلك إلى علم ما بطَن منه» (الفتوحات ٢: ٣٧٩). هكذا تمثل مراتب الوجود حجابًا على الحقيقة، كما تمثل الصورة في «الرؤيا» غطاء على المعنى، وتصبح رمزًا يحتاج إلى تأويل. يحتاج الوجود إلى تأويل معناه ودلالته بما هو صور وكلمات دالة على مدلول كامن خلف رمزيتها. وليس هذا التأويل لكلمات الله الوجودية أمرًا متاحًا لكل البشر، بل هو هبة إلهية يختص بها من البشر من تحقق بحقيقته الكونية والإلهية معًا، أي بحقيقته من حيث كونه «كلمة» أيضًا. والعارف وإن عاد من حالة الفناء يظل في حالة «اليقظة»؛ أي لا يعود أبدًا لحالة «النوم» التي يحياها غير العارفين. وبذلك يظل الحق معه؛ فيراه في كل شيء مهما اختلفت التجليات وتعددت الصور، لأنه في كل مجلًى يعرفه ولا ينكره (الفتوحات ٣: ٢٣٤-٢٣٥).
(٥) تأويل القرآن: كلام الله في الوجود
هذه التفرقة بين جانبي القرآن — الباطن والظاهر — تُمكِّن ابن عربي من حل معضلة قِدَم القرآن وحدوثه. إن كلمات الله الوجودية لها كما أشرنا — وجه إلى القِدَم ووجه إلى الحدوث. هي قديمة من حيث وجودها في العلم الإلهي، ومحدثة من حيث ظهورها في أعيان صور العالم. والقرآن بالمثل قديم من حيث جمعيته ووجوده الكلي في العلم الإلهي، ومحدث من حيث نزوله على قلوب العارفين وتلاوته باللسان: «له الحدوث والقِدَم؛ فله عموم الصفة، فإن له الإحاطة ولنا التقييد» (الفتوحات ٤: ٤٠٢، ٤٧٣). فالقرآن كالوجود والإنسان، جامع للقِدَم والحدوث، والظاهر والباطن، فاجتمعت فيه كل الحقائق الإلهية والكونية. وإذا كان الوجود ينقسم إلى مستويات أربعة كلية — عالم البرزخ وعالم العقول الكلية (الأمر) وعالم الأرواح (الخلق) ثم عالم الكون والاستحالة — فمن الطبيعي أن يقوم البناء الدلالي للقرآن على المستوى الرباعي نفسه. يتكون القرآن من «ظاهر» و«باطن» و«حَدٍّ» و«مَطْلَع»، وهي مراتب ومستويات دلالية تتماثل مع مراتب الوجود ومستوياته. هذا بالإضافة إلى أن لكل موجود من الموجودات ظاهرًا وباطنًا وحَدًّا ومَطْلَعًا. الظاهر هو ما ندركه بالحواس في خبرتنا اليومية، والباطن هو الروح التي تُمسك الصورة الحسية وتحفظها. أما الحد فهو ما يميز الموجود عن غيره من الموجودات، والمَطْلَع هو غاية الموجود ونهايته. للإنسان كذلك ظاهر هو صورته، وله باطن هو روحه المدبِّرة لصورته، وله حد يميزه عن الحيوان والنبات والجماد، وله مَطْلَع هو غايته ونهايته. هذا التقسيم ينطبق أيضًا على مرتبة الألوهة؛ فلها ظاهر وباطن وحد ومَطْلَع يُعبَّر عنها بالأسماء الإلهية الجامعة، وهي «الأول والآخِر والظاهر والباطن»:
«ما من شيء إلا وله ظاهر وباطن وحدٌّ ومَطْلَع، فالظاهر منه ما أعطتك صورته، والباطن ما أعطاك ما يمسك هذه الصورة، والحد ما يميزه عن غيره، والمَطْلَع منه ما يعطيك الوصول إليه إذا كنت تكشف به. وكل ما لا تكشف به فما وصلت إلى مطلعه … لا فرق بين هذه الأمور الأربعة لكل شيء وبين الأسماء الإلهية الجامعة: الاسم الظاهر؛ وهو ما أعطاه الدليل، والاسم الباطن؛ وهو ما أعطاه الشرع من العلم بالله، والأول بالوجود والآخِر بالعلم.» (الفتوحات ٤: ٤١١)
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذه الجوانب التي تنتظم مراتب الوجود الكلية، كما تتواجد في كل موجود على حدة، ليست جوانب منفصلة عن بعضها البعض، والأحرى القول إنها متداخلةٌ تداخُلَ تفاعل. فالظاهر يحيل إلى الباطن، وتأمل الباطن يكشف مستوى الحد، وتفاعل الثلاثة يفضي إلى الوصول إلى المَطْلَع. تأمُّل عالم الكون والاستحالة مثلًا — العالم الظاهر — يحيل إلى عالم الخلق — العالم الباطن —، ومع رقي المعراج يصل العارف إلى عالم الأمر — عالم الحد — والذي يُعَدُّ عالم الخلق بالنسبة له «ظاهرًا». ثم يكون الرقي النهائي إلى عالم المَطْلَع بالوصول إلى برزخ البرازخ الذي هو باطن عالم الأمر. هذا التداخل قائم بنفس الدرجة بين مستويات «الظاهر» و«الباطن» و«الحد» و«المطلع» في البنية الدلالية للقرآن. هذه الموازاة التي يقيمها ابن عربي بين القرآن والوجود موازاة أُنطولوجية وجودية بقدر ما هي أيضًا معرفية؛ لأن أساس الوجود والقرآن معًا هو العماء (النفَس الإلهي)، الذي ظهرت فيه أعيان صور الموجودات، كما ظهرت فيه حروف اللغة التي تشكلت منها الكلمات الإلهية.
هكذا لا ينفصل تأويل الوجود عن تأويل النص الديني والنفاذ إلى مستوياته المتعددة التي لا يفهمها إلا الإنسان الكامل الذي تحقق بباطن الوجود وتجاوز ظاهره. وبالوصول إلى مستوى «الفناء» في الحق يصل العارف إلى مستوى الدلالة الكلي. في هذا المستوى المعرفي تنحل كل الرموز والإشارات، التي تجسدها اللغة الإنسانية. ويصبح القرآن بالنسبة للعارف خاليًا من الإلغاز أو الرمز، اللذين يحجبان الإنسان العادي عن مستويات الدلالة المختفية وراء مستوى الظاهر اللغوي العرفي. أليس القرآن «ذكرًا»، أي تذكيرًا للنبي ﷺ بما سبقت له مشاهدته من الحقائق في معراجه، وَفقًا لفهم ابن عربي؟ وهو كذلك أيضًا بالنسبة للعارف الذي سلك على دَرَج خطى محمد في معراجه. وهكذا يصبح القرآن بالنسبة لكل من النبي والعارف خاليًا من الإجمال والإلغاز والرموز والتورية، التي توجد في الشعر مثلًا: «قال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ؛ فإن الشعر محل الإجمال والرموز والإلغاز والتورية؛ أي ما رمزنا له شيئًا ولا لغَّزناه، ولا خاطبناه بشيء ونحن نريد شيئًا آخر، ولا أجملنا له في الخطاب. إن هو إلا ذكر لما شاهده حين جذبناه وغيَّبناه عنه وأحضرناه بنا عندنا، فكنَّا سمعه وبصره. ثم رددناه إليكم لتهتدوا به في ظلمات الجهل والكون، فكنا لسانه الذي يخاطبكم به. ثم أنزلنا عليه مذكِّرًا يُذكِّره بما شاهد؛ فهو ذِكر له وقرآن، أي جمع أشياء كان شاهدها عندنا، مبين ظاهر له لعلمه بأصل ما شاهده وعاينه في ذلك التقريب الأنزه الأقدس، الذي ناله منه ﷺ. ولنا منه من الحظ على قدر صفاء المحل والتهيؤ والتقوى» (الفتوحات ١: ٥١).
ولعلنا لا نحتاج هنا لشرح ما هو معروف تمامًا من تعدد التأويلات واختلاف التفاسير بدءًا من القرن الأول الهجري، وهو أمر اتسع ونما في القرون التالية، حتى صار مصطلح «المؤوِّلة» يُضم إلى جانب الخوارج والشيعة والمعتزِلة والمتصوفة. ولعل القرن الرابع الذي شهد نمو الفكر الشيعي على مستوى الصياغة الفلسفية واللاهوتية، هو القرن نفسه الذي شهد قمة العداء بين الدولة السُّنِّية ممثلةً في دولة الخلافة العباسية، وبين الدولة الشيعية التي امتد سلطانها حتى القاهرة. وهو كذلك القرن الذي كان قد شهد الانتصار السياسي، ممثلًا في تأييد الدولة بدءًا من عصر المتوكِّل، للفكر الفقهي السني المحافظ، بعد أن كانت في عصر المأمون والمعتصم تتبنى الفكر الاعتزالي وتعادي الموقف الفقهي السني. من الطبيعي أن يكون هذا المشهد الذي يصعب فيه التمييز بين السياسي والفكري، أو بين الدنيوي والديني، له تأثيره في إلصاق دلالة «التحريف» بدلالة «التأويل». الأمر الذي جعل مصطلح «التفسير» يتقدم تدريجيًّا ليكون هو المصطلح الدال على البراءة الموضوعية.
إن توظيف مصطلح «التأويل» في مناقشة فكر ابن عربي يستمد مشروعيته لا من العودة بالمصطلح إلى مجال تداوله الأصلي البريء من السلبية فقط، بل يستمدها معرفيًّا من حقيقة أن «ابن عربي» يرى الوجود كله خيالاتٍ ورؤًى وأحلامًا تشبه ما يتراءى للنائم في نومه. هذا الوجود الصوري يحجب الأسماء الإلهية، ولا سبيل إلى النفاذ من الصور إلى الحقائق المحتجبة وراءها إلا بالتأويل، عبر معراج الصوفي من «ظاهره» — الذي هو ظاهر الوجود — إلى باطنه، الذي هو الحقيقة. إن من شجاعة الباحث ألا يتردد في استخدام المصطلح المعبر، ولو تردد «ابن عربي» نفسه في استخدامه لأسباب تاريخية. هذا هو الفارق بين منهج التحليل الفيلولوجي — بالمعنى الكلاسيكي — وبين توظيف منهجية مركبة أنثروبولوجية تاريخية لغوية.
ولأن قضايا التأويل أوسع من أن يستوعبها بحث واحد أو كتاب مهما كان حجمه، فقد رأينا أن نكتفي في الفصل التالي — السادس والأخير — بتحليل «تأويل» الشريعة، كنموذج يمكن أن يكون كاشفًا لنهج الشيخ. ولا نريد أن نكرر أن دراستنا الأولى، والتي كانت مخصصة لمناقشة قضايا التأويل، لم تستوعب كل القضايا. ومن القضايا التأويلية التي لم تتناولها تلك الدراسة، بسبب تركيزها على القضايا اللاهوتية — الوجودية والمعرفية — قضية تأويل الشريعة. لذلك — إلى جانب أسباب أخرى سنذكرها هناك — رأينا تخصيص الفصل القادم لما لم يتسع له كتابنا السابق.
Titus Burckhardt, Mystical Astrology According to Ibn Arabi, trans. Bulent Rauf, Gloucestershire-England 1977, pp. 32-33.