الفصل الأول
– بالله عليك لا تطيلي يا ليلى فإنَّ مما يثير شجون النفس، ويزيد في ألم الحزين، أن
يُدفع
إلى العزاء والصبر بكلمات خاوية متخاذلة حفظها الناس لينثروها في كل مأتم. إن كل كلمة
من
هذه يا ليلى شعلةٌ تؤجِّج وَجْدي، وتضطرم في فؤادي، إن الحزن حَرَمٌ قُدْسي يجب أن تخشع
أمامه الرءوس بالصمت والإطراق.
– ولكنك يا سيدتي «سَخينة» تكادين تقتلين نفسك حَرَضًا،
١ وتعصفين بهما همًّا، فقد مرَّت أيام سبعة منذ دهمَنا الخبر المشئوم لم يَرْقأ
لك فيها دمع، ولم تهدأ نفس، ولم يطمئنَّ بك فراش. إن لنا في الله ثقة يا سيدتي. وماذا
نصنع
وقد مزج الله بالحياة معنى الموت، وبالموت معنى الحياة؟ نحن يا سيدتي في زمن مضطرب لا
يركد عجاجه،
٢ ولا تسكن سيوفه في أغمادها، بعد أن انحلَّت أواصر بني العبَّاس، وأصبحت دولتهم أشلاءً
٣ ممزقة، يفترسها كل مفترس، ويُغير عليها كلُّ واثب. ففي كل أرض حرب مشتعلة الأوار،
٤ وفي كل دار أنين وبكاء، ولن نملك — نحن النساء — إلا أن نردد قول الخنساء في
رثاء أخيها صخر:
ولولا كثرةُ الباكين حولي
على قتلاهمُ لقتلتُ نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزِّي النفسَ عنه بالتأسِّي
٥
– وهذا أعجب ما قيل في العزاء، إن الحزين الذي يتسلَّى عن مصائبه بمصائب غيره لمأفون
٦ الرأي سقيم العاطفة. والنفس التي تهدأ للكوارث تحُلُّ بسواها، وتستريح في
نكبتها لأصوات النادبات وعويل الباكيات ثم تنسى النار التي تلتهم دارها؛ لأن لهيبها اندلع
في كل دار، لنفسٌ شريرة حَقُود …
– ليس الأمر كما تظنين يا سيدتي، وإنما هي طبيعة بني الإنسان تعبِّر عنها الشاعرة،
فالحزين يتأسَّى بالحزين، والغريب يُسعدُه الغريب، وقد طُبعت النفس على أن تستهين بمصابها
عند نزول المصائب العظام والفوادح الجِسام، وقد يقيس المرء مصيبته بمصيبة غيرها فيحمد
الله
على السرَّاء والضرَّاء.
– هذا كلام بعيد عن الإقناع يا ليلى؛ لأنني أبكي زوجًا كان قليل الأنداد
٧ في الأحياء، فأصبح قليل الأنداد في الأموات، فليس إلى التعزِّي فيه من سبيل.
فعلى أبي العلاء فليجزَع الصبر، وعلى سعيد فلتبك البواكي. ثم أطرقت إطراقة طويلة، وأخذت
تهزُّ رأسها في وجوم.
كانت سخينة في نحو الخامسة والثلاثين، صبيحة الوجه، جميلة الطلعة، فارعة الطول، ممتلئة
الجسم. امتزج في تكوينها الدم العربي بالسُّلالة الرومية، فجاءت صورة بارعة للملاحة
العربية، والجمال الإغريقي معًا. وكانت تجلس في ذلك اليوم، وهو الحادي والعشرون من رجب
سنة
ثلاث وعشرين وثلاثمائة، في إحدى حُجُرات قصرها الذي امتاز بين قصور مَنْبِج (إحدى مدن
الشام) بضخامة بنيانه، وارتفاع شُرُفاته، وروعة زخارفه. وكان يقوم فوق أكمة بالشمال الغربي
من المدينة، بالقرب من «عين المرج» بين الخمائل الزُّهر،
٨ والحدائق الفِيح،
٩ يحيط بكل ذلك سور ضخم سامق بُني بالحجر الصَّلد، وربض في كل ركن من أركانه حصن
منيع الذُّرا، يكاد يَجْبَه
١٠ الدهر، ويتحدى نوازل الأيام. أما القصر فكان آية من آيات الفن الإغريقي في
اتساع حجراته وأبهائه، وعظم أعمدته التي نُحِتَتْ من الرخام الأبيض الناصع اللمَّاع،
وفخامة
أثاثه، وجمال سقوفه وما زُيِّنت به من النقوش والصور، التي تعاون المال والفن الرفيع
على أن
تكون شَرَكًا للعيون، وفتنة للعقول، وكان القصر يموج بمن به من الجواري، يذهبن في أنحائه
هنا وهناك، وقد غشت وجوههن سحابة من الحزن الصامت المكبوت.
١١
كان هذا القصر لأبي العلاء سعيد الحمداني عظيم أسرة بني حمدان وشاعرها وفارسها المعلم،
الذي هابته القبائل النازلة بالشام والموصل، واستجْدَتْ عونه الدولة العباسية وهي تترنح
١٢ للسقوط، واتخذت من شجاعته درعًا تقيها صولات الطامحين.
رفعت سخينة رأسها بعد طول الإطراق، ونظرت في وجه وصيفتها ليلى نظرة الذاهل المأخوذ
وقالت:
إن ابني حسينًا يصل من الموصل اليوم، فلعلنا نقف منه على جليَّة الأمر في مقتل أبيه.
– إنه لن يُعَوِّق يا سيدتي؛ لأنه أرقُّ قلبًا من أن يتركنا طويلًا بين حُرقة الحزن
ومرارة الانتظار.
ثم أخذتا في الحديث في مآثر سعيد وجوده وشجاعته، وذكرت ليلى مواقعه اللامعة ونصره
المؤزَّر
١٣ الحاسم على بني كلاب وبني النضير، وما كانت إلا ساعة حتى سُمعت جلبة وضوضاء، ثم
فتحت أبواب القصر، ودخل الحسين بن سعيد، يمتطي جوادًا أشهب،
١٤ كاد يُضنيه طول السفر وبعد الشُّقة
١٥ لولا كرم عربي فيه أَنِفَ أن ينال منه التعب أو يمسَّه اللغوب.
١٦
وكان الحسين شابًّا فارهًا
١٧ طويل نجاد السيف، وسيم الوجه، قوي البناء، لم يجاوز العشرين، فوثب من فرسه
ناشطًا إلى القصر، وأسرع إلى أمه يقبِّل يديها ورأسها في حنان امتزج فيه البِرُّ بالحب،
والشغف بالإشفاق، وكان حزين النفس مثقل الكاهل بالهموم، ولكنه حينما رأى وجه أمه، ولمح
ما
ارتسم فيه من سطور الحزن الأليم، والهلع القاتل، أسرع فبسط قليلًا من أسارير وجهه، ومحا
من
عينيه دمعتين تحيَّرتا فيهما بين الانهمال والجمود، ثم جلس إلى جانبها، أخذ يدلِّلها
— كما
يدلَّل الطفل الجازع — بعبارات أرقَّ من الدموع. وانطلق يقول في صوت صادق النبرات لم
يذهب
الحزن برنينه، ولم تهزَّه عواصف الشجون: لقد كان السفر شاقًّا يا أماه، وكانت الطرق وعرة
طويلة على الرغم من أننا كنا نطوي المراحل كما يطوي البرقُ معصرات الغمام.
١٨ وقد وثب علينا في الطريق جماعة من بني تميم أطمعتهم فينا قلة العدد وكثرة
الغنيمة، فما كان إلا أن جرَّدْت سيفي ودعوت أصحابي إلى الوثوب، حتى فروا كما يفرُّ الأمن
من قلوب الجبناء.
– أنت يا ولدي ابن أبيك حقًّا، ولكن هذه الشجاعة يا حسين هي التي أيتمت أبناء بني
حمدان، وأيَّمَت
١٩ نساءهم، انظر اليوم ماذا سيكون من شأن أخيك الحارث أبي فِراس، وقد تركه أبوه في غضارة
٢٠ الطفولة، يتعثر في سنواته السبع.
– إن اليتم في سبيل الشرف عزة وكرامة. إن أبطال بني حمدان يموتون ليحيا أبناؤهم،
وإنَّ
ذلك المجد الباذخ، وتلك الصولة العاتية التي ملأت العراق والشام رعبًا، لم تكن إلا صدى
لقبور الشهداء من بني حمدان، الذين سقطوا في الميدان بعد أن تحطَّمت سيوفهم في سبيل الشرف
والبطولة. إنني يا أماه سأحيا بأبي، وسيحيا فيَّ أبي، ولن يقول الناس إن ابن سعيد مات
أبوه فبخَعه
٢١ الحزن، وجلس في إحدى زوايا قصره يبكي كما تبكي الإماء،
٢٢ لا، لا، إن مجد بني حمدان باقٍ على الدهر، وهو سر قُدسيٌّ يحفظه الأجداد للآباء
ويصونه الآباء للأبناء. أما أبو فراس … ثم أطراق قليلًا ورفع رأسه، قال: فلن أعلم ولن
تعلمي
ما سيكون من أمر هذا الطفل اليتيم. ولكني لا أستطيع أن أشك في صدق ظنوني فيه. وإذا دلَّ
الفرند
٢٣ على كرم السيف، ونمَّ الغصن على طيب منبَتِه، فإن مخايل أبي فراس تنبئني بأنه
سيكون بطلًا، وأنه سيترك في الدنيا دويًّا. إن هذا الطفل أعجوبة الأعاجيب! إنه وهو في
السابعة يبهرك برأي أصيل، وعزم صليب، وقلب لم يعرف الرعب، ولم ينل منه الفزع، إنك ترين
في
عينيه نبل محتده،
٢٤ وقوة نفسه، وكرم خيمه.
٢٥ وإن في ابتسامته الهادئة المشرقة أشعةً من الآمال الجسام، التي تسخر من الدهر،
وتطمح إلى عظائم الأمور. هذا الطفل الصغير يا أمي عصارة المجد الحمداني، وملتقى عناصر
قوَّته.
فسالت الدموع من عيني سخينة وقالت: صدقت يا حسين، لقد رأيته أمس من نافذة حجرتي،
وهو يقود
جيشًا من أترابه
٢٦ أبناء حراس الحصون، وقد حمل بيمينه غصنًا كان يسميه الصارم البتَّار، وَثَبَ به
في خفة النَّمر على من زعمهم أعداءه، فبدد شملهم جميعًا، ثم صعد إليَّ في صَلَف الشجاع
المنتصر يحدِّثني بأخبار الموقعة، وما ظفِر به من أسرى وغنائم، ولكنه أجج نار أشجاني
حينما
سألني عن أبيه، فلما قلت له: إنه ذهب إلى بغداد ليحارب أعداء الخليفة، أمال رأسه في شمم
واعتداد وقال: لِمَ لمْ يأخذني معه؟ إنني أحب الحرب وأهوى النضال، وإن هذه الحرب الصورية
بين هؤلاء الصبية لا تشفي من نفسي غليلًا، وحينما أَبصر دمعتين تطفران من عينيَّ قال:
أنتِ
لا تحبين الحرب؛ لأنك لم تتذوقي نشوة الانتصار! فأسرعت وقلت: إن الناس سيموتون في الحرب
يا
بنيَّ، فأخذه الضحك طويلًا ثم قال: الموت خير من حياة كحياة جاريتي هيلانة التي دخلت
حجرتها
نحلة بالأمس فطارت نفسها هلعًا، وملأت جوانب القصر صياحًا وضجيجًا.
– إنه كما قلت لكِ أعجوبة الأعاجيب، وصورة صادقة من أبيه، وإن أمًّا تسعد بمثله، وتترقب
ما ينتظره من مراتب العظمة وبُعد المنزلة، جديرةٌ بألا يجد الحزن إلى قلبها سبيلًا، إن
أبي
لم يمت يا أمي، وإنما تجدد شبابه فيَّ وفي أخي أبي فراس. ثم طفق ينشد من قصيدة بشامة
النهشليِّ:
إنا — بني نهشلٍ — لا نَدَّعِي لأبٍ
عنه، ولا هو بالأبناء يَشرينا
٢٧
إن تُبتَدَرْ غايةٌ يومًا لمكرمةٍ
تلقَ السوابقَ منا والمصلينا
٢٨
وليس يهلك منَّا سيدٌ أبدًا
إلا افتلينا غلامًا ناشئًا فينا
إنا لَمِنْ معشرٍ أفنى أوائلهم
قيلُ الكُماة: ألا أين المحامونا؟
٢٩
إذا الكماة تنحَّوا أن يصيبهمُ
حدُّ الظبات، وصلناها بأيدينا
٣٠
لقد مات أبي ميتة الكريم الشجاع، كان يجود بنفسه وسيفه في يمينه يضرب به ذات اليمين
وذات
الشمال.
– قل لي كيف مات بحقك؟
فزفر زفرة طويلة، وأطرق إطراقة المفكر الحائر كأنه يريد أن يجمع شوارد نفسه، أو أن
يتخلَّص من الظنون التي كانت تُغاديه وتُراوحه منذ شهد المعركة، وقال: تعرفين يا أماه
ما
كان بين أبي والخليفة الراضي العباسي من أواصر المودَّة، وتعلمين خبر تلك الرسالة التي
أرسلها إليه الخليفة منذ ستة أشهر، يستدعيه إليه، ويتعجَّل رحيله، ويشير فيها في خفاء
وإبهام إلى أنه في حاجة إلى عونه، والاستظهار به
٣١ على أعدائه من الترك والعرب، وقد كان أبي إلى إجابة الخليفة أسرعَ من رجع الصدى
كما تعلمين، فرحلنا إلى بغداد في قلة من عبيدنا ورجالنا، فلما وصلنا إلى دار الخلافة
لقي
أبي من الخليفة من صنوف الإكرام، وحسن الوفادة، وتقريب المنزلة، ما ملأ قلوب الحاشية
حقدًا
وضغنًا، وفي ذات ليلة همس أبي في أذني بأن الخليفة ولاه إمارة الموصل وطلب منه السفر
إليها
بعد يومين.
– يولِّيه إمارة الموصل وهي في يد ابن أخيه ناصر الدولة! هذه مكيدة خسيسة من هذا
الخليفة
الضعيف الماكر، يريد بها أن يُوقع العداوة والبغضاء بين رجال هذه الأسرة الباسلة، التي
أقضَّت مضجعه، وأخذت تبتر أوصال مملكته في العراق والشام، فلم يجد هذا الخبيث من وسيلة
إلا
أن يُغري أبناء العمومة بعضهم ببعض، وأن يحاربهم بسلاحهم، ويطعنهم برماحهم، فإذا انتصر
أحدهم على أخيه هلَّل له وكبَّر، ونثر فوقه أزهار المديح والثناء، وهو يرى في دخيلة نفسه
أنه قد استراح من فريق عظيم منهم، وأن الفرصة ستواتيه للقضاء على الفريق الآخر. هكذا
أصبح
دأب هؤلاء الخلفاء منذ دالت دولتهم،
٣٢ وأصبحت نهبًا مقسمًا بين الأمم، فإنهم حين فقدوا سلاح القوة، برعوا في الكيد
والحيلة. والضعيف دائما يستعير لنفسه قوة من نصْب الأشراك، ودسَّ الحبائل.
– هذا ما استطعت أن أبوح ببعضه لأبي؛ لأنك تعرفين ما كان له من الهيبة وعنف الشكيمة
٣٣ التي تعقل اللسان دون مخالفته، فما كان منه إلا أن قال في استنكار وغضب: ماذا
تريد يا فتى؟ أتريد أن تقول إن الخليفة لا يملك عزل أمير وتولية أمير؟ أتريد أن تقول
إنه
أصبح من الضعف والخور بحيث لا تتجاوز أوامره جدران قصره؟ نحن يا بُنيَّ خدَّام الخليفة،
وعُدَّته في الشدائد، وقد بقيت الخلافة في أبنائها إلى اليوم بأسنَّة بني حمدان وسيوفهم.
إن
ابن أخي ناصر الدولة لا يملك إلا أن يطأطئ رأسه لحكم الخليفة.
– فهل طأطأ رأسه حقًّا؟
– لا أدري. وقد ساورتني في هذا الشأن شكوك مبرِّحة اضطرب لها ميزان عقلي، وكادت تقضي
عليَّ.
فتنهدت سخينة ولمع في عينيها لهيب الغضب وقالت: امضِ في حديثك يا بُنيَّ.
– أتظنين أن لابن عمي يدًا في مقتل أبي؟
– امض في حديثك يا حسين، قاتل الله المناصب، وقاتل الله الجشع، وقاتل الله الحرص الذي
أذل
أعناق الرجال؛ إن إدراك المسألة سهل هيِّن، ما كان ينبغي أن يخفَى على أبيك. ذلك أن الراضي
جشع ماكر، وقد حرمه ناصر الدولة خيرات الموصل وذخائره واستأثر بها دونه، ولم يبعث إليه
منها
شيئًا. وكانت جبايتها أيام المأمون آلاف الآلاف من الذهب والفضة، فأراد الخليفة أن يجعل
من
أبيك شبكة لاصطياد هذه الأموال على أن يُلْهِيه بقليل منها، وأحسَّ ناصر الدولة بأن الغنيمة
ستطير من يديه، فثارت نفسه، وصمم على الاحتفاظ بها ولو قتل في سبيل ذلك أعز الناس لديه.
وأكبر ظني أن عيونه وجواسيسه بدار الخلافة طيَّروا إليه الخبر فأخذ له الأهبة، وأعدَّ
له
العُدَّة. امض في حديثك يا حسين.
– غادرنا بغداد في خمسين رجلًا …
– في خمسين رجلًا؟ يا له من جيش لُهام!
٣٤
– نحن لم نذهب لحرب، ولم نتحفَّز لقتال، ولكنا ما كدْنا نصل إلى مشارف الموصل حتى
خرج
علينا كمين في غبش الظلام عدته نحو خمسمائة فارس، فأحاط برجالنا من كل جانب، وجال أبي
بفرسه
ليخترق ثغرة في صفوفهم، ولكنهم تواثبوا عليه وَخْزًا بالرماح، وضربًا بالسيوف، وهو ينثر
رءوسهم بسيفه كما ينثر الزراع الحَبَّ، ويكرُّ هنا وهاهنا كما يكر النمر اليائس حتى تمزَّقت
درعه، وصبغتها الدماء. وقد عمدت إلى قائد عصابتهم فرميته بسهم فسقط تحت سنابك الخيل،
وأسرعت
إلى أبي وقد أثقلته جراحه فحملته إلى المؤخرة، ولم تمض لحظات حتى لحق بآبائه
الشهداء.
فبكت سخينة طويلًا ثم رفعت رأسها وقالت: وبعد موته رحل هذا الجيش المغير، ولم يستأصل
بقيتكم؟
– نعم.
– وهل بعد هذا تبقى عندك خلجة
٣٥ شك في أن المكيدة أُعدَّت لأبيك، وأن الذي أعدها هو الذي يخشى من مزاحمة
أبيك؟
– إن لأبي أعداءً كثيرين يا أمي، وإن شجاعته لم تترك قبيلة إلا ولها عنده ثئور.
– ظُنَّ كما تشاء يا حسين، أين دفنتموه؟
– دفناه فوق هضبة شرقي مدينة الموصل تحت شجرة زيتون.
وبينما هما في الحديث إذا صياح وجَلَبَة في بهو الدار، وخادمة أبي فراس «هيلانة» تهرول
وهي تلهث وتتمتم بكلمات ارتطمت فيها العربية بالرومية، وأبو فراس يعدو أمامها راكبًا
رمحًا
انتزعه من حائط كان معلقًا به، واتخذ منه جوادًا كريمًا حتى دخل الحجرة التي بها أمه
وأخوه،
وهو يصيح: هذه الجارية البلهاء تستنكر على مثلي أن يمتطي جوادًا، لقد كان أبي يحب هذه
اللعبة ويعدني بحصان حينما أبلغ التاسعة، أين أبي يا حسين؟
– أبوك في مكان عالٍ تتلاقى فيه الرياح، وتجوده أخلاف
٣٦ الغمام.
– ولِمَ لَمْ يعد معك؟
– إنه لو استطاع أن يعود لعاد، ولكن الحرب أبت إلا أن تقتضيه دَيْن الشرف
والبطولة.
– وما دين الشرف والبطولة؟
– الموت! فهز الطفل رأسه وهو يغمغم: الموت، الموت! الموت دين الشرف والبطولة! ثم حملق
في
وجه أخيه وقال: والثأر أيضًا يا حسين دَيْن الشرف والبطولة؛ إنه ماحي العار، ومخمد النار؛
ثم انطلق يعدو بجواده في أنحاء القصر ولم تدمع له عين، ولم يُبِح صدره بزفرة أنين.