الفصل الثاني
تابع الفلك دورته، وتعاقبت سنواته، والأمير الصغير في كل يوم تتفتح مواهبه، وتتجلَّى
مخايله، كالزهرة تحسُّ بأنفاس الربيع فتتخايل فوق غصنها، وكالنجم يمتدُّ به الليل فيزيد
تألقًا وسطوعًا. وليس من شك في أن الطفل صورة من الوراثة والبيئة، فإذا اجتمع في ناشئ
كرم
المنبت، وسلامة الطبع، وصحة الجسم، وحسن الإشراف، كان مثلًا عاليًا للإنسانية الكاملة.
وأميرنا أبو فراس قد فاز بكل هؤلاء؛ فكان جديرًا أن تُعقد به الآمال، وأن تترقَّبه
الرِّياسة، وتتهيأ له صدور المحافل.
نشأ في كنف أخيه الحسين، وفي رعاية أم رءوم
١ تظله بجناحها، وتغذوه بحنانها. وكان الحسين يثير في نفسه الاعتزاز بقومه
وبتاريخه المجيد، ويحفزه إلى العظمة والسيطرة والبطولة. ولم تقصِّر حاضنته عائشة النزارية
في الرمي نحو هذه الغاية، فإنها رأت جذوة في نفسه فطفِقت تنفخ فيها حتى تركتها شعلة
متأجِّجة، تقذف بالشرر. وكثيرًا ما كانت تجلس إلى جانب سريره عندما يأوي إلى فراشه، وتقصُّ
عليه سير أجداده، ومآثر آبائه، بأسلوب يهزُّ العاطفة، ويُثير الوجدان. فهي إذا تحدَّثت
عن
حمدان جَدِّ هذه الأسرة، أخذت تجلو من أخبار شجاعته ومروءته صورًا امتزجت فيها الحقيقة
بالخيال، وتذكر كيف أنه أبى أن يخضع للمعتضد العباسيِّ، وأن يُلقي إليه بالقياد، فاقتطع
من
أملاك الدولة العباسية إمارة «ماردين» ونادى بنفسه عليها ملكًا مستبدًّا، ولم يبال ما
كان
للمعتضد في ذلك الحين من دولة وصولة. ثم تصف ما كان بعد ذلك من غضب المعتضد وحنقه على
هذا
العربي الثائر، وكيف أنه بعث إليه بجيش جرَّار، ولكن هذا الجيش ما كاد يلتقي برجال حمدان
حتى مُني بالهزيمة والخذلان، وعاد الخليفة بفلوله
٢ مدحورًا، ونار الغضب تأكل صدره، فلم تهدأ له ثائرة حتى رماه بجيش آخر لا يعرف
أوله أين آخره، لكن حمدان كان إلى شجاعته وتحدِّيه الموت ذكيًّا واسع الحيلة، يُقْدِمُ
—
كما يقول عنترة — إذا كان الإقدام عزمًا، ويُحْجِمُ إذا كان الإحجام حزمًا، فلما رأى
أنه في
قلة من رجاله، وأن من المناجزة
٣ إلقاء بيده إلى التهلكة، اتَّخذ الليل مركبًا، وسرى في ستار من ظلماته كما يسري
طيف الخيال، لا تناله الأكف، ولا تبصره العيون، وتراجع تراجع الليث ليثب، وطلبه الخليفة
في
كل مكان، وبَثَّ وراءه العيون، وأخذ عليه الطرق والمناهل،
٤ ولكنه كان شعاعًا لا تمسكه يد قابض، وسرًّا لا تدركه العقول. وكان أهون على
الخليفة أن يصيد العنقاء، أو يقتنص نجوم السماء، من أن يحاول أن يمسَّه بضرر، أو يقف
له على
أثر. اختفى حمدان، ولكن ذكاءه ونفاذ بصيرته لم يختفيا، فأوعز إلى ابنه الحسين أن يصانع
الخليفة حتى ينال بالحيلة ما رأت القوة أن تتركه إلى حين، وقد كان رأيه صوابًا، فنال
الحسين
الحظوة عند المعتضد فأغضى عن ثورة حمدان، وأعاد إلى قومه ما كان لهم من نفوذ وسلطان.
تقصُّ هذا القصص وأمثاله، والطفل ذاهل مأخوذ حينًا، وواثب من سريره أحيانًا، وكلما
حاولت
الانتهاء طلب إليها المزيد. وكأنه كان يستمدُّ من أرواح أسلافه قوة، ويستلهم من سيرتهم
عزيمة، ويتخذ من تاريخهم غذاءً لكبريائه.
وفي ليلة ألحَّ عليها أن تحدثه عن أبيه، فنظرت إليه وأطالت النظر، وقالت: أما أبوك
فكان
سيد بني حمدان وأصدقهم رأيًا، وأثبتَهم قلبًا، وأطهرهم نفسًا. ولقد كان إذا ركب بين الفرسان
فرَعهم طولًا، وبزَّهم جرأة وإقدامًا، وكان إذا عُدَّ الأجواد أبسطَهم كفًّا، وأرحبهم
فناءً، وأسبقهم نازعة إلى المعروف. أذكر ليلة حينما قدم من حلب من قتال بني تميم …
– ومن بنو تميم هؤلاء؟
– قبيلة قوية الشكيمة، صعبة منال الزمام، لا تلين أعناقها لحاكم، تحدَّت جيوش الخليفة
المقتدر بالله العباسي، فعاثت في أعمال حلب، فاستنجد الخليفة بأبيك وأخيه الحسين، فبرزا
إليها في جيش خضمٍّ،
٥ ونشب بين الفريقين قتال مُرُّ المذاق. وحين قدم أبوك من هذه الحرب، ذهب على
الفور إلى حجرة أمك حزينًا مهمومًا، فظننا أول الأمر أن الهزيمة لحقت بجيشه. وأخذت أمك
بما
وهب الله لها من لباقة ومعرفة بفنون الكلام، تُرفِّه عنه، وتلوِّح من بعيد بأن هزيمة
الشجعان خير من انتصار الجبناء، وأن النصر كالمرأة الفروك
٦ تجفو الرجل أحيانًا ليتشبَّث بها، ويزيد بها حبًّا وجنونًا. فالتفت إليها أبوك
وغبَرَةُ الحزن لم تفارق وجهه وقال: ماذا تقولين يا سخينة؟! لقد انتصرنا على بني تميم
وطاردناهم إلى مضاربهم. وهنا قفز الطفل من سريره صائحًا: حياك الله يا أبي، وسقيًا لجدَثك
الطاهر، لقد خفت يا عائشة أن يكون قد هُزم أو أن يكون …
ففهمت عائشة ما تلجلج في صدره، وقالت في غضب: إن أباك لا يعرف الفِرار، ولو عرفه
لكان
بيننا الآن يملأ جوانب القصر حياة وقوة، ويشيع فيه البهجة والسرور. إنه لم يفرَّ في آخرة
مواقعة أمام خمسمائة فارس من العتاة الأشداء، فقاتلهم حتى ضاق مجال فرسه، وحتى تحطَّم
حسامه، فمات كريمًا شهيدًا. ثم عادت إلى حديثها الأول فقالت: وحينما علمت أمك بانتصاره
قهقهت في سخرية مصنوعة، وقالت: وماذا إذًا يحزن فارسنا المغوار، ويشوِّه من وجهه الوسيم،
بعد أن شتَّت الجموع، وعاد بالأسلاب والغنائم؟ فاتجه إليها الأمير سعيد وقال: الذي يحزنني
أنني بعد أن ركد غبار المعركة، سألت عن تمَّام القُضاعيِّ وقد كنت شهدته يجول في ميدان
القتال ويصول، ويقذف بنفسه بين الكتائب كأنه أخذ على الموت عهدًا، فعلمت أنه قُتل، فحزنت
أشدَّ الحزن وأمضَّه. ولم أحزن لأن رجلًا قُتل، فإنَّ في موت الشجاع في الحوْمة
٧ شرفًا لا يدرك معناه الجبان، ولكني أعلم أن له زوجًا وأمًّا عجوزًا وبُنيَّات
أضعف من الثُّمام،
٨ وأوهن من أضغاث الأحلام، كبراهن في نحو الخامسة عشرة. لذلك أسرعت عند بلوغي
«منبج» إلى داره. وحينما قابلت أمه أخذتُ في مواساتها فلم تزد على أن تقول: إن ابني اشترى
الجنة بحياته ففاز بالثمن الربيح. ولما حاولت أن أقذف بين يديها كيسًا به مائتا دينار،
شخصت
عيناها وارْبدَّ وجهها في غضب، وصاحت في وجهي قائلة: رُحماك بنا أيها الأمير! إننا لا
نبيع
رجالنا بالمال، وخير لنا أن نموت جوعًا من أن نجمع بين موت تمَّام ومعرَّة الأبد! خذ
مالك
أيها الأمير، فإن فُتات الخبز في ظل العزة والكرامة خير من موائد الملوك، فبُهرت وأطرقت
حزينًا، وخرجت من الدار حائرًا مبهوتًا. ثم اتجه إلى أمك وقال: ألا نستطيع أن نعمل شيئًا
لهذه الأسرة يا سخينة؟ إن لكِ طرائق في التفكير ورثتها عن أجدادك الروم لم تدع أمامك
بابًا
من الرأي مغلقًا. فأسرعت أمك وقالت: هون عليك أبا العلاء، فإن الأمر جِدُّ يسير، إننا
نستطيع أن نزوج كبرى بناته بأحد حرَّاس القصر، وأن نمهرها بمائتي دينار، ولن تجد العجوز
غضاضة في الأمر ولا حرجًا، بل تسر؛ لأن الأمير شرَّفها بالإصهار إلى أحد حرَّاسه، حينئذ
تلألأ وجه أبيك بشرًا وصاح: مرحى بابنة أفلاطون مرحى! لقد علمتُ أنك لا يعوزك الرأي الأصيل،
والحيلة البارعة.
– وهل تم هذا الزواج؟
– تمَّ بعد شهر من قدوم أبيك، وتزوَّج عمار الحارس بصبيحة القضاعية، وأصغر أبنائها
اليوم
هو أسامة خادمك، الذي تلعب معه في حدائق القصر.
هكذا كان يُغذَّى الطفل بأحاديث البطولة، وهكذا كانت تُثار حميَّته إلى ترسُّم خطوات
آبائه العظام. وقد وجدت هذه الأحاديث من نفس الطفل أرضًا خصبة ومنبتًا طيبًا فزادها خياله
ضخامة وعظمًا، وكانت شغل نهاره ومسرح أحلامه، فطالما استبطأ الزمن الذي حال دونه أن يجرد
سيفًا أو يشهد في قتام
٩ الخيل واشتباك الرماح مشهدًا.
ولما بلغ الرابعة عشرة وأجاد القراءة والكتابة، قسمت أمه وقته بين مجلسين: مجلس بين
الأدباء والشعراء وعلماء الدين واللغة والتاريخ، ومجلس فوق صهوات الخيل وبين خيرة
المدرِّبين على الفروسية وأساليب الضرب والطعان. وكان من أبرز الشعراء المنقطعين لتعليمه
أبو الحسن المعروف بالناشئ الأصغر، فقد أملى عليه شعره، وقرأ معه دواوين القدماء
والمحدَثين، وأخذ يوجهه إلى طرائق النقد، ويبصره مواطن السحر والجمال في جيِّد المنثور
والمنظوم، وكان أبو فراس يؤثر شعر عنترة في الجاهليين، وشعر الفرزدق والكميت في الأمويين،
ويروِّح عن نفسه بشعر كبار الشعراء العباسيين كبشَّار وأبي نُواس والحسين بن الضحاك.
والحق أن نفسه كانت مختلفة النزعة، فبينما هي جد وصرامة وتوثُّب إلى معالي الأمور،
إذا هي
حنَّانة إلى اللهو العنيف، تَوَّاقة إلى التمتع بنعيم الحياة واجتلاء أسرار الجمال. والجمال
مظهر من مظاهر هذا الكون تدركه النفس الشَّفَّافة وتهفو إليه، وترى فيه متعة وغذاءً،
والنفوس تصدأ كما يصدأ الحديد ولا يجلوها إلا فترات من السرور الذي لا يخدش الفضيلة ولا
يمس
الكرامة.
كان الناشئ الأصغر يقرأ معه يومًا بائية الكميت في مدح بني هاشم، فلما قضيا في درسها
طويلًا التفت إليه وقال: أقلت شيئًا من الشعر جديدًا؟
– لقد جال بالأمس في نفسي شعر أحسست به كأنه همسة الوحي فأسرعت إلى القلم لكتابته.
فنشط
الناشئ وقال: هاتِ أبا الفراس. فأنشد:
تطالبني البيض الصوارم والقنا
بما وعدت جديَّ فيَّ المخايلُ
١٠
فمثلي من نال المعالي بسيفِهِ
وربَّتما غالته عنها الغوائلُ
وما كل طلَّاب من الناس بالغٌ
ولا كل سيَّار إلى المجد واصلُ
فصاح الشيخ وقال: إيه يا بن حمدان! هذا هو الشعر الذي عجزت عنه شياطين الشعراء! زدني
بالله يا بن سعيد زدني فقال:
خيلي وإن قلَّت كثيرٌ نَقْعُها
بين الصوارم والقنا الرعافِ
١١
ومكارمي عددُ النجوم ومنزلي
مأوى الكرام ومنزلُ الأضيافِ
لا أقتني لصروف دهري عُدَّةً
حتى كأن خطوبها أحلافي
شيمٌ عُرفتُ بها غلامًا يافعًا
ولقد عَرَفْتُ بمثلها أسلافي
فطرب الناشئ وقال: حقًّا إن منبج لم تنجب بعد أبي عبادة البُحتري مثلك. اصدح يا بُنيَّ
كما تشاء وغرِّد، وعلِّم طيور الشام تلك الألحان القوية المملوءة بذكريات المجد والبطولة،
فإن الناس حيث شعراؤهم، فلقد سئمنا تلك الأشعار الرخوة الخائرة، التي قتلت في نفوس العرب
النخوة والشهامة، وصدفتهم عن التطلع إلى المجد والغَلَب، فعاشوا في بُلَهنية
١٢ النعيم، واستناموا إلى الراحة بين ظل الأشجار، وخرير الأنهار، وبين قَيْنة
١٣ وكأس، وعبث ومجون. وهذا العبث إلى ما مُني به العرب مع الاعتماد على الغرباء،
وإلقاء شئون الدولة إليهم، هو الذي قضى على الدولة العباسية، وأتى على بنيانها من القواعد،
بعد أن ملكت أطراف الأرض، وتحدَّت الدنيا بالعلم وقوَّة السلطان أيام الرشيد والمأمون.
لقد رمحتنا
١٤ الدنيا بعد أن كنا نقتعد منها صهوة العزِّ والصولة. هذا خليفتنا العباسي الذي
بايعه الديلم بعد أن خلعوا أخاه وسمَلوا
١٥ عينيه، يجلس اليوم على عرشه كما يجلس القرد الخائف المذعور تذهب عيناه يمينًا
وشمالًا حيث اتجهت عصا صاحبه، وقد علمت أن هذا البائس المنكود أمر أن تنقش على النقود
أسماء
ثلاثة من أمراء الديلم بعد أن أصبح بينهم لعبة تشدُّها ثلاثة خيوط!
وإذا اتجهنا إلى ناحية الروم، رأينا أنهم لم ينسوا ثأرهم عند العرب الذين ثلوا عروشهم،
وبددوا ملكهم، فأخذوا في مدى هذه القرون يعدُّون العدة، وينفثون في رجالهم روح الحقد
على
المسلمين، ويلوحون لهم بأمل برَّاق، ويمنُّونهم الأماني، ويصوِّرون لهم ذلك اليوم الموعود
الذي تعود فيه مملكة الروم التي اغتصبها المسلمون إلى حوزتهم. وهاهم أولاء اليوم رابضون
بالقرب من طَرَسوس يتحينون الفرصة للوثوب، ويغتبطون بما أصاب دولة الإسلام من تمزق، وبما
شجر بين أمرائها من حقد وعداء وانقسام.
وهنا قال أبو فراس في صوت تكاد تخنقه العَبرة: إن الأمم تموت حينما تنسى أخلاقها،
وتغفل
عن تاريخها. ولن تعود دولة العرب إلا إذا عاد أهلها إلى أخلاق العرب!
بهذا وأمثاله كان ينشأ أبو فراس في دراسة الأدب والتاريخ. وقد دفعته هذه الدروس إلى
الاستزادة والتوسُّع والانصباب على العلم حيثما وجده؛ فكان يخلو بنفسه ساعات في خزانة
الكتب
بالقصر ينتقل بين كتبها كما تنتقل النحلة من زهرة إلى زهرة لتجني العسل طيبًا
شهيًّا.
أما تدريبه على الفروسية وأساليب القتال، فكان يقوم به واصل بن عبد الله أعظم المدربين
مهارة، وأبرعهم ضربًا بسيف أو طعنًا برمح أو إصابة بسهم، ولم يكن يجد في تدريب الفتى
الناشئ
عَنَتًا أو مشقة، وكأنما كان يُعلِّم السمك أن يسبح في الماء، والطير أن يحلق في السماء،
فإن أثر الوراثة في أبي فراس كان عميقًا بعيد الغور، فلم يمض شهر حتى حذق فنون الحرب،
وركوب
الخيل، وأخذ يفاخر أنداده ويصاولهم، ولم يُعْقَد رِهان إلا كان فيه المجلِّي السبَّاق،
وكم
أغراه التمكن من فنون الفروسية بكثير من التهور والمجازفة، فكان يركض فرسه ويُلهبه بالسوط
ليثب به فوق مسيل ماء يبلغ عرضه عشر أذرع، دون أن يبتلَّ حافر فرسه، وكان يقيم سدًّا
مرتفعًا من جذوع الأشجار، ثم يهمز جواده فيثب فوقه كأنما يطير في الهواء. وقد أفزعت هذه
الأفانين واصلًا، وخاف عليه مغبَّتها، فأفضى إلى أمه بمخاوفه، ولكن أمه لم تلبث حين سمعت
حديثه أن هزت كتفيها في قلة اكتراث، ونظرت في وجه واصل بعد أن أطبقت عينها اليسرى في
غرور
وكبرياء، وقالت: ما عليك من هذا يا بن عبد الله. إن بني حمدان يجب أن يعملوا ما لا يستطيع
عمله الناس. وإلا فلمن أعدَّت خطيراتُ الأمور؟