الفصل الثالث
شغلت الشام وبخاصة في مدينة حلب في هذه الأيام بالحديث عن نجلاء الخالدية، وسرَت
شهرتها
بالجمال البارع من فم إلى فم، وتناقل الناس في إعجاب وإكبار ما ازدانت به من خُلُق ودين
ولطف وأدب وخفة روح وعلو نسب. وكانت نجلاء حقًّا كما يصفون وفوق الذي يصفون، فقد وهب
الله
لها وجهًا واضح الجبين، رائع القَسَمَات،
١ به عينان يتألق فيهما الطهر ويُشعُّ منهما النبل وكرم المحتِد، ومنحها نفسًا
أصفى من قطرات الغمام، وأقرب إلى نفوس الملائكة الأطهار. نشأت في بيت علم وأدب ينتمي
إلى
أسرة رفيعة المجد باذخة الشرف، وقد بلغ في هذا الحين أخوها محمد وسعيد الخالديان منزلة
أثيرة عند سيف الدولة بن حمدان أمير حلب، وكانا يشرفان على خزائن الكتب في قصره. فنمت
نجلاء
في هذا البيت الكريم، وتعهدها أخواها بالتعليم والتهذيب حتى برعت في فنون الأدب، وقالت
الشعر الجيد الرصين. وكانت دارها مثابة الأدباء والشعراء والعلماء يغشونها لينعموا بطرائف
الأحاديث والأخبار، وروائع الشعر والأدب، ولينالوا من كرم نجلاء وحسن ضيافتها ما يعزُّ
على
موائد الملوك.
وكثيرًا ما أشاد بمديحها الشعراء، وكثيرًا ما غنى المغنون بحسنها فرددت آفاق حلب هذا
الغناء عذبًا مشجيًّا، وكثيرًا ما كانت نجلاء تسمع هذا الغناء فتبتسم وتهزُّ كتفيها في
أنفة
وشيء غير قليل من الخجل.
شغل الناس بنجلاء، وتسابق فتيان الأسر الكريمة إليها يستجْدون نظرة رضا، ويتمنَّى
كل شاب
منهم لو أسعده الحظ بأن يكون لها بعلًا، باذلًا في سبيل ذلك كل ما في يديه من مجد وشهرة
ومال، ولكن هذه الزهرة الناضرة النقية لم تقابل هذه النَّحل المزدحمة حول رحيقها
٢ المختوم إلا بابتسامة الزهر لأشعة الصباح. فقد علمها أدبها ونبل أخلاقها أن
تعطف على الناس جميعًا في وداعة وصيانة، وأن تسطع عليهم جميعًا كما تسطع الشمس، لا يختص
بشعاعها قصر أمير، ولا يحرم ضياءها كوخ بائس فقير. فما يكاد يظن شاب أنه فاز منها بلمحة
رضا
حتى يدعمه اليقين بأن ما كان يظنه قبولًا لخطبته لم يكن إلا لطفًا في الرد وأدبًا في
الإباء.
وكان أشدَّ الفتيان حرصًا على خطبتها، وتشبثًا بالرغبة في تزوُّجها، قَرْعَوَيْه غلام
سيف
الدولة وقائد إحدى كتائبه.
كان شابًّا جميل الطلعة، مديد الطول، تيَّاهًا شديد الغرور بنفسه والزهْو بها، يجمع
إلى
ذكائه طبيعة النَّمر في الفتك، وغريزة الثعلب في الدهاء والحيلة. عرض هذا القائد على
نجلاء
كل شيء ليكون لها زوجًا فلم يظفر بشيء، وكثيرًا ما منَّاها الأماني، وهمس في أذنها بما
ينتظرها من جاهٍ وثروة وبُعد مكانة، ولكن فتاتنا كانت تُقابل كل هذا بابتسامة مهذَّبة
لطيفة
تمتزج فيها الدهشة بالحياء، وتقول: ما أجمل هذا! حقًّا إنه بديع، ثم تنطلق إلى حديث آخر
في
لباقة وأدب حتى إذا طال الكلام انفلتت منه كما ينفلت الطائر قبل أن تعلق به حبالة
الصائد.
وهكذا مضت الأيام وقرعويه يزيد إلحاحًا، وهي تزيد عنه بعدًا وانصرافًا.
وكانت فاطمة أخت نجلاء تسكن بمنبج، حيث يقيم زوجها الحسين الجوهري أكبر تجار الجواهر
بالمدينة. فقدمت نجلاء من حلب لزيارة أختها مع خادمتها سلمى العراقية، وهي امرأة في الستين
من عمرها لئيمة الطبع، لها دهاء وفضلة من ذكاء، صرفتهما في الحيل والخبث واقتناص المنافع.
ولم تقصد نجلاء من هذه الزيارة إلا أن تروِّح عن نفسها قليلًا من صخب حلب وازدحامها،
وقد
راقها ما رأت في منبج من حسن منظر، وطيب هواء، فأطالت مدة إقامتها.
وفي ذلك الحين كانت شجاعة أبي فراس وصباحة وجهه، وكرم خلاله قد سارت مسير المثل في
المدينة، ووصلت أخبارها إلى كل بيت، وتطلَّع كل عظيم إلى أن ينال شرف مصاهرته. أما الأمهات
فقد رفعن رءوسهن، ومددن عيونهنَّ، وأرهفنَ آذانهن لكل ما يصل إليهن من أخبار بطل منبج
وفارسها الباسل. وأعدَّت كل أم ابنتها لهذا الشرف، وأخذت تمهِّد لها إليه السبيل. والأم
حينما تلد بنتًا لا تفكر في شيء إلا في زواجها، وحينما تهزُّ مهدها — وهي تتفرس في وجهها،
وتدَّعي أن كل هفوة للجمال فيه إنما هي حسن من نوع غريب لا عهد للناس به — لا يخطر ببالها
إلا إحصاء أبناء المدينة ممن هم في طبقتها واحدًا واحدًا، وتخيُّر أكرمهم محتدًا، وأعظمهم
ثروة وأملحهم وجهًا، حتى إذا استقرَّ بها الاختيار أخذت في العمل، والاستنجاد بخير الوسائل،
فتوددت إلى أمه، ودفعت زوجها من حيث لا يدري إلى مجاملة أبيه ومصادقته، فإذا مات الغلام
انصرفت إلى غلام آخر يليه في المرتبة، وأعادت القصة بذاتها، لا تخرم
٣ منها حرفًا.
هكذا كانت حال الآباء والأمهات بمدينة منبج حين شبَّ أبو فراس عن الطوق، وحين أصبح
شابًّا
جميلًا في نحو الثامنة عشرة، تتيه به العروبة، وتشتاق إليه ميادين القتال. فلم يكن عجبًا
بعد هذا أن تكثر زيارة الأمهات لقصر سخينة، وأن يرسلن عليها سيلًا جارفًا من الملق كاد
يجترفها. فما فعلت شيئًا إلا كان حسنًا جميلًا، ولا قالت قولًا إلا وهو حكمة سليمان،
وفصاحة
سحبان، وكلما مر ذكر ابنها في غضون الحديث عرضًا نثرن عليه الثناء، وغمرنه بصنوف المديح
والإطراء. وسخينة تسمع وتفهم؛ لأنها أمٌّ تعرف ما تتمناه الأمهات لبناتهن من الخير
والسعادة.
زارها في أحد الأيام بعض كرائم السيدات، وكان بينهن نائلة زوج والي المدينة من قِبَل
سيف
الدولة، ومعها ابنتها عزَّة، فلما استقرَّ بهن المُقام أخذت نائلة تملأ البهو حديثًا
في
جمال القصر، وحُسن تشريفه، ثم تُتبع ذلك بالإشادة بمجد بني حمدان، ثم تنتقل إلى ما تتحلى
به
سخينة من صفات الشرف والكرامة وأصالة الرأي، ثم تثب بعد كل هذا إلى أن الولد صورة من
الأم،
وأن كل عرق ينتمي إلى أصله، وأن سيرة أبي فراس أصبحت مثلًا عاليًا للفتيان. ثم تتابع
الحديث
وتقول: إن ابني لا يملُّ الكلام في بطولة أبي فراس حتى لقد قلت له بالأمس: خير لك يا
بني أن
تُؤلِّف كتابًا في أخبار صديقك. فصاح ضاحكًا وقال: وبِمَ أسمي الكتاب يا أمي؟ قلت: «سمه
روض
الآس في أخبار أبي فراس.» فابتسمت سخينة وقالت: خير له أن يسميه: «ظبية الكناس
٤ في بطولة أبي فراس.» فضحك السيدات جميعهن، وما كدن يخضن في حديث آخر حتى دخلت
هيلانة تعلن قدوم السيدة فاطمة الخالدية وأختها نجلاء، فقمن لتحيتها، وقالت فاطمة في
دُعابة: لقد هززتن أركان البهو قهقهة ففيم كان ضحككنَّ؟
فحاولت نائلة بعد أن بهرها جمال نجلاء أن تُغضي عن السؤال، وأن تصرف الحديث إلى غير
وجهه،
ولكن سخينة أسرعت فقالت: كنا نختار اسم كتاب يُؤلف في سيرة ابني فماذا تقترحين؟
– أقترح أن يُسمى «تعطير الأنفاس بسيرة أبي فراس»؛ فظهر الغيظ على وجه نائلة وقالت:
كيف
حال ابنك الصغير يا فاطمة؟ لقد سمعت أنه كان مريضًا.
– إنه الآن بخير، مسح الله عنَّا وعنك السوء.
ثم تجاذبن أطراف القول في فنون شتى، وسخينة لا ترفع عينيها من وجه نجلاء، فقد أعجبها
جمالها وأدبها وحسن حديثها. حتى إذا مر وقت غير قليل، ودَّع الزائرات سخينة وانصرفن.
وحينما انفردت نجلاء بأختها في الطريق قالت: لقد سمعت كثيرًا عن أبي فراس، وسمعت كثيرًا
من شعره الذي يتناقله الناس، وهو يعدُّ في الطبقة الأولى قوَّة وروعة وبُعدَ خيال.
– إنه شاب لم تر له منبج مثلًا في أدبه وسجاحة خلقه وبطولته.
– لقد أكثر الناس من المبالغة في وصف شجاعته حتى أحببت أن أراه.
– لا تُعقد في منبج يا نجلاء مجالس للشعر والأدب كما هو الحال في حلب، ولكنك تستطيعين
أن
تريه كل أصيل ممتطيًا جواده مع فريق من خلَّانه في بعض مروج المدينة.
– يكفي أن أراه في شعره كما أرى كل شاعر، فإن الشعر صورة صادقة لصاحبه، ومرآة صافية
لخوالج نفسه.
– ليس دائمًا يا نجلاء، فإن لأبي نواس شعرًا في الزهد، وللحطيئة شعرًا في الحثِّ على
مكارم الأخلاق.
كان أبو فراس حقيقًا بكل هذه الضجَّة، فقد زادته الرجولة وسامة وقسامة، فكان مشرق
الوجه،
نافذ نظرات العيون، متين الجسم، قويَّ العضل، تتأجج فيه نيران الشباب، وتفور في نفسه
نزعات
عاتية من الطموح إلى المجد والوثوب إلى مراتب العظمة. وكان صورة صادقة للبطولة في القرن
الرابع الهجري، شديد الثقة بنفسه، قليل الاكتراث بالنوازل والخطوب، يعيش عيشة الأمراء
المترفين في ثروة وجاه ورفاغة
٥ من العيش، ويتسلَّى بقرض الشعر وركوب الخيل والمصارعة والصيد. والتَفَّ حوله
كثير من أبناء القوَّاد وكبار الأسر، فكانوا يقضون أكثر وقتهم في ترف ولهو وتناشد للأشعار،
بين مروج منبج الخضر، وأرباضها
٦ الضاحكة، وبساتينها الناضرة، وكان يحلو لهم عند الأصيل أن يجلسوا إلى جسر أحد
النهيرات التي يفيض ماؤها في الشتاء ويجفُّ عند الصيف، والتي يقول فيها أبو فراس:
قف بالمنازل والملا
عب، لا أراها الله مَحْلَا
٧
أُوطِنْتُها زمن الصبا
وجعلت منبج لي مَحَلَّا
حيث التفتَّ رأيت ما
ءً سائحًا، ورأيت ظِلَّا
والماء يفصل بين زهـ
ـر الروض في الشطَّيْن فَصْلَا
كبساط وَشْيٍ جرَّدت
أيدي القيون عليه نَصْلَا
٨
وفي ذات مساء اقترح أبو فراس على أصحابه أن يخرجوا للصيد «بعين باصر»، وهي على مسافة
فرسخين من حلب، فخرجوا قبل تبلُّج الصباح، ومعهم الصقور والبزاة وكلاب الصيد والخدم
والعبيد، وقضوا سبع ليال بين صيد وقصف، وقام الطُّهاة بشيِّ الظباء وطبخها بين ضحك
الضاحكين، وعبث العابثين، وتناشد الأشعار، وتبادل النوادر، وأخذوا يتخطَّفون اللحم، ويعدو
بعضهم وراء بعض في هزل يشبه الجدَّ. وفي الحق إنهم كانوا صورة لمرح الشباب وريعانه ولهوه
ونشوته، وكانوا يمثلون الفراغ والجدة
٩ وراحة البال والبراءة من كل ما يكدر الحياة. وبعد أن نالوا من الصيد واللهو ما
يشتهون، عادوا إلى المدينة، فبلغوها وقد مال ميزان النهار. وكان أبو فراس يتقدم الجمع
فوق
جواد عربيٍّ كريم. وبينما كان يمرُّ ببعض الدروب إذ جمح به الفرس فجأة لسبب غاب عنه،
فحاول
أن يكبح جماحه، ولكنه كان قد لعِق لجامه، وخرج عن إرادة فارسه. وفي ذلك الحين كانت امرأة
عجوز تمشي إلى جانب جدار فزحمها الفرس بكفله فسقطت على الأرض، وتواثب الناس من كل مكان
على
الفرس، وتعلَّق كثير منهم برقبته ومعرفته حتى استطاعوا صده، واتجه أبو فراس نحو العجوز،
وتقدم خدمه وعبيده فحملوها في مِحَفَّة
١٠ بعد أن سألوها عن دارها، فعلموا أنها تسكن في دار الحسين الجوهري، وسار خلفهم
أبو فراس حتى وصل إلى دار فخمة البناء، رحبة الفناء، فحطَّ العبيد المحفة، وتقدم الحسين
الجوهري فحيا الأمير، وسأله مذعورًا عن الخبر، فأخبره بالحادثة. وقد تبين الأسف في وجه
أبي
فراس، وحَتَمَ أن يستدعي لها طبيبًا، وأن يمنحها من المال ما يخفف آلامها، فأبى الحسين
في
أدب واستعطاف وقال: إنها ضيفتي يا مولاي، وخادم نجلاء أخت زوجي، ولا أحب أن يقول الناس:
إن
الجوهري تخلَّى عن واجبه. ولكن أبا فراس صمم فلم يكن من طاعته بدٌّ. فاستدعى الطبيب،
ودخل
معه الحسين وأبو فراس إلى حجرة المريضة، فجسَّ أطرافها، وأطال البحث، وبعد لأْي رفع رأسه
في
صلف وقال: لا بأس. ثم التفت إلى أبي فراس وقال: ليس بها شيء إلا شدخًا في عظم ساقها اليمنى،
وهو غير ذي خطر، ولا يحتاج إلا إلى رباط متين يحول بين الساق والحركة، ثم إلى الراحة
الكاملة، فأحضرت الأربطة، وربط الطبيب الساق إلى ما فوق الركبة ربطًا وثيقًا، وأمر ألا
تتناول من الطعام إلا ما كان خفيفًا سهل الهضم. ثم اتجه إلى سلمى وكان خشنًا لا يحسن
تصريف
الكلام وقال: وأنت أيتها العجوز المتشبثة بالحياة، والتي لها قدم في كل مكان، ماذا تعملين
في وقت الظهيرة التي تذيب دماغ الضبِّ؟ لعلك كنت تبحثين عن زوج مثلي؟!
فأخفت سلمى غضبها، وأرادت أن تثأر لنفسها فقالت في صوت خافت: لولا أني لا أحب الأطباء
لتزوجت واحدًا منهم.
– ولِمَ لا تحبين الأطباء؟!
– لأني أبغض طبهم، وإلا فقل لي بحق أبيك متى حال الطب دون الموت؟ ومتى أطال الطب أمد
الحياة؟ إن الحيوان يمرض فيشفى بغير طبيب، وإن كثيرًا من صنوفه تُعمَّر فوق عمر الإنسان
أضعافًا دون حاجة إلى طبيب. إن الله يا سيدي الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، خلق في طبيعة
الإنسان وطبيعة كل حيٍّ طبيبًا من غرائزه، فهو إذا أحسَّ المرض انصرف إلى الراحة، وابتعد
عن
الطعام، وحمى نفسه من البرد. وقد توحي له الفطرة بتناول غذاء هو دواؤه وفيه شفاؤه. إن
هرَّتي هذه تعرف متى تمرض، وتعرف كيف تشفى، ولو كنت دعوت لها بطبيب في إحدى مَرَضاتها
لكانت
اليوم في الدار الآخرة تصلى نار الجحيم لكثرة ما قتلت من الفيران، وما اختطفت من طعام
الجيران. إن الأمراض أيها الطبيب البارع قسمان: أمراض طارئة سهلة الزوال، وأمراض معضلة
قاتلة، وهما لا يحتاجان إلى طبيب؛ لأن القسم الأول يزول بقليل من الحماية والعناية، والثاني
لا تنفع فيه رُقية الراقي. وأنكى من كل هذا أن إنسانًا لو مرض ودعا في كل يوم طبيبًا
— وهبه
دعا عشرة منهم — لاختلف تقدير كل واحد للداء، واختلف وصفهم للدواء، وإذا كان الحق لا
يتعدد
فأحدهم بالبديهة هو الصادق أو هم جميعًا كاذبون. ولن تسأل طبيبًا عن شيء ويقول لك: إني
لا
أعرفه، ولن تعرض نفسك على طبيب حتى يهول لك في الأمر، ويُنذرك بأكبر المصائب، ويكدِّر
عليك
صفوة الحياة، ويُخيِّل إليك أنك تسير إلى القبر عدوًا. وقد اعتاد بعض الأطباء حينما يموت
المريض أن يلقوا التبعة كلها على أهله، ولهم في ذلك أساليب بارعة، كأن يسألوهم مثلًا:
هل
سقيتموه؟ فإن قالوا: نعم، قالوا: يا للداهية! لقد قضيتم عليه، إن الماء هو الذي قتله!
وإن
قالوا: لا، قالوا: يا للجهل ويا للغباء، إن أقل الناس معرفة يدرك أن الظمأ يقتل المريض
لا
محالة!
فأسرع أبو فراس وقال: أنت مخطئة يا خالتي، إن للطب شأنًا في استئصال الأمراض أو تخفيف
شدَّتها، أما أنَّ المرء يعالج نفسه بفطرته فصحيح، ولكن هذا العلاج قد يطول فتطول به
آلام
المريض. إن الطب لا يمنع الموت، ولكنه قد ينقذ من الموت.
– لك رأيك يا بني، ولكني إن أنكرت الطب فلن أنكر فضل الجرَّاحين، فإن نتائج أعمالهم
ظاهرة
بينة. وهنا قال الطبيب: وما رأيك أيتها الفيلسوفة العجوز في جابري العظام؟
– يجب على جابر العظام ألا يشدخ النفوس، ويكسر الخواطر.
فضحك الحسين الجوهري وقال: إن سلمى أيها الطبيب لا تحب أن يدعوها إنسان بالعجوز.
وانصرف الطبيب، وتبعه أبو فراس بعد أن وضع تحت وسادة سلمى كيسًا به عشرون دينارًا،
وعند
انصرافه لمح ستارًا ينفرج عن وجه لم تشرق الشمس على أجمل منه، ولم تتفتح أزهار البساتين
عن
أنضر منه، ولم تفاخر لآلئ البحار بأكثر منه صفاءً وتألقًا. وجه خلقه الله من أشعة الجنة:
فيه الجمال، وفيه النبل، وفيه الشرف. رأى أبو فراس هذا الوجه فاضطرب قلبه، ولم يحاول
أن
يطيل النظر هيبة وإجلالًا، فقد ذهل عن نفسه، وأحسَّ على الرغم من ذهوله أن هذا الوجه
كان
يُرسل ابتسامة مشرقة طاهرة كزهرة الربيع، بعثت في نفسه الأمل، كأنها اللوح السابح يراه
الغريق من بعيد، وقد اصطلحت عليه الأمواج، وجاءه الموج من كل مكان، فيُهرع إليه، ويتشبَّث
به، ويرى فيه بارقًا من النجاة.
خرج أبو فراس من الدار، وأخذ سَمْته إلى قصره كالمأخوذ، وقد سمع نفسه وهو يردِّد:
تبسَّم إذ تبسَّم عن أقاحي
وأسفر حين أسفر عن صباحِ