الفصل السادس
وفي ذات يوم عزم على أن يبتاع سيفًا ليعتاض به عن السيف الذي فقده ليلة محاولة اغتياله، فأرشده خادمه سهم إلى صانع السيوف «لوسيان» وهو روميٌّ أسره العرب منذ عشرين سنة، استطاع بعد أن مرَّ خمس منها أن يفدي نفسه. وقد طابت له الإقامة في حلب، وكان له من دماثة خُلُقه، وبراعته في فنه، ما حببه إلى كبار الأسر وعظماء القواد بالمدينة، فراجت صناعته ونمت ثروته، وكان مع تمسكه بدينه يرى أن الأديان كلها وسيلة للحياة الفاضلة، ووازع للناس عن ارتكاب الآثام، وحَوْط من أن يعبث بعضهم بحقوق بعض، فلم يكن عنده ذَرَّة من التعصب، ولم يكن ينظر إلى مخالفه في الدين نظرة الحقد والضغينة، وكان يقول: إن الأديان سبب العداوة والبغضاء حاربت أول أغراضها، وانحرفت عن أجلِّ غاياتها. لذلك كان شديد التمسك بآداب الإسلام والمسيحية، حريصًا على تبجيل رجالهما، يُقبِّل يد القسيس كما يُقبل يد إمام المسجد. ولم يرزق من النسل إلا بنتًا هي «صوفيا» الجميلة التي كانت بدعًا في الحسن، وتمثالًا إغريقيًّا حيًّا يتألَّق فيه بريق الشباب. ولكنها أحاطت جمالها بسياج من الرزانة والفضيلة، زاد عنه غربان الشرِّ. علَّمها أبوها العربية، وأدَّبها فأحسن تأديبها، فاتصلت ببنات الأسر الشريفة بالمدينة، وأصبحت بينهم مضربَ المثل في الجمال والذوق المرهف والخلق الكريم. وكانت كثيرًا ما تلازم أباها في مصنعه، وتعينه في شئون عمله.
ركِب أبو فراس جواده، ووصل إلى مصنع لوسيان فعرض عليه كثيرًا من السيوف فأباها، وطلب إليه أن يصنع له سيفًا وصفه له. وبينما هو في الحديث إذ لمح صوفيا فبهره ما رأى فيها من حسن هادئ، فابتسم نحوها وقال يخاطب أباها: وما لهذه الفتاة ومصانع السيوف والرماح؟ إن لها من نظراتها سيوفًا تتحدَّى صمصامة عمرو، ومن قدِّها رمحًا يسخر من رماح سمهر. ثم تقدَّم نحوها قائلًا: سعد صباحك يا فتاتي، فحيَّته صوفيا في أدب مرتجل. ثم أخذت تحدثه في لطف وثقة جعلاه ينظر إليها كما ينظر إلى صورة في محراب، وملأ قلبه إجلالًا لفضيلة الحسن وحسن الفضيلة. ولما أعجبه انطلاق لسانها وبراعة عبارتها سأل داهشًا: أدرستِ العربية؟
– إني أقرؤها وأكتب بها كما لو كانت لغة أهلي ووطني.
– أنت خير مني يا صوفيا، فإنني لا أعرف إلا لغة واحدة، ولكنها سيدة اللغات، فهي لغة الشعر والأدب والعلم، لم تترك خلجة لنفس، أو لمحة لعقل، إلا ترجمت عنها بأوضح بيان.
– ولغتي لا تقل عن العربية سُطوعًا وصدق أداء، فهي لغة الشعراء والفلاسفة.
– ولكني أظنها صعبة على من رامها.
– وأي شيء دعاك إلى هذا الظن وأنت لم تحاول تعلمها؟ إن اختلاط المسلمين بالروم يوجب — فيما أظن — على رجال الإسلام أن يلموا بلغة جيرانهم.
– لو تلقيتُها عنك لأتقنتها في أيام، ولكن من لي بهذا؟
– إن الأمر هين، فلن يكون شيء أحب إلى نفسي من أن أكون أستاذة أبي فراس البطل.
– هاتي يدك، اتفقنا، سأكون من غد تلميذك المثابر. ولكن احذري فقد يغضبك تبلُّد ذهني، فلا تجدين لضربي إلا سيفًا أو رمحًا.
فابتسمت في لطف وقالت: اطمئن يا سيدي فإن أي سيف لن يجرؤ على أن يمتد إلى سيف أرهف منه حدًّا، وأصدق فِرِندًا، وعندئذ ودَّعها أبو فراس وحيَّا لوسيان وانصرف.
وبعد أيام دخل فهد غرفة قرعويه فرآه، وهو يكاد يتميَّز من الغيظ، لا يستقرُّ في مكان من القلق، فلما نظر إليه سيده صاح به قائلًا: أتعرف أنني أرسلت إلى نجلاء منذ ثلاثة أيام أستأذن لزيارتها فأبت واعتذرت بالمرض، مع أني أعرف وجواسيسي يعرفون أن أبا فراس يزورها في كل يوم أو يومين؟ إن هذا الرجل شغلها عني، قد كانت قبل أن تعرفه أميل إلى القرب منها إلى النفور، ويلٌ لهذا الرجل مني، إن إنسانًا واحدًا لم يستطع قبل اليوم الوقوف في طريقي، ولو كان هذا الإنسان سيف الدولة نفسه، فما لي أجبن أمام هذا الفتى الغِرِّ؟ وما لحيلي تضيق بالفتك به أو صدِّ غوائله عني؟ جرَّدنا له اثني عشر فارسًا من صعاليك بني كعب لقتله غيلة فهزمهم منفردًا، وقتل زعيمهم بسيفه، أجنِّيٌّ هو من جنود سليمان؟ أم خيال طائف لا يمسه سيف ولا يجرحه سنان؟ إنني إن أبعدته عن نجلاء خلصت لي وحدي، ونسيت حبها له في ظلال ثروتي ونعمتي، هل عندك من حيلة؟
– نحن يا سيدي الأيدي الباطشة، وأنت العقل المفكر.
– اسمع يا فهد، لقد علمت أنه لا يزورها إلا إذا دعته برسالة تبعث بها مع سلمى العجوز. وهذه العجوز صورة من إبليس على الأرض في الخداع والخيانة والفساد. وهي إذا أسمعناها رنين الذهب طار عقلها، وباعت أمانتها ووفاءها بيع الخسار، فإذا استطعنا أن نجتذبها إلينا، وأن نطلب إليها ألا توصل الرسائل إلى أبي فراس امتنع عن الذهاب إلى نجلاء وقلق، وأسرع فكتب إليها رسالة يسألها عن سبب هجرها، وأغلب الظن أن يبعث بهذه الرسالة مع خادمه سهم، وسهم صنيعتنا، وكثيرًا ما استخدمناه في بث الدسائس لأعدائنا، فإذا أخذ من سيده أية رسالة أوصيناه أن يسلِّمها للعجوز، وبهذه الطريقة لا تصل رسائل نجلاء إلى أبي فراس، ولا تصل رسائله إليها، فإذا امتد الزمن ازدادت القطيعة، وأساء كلٌّ الظن بصاحبه، وأدركته العزة فنفر نفور الإباء. وهنا أظهر لنجلاء بمظهر الصديق الوفي الساخط على أمثاله من الأدنياء، ما رأيك في هذه الحيلة؟
– الحيلة محكمة الأطراف، ولكني أضيف إليها حاشية تزيد في إحكامها وإتقانها. لقد تابعت أبا فراس منذ أيام فرأيت أنه يزور مصنع لوسيان الرومي كل صباح، ليتلقى درسًا في الرومية على ابنته صوفيا، وسأوحي إلى سلمى العراقية أن تتحدث إلى نجلاء بأن الناس يهمسون بافتتان أبي فراس بصوفيا، حتى إذا رأت من سيدتها شكًّا فيما تقول عرضت عليها الرسائل التي سلمها إليها سهم، وزعمت لها أنها صادرة من أبي فراس إلى صوفيا، حينذاك يغلي صدرها بالغيرة، ويدركها ما يدرك النساء من السخط على من ينبذ ودَّهن، ويجرح كبرياءهن.
– مرحى مرحى يا فهد لو أنصفوك لسمَّوْك ثعلبًا! اذهب وافعل ما شئت فإنك بوسائل الخداع جدُّ عليم.
وتحيَّن فهد الفرص للقاء العجوز، حتى عثر بها مرة في سوق النسَّاجين، وهي تحمل تختًا من الثياب، فحيَّاها قائلًا: سعد صباحك يا أم.
فقبَّضت من عينيها، وكانت قصيرة النظر، حتى إذا عرفته ضحكت في سخرية ولؤم، ثم قالت في دعابة لاذعة: لقد كان صباحًا سعيدًا قبل أن أكون أمًّا لفهد.
– إن الفهد نمر صغير.
– والبرغوث فيل صغير.
– لقد نهينا في مأثور الخبر عن سب البرغوث؛ لأنه أيقظ نبيًّا للصلاة.
– لو نُسج غطاء أمك من البراغيث ما استيقظت لعبادة.
– إن أمي لم تحمل في شبابها ما حَمَلْتِ من مآثم وأوزار.
– لو لم يكن إلا أنها حملتك لكفى.
– حملتني لأحمل على عجائز السوء.
– ولتفرَّ من الحرب.
– إن أمك والله أحق مني، فلِمَ لا تشير على سيف الدولة بأن يجرِّد منها جيشًا يطهر به البلاد من غزوات الروم؟
– إن الروم تغير على التخوم والدروب، وأنت تغيرين على ما في الجيوب.
– لو وجدت في جيبك مالًا لعلمت أنك سرقت ثوب غيرك.
– إن في جيبي مائتي دينار.
– إن ربع دينار منها يكفي لقطع يدك.
– ولو أعطيتك المائتين لقطعت بها لسانك، فكفِّي عن هذا السباب.
– إن عرضك يُغري اللسان بالقذف، ولو حاولت إسكاته بكنوز قارون.
– وعرضك لا يباع بدرهم.
– لأن الكلاب تلِغ فيه. ثم ضحكت ضحكة الظافر المنتصر، وربَّتت كتفه وقالت: من أين لك هذا المال يا جُرَذ؟
– من قرعويه.
– هنيئًا لك بسيدك!
– وهنيئًا لك بسيدي!
– أنا!
– نعم أنت، فالمال لك! وأنا الناقة التي تحمل الماء وهي عطشى.
– متى بدأ سيدك يتصدق على العجائز؟
– حينما علم أن في أيديهن مفاتيح الجنة.
– إن جنتي أغلى من أن تفتح بمائتي دينار.
– هذه خطوة تليها خطوات، ونفحة تتبعها نفحات. وثمن أول طرقة على ذلك الباب القدسيِّ الطاهر.
– اكشف اللثام عن القول ودعني من الكُنَى.
– تعلمين ميل سيدي المبرِّح إلى نجلاء، وتعلمين أنها تقابل فُتونه بالصَّدِّ، ولن يغيب عنك أنها بعد صداقتها لأبي فراس زاد إعراضها وجفاؤها لسيدي.
– ذلك المتكبر الصلف؟!
– هو متكبر صلف علَيَّ وعليك يا غبي، أما في مجالس الحسان فحنان وسحر ورقة، وعلى أية حال ماذا تريد مني؟
– أريد أن تقطعي الصلة بينه وبين نجلاء.
– وكيف؟
– لا توصلي رسائلها إليه، وسنُغري خادمه سهمًا بألا يوصل رسائله إليها.
– هذا حسن، ثم؟
– ثم تشتد الجفوة بينهما، ويظن كلاهما بالآخر الظنون.
– معقول، ثم؟
– ثم تنفثين سمومك، وتهوِّنين أمره على نجلاء، وتدعين أنه مُدَلَّه بحب صوفيا بنت لوسيان، وتطلعينها على رسائله التي سيوصلها إليك سهم، زاعمة أنه بعث بها إلى صوفيا، وأنك حصلت عليها من خادمها.
فاتكأت العجوز بذراعها على كتفه، وغاصت في تأملات عميقة، ثم رفعت رأسها وقالت وهي ذاهلة: كنت أظن أن بحلب مصنعًا واحدًا للدسائس هو رأسي، ولكني الآن أطرق إجلالًا لمصنع جديد في رأس جديد. ثم عاد إليها جشعها فقالت: إن المكيدة قطعة فنية رائعة، ولكن الثمن لتنفيذها لا يزال قليلًا.
– إن سيدي، لا يفكر في الثمن كيفما عظُم، فهو يضع في يدك كل أسبوع مائتي دينار، أتقبلين؟
– قَبِلْت.
فأسرعت يد فهد إلى جيبه فنفحها بالمال.
وكان الاتفاق مع سهم سهلًا، ومرت الأيام، واستمرت نجلاء تبعث برسائلها مع العجوز، والعجوز تصونها في حرز حريز، وقلق أبو فراس، فدعا بسهم وزوَّده برسالة إلى نجلاء كتب فيها:
وذهب سهم، وأعطى العجوز الرسالة، وزوَّق لسيده كلامًا أخبره فيه أنها تلقت الرسالة متضجرة، حتى إذا قرأتها التفتتْ إليه وقالت: قل لسيدك إني قرأت الرسالة. وغضب أبو فراس، وزمجر وتطاير الشرر من عينيه، ومد يده إلى قرطاس كتب فيه:
ثم دفع به إلى سهم وصاح في وجهه قائلًا: يجب أن تعود منها برسالة، ثم جلس ينتظر قلقًا مضطربًا، يُقلِّب في صفحات فكره فلا يرى أنه ارتكب إثمًا، أو اجترم جرمًا. ويعود سهم وقد ارتسم الحزن على وجهه، وصفِرت يداه من أية رسالة ويقول في تلعثم وخوف: لقد نهرتني هذه المرة يا سيدي.
– نهرتك؟ هكذا هنَّ بنات حواء! وقديمًا قالوا:
وكانت الدموع تتناثر من عينيه وهو يكتب، ثم أشاح بوجهه ومد يده إلى سهم بالرسالة وهو يقول: خذ هذه وألقها أمامها وأسرع دون أن تنتظر جوابًا.
ولم تكن نجلاء خيرًا من أبي فراس حالًا فقد روَّعها جفاؤه، فكانت تذهب وتجيء في دارها في ذهول ووجوم. وكانت لا تزال تسأل العجوز وتُلحُّ علَّها تجد في حديثها الجاف المحرق واحة تلجأ إلى ظلها مما هي فيه من عذاب مقعد مقيم، حتى إذا نفد صبرها اتجهت إلى العجوز في هيئة المستعطف الآمل وهي تقول: هل من سبيل إلى معرفة ما أصابه يا سلمى؟
– خففي عنك يا سيدتي، فإن من أهان نفسه هان.
– إنني لم أهن نفسي أيتها العجوز، إن حبنا سماوي قدسيٌّ جفا هذه الأرض المظلمة الدنسة وطار مع الملائكة في أفق كله طُهر ونور. إنني لا أحب إلا النفس الكريمة والخلق النبيل. أرأيت ما فعلت بقرعويه ذلك الغرِّ الأبله، الذي ظن أنه يستطيع أن يغزوني بجاهه وسلطانه وثروته؟
فابتسمت العجوز ابتسامة الاستخفاف وقالت: عجيب شأن هذا الحب؟ إنه لا يعطي إلا من لا يسأله. إن قرعويه فتى تود كل فتيات المدينة لو ينلنَ منه كلمة رضا أو ابتسامة حنان! وأين منه هذا الطائر القلق الذي يغرِّد كل لحظة فوق فَنَن، ويسكن كل ليلة في عش جديد؟
– اسكتي أيتها العجوز الماكرة. إن أبا فراس لا يسكن كل ليلة في عش جديد. إن له من نبله وخلقه ما يرفعه إلى منازل الأبرار، وإني أخشى أن يكون في الأمر دسيسة قذرة. ومن يدريني أنه يشكو الآن مما أشكو، ويبكي كما أبكي؟
– أخشى أن تكوني صادقة، ولكنه لا يشكو لبعدك ولا يبكي لفراقك.
فظهر الذعر في وجه نجلاء وصاحت: ما هذه الألغاز يا أخت إبليس؟ أتكتمين شيئًا عني؟
– إن أخي إبليس أوحى إليَّ ألا أثق بالرجال. وعلمني في شبابي أن ألعب بهم، وألا أدع واحدًا منهم يلعب بي.
– أفصحي بالله عليك يا سلمى!
– إن الإشارة تغني عن الكلام، ومن العبث أن يقذف المرء بالحجارة زجاجًا محطَّمًا.
– قولي لي يا سلمى فإن صاحبة الزجاج المحطم تريد أن تعرف مكان الخطر.
– كانوا يهمسون باسم صوفيا، ثم تحققت صدق ظنونهم.
– صوفيا؟ صديقتي صوفيا بنت لوسيان؟ لا لا يا سلمى. قولي كلامًا آخر، إنه إن سقط من عرش كرامته، فإن مثلها لن يُقدم على حب يستحيل أن ينتهي بشرف الزواج. إنها على شممها وعلوِّ نفسها لا تنسى أنها بنت أسير روميٍّ، وأنها لن تستطيع أن تتصل بملوك العرب.
– إنه يذهب إلى دارها كل مساء، وقد بدأ الأمر بأنه يريد أن يتعلم اللغة الرومية.
– أنت كاذبة، إن حبيبي لن ينحدر إلى هذه الوهدة.
– وماذا تقولين في رسائل أرسلها إليها واستطاع خادمها أن يسرقها لي من خزانتها؟
– أين الرسائل؟
أما أبو فراس فكثرت وساوسه، واختلط عليه الأمر، ولزم داره، وبينما هو يُناجي شجونه الضائعة، ويسخط على الدنيا وما فيها من خداع ورياء وختل، إذا رسول سيف الدولة يدخل وبيده رسالة من سيده يخبره فيها باقتراب الروم من مَرْعش، ويهوِّل له في الأمر، وينبئه بأن الفرصة الآن سانحة للإغارة على حصن برزويه واستنقاذه من أيديهم. ما كاد يتم قراءة الرسالة حتى امتطى جواده وانطلق إلى قصر الحلبة وهو يسابق الريح، وقد شعر في نفسه بشيء من السرور لهذه الدعوة إلى القتال الذي قد ينسيه لواعج الحب، أو يريحه منها إلى الأبد.