الفصل السابع
وصل أبو فراس إلى ميدان القصر في اليوم الثالث من شهر جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين
وثلاثمائة، فرأى زحامًا تكاد تلتصق فيه الأجسام، وقد اضطربت آذان الأفق بصهيل الخيل وعجيج
الرجال، ورأى جيشًا لهامًا لا يبلغ الطرف مدى حدِّه، كأنه البحر المائج، وقد لمعت سيوفه،
وأشرعت رماحه، واشتاقت فيه النفوس إلى لقاء الموت، ولمح من بعيد سيف الدولة فوق جواده
الأشهب، وقد ابتسمت أساريره، وملأه الزهو برجاله وعتاده، فانطلق نحوه حتى إذا بلغه نزل
عن
فرسه وحيَّاه تحية الملوك وقال: «إنا معك يا بن العم إلى آخر الأرض، ولن نرجع حتى نعلِّم
الدُّمُستق كيف يكون القتال، وحتى نأبى أن نتعلم منه كيف يكون الفرار. سر يا بن العم
فإن
جيشك غيل
١ متحرك به أسود طال بها الطوى، وحرَّقها الظمأ إلى دماء الأعداء.»
وهنا صاح الفرسان في حماسة: حيَّا الله أبا فراس؛ إن جيشًا يقوده سيف الدولة ويصول
فيه
أبو فراس لن يُغلب أبدًا. وبعد قليل انطلق الجيش كأنه الطود الشامخ يتعثَّر بالآكام،
حتى
إذا بلغ حصن برزويه وثب أبو فراس في طليعة الفرسان وسيفه في يده كأنه الشعلة المتوقِّدة،
واحتدمت الحرب، وحمي وطيسها،
٢ وتنادى الشجعان، واختلطت الأصوات، وعلا الصهيل والصليل، وطال الصراع ساعات، حتى
إذا بلغت القلوب الحناجر، صاح الصائحون: إلى الجنة؛ إلى الجنة أيها الشهداء؛ لقد فُتِّحت
اليوم أبوابها، إن الحور العين ينظرْن إليكم من خلال السحب، فأروهن أنكم أشوق منهن إلى
اللقاء. النصر، النصر! لن يخفِق للروم عَلَم بعد اليوم!
وأخذ أبو فراس سَمْته
٣ نحو الحصن وخلفه ضراغم العرب، وتكاثر عليه الروم فكان يطيح رءوسهم كما يحصد
الزارع سنابل القمح، وما زال يصعد والفرسان خلفه، حتى وصل بفرسه إلى قمة الحصن، فخلع
رايته
وقذف بها في التراب، ثم صاح: الله أكبر؛ فردَّد الجيش صيحته، وتواثب المسلمون على الحصن
حتى
أجلوا الروم عنه، فانطلقوا خلف قائدهم في سرعة الريح يلتمسون الفرار، وعاد سيف الدولة
إلى
أنطاكية، ووراء جيشه جيش ثانٍ من الأسرى والغنائم.
وما كاد سيف الدولة يستقر في ضيافة قريبه أبي العشائر والي أنطاكية، حتى تقدَّم إليه
الوالي وهو يأخذ بذراع رجل في هيئة الفارس، تجاوز الثلاثين، طويل القامة، خفيف الجسم،
رقيق
الشفتين، أصيد
٤ العنق، في ملامحه كبرياء الواثق بنفسه، المعتدِّ بها، وفي صدره المرتفع ما يدل
على ما يجيش به من آمال جسام، تقدم أبو العشائر إلى سيف الدولة وهو يقول: هذا يا مولاي
أحمد
بن الحسين المتنبي الشاعر. وهو نادرة الفلك، وفخر عُطارد، يُريد أن يُشيد بمحامد مولاي،
وأن
يسجِّل غزواته في جبين الدهور بشعره الخالد. فاشمأز أبو فراس قليلًا لطول المديح وكثرة
الإطراء، وعجب أن يوصف أمامه شاعر هذا الوصف، وزاد عجبه حينما رأى سيف الدولة يحتفي به
ويجلسه إلى جانبه، وحينئذ علم أن زامر الحيِّ لا يطرب، وأن النبيَّ لا يُكْرم بين قومه.
ووقف المتنبي وأنشد قصيدة ميمية وصف فيها انتصار سيف الدولة واستيلاءه على حصن برزويه،
منها:
لقد ملَّ ضوء الصبح مما تُغيرُهُ
ومل سواد الليل مما تُزاحمهْ
٥
ومل القنا مما يدق صدوره
ومل حديد الهند مما تُلاطِمهْ
٦
لقد سل سيفَ الدولة المجدُ معلمًا
فلا المجد مخفيه، ولا الضرب ثالمهْ
٧
على عاتق الملك الأغرِّ نجادُه
وفي يد جبَّار السموات قائمهْ
٨
تحاربه الأعداء وَهْيَ عبيده
وتدخر الأموال وَهْيَ غنائمهْ
ويستكبرون الدهر والدهر دونه
ويستعظمون الموتَ والموتُ خادمهْ
وكان سيف الدولة يتمايل من الطرب، وأعجب بعض الشعر أبا فراس، ورأى فيه تجديدًا، ولكنه
لم
يكن يحب من الشاعر ذلك الزهو الذي لا يطاق وبخاصَّة حينما قال:
عجبت له لما رأيت صفاته
بلا واصف، والشعر تهذي طماطمه
٩
عند ذلك علم أبو فراس أن حربًا أدبية بجانب حرب الروم ستنشب نيرانها بحلب، وأن شعراء
الشام وهم خير شعراء العرب لن يلقوا أقلامهم أمام هذا الشاعر المتحدي، وأنه وقد أعدَّه
الله
ليثلَّ عرش الروم بسيفه لن يصعب عليه أن ينزل هذا المغرور إلى حيث يجب أن يكون. ثم سار
أبو
العشائر بالمتنبي حتى بلغ أبا فراس وقال: هذا ابن عمي أبو فراس فارس بني حمدان
وشاعرهم.
– سمعت يا سيدي شعره من قبل فأكبرت فنه وأدبه، ما أحسن الملك والأدب يجتمعان! وددْت
لو
بعت نصف شعري بولاية في أقصى الأرض.
فقال أبو فراس: الشاعر له في دنيا شعره ما هو خير من الولايات والمناصب لو استطاع
أن يرفع
شعره عن شهوات النفوس. لقد أحسنت أبا الطيب في قصيدتك بعض الإحسان لولا أنك أَثَرْتَ
عليك
حفيظة الشعراء. ما لك ولهم يا صاحبي؟ إن نوال ابن عمي بحر فياض لا يُنقص منه تزاحُم
الواردين.
– إنها الصنعة يا سيدي، وإن للمدح أساليب هذا أحدها، وأنتم لمكانتكم من الملك لا تحاولون
هذه المذاهب.
– صدقت. وشعراؤنا — وليس لهم ظل من ملك — لا يحاولونها أيضًا. انظر، إن ابن عمي يدعوك
لتذهب إليه.
وأقام سيف الدولة بأنطاكيا أيامًا، ثم ارتحل إلى حلب، وكان أبو فراس يظن أن الحرب
وأهوالها تنسيه حُبَّه لنجلاء، فإذا خيالها يعرض له في كل معترك، وإذا صورتها تبرز له
حزينة
باكية بين مُشتَجَر الرماح، جرَّب السلُوَّ بالوحدة فزادت في أشجانه وبالامتزاج بالناس
فكانت كل كلمة منهم تذكره بها، وتشعل فؤاده شوقًا إليها، وجرَّبه بالراح فطفا وجهه الفاتن
فوق كل كأس؛ وظهر لؤلؤ ثغرها في كل حبب،
١٠ وجرَّبه بالشعر فكانت كل قافية تشير إليها، وكان كل بيت يفتح أبوابه لينبعث منه
نور جبينها الوضاح. ثم جربه بالنوم فكانت أطيافها تنتابه
١١ في أشكال وصور تثير كامن الآلام، وتنكأ
١٢ هادئ الجروح.
وصل أبو فراس إلى حلب وقضى ليلة بين هَمٍّ ويأس، حتى إذا بدا حاجب الشمس قام من فراشه
مضنى متعبًا حزينًا، وطفق يحدث نفسه هامسًا: إنها وشاية، إنها نميمة كاشح.
١٣ إن نجلاء أنبل وأكرم عرقًا من أن تهجرني من غير ذنب. إن صداقتي لها أوغرت عليَّ
صدورًا ملئت باللؤم، وطباعًا خبيثة تعرف كيف تحسن الكيد: فمرة تجتمع شرذمة من شذَّاذ
العرب
لقتلي عند خروجي من دارها، ومرة يدخلون عليها بهذه الدسيسة الماكرة التي فرقت بيني وبينها.
أين السبيل؟ وكيف أصل إليها بعد أن ظهر أن كل الناس يأتمرون بي؟ صوفيا؟ إني سمعتها تذكر
نجلاء، وتثني على نجلاء. أتستطيع أن تعمل لي شيئًا؟ ولِمَ لا؟ إنها فتاة كريمة الخلق،
رقيقة
العاطفة. ولِمَ لا أجرب؟ يا أسامة أعدَّ جوادي. وركب أبو فراس حتى وصل إلى مصنع لوسيان
فلاقته صوفيا في طلاقة وبِشر، وأكثرت من الترحيب به، ثم قالت تداعبه: أظنك نسيت جميع
دروسي.
– لقد شغلني عنها درس لا أستطيع فهمه.
– لن يصعب شيء على ذهنك الوقَّاد.
– ربما استطعت أن أفهم كل شيء، ولكني أقرُّ لك صادقًا أنني عجزت عن فهم النساء. فضحكت
صوفيا وقالت: وَيْحِي على فارس الطعان، ومبيد الأقران، وفاتح العواصم والثغور، كيف تعجز
عن
فهم امرأة؟
– نعم يا صوفيا، إن أمري عجب، فهل لديك من معونة؟
وقص عليها أبو فراس أمره من بداءته إلى نهايته، حتى إذا أتمَّ قصته قامت وشرعت تلتفُّ
بلفاعها، وهي تقول: سأكون رسولك إليها الساعة. انتظرني هنا. ثم انفلتت كأنها هبَّة النسيم،
وبقي أبو فراس بين أمل يائس، ويأس آمِل.
بلغت صوفيا دار نجلاء، فدخلت حتى وصلت إلى البهو الكبير ورأتها سلمى العجوز فجنَّ
جنونها.
ورأت أن جريمتها أوشكت أن تنكشف، فأخذت تبحث في زوايا رأسها الأشيب عن حيلة تدرأ عنها
الخطر، فحيَّت صوفيا في شوق وترحيب، ثم قالت: أخشى يا بنيَّتي ألا تستطيع سيدتي نجلاء
لقاءك
اليوم؛ لأنها تؤثر أن تبقى في سريرها. فأدركت صوفيا أن العجوز — على الرغم من ريائها
الظاهر
— لم ترتح للقائها، ورأت أنها تكثر من الابتسام ومن بَلْعِ ريقها، وتحاول خفض صوتها،
فعلمت
أن وراء الأمر سرًّا، وأن هذا السر قد تكون له صلة بما جاءت من أجله، فرفعت صوتها وقالت:
ما
أجمل هذا البهو يا سلمى! وما أعظم هذه الأعمدة! ثم رفعت صوتها وهي تقول: وهذه النقوش!
هذه
النقوش! ما أبدعها وما أروع ألوانها! فذُعرت العجوز وقالت: خفضي صوتك يا بنيتي. فزادت
الشبهة في نفس صوفيا، وأخذت تصيح كالمجنونة: انظري، انظري يا أمي إلى السقف! انظري! انظري!
بالله عليك انظري! هذه صورة نسر جارح تفرُّ أمامه الطيور في ذعر ووَهَل.
١٤ وهذه صورة نمر يطارد غزالًا. مسكين مسكين هذا الغزال!
وبينما هي في صياحها إذ فتح باب البهو وبرزت منه نجلاء. فلما رأت صوفيا بهتت وبان
الغضب
في عينيها، ووقفت في مكانها لا تريم،
١٥ وعادت إليها ذكريات صديقها، وآثار آلامها، إن غاصبة هذا الصديق تزور بيتها،
وتقف أمامها باسمة كأنها لم تهدم حياتها، ولم تضرِّج يديها بدماء قلبها، فقربت منها وقالت
وصدرها يرتفع وينخفض كأنه كِير حدَّاد: ما كنت أظن أن أراك في منزلي بعد أن أغلقتِ بيديك
بابه دونك.
– أنا أغلقت بابه دوني يا نجلاء؟ ولمهْ؟
– هذا سرِّي وسرُّكِ.
– وقد يكون سرَّ سلمى فقد هالتها زيارتي في هذا الصباح.
– إن لها كثيرًا من العذر.
– ماذا أسمع يا رب؟ لقد جئت شفيعة فأصبحت في حاجة إلى شفيع.
– جئت شفيعة؟
– نعم.
– لمن؟
– لصديق عزيز، فتهانفت
١٦ نجلاء وقالت: تتشفَّعين لصديق عزيز لتسلبيه مرة أخرى!
– ما هذا يا إلهي؟ حبيبتي نجلاء! ماذا بك؟
– أنت بي، وأنت دائي، وأنت بلائي.
– نجلاء؟ أين ذُهِبَ بعقلك؟ بالله عليك قولي ماذا جنيت؟
– خبِّريني أولًا لِمَن تتشفَّعين؟
– لمولاي أبي فراس.
فوثبت نجلاء وقالت في دهشة المحموم: لأبي فراس؟!
– نعم لأبي فراس. ماذا فعل أبو فراس حتى هجرته وكدرت عليه صفو حياته، وهو أطهر الشباب
قلبًا وأكرمهم نفسًا، وأعلاهم نسبًا؟ ماذا جنى حتى بدَّلت بنهاره ظلامًا، وبريحان حياته
شوكًا وقتادًا؟
– ألا تغارين عليه يا صوفيا؟
فحملقت صوفيا وقالت: أغار عليه؟ إنه حبيب إلى كل قلب، ولكنه لا يبعثر حبه على الحسان.
إنني أحبه كما أحب القمر الزاهي في ليالي الربيع، دون أن تحدثني نفسي بالصعود إليه. إن
من
الخبل أن تتعلق رومية بعروش الملوك.
– إذًا ما هذه الرسائل التي كان يبعث بها إليك؟ فقهقهت صوفيا وقالت: مسكينة يا نجلاء!
لقد
وقعت في دسيسة أشرار أشقياء. أين هذه الرسائل؟ فقامت نجلاء وأخرجت الرسائل من خزانتها.
فلما
نظرت إليها صوفيا، وكانت نافذة الذكاء، صاحت: انظري، إنها مزوَّرة، إنها بخطه إلا تلك
الكلمة التي صُدِّرت بها كل رسالة. تأملي يا حبيبتي في كلمة «يا صوفيا» أهي من نوع
خطه؟
فنظرت نجلاء طويلًا، ثم رفعت رأسها كما يرفع الغريق رأسه من اللجَّة وصاحت: لا يا
صوفيا
إنها ليست خطه. إنها مزورة، فقد كنا فريسة مكيدة خبيثة. ثم قذفت بنفسها على صوفيا تعانقها
وتقبِّلها في شبه جنون، وهي تغمغم: ويل لي من غباوتي! لقد كدت أضيِّع صديقي، وأفقد حياتي
وسعادتي. مسكين أيها الصديق! ماذا ظننت بي؟ وبم حكمت عليَّ؟ ثم التفتت فلم تجد العجوز
فصاحت: أدركوا العجوز! أدركوا العجوز! فهُرع الخدم وأسرعوا للبحث عنها في كل مكان من
الدار،
فلم يعثروا لها على أثر، فاتجهت إلى صوفيا وقالت: هذه العجوز هي رأس الشر، وأم الكبائر.
أين
أبو فراس الآن؟ اذهبي يا حبيبتي إليه وقصي عليه ما رأيت وسمعت، وتلطَّفي به، واطلبي إليه
أن
يقابلني بعد ساعة بقصر أخته أسماء، لنحل معًا هذا اللغز المعقد.
وعادت صوفيا إلى أبي فراس فرأته يذرع الغرفة جيئة وذهوبًا في قلق ووجوم، فلما وقعت
عليها
عينه صاح: ما وراءك؟ فلم تجبه وقالت: اجلس هنا يا فارسي، وبالله عليك لا تحملق عينيك
هكذا
فإنك تخيفني. اهدأ يا سيدي اهدأ، فإن حديثي سيطول، ثم ما هذا العبوس؟ وما ذلك الحزن الذي
كاد يعصف بك؟ وفي تلك اللحظة أخذ كلبها يتواثب حولها فمالت إليه تداعبه وتدلِّله، وتحمله
بين ذراعيها، وتخاطبه بعبارات ملؤها الحب والحنان، فضاق أبو فراس ذرعًا واشتدت وساوسه،
وقال: قوليها كلمة واحدة يا صوفيا، ففي اليأس راحة المحبين، فأغرقت في الضحك وقالت: أي
يأس
يا صديقي؟ إنها مكيدة محبوكة الأطراف نسجتْها يد العجوز سلمى مع أيدٍ أخرى، أترك لك ولنجلاء
البحث عنها.
– مكيدة؟ ونجلاء لا تزال على صداقتي؟
– نعم، ثم أخذت تقص عليه القصة في تفصيل وإسهاب، وهو مطرق واجم، يتأوَّه حينًا، ويثب
من
الغضب أحيانًا، فلما نفضت إليه كل ما عندها قال: خادمي سهم خائن، والعجوز خائنة، وأنت
مسكينة مظلومة، ويل لسهم! ويل لسهم! ولكن هناك أيديًا أثيمة أخرى هي التي كانت تدفع هذين
الخائنين. الحمد لله والشكر لك يا صوفيا، ما أعجب تصاريف القدر! إنهم لو لم يدخلوك في
هذه
الدسيسة ما استطعنا لها كشفًا! أنا اليوم أسعد خلق الله. اليوم عاد إليَّ شبابي، وانبعثت
آمالي. ثم أخذ يقبِّل صوفيا في جبينها، ودموعه تغسل مكان كل قبلة، وهو يقول: أتقولين
إنها
ستقابلني بعد ساعة عند أختي؟ وما كادت تجيب حتى وثب إلى جواده والشوق يكاد يطير به، فما
رأى
الناس أشد مرحًا من فرس وفارس!
وصل إلى قصر أسماء فعانقها طويلًا؛ لأن شوقه الثائر الزخَّار كان يتطلب منفذًا، ولو
أنه
رأى في السُّلَّم عبدها جوهرًا لأغرقه عناقًا وتقبيلًا، وجاذبته أخته كثيرًا في الأحاديث،
وسمعت رملة بقدومه، فأسرعت نحوه في شغف سافر فردَّ تحيتها في أدب هادئ رزين. وبينما هي
تحادثه إذا جوهر يعلن عن قدوم نجلاء. فالتفتت أسماء إلى أخيها وقالت: إن نجلاء فتاة أديبة
لا تحتجب عن الرجال، وأظنك حضرت مجالسها التي تجمع رجال الشعر والأدب، أتعرفها؟ فقال:
نعم،
وهنا أمرت جوهرًا أن يدعوها إلى المجلس. فدخلت نجلاء فعانقت أسماء ورملة وألقت بابتسامة
خفيفة نحو أبي فراس، ومدَّت إليه يدها في إجلال وقالت: سمعت قصيدتك يا سيدي في موقعة
حصن
برزويه، وسمعت قصيدة الشاعر الجديد الذي يدعونه بالمتنبي، وعجبت أشدَّ العجب أن يحتاج
مولاي
سيف الدولة إلى شاعر جديد، وفي الدولة مثلك ومثل النامي والناشئ وكُشاجم وغيرهم من الشعراء
المجيدين.
– إن كل شاعر في المملكة يا سيدتي سيف للملك ودرْع لها. وما أحوج الممالك الناشئة
إلى
كثرة السيوف والدروع، فقالت نجلاء: إن قصيدة المتنبي كلها عيوب، فمطلع القصيدة طلسم مغلق
لا
يفهم، وأبياتها مفككة الأواصر ليس فيها شيء من إشراق الديباجة أو الفلسفة البارعة. وحينما
همَّ أبو فراس بإجابتها وكانت أخته قد عرفت من منظره وحركاته ما تنطوي عليه نفسه فصاحت:
إنني لا أحب الجدال في الشعر والأدب، فهلا ذهبتما إلى الحديقة فإنها أوسع من أن تضيق
بالحديث في الشعر وفنونه يا نجلاء، فذهبا إلى الحديقة وأخذا يتحدثان في المكيدة وما لقيا
من
جرَّائها، ثم سأل أبو فراس: من الذي حاك خيوط هذه المكيدة يا نجلاء؟
– قرعويه.
– هذا عجيب!
– ليس بعجيب يا سيدي، فإنه يريد أن يفرق بيننا بكل ما يستطيع من وسائل. وأذكر أن العجوز
سلمى في أثناء احتجابك عني كانت تكثر الغضَّ منك، ومن الثناء عليه، وتُلحُّ عليَّ في
وصل
حبال صداقتي به، ثم إني أعتقد جازمة أن العصابة التي حاولت قتلك ليلة خروجك من داري لم
تكن
إلا بتدبيره وإيعازه.
– اللئيم الفاجر! سأذبحه بسكين جزَّار؛ لأنه أحقر من أن يُقتل بسيف.
– لا يا سيدي، إن حب سيف الدولة لهذا الخبيث فوق كل حب، وهو لا يتوانى عن محق كل
ما يعرض
له بسوء ولو كان ابن عمه. فدعنا بالله نعش في سعادة ونعيم. ودعنا نسخر من مكايد أعدائنا
بعد
أن نتحصَّن بالحذر منهم. لا بد أن تحضر الليلة للعشاء فإني سأدعو بعض الأدباء ورجال القصر
وبينهم قرعويه، لأمتع نفسي بتعذيبه والتشفِّي منه. وقد أرسلت إلى نشوة المغنية وإلى الراقصة
«صبح» لتكون ليلتنا ليلة سرور وبهجة، ننسى بها ما مرَّ من ليالٍ سود، وأيام نحسات. وبينما
كانا في الحديقة كانت رملة تطل عليهما من ثقوب نافذة مقفلة، فلما رأتهما عادت إلى غرفة
نومها متعثِّرة في كل خطوة، ثم ألقت بنفسها على سريرها، وهي تئنُّ أنين اللبؤة المكلومة.
وجاءت خادمتها الأمينة «مارينا» فسألتها في ذعر عن سبب بكائها فلم تجبها، وتكرر السؤال،
وزاد الإصرار على الكتمان، حتى إذا هدأت نفسها قليلًا قالت: دعيني يا مارينا دعيني، فإنني
أحترق كما تحترق الشمعة دون أن يرثي أحد لحالي. إنني لست أخت ملك. إنني أبأس فتاة في
حلب.
ولكن الخادمة أخذت تسكِّن من ثورتها، وتلح عليها في أن تكشف لها خبيئة أمرها، وبعد لأي
مالت
رملة إلى أذنها وهمست بكلمات يقطعها النشيج
١٧ والزفير، وحينما أتمَّت حديثها هزت مارينا رأسها وقالت: إن الأمر جد خطير، ولكن
دعيني يا سيدتي أدبِّر، وأرجو أن تزول من طريقك العقبات، وأن يتمَّ الأمر كما
تحبِّين.