الرحلة الأولى
(١) السِّنْدِبَادُ بَعْدَ وَفَاةِ أبيهِ
كَانَ أَبِي مِنْ كِبَارِ تُجَّارِ «بَغْدَادَ»، فَلَمَّا مَاتَ تَرَكَ لِي ثَرْوَةً طَائِلَةً — وَكُنْتُ حِينَئِذٍ شَابًّا طَائِشًا — فَأَخَذْتُ أُنْفِق عَلَى نَفْسِي وَعَلَى أَصْحَابِي — عَنْ سَعَةٍ — مِنْ هَذَا الْمَالِ الَّذِي لَمْ أَتَكَبَّدْ فِي جَمْعِهِ أَيَّ عَنَاءٍ، وَظَلِلْتُ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً طَوِيلةً مِنَ الزَّمَنِ، دُونَ أَنْ أَتَدَبَّرَ عَوَاقِبَ هَذَا الإِسْرَافِ.
ثُمَّ انْتَبَهْتُ مِنْ غَفْلَتِي — ذَاتَ يَوْمٍ — فَرَأَيْتُ مَالِي لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَعَلِمْتُ أَنَّنِي — إِذَا ظَلِلْتُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ — ضَاعَ كُلُّ مَا أَمْلِكُ، وَكَانَ عَاقِبَتِي الإِفْلَاسُ وَالْخَرَابُ. وَرُبَّمَا اضْطُرِرْتُ إِلَى سُؤَالِ النَّاسِ. فَجَزِعْتُ مِنْ هَذِهِ الْعَاقِبَةِ السَّيِّئَةِ، وَقُلْتُ لِنَفْسِي: «إِنَّ الْفَقْرَ — فِي آخِرِ أَيَّامِ الإِنْسَانِ — وَاحْتِمالَ ذُلِّ السُّؤَالِ، مِمَّا لَا تَرْضَاهُ نَفْسُ الْكَرِيمِ، وَإِنَّ الْكَسَلَ مِفْتَاحُ الْفَقْرِ» وَذَكَرْتُ تِلْكَ الْحِكْمَةَ الصَّادِقَةَ الَّتِي يَقُولُهَا النَّاسُ: «مَنْ لَمْ يَرْكَبِ الأَهْوَالَ لَمْ يَنَلِ الرَّغَائِبَ» فَعَزَمْتُ عَلَى السَّفَرِ، وَبِعْتُ كلَّ مَا بَقِيَ لَدَيَّ مِنْ مَتَاعٍ، وَاشْتَرَيْتُ بِثَمَنِهِ بَضَائِعَ أَتَّجِرُ فِيهَا، وَسَافَرْتُ — مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ التُّجَّارِ — مِنْ مَدِينَةِ «بَغْدَادَ» حَتَّى وَصَلْنَا إِلى مَدِينَةِ «الْبَصْرَةِ» حَيْثُ أَقْلَعَتْ بِنَا سَفِينَةٌ كَبيرَةٌ، وَسَارَتْ فِي طَرِيقِ الْخَلِيجِ الْفَارِسِيِّ.
(٢) دُوَارُ الْبَحْرِ
وَكَانَتْ هَذِهِ هِيَ أَوَّلَ رِحْلَةٍ لِي، فَلَمْ أَكَدْ أَرْكَبُ الْبَحْرَ حَتَّى اعْتَرَانِي دُوَارٌ أَفَقْتُ مِنْهُ بَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ، ثُمَّ أَلِفْتُ هَوَاءَ الْبَحْرِ — بَعْدَ ذَلِكَ — وَعَادَتْ إِلَيَّ صِحَّتِي.
وَظَلَّتِ السَّفِينَةُ سَائِرَةً بِنَا مِنْ جَزِيرَةٍ إِلَى جَزِيرَةٍ، وَمِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَنَحْنُ نَبِيعُ وَنَشْتَرِي فِي كُلِّ مَكَانٍ حَلَلْنَا بِهِ.
(٣) عَلَى ظَهْرِ حُوتٍ
وَبَيْنَما نَحْنُ سَائِرُونَ فِي عُرَضِ الْبَحْرِ، إِذْ لَاحَتْ لَنَا جَزِيرَةٌ صَغِيرَةٌ مُرْتَفِعَةٌ عَنْ سَطْحِ الْمَاءِ فَاقْتَرَبْنَا مِنْهَا، وَنَزَلَ بِهَا بَعْضُ التُّجَّارِ — وَنَزَلْتُ مَعَهُمْ — وَبَقِينَا عَلَى هَذِهِ الْجَزِيرَةِ زَمَنًا وَنَحْنُ نَلْهُو وَنَلْعَبُ حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الْغَدَاءِ، فَأَتَيْنَا بِخُشُبٍ مِنَ السَّفِينَةِ وَأَوْقَدْنَا بِهَا النَّارَ لِنَطْبُخَ عَلَيْهَا طَعَامَنَا، وَلَمْ نَكَدْ نُوقِدُ النَّارَ حَتَّى اهْتَزَّتْ بِنَا الْجَزِيرَةُ اهْتِزَازًا عَنِيفًا، فَصَرَخْنَا مِنَ الْفَزَعِ وَالرُّعْبِ وَصَاحَ بِنَا رُبَّانُ السَّفِينَةِ: «اُنْجُوا بِأَنْفُسِكُمْ قَبْلَ أنْ يَحُلَّ بِكُمُ الْهَلَاكُ!»
وَلَمْ يَكَدْ يُتِمُّ قَوْلَهُ حَتَّى غَاصَتِ الْجَزِيرَةُ كُلُّهَا فِي الْبَحْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَأَسْرَعَ إِلَى السَّفِينَةِ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا فَنَجَا وَغَرِقَ الْبَاقُونَ.
(٤) حَقِيقَةُ الْجَزِيرَةِ
وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ جَزِيرَةً — كَمَا حَسِبْنَا — بَلْ حُوتًا هَائِلًا مِنْ حِيتَانِ الْبَحْرِ كَانَ نَائِمًا عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ، فَلَمَّا أَوْقَدْنَا عَلَيْهِ النَّارَ أَحَسَّ الْحَرَارَةَ فَاسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَغَاصَ فِي الْبَحْرِ، فَنَجَا مَنْ نَجَا وَغَرِقَ مَنْ غَرِقَ.
(٥) كَيْفَ نَجَوْتُ مِنَ الْغَرَقِ
أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ بَعِيدًا عَنِ السَّفِينَةِ فَلَمْ أتَمَكَّنْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَقَدْ كِدْتُ أغْرَقُ لَوْ لَمْ أتَعَلَّقْ بِلَوْحٍ مِنَ الْخَشَبِ الَّذِي أتَيْنَا بِهِ مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقُودِ، وَنَادَيْتُ مَنْ فِي السَّفِينَةِ بِأَعْلَى صَوْتِي فَلَمْ يَسْمَعْنِي أحَدٌ لِشِدَّةِ مَا لحِقَهُمْ مِنَ الرُّعْبِ.
وَرَأيْتُ السَّفِينَةَ تَخْتَفِي عَنْ نَاظِرِي، وَقَدْ أصْبَحْتُ تَحْتَ رَحْمَةِ الْأَمْوَاجِ الْهَائِجَةِ، وَالْغَرَقُ يُهَدِّدُنِي فِي كُلِّ لَحْظَةٍ.
وَلَمَّا أَظْلَمَ اللَّيْلُ أَيْقَنْتُ بِالْهَلَاكِ، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَيْئَسْ رَغْمَ مَا حَلَّ بِي مِنَ التَّعَبِ وَالْخَوْفِ، وَبَقِيتُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ طُولَ اللَّيْلِ، حَتَّى إِذَا أصْبَحَ الصَّبَاحُ قَذَفَتْنِي الْأَمْوَاجُ إِلَى شَاطِئ جَزِيرَةٍ عَالِيَةٍ فِيهَا أشْجَارٌ مُطِلَّةٌ عَلَى الْبَحْرِ، وَقَدْ وَجَدْتُ — لِحُسْنِ حَظِّي — فَرْعَ شَجَرَةٍ مُتَدَلِّيًا، فَتَعَلَّقْتُ بِهِ وَتَمَكَّنْتُ بِذَلِكَ مِنَ الصُّعُودِ إِلى الْجَزِيرَةِ بَعْدَ تَعَبٍ شَديدٍ.
وَلَمْ أكَدْ أصْعَدُ إلَيْهَا حَتَّى ارْتَمَيْتُ عَلَى أرْضِهَا — وَأنَا مَنْهُوكُ الْقُوَى مِنْ شِدَّةِ مَا لَقِيتُ — وَبَقِيتُ نَائِمًا طُولَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، ثُمَّ أَفَقْتُ مِنْ نَوْمِي فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، وَكَانَتْ قَدَمَايَ قَدْ وَرِمَتَا وَلَكِنَّنِي لَمْ أَعْبَأْ بِذَلِكَ، فَمَشَيْتُ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا قَطَعْتُهَا مِنْ غُصْنِ شَجَرَةٍ، وَسِرْتُ أَبْحَثُ عَنْ طَعَامٍ آكُلُهُ وَقَدْ كَادَ يُهْلِكُنِي الْجُوعُ.
•••
عَلَى أَنَّنِي وَجَدْتُ فِي تِلْكَ الْجَزِيرَةِ كَثِيرًا مِنَ الْبُقُولِ النَّاضِجَةِ وَرَأَيْتُ فِيهَا عَيْنًا مِنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ، فَفَرِحْتُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَكَلْتُ حَتَّى شَبِعْتُ، وَشَرِبْتُ حَتَّى ارْتَوَيْتُ!
(٦) خَدَمُ المَهَرَاجا
وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَليلَةٍ زَالَ مَا بِي مِنْ ضَعْفٍ، وَعَادَ إِلَيَّ نَشَاطِي الْأَوَّلُ فَرُحْتُ أَمْشِي فِي الْجَزِيرَةِ، وَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ، إِذْ لَاحَ لِي شَبَحٌ مِنْ بَعِيدٍ، فَسِرْتُ إِلَيْهِ حَتَّى اقْتَرَبْتُ مِنْهُ فَإِذَا بِهِ فَرَسٌ تَرْعَى الْعُشْبَ — وَهِيَ مُقَيَّدَةٌ — وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ فِي سِرْدَابٍ تَحْتَ الْأَرْضِ فَدُهِشْتُ لِذَلِكَ، وَإِنِّي لَفِي دَهْشَتِي إِذْ أَقْبَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ لَا أَعْرِفُهُ، فَسَأَلَنِي عَنْ سَبَبِ مَجِيئِي إِلَى هَذَا الْمَكَانِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِقِصَّتِي فَدُهِشَ لَهَا، وَذَهَبَ بِي إِلى السِّرْدَابِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، فَرَأَيْتُ جَمَاعَةً يَنْتَظِرُونَهُ فِيهِ، فَقَصَّ عَلَيْهِمْ قِصَّتِي، وَقَدَّمُوا إِلَيَّ طَعَامًا وَشَرَابًا فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ. ثُمَّ سَأَلْتهُمْ عَنْ سَبَبِ مَجِيئِهمْ إِلَى هَذِهِ الْجَزِيرَةِ وَاخْتِفَائِهِمْ فِي هَذَا السِّرْدَابِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّهُمْ خَدَمُ الْمَلِكِ «الْمهَرَاجَا» صَاحِبِ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ، وَأَنَّهُ يُوفِدُهُمْ — فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ مِنْ كُلِّ عَامٍ — وَمَعَهُمْ بَعْضُ أَفْرَاسِهِ لِتَرْعَى فِي هَذِهِ الْجَزِيرَةِ، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَيْهَا حِصَانُ الْبَحْرِ فَتَحْمِلَ مِنْهُ، فَإِذَا حَاوَلَ أَخْذَهَا مَعَهُ، خَرَجُوا عَلَيْهِ مِنَ السِّرْدَابِ فَيَفِرُّ مِنْهُمْ هَارِبًا إِلَى الْبَحْرِ، ثُمَّ يَعُودُونَ بِهَا إِلَى بِلَادِهِمْ حَيْثُ تَلِدُ مُهْرًا أَصِيلًا عَدِيمَ الْمِثَالِ!
(٧) حِصَانُ البَحْرِ
وَهُنَا سَمِعْنَا صُرَاخَ حِصَانِ الْبَحْرِ، فَنَظَرْنَا مِنْ ثُقْبِ السِّرْدَابِ، فَرَأيْنَاهُ يُحَاوِلُ أخْذَ الْفَرَسِ مَعَهُ بِقُوَّةٍ، فَطَلَعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنَ السِّرْدَابِ، فَلَمَّا رَآهُمْ وَلَّى هَارِبًا إِلَى الْبَحْرِ.
(٨) فِي حَضْرةِ الْمَهَرَاجَا
وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي أرْكَبُونِي مَعَهُمْ، وَمَا زِلْنَا سَائِرِينَ حَتَّى وَصَلْنَا إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ حَيْثُ قَدَّمُونِي إِلَى مَلِكِهِمُ «المَهَرَاجَا» فَسَأَلَنِي عَنْ قِصَّتِي فَأَخْبَرْتُهُ بِكُلِّ مَا حَدَثَ لِي، فَدَهِشَ لِذَلِكَ أشَدَّ دَهْشَةٍ، وَسُرَّ بِي سُرُورًا عَظِيمًا، وَأكْرَمَنِي وَقَرَّبَنِي إِلَيْهِ.
(٩) عَلَى شَاطِئ الْبَحْرِ
وَكَانَ لِهَذَا الْبَلَدِ مَرْفَـأٌ تَرْسُو عَلَيْهِ السُّفُنُ التِّجَارِيَّةُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ مُخْتَلَفِ بِلَادِ الدُّنْيَا، فَكُنْتُ أُكْثِرُ مِنَ التَّرَدُّدِ عَلَيْهِ مُسَائِلًا الْوَافِدِينَ عَنْ أخْبَارِ «بَغْدَادَ» دُونَ أنْ أظْفَرَ مِنْهُمْ بِطَائِلٍ، وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ زَمَنٌ طَوِيلٌ، فَمَلِلْتُ الْغُرْبَةَ واشْتَاقَتْ نَفْسِي إِلَى رُؤْيَةِ وَطَنِي وَأهْلِي.
(١٠) عَجَائِبُ الْهِنْدِ
وَكُنْتُ أخْرُجُ أحْيَانًا إِلَى بَعْضِ الْجَزَائِرِ الْقَرِيبَةِ فَأَرَى فَيهَا عَجَائِبَ وَغَرَائِبَ كَثِيرَةً.
وَمِنْ أعْجَبِ مَا رَأَيْتُهُ سَمَكٌ كَبِيرٌ يَبْلُغُ طُولُهُ مِائَةَ ذِرَاعٍ إِلَى مِائَتَيْنِ، وَلَهُ وَجْهٌ كَوَجْهِ الْبُومِ، وَقَدْ نَفَرْتُ مِنْهُ كَمَا نَفَرَ مِنِّي، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ ارْتَاعَ مِنْ رُؤْيَتِي كَمَا ارْتَعْتُ مِنْ رُؤْيَتِهِ.
(١١) اَللِّقَاءُ بَعْدَ الْيَأْسِ
وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ خَرَجْتُ كَعَادَتِي إِلَى شَاطِئ الْبَحْرِ، فَرَأَيْتُ سَفِينَةً مُقْبِلَةً، وَلَمَّا رَسَتْ عَلَى الشَّاطِيءِ وَأَنْزَلَتْ مَا بِهَا مِنَ الْبَضَائِعِ رَأيْتُ عَلَى بَعْضِ أَحْمَالِهَا اسْمَ «السِّنْدِبَادِ» فَلَمَّا أنْعَمْتُ النَّظَرَ فِي رُبَّانِهَا عَرَفْتُهُ، وَسَألْتُهُ عَنْ صَاحِبِ هَذِهِ الْأَحْمَالِ فَأَجَابَنِي مُتَأَثِّرًا حَزِينًا: «وَا أَسَفَا عَلَيْهِ! إِنَّهُ «السِّنْدِبَادُ» وَقَدْ غَرِقَ أَثْنَاءَ سَفَرِنَا، وَكَانَ سَبَبَ غَرَقِهِ أَنَّهُ طَلَعَ — مَعَ بَعْضِ رِفَاقِهِ مِنَ التُّجَّارِ — عَلَى ظَهْرِ حُوتٍ كَبِيرٍ، كُنَّا نَحْسَبُهُ جَزِيرَةً، فَلَمَّا غَاصَ الْحُوتُ غَرِقُوا وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَرْكَبِ، رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَقَدْ أَخَذْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ أَبِيعَ بَضَائِعَهُ وَأُعْطِيَ أَهْلَهُ ثَمَنَهَا مَتَى عُدْتُ إِلَى «بَغْدَادَ».»
فَقُلْتُ لِرُبَّانِ السَّفِينَةِ: «أَنَا السِّنْدِبَادُ الَّذِي تَذْكُرُهُ وَهَذِهِ بِضاعَتِي!»
فَصَاحَ الرُّبَّانُ فِي وَجْهِي صَيْحَةً عَظِيمَةً، وَقَالَ لِي غَاضِبًا: «أَمَا وَاللهِ لَقَدْ فَسَدَتِ الذِّمَمُ وَضَاعَتِ الْأَمَانَةُ مِنَ النَّاسِ! كَيْفَ تَدَّعِي أَنَّكَ «السِّنْدِبَادُ» وَقَدْ رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَهُوَ يَغْرَقُ فِي الْبَحْرِ؟»
فَقُلْتُ لَهُ: «لَا تَغْضَبْ عَلَيَّ، وَلَا تَعْجَلْ بِتَكْذِيبِ مَا أَقُولُ.»
•••
ثُمَّ قَصَصْتُ عَلَيْهِ كُلَّ مَا حَدَثَ لِي، وَذَكَرْتُ لَهُ جَمِيعَ مَا دَارَ بَيْنَنَا مِنَ الْكَلَامِ — مُنْذُ خَرَجْنَا مِنَ «الْبَصْرَةِ» إِلَى أَنْ غَاصَ بِنَا الْحُوتُ — فَظَهَرَ لَهُ صِدْقُ قَوْلِي، وَفَرِحَ بِنَجَاتِي فَرَحًا شَدِيدًا وَعَانَقَنِي، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ رِفَاقِي يُهَنِّئُونَنِي بِسَلَامَتِي وَنَجَاتِي مِنَ الْغَرَقِ. ثُمَّ شَكَرْتُ لِلرُّبَّانِ أَمَانَتَهُ وَأَرَدْتُ أَنْ أُكَافِئَهُ عَلَى صَنِيعِهِ فَرَفَضَ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنِّي شَيْئًا.
(١٢) الْعَوْدَةُ إلَى الْوَطَنِ
فَتَخَيَّرْتُ هَدِيَّةً نَفِيسَةً قَدَّمْتُهَا إِلَى «الْمَهَرَاجَا» فَسَأَلَنِي: «مِنْ أَيْنَ أَحْضَرْتَهَا؟» فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا حَدَثَ، فَتَبَيَّنَ لَهُ صِدْقُ كَلَامِي وَقَبِلَ هَدِيَّتِي مَسْرُورًا، ثُمَّ أَمَرَ لِي بِهَدِيَّةٍ ثَمينَةً.
وَلَمَّا اسْتَأْذَنْتُهُ فِي السَّفَرِ أَذِنَ لِي — بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ لِي أَسَفَهُ عَلَى فِرَاقِي — فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ شَاكِرًا، وَبِعْتُ فِي بَلَدِهِ كُلَّ مَا مَعِي مِنَ الْبَضَائِعِ بِأَغْلَى ثَمَنٍ، وَاشْتَرَيْتُ بَدَلَهَا بَضَائِعَ أُخْرَى.
وَعُدْتُ إِلَى بِلادِي بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ أَنْ سَارَ بِنَا الْمَرْكَبُ آمِنًا، وَكَانَ الْبَحْرُ هَادِئًا وَالرِّيحُ طَيِّبَةً فَلَمْ نَلْقَ أَيَّ عَنَاءٍ فِي سَفَرِنَا حَتَّى بَلَغْنَا «الْبَصْرَةَ».
(١٣) فِي بَغْدَادَ
ثُمَّ ذَهَبْنَا مِنَ «الْبَصْرَةِ» إِلَى «بَغْدَادَ» حَيْثُ لَقِيَنِي أَهْلِي فَرِحِينَ بِعَوْدَتِي سَالِمًا، وَاشْتَرَيْتُ قُصُورًا فَخْمَةً وَعَبِيدًا وَغِلْمَانًا كَثِيرِينَ، وَأَصْبَحْتُ مِنْ أَكْبَرِ أَغْنِيَاءِ «بَغْدَادَ»، وَتَصَدَّقْتُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَعَزَمْتُ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي بَلَدِي بَعِيدًا عَنْ مَشَقَّاتِ السَّفَرِ وَأَهْوَالِ الْبَحْرِ، وَأَنْسَتْنِي رَاحَةُ الْبَالِ مَا قَاسَيْتُهُ مِنَ الْمَتَاعِبِ وَالْأَهْوَالِ.
(١٤) دَهْشَةُ الْحَاضِرِينَ
وَلَمَّا انْتَهَى «السِّنْدِبَادُ» مِنْ كَلَامِهِ، الْتَفَتَ إِلَى «الْهِنْدِبَادِ» الْحَمَّالِ وَقَالَ لَهُ مُبْتَسِمًا: «هَذَا مَا حَدَثَ لِي فِي الرِّحْلَةِ الْأُولَى وَسَأُخْبِرُكَ غَدًا بِمَا حَدَث لِي فِي رِحْلَتِي الثَّانِيةِ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِيها مِنَ الْعَجَائِبِ!»
•••
فَدُهِشَ «الهِنْدِبَادُ الْحَمَّالُ» وَعَجِبَ جَمِيعُ الْحَاضِرِينَ مِمَّا سَمِعُوا.
ثُمَّ أَمَرَ «السِّنْدِبَادُ» بِمِائَةِ دِينَارٍ لِلْحَمَّالِ وكَسَاهُ حُلَّةً نَفِيسَةً، فَدَعَا لَهُ وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ شَاكِرًا مَسْرُورًا، وَخَرَجَ مَعَهُ جَمِيعُ الْحَاضِرِينَ عَلَى أنْ يَعُودُوا إِلَى «السِّنْدِبَادِ» فِي الْغَدِ.
وَلَمَّا حَضَرُوا فِي الْيَوْمِ التَّالِي بَدَأَ «السِّنْدِبَادُ» يقُصُّ عَلَيْهمْ رِحْلَتَهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ.