الرحلة الثانية
(١) كَيْفَ نَسِيَنِي رِفَاقِي
حَدَّثْتُكُمْ أَمْسِ أَنَّنِي عَزَمْتُ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي «بَغْدَادَ» طُولَ حَيَاتِي هَادِئَ الْبَالِ حَتَّى لَا أُعَرِّضَ نَفْسِي مَرَّةً أُخْرَى لِمَخَاطِرِ السَّفَرِ وَمَخَاوِفِهِ، وَلَكِنَّنِي — بَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ — ضَجِرْتُ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الْهَادِئَةِ، وَمَلِلْتُ عِيشَةَ الْكَسَلِ، وَاشْتَقْتُ إِلَى السَّفَرِ وَرُكُوبِ الْبَحْرِ، فَاشْتَرَيْتُ بَضَائِعَ كَثِيرَةً، وَسَافَرْتُ منْ «بَغْدَادَ» إِلَى «الْبَصْرَةِ» حَيْثُ أَبْحَرْتُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ التُّجَّارِ وَسَارَتْ بِنَا السَّفِينَةُ مِنْ جَزِيرَةٍ إِلَى جَزِيرَةٍ وَمِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَكَانَتْ تِجَارَتُنَا رَابِحةً حَتَّى بَلَغْنَا جَزِيرَةً كَبِيرَةً، جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ، فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالْفَاكِهَةِ تَتَخَلَّلُهَا الْجَدَاوِلُ وَالْأَنْهَارُ.
•••
فَنَزَلْنَا بِهَا فَلَمْ نَجِدْ فِيهَا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، فَأَكَلْنَا مِنْ فَاكِهَتِهَا وَشَرِبْنَا مِنْ مَائِهَا الْعَذْبِ، ثُمَّ ذَهَبَ أَصْحَابِي يَجُولُونَ فِي الْجَزِيرَةِ وَجَلَسْتُ مُنْفَرِدًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ، وَأَمَامِي جَدْوَلٌ مِنَ الْمَاءِ عَلَى جَانِبَيْهِ الْأَزْهَارُ، فَأَخَذَتْنِي سِنَةٌ مِنَ النَّوْمِ — وَلَمْ أَعْلَمْ كَمْ سَاعَةً نِمْتُ — وَمَا كِدْتُ أَسْتَيْقِظُ حَتَّى تَمَلَّكَنِي الرُّعْبُ وَالْفَزَعُ، فَقَدْ بَحَثْتُ عَنْ رِفَاقِي فَلَمْ أَعْثُرْ لَهُمْ عَلَى أَثَرٍ!
•••
هُنَالِكَ عَلِمْتُ أَنَّ السَّفِينَةَ قَدْ أَقْلَعَتْ بِهِمْ دُونَ أَنْ يَنْتَبِهَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى غِيَابِي، فَأَسْرَعْتُ إِلَى الشَّاطِئِ — وَأَنَا كَالْمَجْنُونِ لِشِدَّةِ مَا لَحِقَنِي مِنَ الْجَزَعِ وَالْيَأْسِ — وَرَأَيْتُ السَّفِينَةَ تَغِيبُ عَنْ نَاظِرِي شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى اخْتَفَتْ، فَصَرَخْتُ مِنَ الْأَلَمِ وَتَمَلَّكَنِي الْيَأْسُ وَالْفَزَعُ فَوَقَعتُ عَلَى الْأَرْضِ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، وَبَقِيتُ كَذَلِكَ زَمَنًا طَوِيلًا، وَلَمَّا أَفَقْتُ أَخَذْتُ أَلُومُ نَفْسِي عَلَى هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْمَشْؤُومَةِ أَشَدَّ اللَّوْمِ وَأَنْدَمُ عَلَى سَفَرِي أَشَدَّ النَّدَمِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ لَوْمٌ وَلَا نَدَمٌ!
(٢) بَيْضَةُ الرُّخِّ
وَتَلَفَّتُّ حَوْلِي فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا، فَتَسَلَّقْتُ شَجَرَةً عَالِيَةً وَرَمَيْتُ بِبَصَرِي فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْبَحْرِ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا غَيْرَ الْمَاءِ وَالسَّمَاءِ، وَدُرْتُ بِبَصَرِي فِي الْجَزِيرَةِ، فَرَأَيتُ — عَلَى بُعْدٍ — قُبَّةً بَيْضَاءَ عَالِيَةً تَلْمَعُ لَمَعَانًا شَدِيدًا فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ، فَنَزَلْتُ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَجَرَيْتُ إِلَيْهَا بِكُلِّ قُوَّتِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهَا فَرَأَيْتُهَا شَاهِقَةً، فَلَمَسْتُهَا بِيَدِي فَإِذَا هِي مَلْسَاءُ لَا يُمْكِنُ الصُّعُودُ عَلَيْهَا، وَدُرْتُ حَوْلَهَا فَلَمْ أَرَ لَهَا بَابًا وَلَا مَنْفَذًا، فَلَمَّا قِسْتُ دَائِرَتَهَا وَجَدْتُهَا خَمْسِينَ خُطْوَةً.
(٣) طَيْرُ الرُّخِّ
وَبَيْنَمَا أَنَا أَتَأَمَّلُهَا إِذْ وَجَدْتُ الدُّنْيَا قَدْ أَظْلَمَتْ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ سَوَادٌ عَظِيمٌ حَجَبَ عَنِّي ضَوْءَ الشَّمْسِ، فَتَأَمَّلْتُهُ فَإِذَا هُوَ طَائِرٌ عَظِيمُ الْجِسْمِ، فَذَكَرْتُ لِلْحَالِ مَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَالتُّجَّارِ عَنْ طَيْرِ الرُّخِّ، وَأَدْرَكْتُ أَنَّ هَذِهِ الْقُبَّةَ الْكَبِيرَةَ هِيَ بَيْضَتُهُ، وَلَمْ يَكَدْ يَنْزِلُ طَيْرُ الرُّخِّ حَتَّى جَلَسَ عَلَى بَيْضَتِهِ فَاحْتَضَنَهَا بِجَنَاحَيْهِ وَنَامَ فَوْقَهَا، فَنَظَرْتُ إِلَى مِخْلَبِهِ فَرَأَيْتُهُ — لِعِظَمِهِ — كَأَنَّهُ جِذْعُ شَجَرَةٍ، فَحَلَلْتُ عِمَامَتِي وَرَبَطْتُ نَفْسِي بِإِحْدَى رِجْلَيْهِ رَبْطًا مُحْكَمًا، رَجَاءَ أَنْ يَحْمِلَنِي فِي الْيَوْمِ التَّالِي إِلَى مَكَانٍ آخَرَ غَيْرِ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ النَّائِيَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ظَنِّي فَلَمْ يَكَدْ يَطْلُعُ الْفَجْرُ حَتَّى طَارَ، وَمَا زَالَ يَعْلُو فِي الْفَضَاءِ حَتَّى اخْتَفَتِ الْأَرْضُ عَنْ نَاظِرِي، وَظَلَّ طَائِرًا بِي مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ ثُمَّ هَبَطَ بِي فَجْأَةً إِلى الْأَرْضِ فَأُغْمِيَ عَلَيَّ، ثُمَّ أَفَقْتُ لِنَفْسِي فَرَأَيتُ طَيْرَ الرُّخِّ قَدْ وَقَفَ عَلَى الْأَرْضِ، فَفَكَكْتُ رِبَاطِي لِلْحَالِ، وَفَرِحْتُ بِالْخَلَاصِ مِنْ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ الْمُقْفِرَةِ.
(٤) فِي وَادِي الأَفَاعِي
وَلَكِنَّ فَرَحِي لَمْ يَطُلْ، فَقَدْ رَأَيتُ طَيْرَ الرُّخِّ، قَدِ انْقَضَّ عَلَى حَيَّةٍ كَبِيرَةٍ فَابْتَلَعَهَا وَطَارَ فِي الْفَضَاءِ، وَمَا زَالَ طَائِرًا حَتَّى غَابَ عَنِّي.
فَنَظَرْتُ إِلَى مَا حَوْلِي، فَنَدِمْتُ عَلَى تَرْكِ الْجَزِيرَةِ وَالْمَجِيءِ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ الَّذِي لَمْ تُكْتَبِ السَّلَامَةُ لِأَحَدٍ وَصَلَ إِلَيْهِ. فَقَدْ هَبَطَ بِي الرُّخُّ — لِسُوءِ حَظِّي — إِلَى وَادٍ عَمِيقٍ تُحِيطُ بِهِ جِبَالٌ شَاهِقَةٌ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَلَيْسَ فِيهَا مَكَانٌ لِلصُّعُودِ وَلَا مَنْفَذٌ يَخْرُجُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ. فَقُلْتُ لِنَفْسِي: «إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! كُلَّمَا نَجَوْتُ مِنْ مُصِيبَةٍ وَقَعْتُ فِي مُصِيبَةٍ شَرٍّ مِنْهَا!»
(٥) حِجَارَةُ الْمَاسِ
وَنَظَرْتُ إِلَى أَرْضِ الْوَادِي، فَرَأَيْتُ حِجَارَتَهُ مِنَ الْمَاسِ، فَفَرِحْتُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَلَكِنَّ فَرَحِي لَمْ يَدُمْ طَوِيلًا فَقَدْ رَأَيْتُ فِي الْوَادِي كَثِيرًا مِنَ الأَفَاعِي الْهَائِلَةِ الَّتِي تَبْتَلِعُ الْفِيلَ بِسُهُولَةٍ — لِضَخَامَتِهَا وَكِبَرِ حَجْمِهَا — وَكَانَتْ هَذِهِ الْأفَاعِي — لِحُسْنِ حَظِّي — تَخْتَفِي فِي الْكُهُوفِ وَالْمَغَارَاتِ أَثْنَاءَ النَّهَارِ خَوْفًا مِنْ طَيْرِ الرُّخِّ — وَهُوَ عَدُوُّهَا اللَّدُودُ الَّذِي يَبِتَلِعُهَا كُلَّمَا ظَهَرَتْ — فَإِذَا أَظْلَمَ اللَّيُلُ خَرَجَتِ الْأَفَاعِي كُلُّهَا إِلَى الْوَادِي.
(٦) فِي الْكَهْفِ
فَمَشَيْتُ فِي ذَلِكَ الْوَادِي طُولَ النَّهَارِ، وَلَمَّا جَاءَ اللَّيْلُ أَسْرَعْتُ إِلَى كَهْفٍ صَغِيرٍ فَدَخَلْتُهُ وَسَدَدْتُ مَنْفَذَهُ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ حَتَّى آمَنَ شَرَّ الْأَفَاعِي، وَأَكَلْتُ مِنَ الزَّادِ الْقَلِيلِ الَّذِي أَحْضَرْتُهُ مَعِي مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَحَاوَلْتُ أَنْ أَنَامَ فَلَمْ أَسْتَطِعْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، فَقَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ فَحِيحَ الْأَفَاعِي — وَهِيَ تَزْحَفُ أَمَامَ الْكَهْفِ — فَيَمْتَلِئُ قَلْبِي رُعْبًا، وَمَا زِلْتُ طُولَ اللَّيْلِ خَائِفًا أَتَوَقَّعُ الشَّرَّ.
(٧) فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي
وَلَمَّا طَلَعَ الصَّبَاحُ انْقَطَعَ فَحِيحُ الْأَفَاعِي فَعَلِمْتُ أَنَّهَا قَدْ عَادَتْ إِلَى مَخَابِئِهَا وَكُهُوفِهَا فَحَمِدْتُ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَخَرَجْتُ مِنَ الْكَهْفِ وَمَشَيْتُ في الْوَادِي — وَأَنَا أُفَكِّرُ فِي هَذِهِ النَّهَايَةِ الْمُحْزِنَةِ الَّتِي وَصَلْتُ إِلَيْهَا — وَرَأَيْتُ كُلَّ مَا فِيهِ — مِنْ أَحْجَارِ الْمَاسِ الثَّمِينَةِ — لَا يُسَاوِي عِنْدِي شَيْئًا. وَتَمَنَّيْتُ لَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَادِي — بَدَلَ هَذِهِ الْحِجَارَةِ الْكَرِيمَةِ — شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ.
•••
وَرَأَيْتُ صَخْرَةً قَرِيبَةً مِنِّي فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا — وَأَنَا مَهْمُومٌ لَا أَمَلَ لِي فِي الْخَلَاصِ — فَغَلَبَنِي النُّعَاسُ فَنِمْتُ قَلِيلًا، ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ مَذْعُورًا خَائِفًا فَرَأَيْتُ قِطَعًا كَبِيرَةً مِنَ اللَّحْمِ تَتَسَاقَطُ — إِلَى جَانِبِي — عَلَى أَرْضِ الْوَادِي مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ.
(٨) كَيْفَ يَحْصُلُ التُّجَّارُ عَلَى الْمَاسِ
فَذَكَرْتُ مَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ مِنَ التُّجَّارِ عَنْ وَادِي الْمَاسِ وَعَنِ الطَّرِيقَةِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي يَحْصُلُونَ بِهَا عَلَى أَحْجَارِهِ. وَهِيَ أَنْ يَذْبَحُوا الْخِرَافَ وَيَسْلَخُوا منْهَا جِلْدَهَا ثُمَّ يُلْقُوا بِلَحْمِهَا الطَّرِيِّ إِلَى أَرْضِ ذَلِكَ الْوَادِي فَتَلْصَقَ بِهِ أَحْجَارُ الْمَاسِ. وَتَأْتِي النُّسُورُ — بَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ — فَتَخْطَفُهُ وَتَحْمِلُهُ إِلَى أَعْلَى الْجَبَلِ، فَيَصِيحُ بِهَا التُّجَّارُ فَتَهْرُبُ مِنهُمْ خَائِفَةً تَارِكَةً لَهُمْ مَا مَعَهَا مِنَ اللَّحْمِ، فَيَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهُمْ مَا عَلِقَ بِقِطْعَتِهِ مِنَ الْمَاسِ تَارِكًا اللَّحْمَ — بَعْدَ ذَلِكَ — لِلنُّسُورِ الْجَائِعَةِ.
وَقَدْ كُنْتُ قَبْلَ الْيَوْمِ أَحْسَبُ هَذَا الْكَلَامَ خُرَافَةً يَرْوِيهَا النَّاسُ — عَلَى سَبِيلِ الْفُكَاهَةِ وَالتَّسْلِيَةِ — حَتَّى رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي حَقِيقَةً وَاقِعَةً.
(٩) كَيْفَ نَجَا السِّنْدِبَادُ مِنْ وَادِي الْأَفَاعِي
فَبَدَا لِي أَمَلٌ فِي النَّجَاةِ، وَتَخَيَّرْتُ مِنْ أَحْجَارِ الْمَاسِ أَنْفَسَهَا ثُمَّ نِمْتُ عَلَى ظَهْرِي وَوَضَعْتُ فَوْقِي أَحَدَ هَذِهِ الْخِرَافِ الْمَذْبُوحَةِ وَأَمْسَكْتُهُ بِيَدَيَّ — بِكُلِّ قُوَّتِي — حَتَّى جَاءتِ النُّسُورُ فَرَفَعَتْ تِلْكَ اللُّحُومَ. وَجَاءَ نَسْرٌ كَبِيرٌ فَرَفَعَ الذَّبِيحَةَ الَّتِي كُنْتُ مُتَعَلِّقًا بِهَا، وَلَمْ يَزَلْ طَائِرًا حَتَّى بَلَغَ أَعْلَى الْجَبَلِ فَوَضَعَهَا عَلَيْهِ. وَأَسْرَعَ التُّجَّارُ إِلَى النُّسُورِ فَخَافَتْ وَهَرَبَتْ مِنْهُمْ تَارِكَةً لَهُمْ مَا مَعَهَا مِنَ اللَّحْمِ، فَوَقَفْتُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَلَمْ يَكَدْ يَرَانِي صَاحِبُ الذَّبِيحَةِ حَتَّى تَمَلَّكَهُ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ. وَنَظَرَ إِلَى ذَبِيحَتِهِ فَلَمْ يَجِدْ بِهَا شَيْئًا مِنَ الْمَاسِ. فَصَرَخَ وَلَطَمَ وَجْهَهُ نَادِبًا سُوءَ حَظِّهِ وَضَيَاعَ تَعَبِهِ بِلَا فَائِدَةٍ. فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَحَيَّيْتُهُ فَاطْمَأَنَّ، ثُمَّ أَعْطَيْتُهُ كَثِيرًا مِنَ الْمَاسِ، فَتَبَدَّلَ حُزْنُهُ فَرَحًا وَسُرُورًا، وَسَأَلَنِي عَنْ قِصَّتِي فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا حَدَثَ لِي فَدُهِشَ، وَدُهِشَ مَعَهُ جَمِيعُ التُّجَّارِ أَشَدَّ دَهْشَةٍ.
(١٠) اَلْعَوْدَةُ إِلَى بَغْدَادَ
ثُمَّ سَافَرْتُ مَعَهُمْ إِلَى بِلادِي. وَقَدْ رَأَيْتُ فِي طَرِيقِي كَثِيرًا مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي يَحَارُ فِيهَا الْعَقْلُ. وَمَا زِلْنَا سَائِرِينَ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ حَتَّى بَلَغْنَا «بَغْدَادَ» وَكَانَ مَعِي مِنَ الْمَاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا تُقَدَّرُ قِيمَتُهُ لِنَفَاسَتِهِ.
وَلَمْ أَكَدْ أدْخُلُ «بَغْدَادَ» حَتَّى لَقِيَنِي أَهْلِي وَأصْحَابِي فَرِحِينَ بِعَوْدَتِي فَرَحًا شَدِيدًا، وَتَصَدَّقْتُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَزَمْتُ عَلَى تَرْكِ الْأَسْفَارِ وَالْبَقَاءِ فِي «بَغْدَادَ» طُولَ عُمْرِي.
وَلَمَّا انْتَهَى «السِّنْدِبَادُ» مِنْ كَلَامِهِ أمَرَ لِلَّحَمَّالِ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَدَعَا لَهُ وَأخَذَهَا مِنْهُ شَاكِرًا، وَانْصَرَفَ هُوَ وَجَميعُ الْحَاضِرِينَ عَلَى أنْ يَعُودُوا إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ التَّالِي، وَلَمَّا حَضَرُوا فِي الْغَدِ بَدَأَ «السِّنْدِبَادُ» يَقُصُّ عَلَيْهِمْ مَا حَدَثَ لَهُ فِي رِحْلَتِهِ الثَّالِثَةِ فَقَالَ.